في قاعةِ الانتظارِ عندَ الساعةِ المرتقبةِ جلستُ، وقبلَ ولوجيَ إلى كهفٍ أشبهَ بالتابوتِ تراءيتُ
من هم حوليَ، الكلُّ بينَ خائفٍ ومُرتجفٍ فهذا الشيء غريبٌ جدًا، مليءٌ بالأصواتِ الصاخبةِ الغريبة،
دخلته من قبلُ عدة مرات، واليوم أجدِّدُ زيارتي له، قبلَ الولوجِ تخلعُ كلَّ ملابسك، وتلبس قطعةً
من قماشٍ باردٍ يقولونَ عنها "مريول المريض".. أتذَّكرُ أنَّني كلّما خرجتُ من هذا التابوتِ المعدنيّ
الممغنطِ أشعرُّ بأنَّني قد بُعثتُ حيًّا من جديد، فزيارةُ هذا المكانِ لا تؤتى للجميعِ، فهوَ لصفوةِ
المرضى الذينَ دعَت الحاجةُ أن يدخلوهُ، وفي ذاتِ الحالِ أصبحَت بيني وبينَهُ لغةٌ خاصةٌ،
فيستعربُ الطبيبُ حالتي تلك، ويقول لي: " أغلبيةُ المرضى يكرهونَ الدخولَ لهذا الجهاز ويرتابونهُ،
والبعض يرفضُ دخولهُ أصلا، ولكنَّكَ ونحنُ نراقبك داخل هذا الكهفِ، تدخلُ بأريحيّة،
وتبقى مبتسما والدمعةُ تفضحكَ عندَ الخروجِ، فتبدو ضاحكَ السّنِ مُقبلًا على حياتك من جديد،
فهل أزعجتكَ تلكَ الأصواتُ في الداخل؟ "
بابتسامةٍ ناعمةٍ أَجبتُهُ:" مجرد دخولي لهذا التجويفِ أستسلمُ، انصاعُ للأوامرِ: أضعُ يديَّ جانبا،
لا أتحرَّكُ أبدًا، أَقْبَلُ ذاكَ الدرعَ حولَ رأسيَ، وأبدأُ رحلتي.. وتبدأ الأصواتُ؛ أنعزلُ متجاهلًا لها،
تزيدُ في صخبها وأبدأ في نُزهتي معها، فزمجرةُ أبواقِ الشاحنات ونعيقُ المزاميرِ زفةُ عرسٍ لحبيبٍ،
وصوتُ الحفارٍ الذي يحاولُ تشويشي أراهُ يُجَهِّزُ لي أساساتِ بيتٍ ثمينٍ،
وأمَّا ذلكَ الصوتُ الأشبَهَ بنداءِ سفينةٍ تطلبُ من أهلِ الميناءِ استقبالَها أو توديعَها
يعيدني لذكرياتٍ جميلةٍ تحملني فوقَ بحرِ الأماني، وما إن بَدَأَت أصواتُ الحربِ
واشتدَّت حتَّى تذكَّرتُ أطفالَ غزَّةَ وسوريَّةَ ونساءَها وشيوخَها فيترقرقُ قلبيَ
وتسكبُ عيني صافيَ مائها، ولكنَّني استبشرُتُ بالنصر والجنّة ففرحتُ وعدتُ ابتسمت"..
ردَّ الطبيبُ مُتعجِّبًا : يا لجمالِ ما أسلفتَ من قولٍ لأولِ مرةٍ أسمعهُ من أحدِ روّادِ هذا القسم!
ثمّ ما إن فرغتُ حتى نُقِلتُ إلى قسمِ أمراض القلبِ لإجراء تخطيطٍ للقلبِ كانَ سريعًا،
ثمَّ فحصٍ آخرَ لوظائفِ القلبِ وعضلاتهِ بجهاز يسمى " الإيكو" سألتُ المختَصَّ :"
كيفَ ترى قلبيَ؟ " ليبتسمَ بردِّهِ : " وكيفَ تراهُ أنتَ، فأنتَ من يشعرُ بهِ؟"
فابتسمتُ : "أشعرُّ أنَّهُ ما زالَ قادِرًا على الحبِّ، قادرًا على الحياةِ، ويقاوِمُ رغمًا عن كلّ المنغصاتِ".
استوقفني ناصِحًا :" لا ترهِقهُ يا صديقيَ، فقد بدا عليهِ بعضُ التعبِ،
ولكن لا تخف سَيُفهِمكَ الطبيبُ طريقةَ العلاجِ، فقد يكونُ نقصًا في الترويّةِ،.
أو ضعفًا في عضلةِ القلبِ فحافِظ عليهِ"
شكرتهُ، ثمّ ودَّعتهُ وأنا أناظرُ ملائكةَ الرحمةِ من حوليَ الذينَ وفَّروا لي كلَّ الراحةِ،
وسعَوا في حاجتي وأمري بينَ الوفاءِ الذي استقبلني والسناءِ الذي شعرتُ بشموخهِ،
حتّى فهمتُ أنَّ على هذا الأرضِ ما يستحقُّ الحياة، وما زالَ هناكَ علينا ما نفعلهُ..
الأديب رائد العمري
رئيس اتحاد القيصر للآداب والفنون