
خلال سبع ليال وبحضور عدد من دارسي الأدب ومتذوقيه تمتاستضافة الدكتور محمد بن علي بن درع أستاذ الدراسات العليا في جامعة الملك خالد والذي تفضل بالإجابة عن أسئلةالحاضرين وجاءت على النحو التالي :
س : هناك عدد من النظريات والطرائق التي غلبت علىالدراسات الأدبية ؛ فما هي ؟ وما أشهرها ؟ وأيّها أولى بالدراسةالأدبية ؟
ج : لشكري فيصل دراسة وافية في هذا الموضوع , ويمكنكالعودة إليها , وهي النظرية المدرسية , ونظرية الفنون الأدبية , ونظرية الثقافات , ونظرية خصائص الجنس , ونظرية المذاهبالفنية , والنظرية الإقليمية .
وأشهرها : النظرية المدرسية وهي المهيمنة على مناهج الدراسةالأدبية والنقدية لأسباب منها : تسهيل الدراسة على الدارسين , ولأنها معتمدة في مناهج التعليم العام والجامعي في الوطنالعربي , ولأنها أرّخت للحياة السياسية والاجتماعية والعقليةللمسلمين .
وهي أثر من آثار المزاوجة بين لونين من ألوان التأريخ الأدبي : اللون العربي بكل خصائصه القديمة التي علقت بها السياسةوشغلتها حياة القصور والصراع على السلطة , واللون الذيأرخ الأدب الغربي في أوروبا .
وهي تقوم على تقسيم الأدب العربي إلى عصور ( العصرالجاهلي , وعصر صدر الإسلام وبني أمية , والعصر العباسي , وعصر الدول المتتابعة , وعصر النهضة ) وهناك من يجعلالعصر الأندلسي في مطاوي العصر العباسي . وقد سادت هذهالنظرية مؤلفات أولئك الرواد في التأليف الأدبي المدرسي مثل : حسن توفيق العدل و المرصفي والإسكندري وجرجي زيدانوأحمد حسن الزيات وأحمد أمين .
ويؤخذ على هذه النظرية أنها درست الأدب على أساس قسمةالعصور قسمة تاريخية لا أدبية وأنها وضعت حدوداً فاصلة بينالآداب طبقاً لحدود العصور على حين أن العصور تتداخلوالآداب تتشابك والنماذج تختلط , ثم أهملت إلى حد كبيرالأساس المكاني وتأثير البيئة في النتاج الأدبي , وقد أدّى هذاالإهمال فيما بعد إلى بروز النظرية الإقليمية في الدراسةالأدبية وتباين الأحكام الأدبية تبايناً غريباً هو أقرب إلىالتناقض وأدنى إلى التضاد .
كما يؤخذ عليها أنها أهملت النوازع الفردية وخصائص الإبداعالذاتي عند الأدباء وذلك بسبب طغيان المقياس الزمني الأفقيوقد جنى هذا على مئات من الشعراء الذين أغرقتهم هذهالنظرية في تيار التعميم السطحي الذي لا يثبت عند التحقيقوالفحص العميق .
كما يؤخذ عليها العناية بالمشاهير والتركيز على اللامعين ثمإصدار الأحكام النقدية من خلال أعمالهم , أما الأصوات الفنيةالأخرى فقد تجوهلت على الرغم من اتسام كثير منها بالعبقريةوالخصوبة والتفرد في الإبداع .
أما نظرية الفنون الأدبية فهي نظرية ترصد تطور الفنون الأدبيةمنفصلة فناً فناً وتبرز ظواهرها عبر العصور رقياً وانحطاطاً , استقامة والتواء , قوة وضعفاً , كما تتتبع منابع كل فن والروافدالتي غذته .
إن هذه النظرية تمكننا من الاستفادة من التسلسل الزمانيوالعامل الإقليمي ومعرفة تأثيرهما في تطور أي غرض شعريأو فن أدبي , كما تجعلنا على اتصال بالنصوص المدروسةذاتها وفحصها فحصاً حياً فيه معاناة ومعايشة .
إنها نظرية تنتهج الاستقراء منهجاً لتجلية المغمورين الموهوبينمن الأدباء وتناولهم بالقدر الذي يُتناول به الأعلام اللامعون فيمختلف الأعصر والبيئات .
وهذه الطريقة تفيدنا في الموازنة بين النماذج الأدبية من حيثالشخصية والأسلوب , وأسلوب هذه النظرية يعود على التريثوالتدقيق والتقصي ويعمل على تبرئة الأحكام الأدبية منالسذاجة والسطحية والتعميم , ورفض الأحكام العامةالفضفاضة التي تستغرق عصراً بأسره كتابه وشعرائهوخطبائه وتتجه نحو التناول الفردي , بل تتخصص في تناولهافتقصره على غرض واحد أو فن مستقل بذاته .
ويؤخذ عليها : تجزئة النتاج الأدبي عند دراسته ذلك أنها تدرسنتاج الأديب موزعاً بين الفنون أو الأغراض فالمتنبي مثلاً يُدرسمرة في شعر المديح ومرة في شعر الوصف وتارة في فن الهجاءوأخرى في فن الفخر . ومن هنا تتفتت شخصية الشاعر ويتجزأنتاجه وهذا لا شك يفقدنا التصور الكامل لجوانب الإبداعوألوانه المختلفة عند الشاعر الواحد ويضيع علينا الإلمامالشامل بخصائص شاعريته .
كما يؤخذ عليها أنها تهمل صاحب النص المدروس وتتجاهلسيرته الذاتية فلا تلتفت إليه إلا بقدر لماماً وبقدر ضئيل والحقأن هذا الإهمال هو إسقاط لرصيد ضخم عظيم الأهمية فيالدراسة الأدبية , وعلى الرغم من هذا إلا أنه قد وجد لها فيالبيئة الجامعية قدم صدق فقامت دراسة ( شعر الطبيعة فيالأدب العربي ) لسيد نوفل , و( دراسة الحرب في أدب العرب ) لزكي المحاسني , ودراسة ( الهجاء والهجاءون ) لأحمد حسين .
وهناك نظرية المذاهب الفنية تقوم على رصد خطى الشعراءوتتبع أساليبهم الفنية من خلال المعارك النقدية وقسمة الشعراءإلى طبقات , وكان أول من تطرق لقضية المذاهب الفنية منالمحدثين حسن المرصفي في كتابه ( الوسيلة الأدبية ) ففي هذاالكتاب كثير من النظرات الصادقة والآراء النافذة التي رمت إلىإقامة دراسة جديدة على أساس من مذاهب الشعراء والأدباءومن طرائقهم الفنية .
ثم جاءت خطوة الخالدي في كتابه ( فيكتور هيجو وعلم الأدبعند الفرنج والعرب ) 1904م حيث قسم الشعراء العرب إلى اربعطبقات , وهي قسمة متأثرة بالمذاهب الفنية أكثر من تأثرها بأينظرية أخرى . واتخذت نظرية المذاهب الفنية شكلها التطبيقيفي أعمال كل من : دراسة لطه حسين عن مدرسة زهير بن أبيسلمى في الأدب , وأطروحة الدكتوراه لشوقي ضيف ( الفنومذاهبه في الشعر العربي ) ودراسته ( الفن ومذاهبه في النثرالعربي )
وتتمتع هذه النظرية بخصائص منها : الوحدة الفنية عندجماعة من الشعراء , كما أنها تفيد من جهود النظريات الأدبيةالتي تهتم بدراسة الآثار الأدبية فهي لا تهملها بل هي غاية لها , كما أنها تجمع بين جمالية الأدب ومنهجية النقد حيث تقومعلى الإدراك أولاً ثم على التمييز ثانياً ثم على اكتشاف الحدودثالثاً . كذلك من خصائصها الجمع بين الأدب والعلم والحرصعلى تزاوج الذوق والعقل . كما تقوم على الوحدة والانسجامفهي تجمع خيوط الصلات العميقة بين كل شاعر وآخر وبين كلكاتب وآخر . وهي لا تواجه سلبيات واعتراضات لأنها تحققللدراسة الأدبية الفائدة واللذة وتقيمها على دعامتي العقلوالذوق , ولكن يخشى عليها الاقتصار على الاهتمام بالأسماءاللامعة وإهمال التتبع الدقيق للروح الفنية عند الشعراءالمغمورين فقد يكون أحد هؤلاء مفتاحا لمذهب أدبي أو عنواناًلاتجاه فني .
ويخشى عليها إصدار الأحكام الشائعة من عصر الجاهلية إلىالعصر الحديث ولذا نحن بحاجة إلى استقراء جديد شاملودقيق يقودنا إلى الصحة والاعتدال .
ويخشى عليها أن تنقلب الوسيلة عند هذه المدرسة هدفاًوالهدف وسيلة بحيث تصنف المدارس الأدبية أولاً ثم يقاسعليها الأدباء ثانياً , إننا إن فعلنا ذلك نكون قد قلبنا المسألةرأساً على عقب فإن الإطار لا يوضع قبل الصورة والمذاهب لاتقرر قبل استقراء الظاهرة الأدبية نفسها .
وهناك تقسيم آخر قدّمه نجيب البهبيتي حيث قسم الأدب إلىثلاثة عصور : العصر الفني وهو يمتد من أقدم ما نعرف عنالشعراء الجاهليين , وينتهي إلى ما قبل ظهور الإسلام . ويتسم بملابسة الطبع للصنعة والواقعية ورقة الإحساسبالحياة والاعتدال والمحافظة والإيجاز والمثالية .
والعصر العاطفي ويبدأ من قبيل ظهور الإسلام وينتهي عندابن هرمة وابن ميادة وبشار . ويتسم بالانصراف إلى التجريدوغناء النفس , فهو ثمرة حياة خصبة متعددة الوجوه مليئةبالاستمتاع والبهجة , ولعل ما أغرى الباحث بهذه التسميةبروز مدرستين عاطفيتين في الغزل هما مدرسة الحب العذري , ومدرسة الحب الحسي .
والعصر العقلي ويبدأ بهؤلاء وينتهي بأبي تمام وقد يلحق بهابن الرومي والمتنبي وأبو العلاء ويتسم بالعودة إلى أصولالشعر العربي فيما أسماه شعر المدرسة العراقية التي تمثل هذاالاتجاه في مقابل مدرسة الحجاز التي تمثل العصر العاطفي .
وعلى كل حال لم تف هذه النظريات بحاجة هذا الأدب ولم تفلحفي دراسته وتأريخه وعليه فإننا بحاجة إلى نظرية شاملةلدراسة الأدب العربي الممتد ومنهج تركيبي تكاملي يجمع بينكل النظريات , ويمكن حصر هذا المنهج الجديد كما تصوره د / شكري فيصل في الآتي :
1- التعاون بين الدراسات الأصلية والدراسات المساعدة : فإِندراسة الأديب نفسه، والتعرف على حياته ودراسة شعرهوتحليله، والتمرس بأسلوبه، والوقوف منه الموقف الشارحالمميز الناقد في آن واحد، هو ما نسميه بالدراسات الأصلية. هذه الدراسات لابد لها من الاستفادة والتعاون مع دراساتالنظريات الإِقليمية والثقافية والجنسية والفنية باعتبارهادراسات مساعدة لها كثير من الجوانب الإِيجابية التي يمكناستغلالها.
2- إِفراد القضية الأدبية وتمييزها : إِن جوهر الدراسة الأدبية هوالظاهرة الأدبية ذاتها، وهي الغاية الأساسية والأصل. ولقد كانمن عيب النظريات السابقة أنها اعتبرت القضية تبعًا أو وسيلة،وركزت عنايتها على أمور ثانوية جانبية؛ فأدى هذا إِلىالاضطراب والانتهاء إِلى نتائج قاصرة. أما المنهج الجديدفيحفظ للقضية الأدبية طابعها الخاص واستقلالها المتميز، ثميجعل سائر الدراسات المساعدة أدوات معينة لها ومكملة.
3- النظرة الواسعة المرنة: وهي ألا نجاوز المهمة الأساسيةللدراسات الجانبية المساعدة عن الحياة السياسية وعن أثرالبيئة وتفاعل الثقافات، وألا نعلو بها فوق قدرها، فنسلمبنتائجها التقريرية؛ وإِنما الصحيح أن نفيد منها في حدودمعينة وبكل حيطة وهدوء، وبعد فحص ومراجعة .
