هل ينشغل الشاعر بفنه ؟
أم ينشغل بآراء النقاد عنه ؟!
هل على الشاعر أن يكون رخواً فيقوم باستجداء الإعجابات؟!
هل يرى الشاعر في الأحداث أو الطبيعة ما يراه الإنسان العادي ، أم أنه يرى شيئا مختلفا؟
ما حالُ الشاعر الذي يخشى من المواجهة والتحدّي في تجديد القصيدة أو الحديث عن المسكوت عنه؟
هل هذا قدره أن يستجيب لضغوط المجتمع ؟!
أم أن قدره أكبر من ذلك؟!
تأملوا هذا البيت لفيلسوف الشعراء ..أبي العلاء المعرّي يقول :
( تثاءبَ عمروٌ إذ تثائبَ خالدٌ
بِعَدوَى فَمَا أَعْدَتْنيَ الثُؤَبَاءُ ) .
وفي ذات السياق يقول شيخنا المتنبي رحمه الله:
إذا كان بعضُ الناسِ سيفاً لدولةٍ
ففي الناسِ بُوقاتٌ لها وطبولُ
الحقيقة ، إن المتوقف عند بيت أبي العلاء، سيجد أنه أبعد دلالة من معناه الظاهري!
بيت واحد من قصيدة ذو مضامين فلسفية عميقة !
إنه يعبر عن لسان حال المثقف الرَّاسخ القراءة .. الواسع الاطلاع .. الذي قرأ تراثه فاستوعبه، وقرأ عصره فعرف مظاهر عصره، وعلوم عصره ،وصراعات عصره الدينية والسياسية ، فاختطَّ له من كل ذلك ، منهجا فكريا شعريا أدبيا مستقلاً في الحياة، بصمة خاصة غير مكررة، فهو ليس فارغا بل هو ممتلئ بالجمال الأصيل والفكر التنويري ، فإذا ما هبت رياح "تَقلِيعةٍ مَّا" فكرية ثقافية خلقية .. الخ .. تريد منه أن يكون مَسخاً أو بوقاً أو كائنا رتيباً مقلّداً أو نسخة مكررة، وجدتْ أمامها جبلاً شامخا عتيا صلبا قوياً لا يهتز .. لا يهتز لأي موضة ، ولو لبست أيّ لبوسَ ، ولا يهتز لأي متغير، وإن كان ظاهره براقاً !
وهذا هو المطلوب : الشاعر المثقف الرِّيادي النهضوي الذي يرتقي بذائقة أمته.
إن الشاعر عرَّاف كل الأزمنة كما يقول د .عبدالاله الصائغ [5]
وقفة:
( تثائب عمروٌ إذ تثائب خالدٌ
بعدوى فما أعدتنيَ الثؤباءُ )
استخدم أبو العلاء المعرّي في بيته الشعري السابق صورة الإنسان المتثائب كقناع فني .. لأن صورة المتثائب تجلب الخمول ، وتنتشر عدواها في الهواء بسرعة .. فعلى الغالب لو أنك رأيت إنسانا بالقرب منك يتثاءب، لتثاءبت مثله .. فهو يستخدم التثاؤب هنا كرمز شعري .. يريد من وراءه غرضا آخر وهو : عدم التأثر.
إن هذه المقاومة الذاتية لا تتأتى إلا لمن وصل ليله بنهاره بين الكتب وأطلق عنان فكره دون قيود للمناقشة وغربلة الأفكار طويلا دون خوف من ضغوط .. دون ملل ، مع العناية القصوى بالقرآن الكريم ، حتى تبرز لدى الشاعر ملكة النقد والتمييز والخيارات.
لذلك نرى الكثير من شعراء هذا العصر يكادون يكونون نسخة واحدة ، يتشابهون في نسج الكلام ، وفي صياغة المواضيع ، وفي رسم الصورة . وهذا هو الفرق بين جيل الشعر اليوم وجيل الستينات أو السبعينات على سبيل المثال .
ذلك جيل انعجن بأحداث الأمة الكبيرة ، وكان على اتصال إيجابي بعلوم أو آداب الغرب ، وكان شاعرا قارئا من الطراز الرفيع.
لذا، كان كل شاعر فيهم ، نسيج وحده.
عندما لا يكون مصدر الشاعر الشعر فقط بل ثقافة العصر كما فعل أبو تمام والبحتري والمتنبي وأبو العلاء.
لذلك دوما ما نجد أن صورهم الشعرية وعاء لثقافة عصرهم ، لا وعاء لغويا أو بلاغيا فحسب.
( لِقصيدةٍ
ظَلَّتْ على عَينِ الظَّلامِ تُقاومُ ..
مِنّي السلامُ
وَإِنْ دنا موتي
ومَا غَنَّى على قبري الحَمامُ .
لقصيدةٍ -مهلاً- يدقُّ البابَ طفلي :
يا أبي!
ألقِ القصيدةَ من يديكْ
اُخرجْ إلينا ساعةً
مِن حَبْسِكِ الورقيِّ
قد تُقنا إليكْ .
لقصيدةٍ
مِن كبرياءٍ لا تنامْ
في وجهِ ظَلَّامٍ بليدٍ لا تنامْ
من ذكرياتِ الأرضِ
والتاريخِ
والشعبِ المحاصرِ .. لا تنامْ
بلقيسُ تمشي في شوارعها
وآمالُ الكفاحِ
تضمُّ آلافَ الجياعِ
وألفُ صوتٍ مِن دمِ الشهداءِ
يَمشي في الطَّريقِ إلى الصباحِ
ولا يملُّ من الهتافِ
ولا ينامْ
ماليزيا- مقهى لاباك
2019