4- تحقيق الوحدة الفنية الكلية: وهي تتم بصورة منتظمةمتدرجة : نبدأ بالشاعر الواحد لننتهي إِلى المجموعة منالشعراء، وبالكاتب لنصل إِلى الطائفة من الكتاب، دون تقيدبمكان أو عصر أو إِقليم. فإِذا انتهينا إِلى المدارس الأدبية كان منالممكن ملاحظة توزعها بين الأقاليم أو العصور أو الثقافات. إِذنفالمنهج الجديد يقوم على الانتقال من الفردي إِلى العام، ومنالجزئي إِلى الكلي، بطريقة متزنة عميقة هادئة نافذة.
5- توسيع مفهوم الأدب : فلابد من توسيع دائرته من المعنىالخاص إِلى المعنى العام وربطه بميادين الفكر في الدراساتالإِنسانية المتنوعة من تاريخ وتصوف وفلسفة. إِننا إِذا صنعناذلك، سنجد أن مقدمة ابن خلدون مثلاً كانت مثالاً أدبيًا رائعًا،يستحق التمهل في التقويم والعمق في الدراسة، فيتغير كثيرمن آرائنا الجاهزة الشائعة وسنكتشف في تراثنا الفلسفيوالصوفي كثيرًا جدًا من النماذج الراقية المجهولة كذلك. وما منشك في أن أمثال هذه الدراسات الجديدة ستشيع الخصبوالنماء في عملنا الأدبي، وستحدث انقلابًا كبيرًا في أحكامناالأدبية، وستغير من نظرتنا إِلى كثير من العصور والفترات.
إِن هذه الميزة في المنهج الجديد ترفع الحواجز بين دائرة الأدببمعناه الضيق، وسائر فنون المعرفة الإِنسانية، وتعمل علىإِغناء الأدب بثمار الفكر بمختلف ألوانه من جهة، وعلى إِكسابالإِبداع الفكري في كل العلوم الإِنسانية نكهة الأدب ورواءأسلوبه وأناقة مظهره من جهة أخرى.
إِن مناهج دراستنا الأدبية الراهنة ، خصوصًا ما يتصل منهابالمناهج التعليمية هي في حاجة ماسة إِلى إِصلاح جذري جاد. إِنها لا تزال أسيرة المدرسة التقليدية – في الغالب – بكل ما لهامن عيوب كما قدَّمنا، ولقد آن الأوان أن نستبدل بها منهجًاجديدًا على ضوء الحقائق التي انتهينا إِليها من خلال هذاالعرض الموجز . إِننا نتطلع إِلى منهج يناسب الوعي الثقافيالمعاصر وما وصلت إِليه الأذواق والأفهام الأدبية الحديثة.. منهجمتكامل يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويتميز بشخصيتهالمستقلة ومعاييره الخاصة.
س : دكتور محمد ماذا يقصد بالنظرية الإقليمية ؟
ج : نظرية أو دراسة تهتم بالبيئة المكانية , وتدرس الأدب وفقاًلهذه للبيئة , وقد وجدت عند نقادنا القدماء , فابن سلام فيالطبقات قسم الشعراء على الطريقة الإقليمية : ( جاهليون – أصحاب المراثي – شعراء القرى – شعراء مكة والمدينة والطائفوالبحرين والمدينة ) .
وابن رشيق قسم الشعراء أيضاً إلى أقاليم ( الشعر في ربيعة ثمفي قيس ثم في تميم ..) والثعالبي صاحب اليتيمة قسمالشعراء إلى أربعة أقسام : ( محاسن أشعار آل حمدان من أهلالشام ومصر والموصل ومحاسن أشعار أهل العراق . ومحاسنأشعار أهل الجبال وفارس وجرجان وطبرستان . ومحاسن أهلخراسان وما وراء النهر ) .
س : دكتور محمد هل كان للمستشرقين جهود مذكورة فيتقسيم الأدب العربي ؟
ج : لعل أول رائد لكتابة تاريخ الآداب العربية في الشرق والغربالنمساوي جوزيف بروجشنال , حيث نشر كتاباً في تاريخالآداب في 7 مجلدات , ونظر إلى الأدب بالمعنى الواسع وطوّلالكتاب , وبدأ بالعصر الجاهلي وانتهى به المطاف إلى العصرالعثماني , وقد جرّه هذا العمل إلى أخطاء كثيرة فضلاً على أنهلم يكن متمكناً من العربية .
ثم جاءت النظرة في مجال دراسة تاريخ الأدب العربي على يدالألماني بروكلمان في 10مجلدات تشمل تاريخ الثقافة العربيةمن الجاهلية إلى القرن العشرين , والكتاب يدل على إحاطةالباحث بجوانب الثقافة العربية والشرقية , وقد أحصى أدباءالعرب إحصاء دقيقاً مبيناً العلماء والفلاسفة مع ذكر آثارهمالمطبوعة والمخطوطة , وما كتب عنهم قديماً وحديثاً , كذلكمكانتهم في الفن والعلم وما قدموه من علم مع نبذة عن كل علموفن , وقسم كتابه وفق العصور السياسية إلى مرحلتينأساسيتين : الأولى : أدب الأمة العربية من أوله إلى سقوطالأمويين 132هـ , وهذه المرحلة قسمها ثلاثة أقسام : أدب العربإلى ظهور الإسلام . الأدب في عهد النبي محمد – صلى اللهعليه وسلم – وعصره . وعصر الدولة الأموية . وجعل فترةالجاهلية 100سنة قبل الإسلام , وزعم أن أدب العصر الأمويامتداد للعصر الجاهلي , وأن الإسلام لم يؤثر في الشعر الأموي.
المرحلة الثانية : الأدب الإسلامي وقسمها إلى خمسة عصور : عصر ازدهار الأدب العباسي بالعراق 132هـ إلى 382هـ . وعصرالازدهار المتأخر في الأدب من 382هـ إلى 656هـ . وعصر الأدبمن سيادة المغول إلى فتح مصر على يد سليم الأول 565هـ – 923هـ . وعصر الأدب العربي , وعصر الأدب الحديث .
وألف كارلونالينو كتابه تاريخ آداب العربية , وقسم الأدبالعربي إلى : عصر الجاهلية الذي لا يدرك أوائله . والعصرالعربي الإسلامي ويبدأ من ظهور الإسلام إلى 132هـ . والعصرالعباسي الأول ويبدأ من 132هـ إلى 450هـ . والعصر العباسيالثاني ويبدأ من 450هـ إلى 656هـ . وعصر الانحطاط ويبدأ من656هـ إلى 1220هـ . وعصر النهضة ويبدأ من 1220هـ إلى أوائلالقرن العشرين .
وألف نيكلسون كتابه تاريخ الأدب السياسي , وتابع تطور الأدبالعربي , وتميز كتابه بإيراد النصوص الشعرية وتحليلها , واهتم بالمتنبي كظاهرة شعرية فريدة , واهتم بالاتجاهاتالشعرية كاتجاه ابن الفارض الصوفي .
وألف الفرنسي بلاشير كتابه تاريخ الأدب العربي , وقسم الأدبإلى : عصر ما قبل الإسلام . وعصر النبي محمد – صلى اللهعليه وسلم – والأمويين . وعصر العباسيين حتى 656هـ كتلةواحدة . والعصر العباسي اللاحق المماليك والعثمانيون إلىنابليون . وعصر النهضة .
س: دكتور محمد , هناك من الدارسين من يقسم الأدب في العصرالعباسي إلى عصرين أو أكثر ؛ فلماذا ؟
ج : اعتقد أن السبب في هذا الاضطراب الواسع في تقسيم هذاالعصر يرجع إلى فكرة الربط بين التاريخ السياسي والأدبي هذامن جهة , ومن جهة أخرى فالعصر العباسي يمتد من عام 132هـإلى 656هـ تقريباً ( 524) سنة وهي فترة واسعة وعريضة شهدفيها الأدب ألواناً من التطور , وأنواعاً من التجديد , ولذلكنجدهم قد عزلوا العصر الجاهلي ( 200سنة ) عن بقية العصورودرسوه وحدة واحدة , والعصر الإسلامي ( 40سنة ) , والعصرالأموي ( 90سنة ) ونظروا إلى العصر العباسي نظرة مستقلة, واتفقوا على تاريخ سقوط بغداد سنة 656هـ , وبالتالي قسمواالعصر العباسي إلى تقسيمات قد تكون هذه التقسيماتخاضعة للسياسة , ومنها :
العصر العباسي الأول من سنة 132هـ إلى سنة 232هـ وهيالسنة التي ولّي فيها المتوكل .
العصر العباسي الثاني من سنة 232هـ إلى 334هـ وهي السنةالتي آل فيها الحكم إلى البويهيين . العصر العباسي الثالث منسنة 334هـ إلى 447هـ وهي السنة التي دخل فيها السلاجقةبغداد . العصر العباسي الرابع من سنة 447هـ إلى سنة 656هـوهي السنة التي سقطت فيها بغداد .
وهناك قسمة أدبية جديدة فنية بحسب التيارات , ذكرتهاالدكتورة حنا فاخوري جاءت على النحو التالي :
*= أدب الثورة التجديدية ويبدأ مع بشار بن برد ( 96هـ ) وينتهي بظهور أبي تمام ( 231هـ) ومن أشهر أعلامه : ( مسلمبن الوليد – أبو نواس – أبو العتاهية – ابن المقفع ) .
*= أدب الحركة المعاكسة ويبدأ مع أبي تمام وينتهي بظهورالمتنبي ( 354هـ ) ومن أشهر أعلامه : ( البحتري – ابن الرومي – الجاحظ – ابن المعتز ) .
*= أدب الاستقرار والتدرج نحو الصنعة ويبدأ بظهور المتنبيوينتهي بالبهاء زهير ( 656هـ ) ومن أعلامه : ( الشريف الرضي– المعري – أبو فراس الحمداني , والتهامي ) .
ويذهب الدكتور يوسف خليف في كتابه تاريخ الشعر السياسيإلى تقسيم آخر بناه على فكرة كل قرن برزت فيه ظاهرة معينة , ميزت العصر العباسي ابتداء من القرن الثاني .
القرن الثاني : يمثل البداية الحقيقية للقصيدة العباسية , وقدشغل بقضية التجديد في القصيدة العربية للخروج منالكلاسيكية الأموية إلى إطار القدرة على التعبير والتكيف معالمجتمع الجديد ومن أعلامه : ( بشار وأبو نواس وأبو العتاهية) .
القرن الثالث : شغل بقضية الصراع بين القديم والجديد , الصراع بين المحافظين على عمود الشعر والمجددين ومن أعلامه: البحتري رأس المحافظين , وأبو تمام رأس المدرسة البديعية .
القرن الرابع : عصر المتنبي غير منازع فيه ؛ لأنه شغل الناسحينما رد وأعاد روح البداوة للقصيدة العربية وعقد المزاوجة بينالبادية وثقافة عصره .
القرن الخامس : عصر أبي العلاء المعري غير منازع فيه ؛ لأنهعقد بين الفن والفلسفة .
س : دكتور محمد , يختلف الدارسون في موضوع نشأة الشعرالجاهلي وميلاده وتطوره , حدثنا عن هذا الموضوع .
ج : يكاد يجمع معظم الباحثين القدماء على أن الشعر الجاهليقد بدأ قبل الإسلام بحوالي مائتي عام من الزمان , وهو شعرمقصد مطول , منسجم التفاعيل , مؤتلف النغم , أشار إلى ذلكالجاحظ . يقول في الحيوان : ” الشعر حديث الميلاد صغيرالسن , وأول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بنحجر ومهلهل بن ربيعة .. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له – إلىان جاء الله بالإسلام – خمسين ومائة عام , وإذا استظهرنا بغايةالاستظهار فمائتي عام ” إذا هذا هو عمر الشعر الناضجالمكتمل . أما قبل ذلك فلا يمكن أن يحد بفترة قليلة كهذه , فهناكمئات من السنين مرّ بها الشعر حتى وصل مكتملاً إلى مهلهلوامرئ القيس وعنترة . وهذا امرؤ القيس يحاكي من قبله منالشعراء السابقين , يقول :
عوجا على الطلل المحيل لأننا *** نبكي الدياركما بكى ابن خذام
وعنترة يؤكد على أن الشعراء قد تناولوا شتى المعاني فلميتركوا للمتأخرين معنى صالحاً , يقول :
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفتالدار بعد توهم .
فهذا إقرار من الشاعرين بأنهما مسبوقان بأجيال من الشعراء , والشاعر العربي القديم مرتبط ارتباطا وثيقاً بالصحراء فيطريقة تفكيره ونوع شعوره وفي رحليه فظل أحقاباً يقول الشعربلهجة قومه بضرب من الغناء والحداء ثم ضرب من السجع , ومن الرجز بعد ذلك , ويوم اهتدى العربي إلى الرجز وُجد لهشعر صحيح قوي ناضج ومتقن وقصيدة تامة ؛ لأن الرجز – حمار الشعراء – كان هو الصورة الأولى التي بدأ بها الشعرالعربي , ولأنه الوزن الشعري الذي كان العرب يستخدمونه حينتضطرهم ظروف الحياة اليومية إلى ارتجال الشعر . ولأنهأصبح اللحن الشعبي المحبب إلى كل طوائف الشعب العربيفي شتى مجالات نشاطه اليومي .
وأن ما وصل إلينا من البدايات المبكرة لا يعدو الأبيات القليلةيقولها الرجل في حاجته , يقول ابن سلام في الطبقات : ” ولميكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة, وإنما قصّدت القصائد وطوّل الشعر على عهد عبد المطلبوهاشم بن عبد مناف ” .
ثم جاء ابن قتيبة فتابعه فيها وقال في الشعر والشعراء : ” لميكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوثالحاجة ” ولكن ليس بمعقول أن يكون ممثلاً لطفولة الشعر وهوعلى ما نرى من نضج في الأسلوب والموسيقى والمعنىوالتصوير . فلا بد أن يكون للشعر تاريخ طويل قطع فيه أشواطاًمن الصناعة والدربة حتى استقام واكتمل على هذا الشكلالموزون المقفى .
وهناك من قسم الشعر الجاهلي حسب تطوره الفني إلى ثلاثفترات تتمثل الفترة الأولى في حرب البسوس وهي الأوليةالناضجة للشعر الجاهلي , ما يعني أن هناك بدايات ومحاولاتوتجارب سابقة وقد أفرزت هذه الحرب مدرسة الطبع والتلقائيةوكان على رأس هذه المدرسة المهلهل بن ربيعة حيث أعطىالقصيدة العربية صورتها المعروفة وشكلها التقليدي , وأخرجهامن نطاق المقطوعة أو الأبيات المحدودة إلى نطاق القصيدة , وهي ريادة أضفت عليه لقبه الذي عرف به , فهو أول من هلهلالشعر أي أطاله وأرّقه . وسار معه امرؤ القيس وعبيد بن الأبرصوطرفة بن العبد والمرقشان وعلقمة بن عبدة والصعاليك .
والفترة الثانية حرب داحس والغبراء , وقد أسهمت في تطويرالقصيدة العربية الجاهلية وأفرزت تياراً فنياً أطلق عليه فيمابعد تيار الصنعة , وعلى رأس هذه المدرسة الطفيل الغنوي ( المحبر ) لما لاحظوه على شعره من ضروب التنميق والتجويدوالصناعة . وعاصره أوس بن حجر أستاذ زهير بن أبي سلمىومعهما بشامة بن الغدير والنابغة الذبياني وعنترة .
والفترة الثالثة حرب ذي قار , وقد نشبت في أواخر العصرالجاهلي , وأفرزت مدرسة أدت إلى تقليد هاتين المدرستين وهيقمة استقر فوقها شعراء الجيل الثالث الكبار كحسان ولبيدوالأعشى .
س / تسير القصيدة الجاهلية على نظام أو هيكل لبنائها يمثلالصورة المثلى لها , فما هي صورتها المثلى ؟
ج / القصيدة المطولة هي الصورة المثلى للقصيدة الجاهلية , وخاصة قصائد المعلقات , حيث اعتنى النقاد القدماء بدراسةهيكلها وشكلها، ووضعوا لها أصولاً، وأول هذه الاصولالاهتمام بالمطلع ، والحرص على جعله فخماً ضخماً، ذا بهاءورواء، وصلصلة وجلجلة، ليكون بعيد التأثير في النفس، قادراًعلى اجتذاب الأسماع، مراعياً مقتضى الحال، متّسق المعنى معمعاني الأبيات في القصيدة كلها ، لا منافياً لها بعيداً عنالتعقيد والغموض بريئاً من التكلف في الصياغة منزّهاً عنالركاكة في التعبير فيه جدة وابتكار وأسْرٌ للأسماع والقلوب.
ويرى ابن رشيق أن المطلع مفتاح القصيدة، وهذا المفتاحالسحري لا يفتح باباً واحداً فحسب، يدخل منه الشاعر الى بناءالقصيدة وصورها، ويدخل معه القارئ والسامع اليها، بل يفتحأبواب القلوب التي تدخل منها معاني القصيدة وصورهاومشاعرها في نفوس السامعين.
يقول : « إن الشعر قفل، أوله مفتاحه . وينبغي للشاعر أن يجوّدابتداء شعره، فإنه أول ما يقرع السمع ، وبه يستدل على ماعنده من أول وهلة». ثم ضرب مثلاً يمثّل براعة الاستهلال، وهوقول امريء القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ
وعقّب عليه بقوله: « هو عندهم أفضل ابتداء صنعه شاعر، لأنهوقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل فيمصراع واحد ».
واذا كان المطلع الحلقة الاولى في سلسلة القصيدة الجاهليةفالحلقة الثانية مقدمتها، وهي بضعة أبيات تلي المطلع .
وأشيع الأغراض في المقدمات النسيب أو بكاء الأطلال ، أو صفةالطيف ، أو الشكوى من الشيب. وربما هجم الشاعر على غرضهبلا تقديم ولا تمهيد. وهذا الهجوم شائع في شعر الهذليين .
وربما كان زهد الهذليين في المقدمات نابعاً من ذوبان الشخصيفي القبلي أو من طغيان الجماعة على الفرد ، أو من فقدانالماضي الجدير بالتأمل والتحليل .
قال الدكتور أحمد زكي في تعليله اختفاء المقدمات او ضمورهافي شعر الهذليين: « لم يتغزلوا، ولم يبكوا الدمن، لأنه لم يكنلهم أبداً عهد قديم يذكرونه. فهم يعيشون لحاضرهم فقط ». وفيقوله تعميم واستقراء وقطع مطلق لا يقبله النقد الحديث الذييؤثر الدقة والصدق ويجانب الارتجال في إطلاق الأحكام .
ومما يضعف رأيه أن بين شعراء هذيل قوماً رقّت نفوسهم وارتقتوتاقت الى الماضي وبه تعلقت، حتى شعّ منها غزل ارق من غزلعمر بن أبي ربيعة كرائية أبي صخر الهذلي التي مطلعها: « لليلى بذات البين دار..»، وذابت نفوسهم من الحزن حتىتحولت أنفاسهم إلى رثاء أصدق من رثاء الخنساء وأعمق كرثاءأبي ذؤيب لبنيه بالعينية التي مطلعها : « أمن المنون وريبها تتوجّع ».
واذا لم يكن للهذليين ماض يأسون على مفارقته ـ وهذا ادّعاء لايؤيّده دليل ـ فإن لهم غرائز وملكات ومنازع ودوافع، تجعلهميحسون ما يحسه الناس، فيحبون ويكرهون ، ويفرحونويحزنون، ويقفون قانتين أمام الموت القاهر، صامتين بين يديالطلل الداثر .
وإذا كان أهل الحضر يزدرون الأطلال كما ازدراها أبو نواسالذي آثر المرور بخمارة البلد على المرور بالطلل والوقوف عليه ،فقد كان للطلل في نفس الشاعر البدوي تأثير أيّ تأثير، يصعبعلينا أن نتمثّله.
واذا صعب علينا أن نتمثله فإنه لا يحق لنا أن ننكر على البدويتواجده وهو يقف عليه، وحزنه وهو يفارقه لأنه وطنه وسكنه،ومثوى عترته وأحبته.
ونحن نميل الى ترجيح الرأي القائل : إن الوقفة الطللية كانتفي العصر الجاهلي ظاهرة إنسانية، وإن تصوير هذه الوقفةموجة وجدانية مشحونة بالوفاء والشجن والوجد، وليستمَنْسكاً تقليدياً بارداً، او شعيرة فنية، او ضريبة قبلية يؤديهاالشاعر. وعلى هذا فمن الاجحاف ان نجرد الهذليين من شرفهذه الوقفة، وما يلابسها من الحس الأصيل.
قالت الدكتورة سهير القلماوي في تعليل الوقفة الطللية وفيالدفاع عمن وقفوها: « إنها كانت أكثر من بكاء على حبيبة أوعلى سعادة انقضت. انها صرخة متمردة أمام حقيقة الموتوالفناء، لأن الشاعر الجاهلي لم يكن يؤمن بإله ولا جنة ولا ثواب».
وثالثة الحلقات في سلسلة القصيدة الجاهلية التخلّص منالمقدمة الى الغرض الاساسي كالفخر أو المدح أو الهجاءمستعينا بعبارات (( فدع – فسل – فعد ..)).
ويعد التخلص خطوة حرجة في موطئ زلق، لا يخطوها الا فحل، له في ميدان النظم قدم ثابتة وخبرة راسخة . بل هي جسريصل موضوعاً بموضوع ، أو برزخ يفصل موضوعاً عنموضوع، وعلى هذا البرزخ الواصل الفاصل أن يكون أخذاً مماقبله ومما بعده بسبب. فإذا وقع الانتقال على نحو مفاجئسُمّي صنيع الشاعر اقتضابا . والاقتضاب القطع . وهذهالتسمية تعني أن الشاعر يفتقر الى اللباقة ، أو تعوزه الرشاقة،ويعجز عن ربط فكرة بفكرة، فيقفز فوق أعناق المعاني قفزاًمتقطعاً يفاجئ به عقل السامع وقلبه .
ورابع الأجزاء في هيكل القصيدة موضوعها الأساسي كالفخرفي معلقة عمرو بن كلثوم، والمدح في معلقة زهير بن ابيسلمى، والاعتذار والوصف في معلقة النابغة الذبياني، والغزلفي معلقة امريء القيس . وربما جمع الشاعر بين هذهالموضوعات كلها ، حتى تغدو القصيدة المطولة تصويراً لحياةالشاعر وتأريخاً لقبيلته ، وربما نثر بين تضاعيف القصيدةمجموعة من الحكم والتأملات كما صنع طرفة بن العبد وزهيربن ابي سلمى .
وآخر الأقسام في هيكل القصيدة «خاتمتها». ولما كانت الخاتمةالصوت الأخير الذي يجلجل في أذان السامعين فقد حرصالشعراء أشدّ الحرص على أن تكون مرصوصة في بيت قوي،وصوت عتيّ، ومعنى جليّ . وأن يكون الرصف متيناً محكماًشديد الأسر، يلخّص فلسفة الشاعر في الحياة، أو موقفه منقبيلته. ومما يزيد الخاتمة جودة أن يصب فيها معنى عميقيذهب مذهب المثل، أو حكمة تختصر موقفاً انسانياً، حينئذتذاع وتملأ الأسماع، وتحيا في أذهان العرب أبد الدهر.
س : من مصادر الشعر الجاهلي المعلقات , وقد اختلفت الآراءحول صحة تعليق هذه القصائد , نريد بياناً في هذا الموضوع .
ج : كما قلت هي من مصادر الشعر الجاهلي , وهي أقدمالقصائد التي أثرت عن فحول الشعر الجاهلي . وهي قصائدطوال جياد تتميز بطولها , وبتنوع فنونها , وجزالة أسلوبها , وابتكار كثير من معانيها , وتصوير شخصية قائليها . ولم تكنكلمة المعلقات وحدها هي التي أطلقت على تلك القصائدالمشهورة بل إن لها ألقاباً أخرى تدل عليها , كالسبع الطوال , والقصائد العشر والسموط والمذهبات ؛ لأنها كتبت في القباطىالمصرية بماء الذهب .
أما قضية التعليق على جدار الكعبة فالقدماء والمحدثونوالمستشرقون منقسمون بشأن هذه القضية فمنهم من يؤيدالرأي القائل بصحة التعليق كابن رشيق وابن عبد ربه وابنخلدون والبغدادي , ومنهم من ينكر كأبي جعفر النحاس , فهويرى أن خبر تعليقها مجهول من الرواة , وأن حماداً رأى صدوفالناس عن الشعر وزهدهم فيه فجمع لهم هذه القصائد .
وكان من المحدثين أحمد الحوفي ومصطفى صادق الرافعي فقدأنكرا خبر التعليق محتجين بأن أحداً ممن يوثق بروايتهموعلمهم لم يشر إلى هذا الخبر كالجاحظ وابن قتيبة والمبردوصاحب الجمهرة والأغاني . وللمزيد : ينظر الحياة العربيةللحوفي , وتاريخ آداب العرب للرافعي .
س : دكتور محمد أشرت في حديثك أن المعلقات من مصادرالشعر الجاهلي , فهل هناك مصادر أخرى غيرها ؟
ج : بالتأكيد هناك مختارات ويحق لنا أن نسميها مصادر , وأولها : المفضليات للمفضل الضبي وهي أقدم ما وصل إلينا , وتحتوي على 126قصيدة لسبعة وستين شاعراً منهم ستةشعراء إسلاميون وأربعة عشر مخضرماً وسبعة وأربعون شاعراًجاهلياً لم يدركوا الإسلام , وأفضل وأصح رواياتها رواية محمدبن زياد الأعرابي تلميذ المفضل , ولم يشرح المفضل هذهالمختارات بل كان يرويها شعراً مجرداً , ولم يبين فيها أساسالاختيار , وليس فيها تبويب ولا تقسيم , وقد شرحها ابنالأنباري .
والثانية : الأصمعيات لعبد الملك بن قريب الأصمعي وتحتويعلى 92قصيدة لواحد وسبعين شاعراً منهم ستة شعراءإسلاميون , وأربعة عشر مخضرماً وأربعة وأربعون جاهلياًوسبعة مجهولين ليس لهم تراجم , ولم يبين فيها أساسالاختيار , وليس فيها تبويب ولا تقسيم , واعتمد في مصادرهعلى أبي عمرو بن العلاء والرواة من الأعراب والصحفوالمدونات .
والثالثة : حماسة أبي تمام بناها على الشعر في المعاني , وجعلها في عشرة أبواب : الحماسة والمراثي والسير والنعاسوالملح والأدب والنسيب والهجاء والمديح ومذمة النساء , وتميزتبالتبويب والتقسيم وهي مقطعات , وليس لها راوية وإنماانتقاها من الدواوين والكتب وشرحها التبريزي والمرزوقي .
والرابعة : جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب القرشيوهي تحتوي على 49قصيدة من عيون الشعر العربي فيالجاهلية والإسلام وأنفسها , وقد قسم الشعر إلى سبعة أقسام:
المعلقات أو أصحاب السموط وجعلها سبعاً وهم : ( امرؤ القيسوزهير والنابغة والأعشى وطرفة ولبيد وعمرو بن كلثوم ) . وأصحاب المجمهرات وهم : ( عنترة وعبيد بن الأبرص وعدي بنزيد وأمية بن الصلت وبشر بن أبي خازم والنمر بن تولبوخداش بن زهير ) وأصحاب المنتقيات : ( المسيب بن علسوالمرقش الأصغر والمتلمس وعروة بن الورد ومهلهل بن ربيعةودريد بن الصمة والمتنخل ) وأصحاب المذهبات : ( حسان وابنرواحة ومالك بن العجلان وقيس بن الخطيم وأحيحة بن الجلاحوأبو قيس بن الأسلت وعمرو بن امرئ القيس ) وأصحاب المراثي: ( أبو ذؤيب ومالك بن الريب ومتمم بن نويرة والغنوي وأعشىباهلة وعلقمة الحميري وأبو زبيد الطائي ) . وأصحابالمشوبات : ( الحطيئة والنابغة الجعدي وكعب بن زهيروالقطامي والشماخ وعمرو بن أحمر وتميم بن أبي مقبل ) وأصحاب الملحمات : ( الفرزدق وجرير والأخطل وذو الرمةوالكميت والطرماح والراعي ) وهناك أيضا ديوان القبائل إذ ذكرالآمدي ستين ديواناً إلا أنه لم يبق لنا من هذه الدواوين سوىديوان هذيل أو كتاب هذيل , ومعنى ديوان القبائل : مجموعاتشعرية تضم بين دفتيها قصائد كاملة ومقطعات قصيرة وأبياتاًمتفرقة وأخباراً وقصصاً وأحاديث وأنساباً .
وننبه إلى أن شعر هذيل غير كامل والدليل على ذلك أنالشافعي كان يحفظ 10000 آلاف بيت بإعرابها وغريبهاومعانيها والذي بين أيدينا في أطول رواياته 3000 آلاف بيت . والدليل الثاني أن ابن جني استدرك ما فات السكري ذكره منشعر هذيل وحجمه 500 ورقة المسمى بكتاب التمام في تفسيرأشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري .
وقد طبع في مجموعتين الأوربية والمصرية , ونكتفي بالأولىلثقتها وجاءت على النحو التالي :
= شرح أشعار الهذليين صنعة السكري عن نسخة مخطوطةمحفوظة في ليدن كتبها محمد علي العتابي , تحقيق : جودفري كوزجارتن , وقد اعتمد السكري في جمعه لهذا الديوانعلى ثلاث روايات : رواية بصرية عن الرياشي عن الأصمعي عنأبي طرفة الهذلي . ورواية كوفية عن محمد بن حبيب عن أبيعمرو الشيباني وابن الأعرابي . ورواية جمعت بين الروايتين عنالأحول والجمحي .
= أما ديوان أبي ذؤيب الهذلي فهو الجزء الأول من مجموعدواوين أشعار الهذليين , شرحه المستشرق الألماني يوسف هل .
= مجموعة أشعار الهذليين وتشمل على أشعار ساعدة بن جؤيةوأبي خراش الهذلي والمتنخل وأسامة بن الحارث وهو الجزءالثاني , واعتنى به يوسف هل .
= أشعار الهذليين مطبوع للمستشرق فلهاوزن في برلين 1884م, وفيها تعليقات , وترجم إلى اللغة الألمانية .
س : هذه الإجابة دكتور محمد تدفعني إلى أن أسأل عن قضيةتقييد وتدوين الشعر الجاهلي , وهل وصل إلينا عبر الروايةالشفهية ؟ أم عن طريق التدوين ؟
ج : ساق الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه مصادر الشعرالجاهلي أدلة عقلية استنباطية وصريحة مباشرة تؤيد تدوينالشعر الجاهلي , والأدلة جماعها أربعة مدموجة بعضها فيبعض :
الدليل الأول أن العرب كانوا يقيدون كتبهم الدينية ورسائلهموعهودهم ومواثيقهم فهو الذي يسجل وقائعهم وانتصاراتهمومآثرهم . قال بعض شعراء بكر بن وائل :
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة *** قصيدةقالها عمرو بن كلثوم
يرونها أبدا مذ كان أولهم *** يا للرجاللشعر غير مشئوم .
وكان الرجل من بني أنف الناقة إذا قيل له : ممن الرجل ؟ قال : من بني قريع , فما هو إلا أن قال فيهم الحطيئة :
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم *** ومنيسوي بأنف الناقة الذنبا
كما كان للشعر قيمة عند الشاعر والقبيلة وهذا لصيق بالدليلالأول , ومن أنصع الإشارات إلى ذلك ما ذكره ابن الأعرابي , قالبلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده فدعا كاتباً منالعرب فكتب إليه :
ألا أبلغ النعمان عني رسالة *** فمدحكحولي وذمك قارح
متى تلقني في تغلب ابنة وائل *** وأشياعهاترقى إليك المسالح .
والدليل الثاني = من العرب من تعلم الكتابة والخط كالمرقشوأخيه حرملة وسويد بن الصامت وعبدالله بن رواحة وكعب بنمالك والربيع بن زياد والزبرقان بن بدر والنابغة الذبياني ولبيدبن ربيعة وأمية بن الصلت وعدي بن زيد العبادي ولقيط بنيعمر وغيرهم .
والدليل الثالث = يتعلق بمدرسة عبيد الشعر الذين كانوايقولون الشعر الحولي المحكك , وكانوا يسمون تلك القصائد : الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحككات ليصير قائلها فحلاًخنذيداً وشاعراً مفلقاً كزهير صاحب الحوليات السبع , والطفيلالغنوي ( المحبر ) وامرئ القيس بن بكر ( الذائد ) أي الذيينتخب الألفاظ . يقول كعب بن زهير :
فمن للقوافي شأنها من يحوكها *** إذاقالوا ثوى كعب وفوّز جرول .
والدليل الرابع = الشعر الجاهلي حافل بذكر الكتابة وصورهاوالإشارة إلى أدواتها كالدفتر والقلم والخط والدواة والمدادوالكراسة يقول المرقش :
الدار وحش والرسوم كما *** رقش في ظهرالأديم قلم
ويقول طرفة : وخد كقرطاس الشآمي ومشفر *** كسبتاليماني قده لم يجرد
ويقول امرؤ القيس : لمن طلل أبصرته فشجاني *** كخطزبور في عسيب يماني
ويقول بشر بن أبي خازم : وجدنا في كتاب بني تميم *** أحقالخيل بالركض المعار .
ويقول لقيط بن يعمر في العينية منذراً قومه بعزم كسرى علىغزوهم :
هذا كتابي إليكم والنذير لكم *** لمن رأى رأيهمنكم ومن سمعا .
ويقول أيضاً : سلام في الصحيفة من لقيط *** إلى منبالجزيرة من إياد .
أما التدوين فقد ظهر في مرحلة متأخرة لدى كتاب المغازيوالسير والتأريخ والتفسير , وممن تخصصوا في تدوين الشعرالجاهلي أبو عمرو بن العلاء , وحماد الراوية , والأصمعيفهؤلاء وغيرهم عرفوا بتدوين الشعر الجاهلي ومن أشهرالمدونات : كتاب قريش وهذيل وثقيف وتميم وشعر الأنصاروالذي يعود تدوينه إلى زمن عمر بن الخطاب , وكتاب الأنسابلدغفل النسابة وحكم أكثم بن صيفي وغير ذلك كثير . ويمكنناالقول بأن الرواة قد اعتمدوا في رواية الشعر الجاهلي علىالمدونات المذكورة وعلى التصحيف .
س : ولكن هناك يا دكتور محمد أدلة يسوقها الدارسون علىالرواية الشفهية , فما رأيك ؟
ج : صحيح , ولكن هذه الرواية لم تأت من فراغ , وإنما كانتمعتمدة على المدونات المحدودة والموجودة عند الشاعر أو مايسمى بنسخة الأم , ينسخها الشاعر أو أبناؤه أو بعض منأفراد قبيلته ثم يحفظون هذا الشعر ويتناقلونه إنشاداً – لاقراءة – في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم , ويرددونه شفاهاًفي سمرهم ومحافلهم و منافراتهم فيشيع بين العرب وتتناقلهالركبان عن هذا الطريق من الرواية الشفهية . إذا الرواية طورمتأخر عن التدوين .
س : دكتور محمد نعرف جميعاً أن المعلقات من القصائد الجيدة, وهي لعدد من فحول الشعراء الجاهلين ؛ في حين أن هناكقصائد شهيرة عرفت بمسمياتها ؛ ألق الضوء على هذهالمسميات .
ج : أحسنت , القصيدة فن إبداعي رفيع , قريب من وجدانالناس وعقولهم , وهي في ذاتها معاناة وصراع عنيد بين الذاتالشاعرة وبين محدودات الوسيط التعبيري وقيوده , إنها ليستنتاج لحظة مقطوعة ولا تتم في جلسة واحدة , إذ يمكن أنتستغرق كتابتها أياماً وربما شهوراً , وقد يعود إليها الشاعربنظرته وحساسيته الشعرية فيضيف ويحذف ويزيد وينقصويعدل ويبدل , أما اليوم فقد أصبحت القصيدة سلعة رخيصةخالية من الذوق والجمال , وفقدت السمو وصار هم الشاعرذاتياً .
على كل حال هناك قصائد الحوليات : وهي منسوبة إلى زهيربن أبي سلمى , والمعنى أن القصيدة تمكث عنده حولاً كريتاًينقحها ويهذبها ويعيد فيها النظر , روى ابن جني أن زهيراًعمل سبع قصائد في سبع سنين , وروى ابن قتيبة أن زهيراًنفسه كان يسمي قصائده الكبرى الحوليات , وقد قيل : إنه كانيعمل القصيدة في أربعة أشهر , وينقحها في أربعة أشهر , ثميعرضها في أربعة أشهر , ثم بعد ذلك يخرجها للناس .
وهناك قصائد الهاشميات : وهي قصائد طويلة أنشدها الكميتبن زيد الأسدي يمدح ويدعو لموالاة آل بيت النبي – صلى اللهعليه وسلم – الهاشمين والثورة على الحكم الأموي .
وهناك قصائد العلويات لابن أبي الحديد المعتزلي وهي سبعفي مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – .
وهناك قصائد الممحصات لابن عبد ربه وهي قصائد في المواعظوالزهد نقض بها كل ما قاله في صباه من الغزل والنسيب .
وهناك قصائد اللزوميات للمعري وهي تعتبر سجلاً حافلاً لآرائهونظرياته في نواحي الحياة . وهناك قصائد السيفيات للمتنبيفي مدح سيف الدولة وهي من أحسن نتاجه الأدبي .
وهناك قصائد المكتمات يقولها الشعراء في مواجهة الطغيانالسياسي في العصر الأموي , وقد أخفوا أسماءهم لأنهم طرحوافيها آراءهم التي تنتقد الحكام .
وهناك قصائد الروميات لأبي فراس الحمداني وهو مسجون فيسجن الروم يستنجد بابن عمه سيف الدولة , وكذلك كتب قصائدلأمه سميت بالأسريات .
وهناك قصائد السرنديبيات وهي قصائد قالها البارودي فيمنفاه . وهناك الأندلسيات لأحمد شوقي … وهلم جرا .
س / من القضايا التي أثيرت في دراسة الشعر الجاهلي قضيةالانتحال في الشعر الجاهلي , نريد جواباً شافياً حول هذهالقضية عند القدماء العرب , وعند المستشرقين الغرب .
ج / هناك مفاهيم ينبغي أن نفهمها وهي النحل والانتحالوالوضع , والجواب عن هذه القضية يحتاج إلى محاضراتولكن لا مانع من الإجابة عن هذه القضية , لعل أول من أثار هذهالقضية من النقاد العرب القدماء هو محمد بن سلام الجمحيفقد ردّ مشكلة الانتحال في الشعر الجاهلي إلى عاملين : عاملالقبائل التي كانت تتزيد في شعرها لتتزيد في مناقبها . وعاملالرواة الوضاعين يقول في طبقاته : (( لمّا راجعت العرب روايةالشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعرشعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم وكان قوم قلّت وقائعهموأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالواعلى ألسن شعرائهم ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار )) .
ويشير ابن سلام إلى طائفتين من الرواة كانت ترويان منتحلاًكثيراً وتنسبانه إلى الجاهليين طائفة كانت تحسن نظم الشعروصوغه وتضيف ما تنظمه وتصوغه إلى الجاهليين ومثل لهابحماد الراوية .
وطائفة لم تكن تحسن النظم ولا الاحتذاء على أمثلة الشعرالجاهلي ولكنها كانت تحمل كل غثاء منه وكل زيف وهم رواةالأخبار والسير والقصص من مثل ابن إسحاق .
أما المستشرقون الغرب فإن أول من تناول قضية الانتحال منالمستشرقين هو المستشرق نولدكه سنة 1864م , وبعد ثمانيسنين تطرق للقضية المستشرق ألّورد في مقدمة دواوين الشعراءالستة الجاهليين منتهياً إلى أن عدداً قليلاً من قصائد هؤلاءالشعراء يمكن التسليم بصحته , مع ملاحظة أن شكاً لا يزاليلازم هذه القصائد الصحيحة في ترتيب ألفاظها وأبياتها
وتابع كثير من المستشرقين ألّورد في موقفه الحذر من قبول كلما يروي للجاهليين ومنهم موير وباسيه وبروكلمان .
وكان مرجليوث أكبر من أثار قضية الشك في الشعر حيث ذهبإلى رفض الشعر الجاهلي جملة في مقالة بعنوان { أصولالشعر العربي } نشرها في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية عدديوليو سنة 1925م , ويرى أن الشعر الذي نقرأه على أنه شعرجاهلي إنما نظم في العصور الإسلامية ثم نحله الواضعونلشعراء جاهليين , وقد بنى رأيه على ضربين من الأدلة , أدلةخارجية , وأدلة داخلية وهي :
الأدلة الخارجية :
1- وجود شعراء في بلاد العرب قبل الإسلام أمر شهد به القرآنالكريم , إذ أن فيه سورة واحدة باسمهم { سورة الشعراء } وأنهناك أوصافا كان الخصوم ينعتون بها النبي محمدا – صلىالله عليه وسلم – كوصف الكاهن والمجنون والشاعر وهو يريد أنيستنتج من هذا المضغ غموض الشعر الجاهلي وإبهامه , وأنهكان قبل الإسلام بعض الكهان كانت لغتهم مبهمة وغامضة .
2- غموض أولية الشعر الجاهلي , إذ أن القدامى ذهبوا فيهامذاهب متباينة فقيل : عزا بعضهم شعراً إلى عهد آدم , بينماأورد آخرون شعراً إلى عهد إسماعيل , ويكاد الإجماع أن أوليةالشعر تعود إلى قبل الإسلام بمائتي عام ..
3- نفى أن يكون الشعر حفظ ووصل إلينا عن طريق الروايةالشفهية لأسباب ثلاثة :
*- عدم وجود حرفة وصناعة لرواية الشعر في العقود الأولى قبلالإسلام تحفظه وتنقله
*- احتقار القرآن الكريم للشعراء الغاوين مدعاة لنسيان الشعرالجاهلي , فالإسلام يجب ما قبله .
*- القصائد المخلدة هي المرتبطة بالحروب وانتصارات القبائل , والإسلام يحث على نسيان تلك الحوادث والنعرات القبليةلإثارتها النفوس وتهييج الدماء .
4- ينفي كتابة الشعر الجاهلي لوجهين :
*- وجود أدب فصيح قبل الإسلام بلغة القرآن الكريم وبالكتابةالحميرية يتناقض مع صريح ألفاظ القرآن الكريم , نحو قولهتعالى : (( أم لهم كتاب فيه يدرسون )) وقوله تعالى : (( أمعندهم الغيب فهم يكتبون )) ولو أن الشعر الجاهلي كان مكتوباًلكان للجاهليين كثير من الكتب .
*- الشعر الذي يزعم أنه جاهلي إنما هو مرحلة تالية للقرآنالكريم لا سابقة عليه , فالأساليب الأدبية العربية شعراً ونثراًفيها مشابهة من أسلوب القرآن .
5- ثم يتطرق بعد ذلك إلى الحديث عن الرواة من علماء القرنينالثاني والثالث الهجريين فيذكر حماداً وجناداً وخلفاً الأحمروأبا عمرو بن العلاء والأصمعي وأبا عمرو الشيباني وابنإسحاق صاحب السيرة والمبرد , ثم أضاف أن هؤلاء الرواةالعلماء لم يكن يوثق بعضهم بعضا .
الأدلة الداخلية :
1- إن ما في هذا الشعر الجاهلي لا يمثل الجاهليين الوثنيينبدليل ورود بعض الإشارات في الشعر الجاهلي كالقصصالديني أو الكلمات الدينية الإسلامية مثل : الحياة الدنيا , يومالقيامة , الحساب , بعض صفات الله , الحشر , السجود , الجحيم …
2- أقامه على اللغة وأدار حديثه عن هذا الدليل على أمرين :
الأول : الاختلاف بين لهجات القبائل المتعددة . والثاني : الاختلاف بين لغة القبائل الشمالية جملة واللغة الحميرية فيالجنوب . ومعنى ذلك أن اللغة لا تمثل إلا لغة الشمال وهي لغةالقرآن , يقول : لو أن هذا الشعر كان صحيحاً لمثل لنا لهجاتالقبائل المتعددة في الجاهلية كما مثل لنا الاختلاف بين لغةالقبائل الشمالية العدنانية واللغة الحميرية في الجنوب .
3- ثم ينتقل إلى موضوعات القصائد , ولعله يريد أن يستنتجمنه أن اتفاق القصائد الجاهلية في التطرق لموضوعات واحدةبعينها تتكرر في كل قصيدة أمر يدل على أنها نظمت بعد نزولالقرآن لا قبله .
4- النقوش المكتشفة لممالك الجاهلية المتحضرة وخاصة اليمنيةلا تدل على وجود أي نشاط شعري فكيف أتيح لبدو غيرمتحضرين ان ينظموا هذا الشعر .
ولكن هناك من المستشرقين من تصدى لهذه الآراء وفندها وذهبإلى صحة الشعر الجاهلي كالمستشرق شارلس جيمس ليال فيمقدمة الجزء الثاني من المفضليات , وجور جيوليفي دلاّ فيمقالته بلاد العرب قبل الإسلام .
ينقض جيمس ليال آراء مرجليوث ويفندها قائلاً : أن الشعرالجاهلي انتقل إلينا عن طريق الرواية ومن الطبيعي أن هذهالقصائد اعتراها بعض التغيير في أثناء التناقل فقد تستبدلبعض الكلمات المترادفة بغيرها وقد يؤدي عدم تثبيت الذاكرةإلى إسقاط أبيات أو تغييرها وأن شعر القرن الأول الهجرييتضمن وجود هذا الشعر الجاهلي فقد استمر شعراء القرنالأول الهجري المشهورون { الفرزدق وجرير والأخطل وذو الرمة } يتبعون تقاليد الشعراء الجاهليين في الأسلوب والموضوعات .
وأن الشعر القديم مليء بألفاظ كانت غريبة على العلماء الذينكانوا أول من عرض هذا الشعر على محك النقد فقد كانتتنتمي إلى مرحلة لغوية أقدم من عصرهم وكانت غير مستعملةفي الزمن الذي كتبت فيه القصائد وجمعت فيه الدواوين
س / ما موقف الأدباء العرب المحدثين من هذه القضية ؟
ج / أول من شق طريق البحث في هذا الموضوع من العربالمحدثين هو مصطفى صادق الرافعي في كتابه { تاريخ آدابالعرب } حيث ردّ بواعث وضع الشعر الجاهلي إلى عوامل عدةمنها :
*- تكثر القبائل لتعتاض مما فقدته بعد أن راجعت الروايةوخاصة القبائل التي قلّت وقائعها وأشعارها , وكانت أولاهاقبيلة قريش فقد وضعت على حسان أشعاراً كثيرة .
*- شعر الشواهد لحاجة العلماء إليها في تفسير الغريبومسائل النحو خاصة عند الكوفيين .
*- الشواهد التي كان بعض المعتزلة والمتكلمين يولدونهاللاستشهاد بها على مذاهبهم .
*- الشواهد على الأخبار لأنه لما كثر القصاصون واهل الأخباراضطروا أن يصنعوا الشعر لما يلفقونه من الأساطير فوضعوامن الشعر على آدم فمن دونه وأول من أفرط في ذلك محمد بنإسحاق .
*- الاتساع في الرواية يضعون على فحول الشعراء قصائد لميقولوها ويزيدون في قصائدهم التي تعرف لهم ويدخلون منشعر الرجل في شعر غيره . ومن أشهرهم حماد الراوية وخلفالأحمر .
وهكذا نرى أن مصطفي صادق الرافعي قد دار مع القدماء منالعرب في فلكهم وتابع ابن سلام في آرائه دون غلو أو شطط ولميحمل النصوص أكثر مما تحتمل ولم يتعسف الطريق اعتسافاإلى الاستنتاج والاستنباط , ولم يجعل من الخبر الواحد قاعدةولا من الحالات الفردية نظرية شاملة .
أما طه حسين فقد تناول هذه القضية في كتابه { في الشعرالجاهلي } سنة 1926م , فأثار ضجة كبيرة لما فيه من آراء جريئةيتعرض بعضها للدين , ثم حذف منه وزاد فيه ووسعه فأصدرهسنة 1927م بعنوان { في الأدب الجاهلي } , وقد استقى أكثرمادته من روايات ابن سلام العرب واستنتاجات واستنباطاتوآراء مرجليوث وتوسع فيها حتى وصل إلى ان قال : ” إنالكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية فيشيء , وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام فهي إسلاميةتمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم أكثر مما تمثل حياةالجاهليين وأكاد لا أشك في ان ما بقي من الأدب الجاهليالصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء ولا ينبغيالاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذاالعصر ”
وقد قسم طه حسين بحثه إلى ثلاثة أقسام : الدوافع والأسبابالتي تدفع الباحث إلى الشك في الشعر الجاهلي وأسبابالوضع والانتحال في الشعر الجاهلي ثم درس فريقاً منالشعراء وشك في نسبة الشعر إليهم , نذكر كل هذا باختصارشديد :
*- دوافع الشك عند طه حسين :
= الشعر لا يمثل الحياة الدينية والعقلية والسياسيةوالاقتصادية والاجتماعية للعرب الجاهليين .
= اختلاف اللغة , فهو يرى أن هناك اختلافاً قوياً بين لغة حمير( وهي العرب العاربة ) ولغة عدنان وهي ( العرب المستعربة ) مستنداً على قول أبي عمرو بن العلاء : { ما لسان حميربلساننا ولا لغتهم بلغتنا }
= اختلاف اللهجات فقبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقةاللهجة بخلاف المعلقات تستطيع أن تقرأها دون أن تشعر فيهابشيء يشبه أن يكون اختلافاً في اللهجة أو تباعداً في اللغة .
= الاستشهاد بالشعر الجاهلي على ألفاظ القرآن والحديثحتى إنك لتحس كأن هذا الشعر الجاهلي إنما قدّ على قدّ القرآنوالحديث وهذه الدقة تبعث على الشك والحيرة .
أما أسباب الانتحال عند د / طه حسين فيرجعها إلى :
*- السياسة ويريد بها العصبية مثل ما كان بين قريشوالأنصار , ومن كان بين القبائل من أحقاد قديمة ومع ذلك لميستشهد بشعر جاهلي بل استشهد بشعر إسلامي قيل بعدالإسلام يسوق مثالاً على ذلك بما ذكره ابن سلام : (( وقد نظرتقريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية , فاستكثرت منهفي الإسلام ))
*- الدين فقد نظمت أشعار في الجاهلية إرهاصاً ببعثة الرسول– صلى الله عليه وسلم – وإثباتاً لنبوته , أو ما جاء عندالمفسرين من ذكر الأمم السابقة , وتشكك فيما أضيف إلى شعراءاليهود والنصارى من أشعار , وكذلك ما أضيف إلى عدي بن زيدالعبادي .
*- القصص وتحدث عن هذا وما كانوا يضعون من الشعر لتزيينالقصص والأخبار , وقد نبه ابن سلام على ذلك عند ابن إسحاقوأضرابه .
*- الشعوبية وتحدث عن الخصومة بين العرب والموالي وأنهؤلاء الشعوبيين قد نحلوا أخباراً وأشعاراً وأضافوها إلىالجاهليين والإسلاميين وكذلك فعل خصومهم يقول في ذلك : (( وكانت الشعوبية تنحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغضمنهم وكان خصوم الشعوبية ينحلون من الشعر ما فيه ذود عنالعرب ورفع لأقدارهم ))
*- الرواة , تحدث عن فساد مروءة بعض الرواة مثل حماد وخلفوأبي عمرو الشيباني وأنهم كانوا ينحلون الأشعار ويعبثونبالشعر وتحدث أيضاً عن طائفة أخرى اتخذت الرواية مكسباًوهم الأعراب الذين كان يذهب إليهم رواة الأمصار يسألونهم عنالشعر والغريب .
= أما الدراسة التطبيقية فقد شك في شعر امرئ القيس وعلقمةالفحل وعبيد بن الأبرص وعمرو بن قميئة والمهلهل وعمرو بنكلثوم والحارث بن حلزة وطرفة والمتلمس والأعشى ثم شك فيالشعر المضري .
س : من ظواهر الشعر الجاهلي الصعلكة , فماذا يقصد بها وماخصائصها الفنية ؟ ومن أبرز شعرائها ؟
حركة الصعاليك الشعرية أول حركة تمرد في تاريخ الشعرالعربي إذ شق هؤلاء الصعاليك عصا الطاعة, وخرجوا علىالإجماع الشعري الجاهلي .
والصعلكة لغة تعني الفقر , والصعلوك الفقير الذي لا مال لهيستعين به على أعباء الحياة , ولا اعتماد له على شيء أو أحديتكأ عليه , وقد تطورت دلالة هذا المصطلح بحيث أصبح يدلعلى طائفة من الشعراء ممن كان يمتهنون الغزو والسلبوالنهب . والصعلكة ظاهرة اجتماعية برزت على هامش الشعرالجاهلي كرد فعل لبعض العادات والممارسات وهم ثلاث طوائف: الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم القبيلة لكثرة جرائرهم وخبثهممثل : حاجز الأزدي وقيس الحدادية وأبي الطمحان القيني . والطائفة الثانية أبناء الجنسيات السود الإماء ممن نبذهمأباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار مثل : السليك بن سلكة , والشنفرى الأزدي , وتأبط شراً , وهؤلاء يسمون أغربة العرب , وكانوا يتمردون على ذويهم ويلوذون بالصحراء . والطائفةالثالثة اللصوص المحترفون وهم الذين يعيشون على الإغارةويقتاتون من ورائها , وهذه الطائفة كانت تضم قبائل بأكملهامثل قبيلتي فهم وهذيل . ومن شعرائها عروة بن الورد .
وحركة الصعلكة ذات مضمون اجتماعي وإنساني تعمل علىوضع الأمور في نصابها , ومظهر من مظاهر الصراع بين الفقراءوالأغنياء , لذا فهي سمة واقعية تكشف عن حس متوهج برفضالظلم والقهر .
وتدور موضوعات شعر الصعلكة حول المغامرات وشعر المراقبوالتوعد والتهديد ووصف الأسلحة والحديث عن الرفاق وسرعةالعدو والتشرد والغزوات على الخيل .
أما الظواهر الفنية في شعر الصعاليك فنجد أن أغلب شعرهممقطوعات , ولسنا نعني بهذا انعدام القصيدة فيه , وإنما نعنيذيوع المقطوعة أكثر من ذيوع القصيدة .
أول ما يلفت النظر في شعر الصعاليك ذيوع المقطوعة أكثر منذيوع القصيدة التي يتراوح عدد أبيات الواحدة منها بينالبيتين والسبعة , ومرجع ذلك إلى طبيعة حياتهم تلك الحياةالقلقة المشغولة بالكفاح في سبيل العيش التي لا تكاد تفرغللفن من حيث هو فن يفرغ صاحبه لتطويله وتجويده وإعادةالنظر فيه كما يفعل الشعراء القبليون .
والناظر في شعر الصعاليك تلفت نظره أيضا تلك الوحدةالموضوعية في مقطوعاته وأكثر قصائده . بحيث يستطيع أنيضع لكل مقطوعة عنواناً خاصاً بها دالا على موضوعها سواءما كان منها في وصف المغامرات أو الحديث عن سرعة العدو أوالفرار أو تقرير فكرة اجتماعية أو اقتصادية .
ومن الطبيعي أن تخلو قصائدهم من المقدمات الطللية والغزليةوالخمرية لحرصهم على الوحدة الموضوعية , وإذا كانتقصائدهم قائمة على التمرد الاجتماعي فمن الطبيعي أن تتحللقصائدهم من الشخصية القبلية , وألا تظهر شخصية القبيلةعند شاعر فقد إحساسه بالعصبية القبلية . والناظر في شعرالصعاليك يجد أن الروح القصصية تسري في تضاعيفه يصورفيه الشاعر حياته وحياة أصحابه , ويسجل فيه الشاعر كل مايدور في حياته الحافلة من حوادث مثيرة . كما صور الشعراءالصعاليك في فنهم البيئة البدوية التي يعيشون فيها بكلمظاهرها الواقعية الصحراء بشعابها وجبالها وأغوارهاولياليها المظلمة الرهيبة وحيوانها الشارد ووحوشها وحشراتهاوبصدق ودقة ومهارة فنية . كما أنهم اعتمدوا على فن التشبيهفي صنعتهم الفنية واستكمال الصورة الفنية والمعنوية .
س : دكتور محمد تشيع في قصائد الشعر الجاهلي ظاهرةالمقدمة الطللية , فما سبب ذلك ؟
ج : هناك من يرى أن القصيدة الجاهلية تنقسم قسمين ذاتيوغيري , والذاتي يتحدث فيه الشاعر عن نفسه ويصور مشاعرهوانفعالاته , وغيري يتناول فيه شئون القبيلة . أما سر ولوعالشعراء الجاهليين بهذه المقدمة فيجيب عنها ابن قتيبة بقوله : ” إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فشكا وبكى وخاطبالربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنينبها .. ثم وصل بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرطالصبابة والشوق ليُميل نحوه القلوب ويستدعي به إصغاءالأسماع إليه لأن النسيب قريب من النفوس لائط بالقلوب , فإذاعلم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجابالحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر ومسرى الليلوإنضاء الراحلة والبعير فإذا علم أنه قد أوجد على صاحبه حقالرجاء بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه على السماحفالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب ” .
ويرى معاصرون أن هذه المقدمة إنما كانت تأتي استجابةلأحاسيس الشاعر الذاتية وخواطره النفسية وتفاعله مع بيئتهالصحراوية .
س : دكتور محمد يقول الأصمعي : ” الشعر نكد يقوى في الشرويسهل , فإذا دخل في باب الخير لان وضعف , هذا حسان فحلمن فحول الجاهلية , فلما جاء الإسلام سقط شعره ”
ج : الأصمعي نفسه يتراجع عن هذه النظرة حينما يعترف فيمكان آخر بفحولة حسان , وينفي عنه كل لين وضعف , حيثيقول : ” حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء فيقول له تلميذهأبو حاتم : ” تأتي له أشعار لينة ” فيرد الأصمعي مبرئاً شعرحسان من اللين والضعف : ” تنسب له أشياء لا تصح عنه ” .
ويقول ابن سلام : ” قد حمل عليه ما لم يحمل على أحد , ولماتعاضهت قريش واستبت وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تنقّى ” . وفي الحقيقة يجمع معظم الدارسين على أن شعر حسان قد هبطمستواه الفني بعد الإسلام , وضعف شعره لأسباب منها : أنهرائد لمضمون جديد في الشعر , وقد تطلّب منه منهجاً شعرياًجديداً لم يكن واضح المعالم , وطلب منه التعبير في تجاربجديدة لم يكن له عهد بها , فحين يرثي الشهداء مثلاً فهذا أمرجديد عليه فليس لديه رصيد يتكئ عليه , أما الوقائع والحروبوالنعرات والأنساب فلها رصيد في الجاهلية يتموّل بها . ومنهاما يتصل بحسان في ذاته : فهو رائد لمضمون جديد ولا بد للرائدمن هنات وعثرات لأنها بداية جديدة . وهو أدرك الإسلام وهوأقرب للشيخوخة فصعب عليه التكيف التام للوضع الجديد . وثالثها ارتجاله الشعر مما فوّت عليه فرصة الإجادة والتنقيح . ثم إنه كان مضطراً إلى الإكثار من القول في كل حادثة يتعرضلها الإسلام فهو شاعر الرسول – صلى الله عليه وسلم – والأحداث فلا يتاح له الوقت للتنقيح وكان هذا مدعاة للرقةوالركاكة والضعف .
وقيل لحسان : لان شعرك أو هرم في الإسلام يا أبا الحسام , فأجاب : يا ابن أخي إن الإسلام يحجز عن الكذب , أو يمنع منالكذب , وإن الشعر يزينه الكذب .
ومنها كثرة ما حمل عليه واختلاط شعره بشعر معاصريه كعبوابن رواحة والسبب في ذلك أن أكثر مصادره من سيرة ابنإسحاق . ومن هنا نستطيع أن نطمئن إلى حد بعيد إلى شعرهالجاهلي في مجموعه , فقد كان بمنأى عن أسباب الانتحالالتي أحاطت بشعره الإسلامي .
أما شعره الإسلامي فمن الضروري أن نبالغ في الحذر منالاطمئنان إليه كله , ففيه منتحل كثير .
واتصل بالغساسنة الذين أجزلوا له العطاء بعد أن مدحهم وقالفيهم أجود شعره , يقول في البتارة :
أسألت رسم الدار أم لم تسأل *** بين الجوابيفالبضيع فحومل
لله درّ عصابة نادمتــهم *** يوماً بجلّق فيالزمان الأول
بيض الوجوه كريمة احسابهم *** شم الأنوف منالطراز الأول
هذه القصيدة تجري على النمط الجاهلي من وقوف علىالأطلال ووصف للمحبوبة ثم الانتقال إلى وصف الراحلةوالرحلة وصولاً إلى المدح .. ورغم أن هذه نظمت في الجاهليةونسجت على منوال القصائد الطوال إلا أنها تتميز بقاموسهااللغوي الذي امتاز بتماسك الأسلوب , وبضرب من الموسيقىالداخلية والخارجية , وبأسلوب لا يخلو من الحوشية والأخيلةالبدوية بل غلبت عليه جزالة اللفظ وفخامة التعبير وشموخالمعاني والاتصال المباشر بالبيئة , وبالإضافة إلى أنه كان يميلإلى اللين وعذوبة اللفظ وسلاسة التعبير .
وجودة شعر حسان الجاهلي دفعت نقدة العرب إلى استحسانشعره فقال أبو عبيدة فضّل حسان بثلاث : كان شاعر أهل المدرفي الجاهلية , وشاعر النبي – صلى الله عليه وسلم – في النبوة, وشاعر اليمن كلها في الإسلام . ومما لاشك فيه أن حساناً كانمن فحول الصف الثاني بين شعراء الجاهلية فهو لم يصل إلىمرتبة أصحاب المعلقات ولم يستطع الارتفاع بشعره إلى مستوىقصائدهم الطوال المشهورة فهو دونهم في الموهبة والقدرةاللغوية وسعة التجربة وصدق الملاحظة , ورغم ذلك فله قصائدتعبر عن روح الجاهلية تعبيراً صادقاً . ولعل ميميته ذات المطلع:
ألم تسأل الربع الجديد التكلما *** بمدفع أشداخفبرقة أظلما
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى *** وأسيافنايقطرن من نجدة دما
هي أكثر قصائده تمثيلاً لطبيعة القصيدة الجاهلية في بنائهاوتعابيرها وصورها , ففيها نفحات قريبة من روح زهير فيوصف الرحلة وصور امرئ القيس في وصف المطر والسيل وفيأسلوبها الرصانة المعهودة في الشعر الجاهلي . ولكن رغم ذلكفإن شعر حسان اتسم بمسحة مدنية ميزت أسلوبه عن أساليبالشعراء آنذاك , ومرد ذلك اتصاله بالغساسنة . وأما القول بأنشعر حسان لان وضعف بسبب موقف الإسلام من الشعر ففيهشيء من المبالغة لأن عصر الفحول قد انقضى قبيل الإسلام ولميبق منهم في الإسلام سوى حسان نفسه وكعب بن زهيروالحطيئة وهؤلاء جميعاً من فحول الصف الثاني إضافة إلىلبيد الذي كف عن قول الشعر بعد إسلامه .
س : دكتور محمد هل أنشد حسان قصائده المبدوءة بالغزل أمامالرسول – صلى الله عليه وسلم ؟
ج : نعم . لكن ينبغي أن نفهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يدرك تماماً أن وصف الخمرة والوقوف على الأطلال وابتداءمطالع القصائد بالغزل ليس إلا تقليداً فنياً فرضته ضرورةاكتمال الصورة الفنية . فقصيدته الهمزية من أفضل قصائدهالتي تجمع بين أسلوب الجاهلية ومعانيها وأسلوب الإسلاموقيمه يقول :
عفت ذات الأصابع فالجواء *** إلى عذراءمنزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر *** تُعفّيهاالروامس والسماء
فدع هذا ولكن من لطيف *** يؤرقني إذا ذهبالعشاء
كأن سبئية من بيت رأس *** يكون مزاجهاعسل وماء
وكذا فعل كعب بن زهير في قصيدة البردة المشهورة :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** متيّم إثرهالم يفد مكبول
س : دكتور محمد يقترن الحديث عن حسان بن ثابت بشاعرالدعوة الإسلامية كعب بن مالك , ولكن غفل عنه الدارسون إلىحد جعلت اسمه يلتبس من حيث الإلف مع كعب بن زهير , نريدمنك حديثاً عنه وعن شعره ومكانته وخصائصه الفنية .
ج : كعب بن مالك التائب العابد الصحابي ذو السيرة العطرةوالمواقف المشرفة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مدرسةفنية تبوّأ منزلة عالية في عالم الشعر , نوّه به القدماء , وأشادوابه وبشعره , وأجمع الذين ترجموا له على أنه شاعر مجيدمجوّد مطبوع , وأن لشعره وقعاً كبيراً في نفوس سامعيه .
صنفه ابن سلام صاحب الطبقات في شعراء القرى إذ قال : ” شعراء القرى العربية وهي خمس : المدينة ومكة والطائفواليمامة والبحرين , وأشعرهن قرية المدينة . شعراؤها الفحولخمسة : ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس , فمن الخزرج منبني النجار : حسان بن ثابت , ومن بني سلمة : كعب بن مالك , ومن بني بلحارث بن الخزرج : عبد الله بن رواحة , ومن الأوس : قيس بن الخطيم من بني ظفر , وأبو قيس بن الأسلت من بنيعمرو بن عوف ” .
لم يصل إلينا من شعر كعب سوى شعره الإسلامي , بل بعضشعره الإسلامي مع أنه شاعر مخضرم مجيد طارت له شهرة فيالجاهلية , وعرف بالشعر , فما سمع الرسول – صلى الله عليهوسلم – اسمه من عمه العباس حتى قال : ( الشاعر ) .
وتعدت شهرته جزيرة العرب ووصلت إلى ملك غسان الذي سارعإلى إغوائه مستغلاً محنة المقاطعة الأليمة التي مرت به .
إذاً أين شعره ؟ لقد عدت عليه عوادي الأيام , فضاع معظمه , وماوصل إلينا إلا القليل . ولقد ضاع شعره الجاهلي إلا أبياتاً سبعةاستشهد بمطلعها النويري في نهاية الأرب 6/ 217, والمقطوعةهي :
زعم ابن أسلت أننا لم نثّئر *** قتلى بعاثوأننا لم نزدد
بمذرّبات بالأكف نواهل *** وبكل أبيضكالغدير مهند
ومفاضة زعف تمور فصوصها *** صور الأضاةعلى القرار الجدْجد
وبفتية غُلْب الرقاب مغاور *** من يلقهم يومالكريهة يبعد
أنسيت قومك سوّدتك رماحهم *** بعد المشيبوكنت غير مسوّد
ولقد رأيت أبا عقيل بالوغى *** فصددت عنهبالنجاء الأجود
وضننت عنه بالحياة وقد ثوى *** وتركته بالمتنغير موسّد
ويبقى السؤال قائماً لماذا ضاع شعره الجاهلي ؟ قيل لأن الرواةلم يهتموا برواية شعره لأنه كان شاباً ولم تكن لشعره سيرورةكبرى , ويرد هذا القول شهرة طرفة بن العبد الفتى القتيل الذياخترمته يد المنون في العشرينيات من عمره , فلم تغفل المصادرشعره .
وقيل : أهمله أهله البنون والحفدة إذ رأوا فيه تسجيلاً لأيامالجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج وما فيها من عصبيةمنتنة وعدوات مستحكمة مقيتة ووجدوا على النقيض من ذلكفي شعره الإسلامي تسجيلاً لأخوّة الإيمان التي ألّفت بينالحيين المتخاصمين تحت اسم الأنصار . ولعله الأصوب .
نظم في الأغراض الشعرية النبيلة التي تناسب رجل الدعوةالإسلامية فتوسع في الفخر الذاتي والجماعي , ولم يكثر منالمديح الذي دار معظمه حول مديح الرسول – صلى الله عليهوسلم – ونقباء العقبة . وضرب في الهجاء بسهم وافر , ورجمفيه بشهاب ثاقب لتوفر أسبابه ودواعيه فهجا اليهود والمشركينوبني لحيان وابن الزبعرى وغيرهم .
وكان لكعب بن مالك تسع نقائض تصدى فيها لضرار بنالخطاب يومي بدر والخندق ولأبي سفيان بن حرب في غزوةالسويق ولهبيرة بن أبي وهب في أحد مرتين , ولعمرو بنالعاص في أحد , ولضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص في أحدأيضا , ولعبد الله بن الزبعرى في يوم الخندق ولعباس بنمرداس حين امتدح رجال بني النضير . وله أرجوزتان أولهماأجاب فيها سلمة بن الأكوع , والثانية أجاب فيها مرحبااليهودي يوم خيبر .
وله في الرثاء ثلاث مقطعات في رثاء الرسول – صلى الله عليهوسلم – وقصيدتان ومقطعة في رثاء حمزة , وقصيدة في رثاءشهداء أحد وفيهم حمزة , وقصيدة ومقطعتان وبيتان مفردان منقصيدتين في رثاء عثمان , وقصيدة في رثاء شهداء مؤته وجعفربن ابي طالب , ومقطعة في رثاء عبيدة بن الحارث بن المطلب .
وبرع في الوصف , ولكنه لم يفرد له قصائد خاصة , وإنما انبثفي أغراضه وهو في غرض الفخر أظهر وأغزر , ويدور حديثهفيه عن وصف الخيل ووصف المعارك والحرب وعدتها والفرسانوبلائهم . ومن روائعه يقول مذكراً المشركين في أحد بهزيمتهمالصاعقة يوم بدر :
مجالدنا عن ديننا كل فخمة *** مُذرّبة فيهاالقوانس تلمع
وكلُّ صموت في الصُّوان كأنها *** إذا لُبستنهيٌ من الماء مترع
ومنجوفة حرمية صاعدية *** يُذرّ عليها السمساعة تصنع
تصوب بأبدان الرجال وتارة *** تمر بأعراضالبصار تقعقع
وخيلٌ تراها بالفضاء كأنها *** جرادُ صباً فيقرة يتريع .
ويقول مازجاً عدة التقوى بعدة السلاح واصفاً موقعة الخندق :
من سرّه ضرب يمعمع بعضه *** بعضاً كمعمعةالأباء المُحرق
فليأت مأسدة تسن سيوفها *** بين المذاد وبينجزع الخندق
دربوا بضرب المعَلَمين فأسلموا *** مهجاتأنفسهم لرب المشرق
وتستميلنا الطرافة الفنية والإبداع التصويري في هذين البيتينحيث يقول :
نصل سيوفنا إذا قصرن بخطونا *** قدُماًونلحقها إذا لم تلحق
فترى الجماجم ضاحياً هاماتها *** بله الأكفّ كأنهالم تخلق
وتناثرت في ديوانه أبيات من الحكمة والغزل والوعظ . ويمكننابعد هذا الاستعراض أن نستجلي الخصائص العامة لشعرهونبدأ بمنهج القصيدة فكعب بن مالك لم يكن يلتزم الوقوف علىالأطلال في مطالع قصائده أو التمهيد لموضوعه بالنسيب أوالوصف . وإن أبرز ما يميز القصيدة في شعره الوحدة والتلاحموالاتساق والانسجام بين أجزائها منذ مطلع القصيدة حتىالختام مع أنها قد تكون وعاء لعدد من الأغراض ومرد ذلكانطلاق الشاعر من وحدة عاطفية تربط موضوعاتها برباطنفسي واحد .
وتنثال المعاني الإسلامية في قصائده , روى أبو الفرج أنمعاوية قال يوماً لجلسائه : ” أخبروني بأشجع بيت وصف بهرجل قومه , فقال له روح بن زنباع : قول كعب بن مالك :
نصل سيوفنا إذا قصرن بخطونا *** قدُماً ونلحقهاإذا لم تلحق
قال له معاوية : صدقت .
وتزخر قصائده بالحلي البيانية التشبيهات والاستعاراتوالكنايات والأصبغ البديعية دونما اجتلاب أو تكلف أو تعمد , وإنما جاءت طبيعية على السجية , وتراكيب رصينة ومحكمةصاغها بأسلوب يتلاءم والغرض فهو جزل فخم مطبوع تارةوعذب شجي الإيقاع تارة أخرى يتراقص بها على البحورالطويلة ذات المقاطع الكبيرة التي تتسع للموضوعات الجادة .
س : دكتور محمد عند دراسة الشعر الأموي نجد ظاهرةالتخصص في بيئات مختلفة , نرجو تسليط الضوء على هذاالموضوع .
ج : انتقلت الخلافة من الحجاز إلى الشام بعد قيام الدولةالأموية , فأصبحت الشام هي البيئة الأساسية وأصبح القصرالأموي هدفاً للشعراء ومن هنا كان ظهور المدح وازدهاره فيهذه البيئة وتهافت الشعراء الثلاثة الأخطل وجرير والفرزدقعلى القصر .
وعلى أيديهم تطورت قصيدة المدح من صورتها الجاهلية التيكانت عليها في العصر الجاهلي إلى صورة جديدة بما أدخلههؤلاء الشعراء على نسيجها الفني من خيوط إسلامية منناحية وخيوط سياسية من ناحية أخرى تعبر عن نظرية الحزبالحاكم السياسية وتدافع عنها وتدعو إليها
وفي العراق ظهر لونان من الشعر : الشعر السياسي المعارضللأمويين ( كالشيعة والخوارج والزبيرين ) ولكل حزب شعراؤهفالكميت للشيعة والطرماح وقطرى بن الفجاءة وعمران بنحطان للخوارج . وعبيد الله بن قيس الرقيات شاعر الزبيرين . وازدهر فن الشعر السياسي على أيديهم .
واللون الثاني شعر النقائض في البصرة والكوفة . وهو فنيقوم على أن يقول أحد الشعراء قصيدة في موضوع ما , غالباًما يكون في الفخر والهجاء فيهب الأخر للرد عليه والأخذ بالثأرفينظم قصيدة في الموضوع نفسه ينقض معانيه المعنى تلوالأخر يحتذي قصيدة الأول وزنا ومعنى وقافية .
وجذورها ليست جديدة في الشعر الأموي بل جذورها عميقة فيالجاهلية كانت بين الأوس والخزرج وبكر وتغلب وقيس وتميموعبس وذبيان ثم بين شعراء المسلمين والمشركين ثم أصبح فناًثابت القواعد والأصول في العصر الأموي .
ويعود سبب ازدهاره إلى دواعي سياسية فقد شجع الخلفاءالأمويون هذا الفن وأثاروه بين الشعراء لإشغال الناس عنالمطالبة بالخلافة .
ودواعي قبلية تتمثل في قرب الدولة الأموية من العصرالجاهلي , والشعراء يتفاخرون بالمناقب ويتعايرون بالمثالب .
وهناك دواعي اجتماعية فقد أدى تلاصق البطون وتجاورالقبائل إلى المشاحنة والعداوة . ودواعي أدبية فالشاعر يريد أنيحرز السبق والتفوق على خصمه ويعوّض النقص . كما أنالعقل العربي نما وتمرن على الحوار والجدل والمناظرة وهذا أثرعلى النقائض حيث يولد المعاني وينقض الأفكار ويتعامل معخصمه بحذق ودربة .
س : هل لهذا الفن قيمة , وما خصائصه الفنية , ومن أبرزشعرائه ؟ وما الذي يؤخذ عليه ؟
ج : بلا شك شعر النقائض سجل حافل وصادق لكثير منالجوانب والأحداث , صوّر لنا حياة أدبية في فترة ما بخيرهاوشرها قيماً وأخلاقاً . بالإضافة إلى أن شعر النقائض كشف عنشاعرية كبيرة كونها لفحول كالفرزدق وجرير والأخطل والراعيالنميري .
وللنقائض خصائص وسمات نجملها في : أنها ليست خاصةبالهجاء بل خليط من الفخر والمدح والنسيب ونلحظ كثرةالتهديد والافتخار بالمقدرة الشعرية والفحش والإقذاعوالسخرية والتندر والقصص الهجائي وتوليد المعانيواستلهام تاريخ القبائل .
ويؤخذ عليها : الابتذال في المعاني وتكرارها , وصعوبة الفهم , كما أنها محدودية الغرض كونها بين شاعرين أحدهما يمدحوالآخر يهجو . كما أن شاعر النقيضة يحشد الكثير من أيامالحروب والمعارك والأنساب ما يفقدها الفنية .
اجتمع في مجلس عبد الملك جرير والفرزدق , فقال الفرزدق : النوار بنت مجاشع طالق ثلاثاً إن لم أقل بيتاً لا يستطيع ابنالمراغة أن ينقضه أبداً , ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً . فقالعبد الملك : ما هو ؟ قال :
فإني أنا الموت الذي هو واقع *** بنفسك ؛فانظر كيف أنت مزاوله .
وما أحد يا بن الأتان بوائل *** من الموت إنالموت لا شك نائله .
فأطرق جرير قليلاً , ثم قال : أم حزرة طالق منه ثلاثاً إن لم أكننقضته وزدت عليه ! فقال : عبد الملك : هات ! فلقد طلق أحدكمالا محالة , فأنشد :
أنا البدر يغشى نور عينيك فالتمس *** بكفيك يا بن القين هل أنت نائله
أنا الدهر يُفني الموت والدهر خالد *** فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله .
فقال عبد الملك : فضلك والله يا أبا فراس , وطلق عليك .
ومثل هذا يروى أنه اجتمع في مجلسه جرير والفرزدق والأخطل, فأحضر كيساً فيه خمسمائة دينار وقال لهم ليقل كل منكم بيتاًفي مدح نفسه , فأيكم غلب فله الكيس , فبدأ الفرزدق فقال :
أنا القطران والشعراء جربى *** وفيالقطران للجربى شفاء
فقال الأخطل : فإن تك زق زاملة فإني *** أنا الطاعونليس له دواء
فقال جرير : أنا الموت الذي آتي عليكم *** فليسلهارب مني نجاء
فقال عبد الملك : خذ الكيس ؛ فلعمري إن الموت يأتي على كلشيء .
وأما بيئة الحجاز فقد تخصصت للون من الغزل ازدهر بهاوعرفت به وهو الغزل اللاهي أو ما يسمى بالغزل الحضاري . ولمع ثلاثة شعراء استطاعوا أن ينهضوا بهذا الفن نهضة رائعةوممتازة وأن يعبروا عن حياة مجتمعهم الجديد بكل ما تنطويعليه من حضارة وترف وفراغ ولهو ومرح وهم عمر بن أبي ربيعةوالأحوص والعرجي .
وأما بيئة البادية بادية الحجاز ونجد فقد ازدهر بها لون آخر منألوان الغزل ظهر في المدن الحجازية وهو الغزل العذري وهواللون المقابل للغزل اللاهي . وظلت المرأة في هذا المجتمعالبدوي خاضعة للتقاليد الصارمة ولم تستطع أن تتحرر .. وقدكثر العشاق العذريون في هذه البيئة وعرف كل واحد منهمبمحبوبة له اقترن اسمه باسمها : قيس بن الملوح وليلى , وقيس بن ذريح ولبنى , وجميل وبثينة , وكثير وعزة , والصمةالقشيري وريّا , وذو الرمة وميّ وغيرهم .
وفي بيئة البادية أيضا ظهر شاعر بقصة حب تدور في فلكالعشاق العذريين , ولكنه لمع إلى جانب آخر وهو وصفالصحراء الذي بلغ به قمة متميزة انفرد بها ولم يشاركه فيهاغيره من شعراء عصره بل ربما من كل عصور الشعر العربيعلى امتدادها الطويل وهو ذو الرمة .
كما ظهر لون الرجز واصبح ظاهرة تميز العصر الأموي بسببالغرابة اللغوية المتعمدة وترتب على ذلك أن فحول الرجاز فيهذا العصر أباحوا لأنفسهم التصرف في اللغة واشتقاقاتها .
ويعد الأغلب العجلي أول من أطال الأرجوزة وجعلها تنهج نهجالقصيدة , وكان الرجز قبله إنما يقول الرجل منه البيتين أوالثلاثة . على أن نهضة الرجز الحقيقية إنما اكتملت في العصرالأموي على أيدي ثلاثة من فحول الرجاز وهم العجاج وأبوالنجم ورؤبة
س / هل طرأ تجديد على المقدمة التقليدية للقصيدة في العصرالأموي ؟
ج / جمع شعراء هذا العصر بين الموروث القديم والجديدالمستحدث وحالوا التوفيق بينهما , فهو يختار من موروثه ماأخذ صورة القداسة في نفسه , ويختار أيضا من تيارات ثقافتهالحضارية والعقلية ما يتسق مع محاولاته الإحيائية للقصيدةالقديمة إضافة إليها أو تعديلا فيها .وربما كانت المقدمة الطلليةومقدمة الضعائن وما يتصل بها من حديث الرحلة أقل المقدماتالتقليدية استجابة لتيارهم الإسلامي إلا أنهم ظلوا متمسكينبها كتقليد له قداسته وأصالته , فلم يفكروا في الوقوف منهاموقف الرفض أو أن يعلنوا الثورة عليها لأنها كانت بالنسبةلهم رمز الصحراء العريقة التي نما هذا الشعر فوق رمالها , ولأنها ظلت تمثل الرابطة الوثيقة التي تربطهم بماضي هذاالشعر . في حين كانت المقدمة الغزلية سيدة المقدمات ؛ لأنالتحول الاجتماعي الذي أصاب مكانة المرأة في ظل المجتمعالإسلامي أتاح الفرصة للشعراء ليعكسوا هذا التحول فيمقدماتهم الغزلية , التي تفصح عن ذوق حضاري جديد يغايرالذوق الإحيائي القديم ويفترق عنه , فنحن لا نجد في هذهالمقدمة سوى اليسير من الحديث عن مفاتن الجسد
أما الطلل الجامد الثابت في موقعه , والرحلة البدوية في أعماقالصحراء التي استعصت على التحول الجديد فلم يكونا قادرينعلى استيعاب المتغيرات الإسلامية الجديدة .
س / هناك عدة عوامل أثرت في نشأة الغزل العذري العفيف , فما هي ؟
ج / ذهب طه حسين إلى أن ظاهرة الحب العذري العفيفالسامي التي عرفها مجتمع البادية في عصر بني أمية ظاهرةإسلامية خالصة , طهرت نفوس البدو وبرأتها من كل إثم , كانتنفوسهم ساذجة لم تعرف الحياة المتحضرة التي عرفتها مكةوالمدينة وما يطوى فيها من لهو وعبث وتحلل فهي من أجل ذلكلم تعرف الحب الحضري المترف ولا الحب الذي تدفع إليه الغرائز.
ويضيف عبد القادر القط إلى العامل الديني عوامل أخرىاجتماعية وسياسية وحضارية , ويرى يوسف خليف أن هذااللون من الحب القديم في الشعر العربي أن جذوره تمتد إلىالعصر الجاهلي فقد عرف المجتمع الجاهلي { المتيمين } الذينلم تكن حياتهم وشعرهم إلا صورة مماثلة أشد مماثلة لحياةالعذريين الأمويين فهو نبت صحراوي أصيل ممتد بين المدرستين, ففي شعر قيس لبنى إشارات إلى عبد الله بن العجلانوصاحبته هند , وفي شعر جميل إشارات إليهما أيضا , وإلىعروة بن حزام وعفراء , وكذلك إلى المرقش الأكبر وأسماء .
أما العامل الأساسي في ظهور مدرسة الغزل الحضاري فيالمجتمع الحجازي هو العامل الحضاري فقد كان مجتمع مكةوالمدينة يكتظ بجواري الروم والفرس وكان يشيع فيه الغناءوالموسيقى , وعم فيه الترف والنعيم في الملبس والمطعم وشاعمعهما كثير من اللهو و أحاديث الصبابة والغزل , بالإضافة إلىالسبايا والأسرى التي تحمل معها حضارتها وتقاليدها ومثلهاالخلقية التي كانت تجد استجابة سريعة من شباب الحجازالفارغ .
س : وصف الصحراء قديم في الشعر العربي , استطاع ذو الرمةأن يحقق في هذا الشعر نهضة رائعة ارتفعت به إلى قمة لميستطع أحد غيره من الشعراء أن يصل إليها هل بالإمكان دكتورمحمد أن نتناول هذا الموضوع بشي من التفصيل ؟
ج : الحديث عن ذي الرمة حديث ممتع وشايق ومنذ أيام الطلبوأنا أعشق هذا الشاعر , وهناك دراسة علمية دكتوراه وافيةللدكتور يوسف خليف تحدث فيها عن شاعر الحب والصحراء . عموماً نجمل الحديث حول النقاط التالية : هو غيلان بن عقبة ( 78-117) شاعر بدوي ولد وعاش في صحراء الدهناء شرقي نجد. ولقبه ذو الرمة قيل : إن ميّة التي أحبها وتغنى بها في شعرههي التي لقبته بهذا اللقب , وذلك أنه مرّ بخبائها وهي جالسةإلى جنب أمها فاستسقاها ماء فقالت أمها : قومي فاسقيه , وكانت على كتفه رُمّة وهي قطعة من حبل , فأتته بالماء وقالت : اشرب يا ذا الرمة , فلقب بذلك .
وقيل : لقب بذلك لقوله : ( أشعث باقي رمة التقليد ) وقيل : تعويذة علقت بحبل على يساره . والموضوعان الأساسيان فيشعره هما الحب والصحراء , فقد اتخذ من وصف الصحراءموضوعاً تخصص له إلى جانب شعر الحب الذي كان موضوعهالآخر الذي تخصص له أيضاً , ومن هنا تداخل الموضوعان فيشعره وامتزجا في قصائده , وتحول وصف الصحراء عنده منصورته التقليدية إلى صورة جديدة مستقلة يفرد له القصائد , ويهب له فنه وكل ما يملك من وسائل تعبيرية وتصويرية يصفهاكما يصف العاشق محبوبته ” فهو وصف يمتزج به الحبامتزاجا تاما , وتتداخل الخيوط العاطفية في نسيجه الفني , ويتراءى ذو الرمة من خلاله عاشقاً للصحراء تفيض أعماقهبمشاعر لا حدود لها من الحب والفتنة , راح يخلعها على كل مافيها , فإذا كل ما فيها حبيب إلى قلبه : مناظرها الطبيعيةومظاهر الحياة فيها وحيوانها ونباتها ومن هذا المزج بين الحبوالصحراء اكتسب شعر ذي الرمة هذا الطابع الفريد في الشعرالعربي الذي تحولت معه الصحراء من لوحة جامدة صامتة إلىلوحة حية مواجة بالحركة دفاقة بالحياة ”
يقول متغزلاً بالصحراء ويجعل صورتها وصورة مية أو خرقاءتتقاربان وتمتزجان امتزاجاً جعله يرى في كثبان الرمالالمنتشرة في الصحراء صورة من أجساد العذارى :
ورمل كأوراك العذارى قطعته *** إذا جلّلتهالمظلمات الحنادس .
ومن يتتبع ديوان ذي الرمة يجده لا ينتقل بين المقدمات الطلليةأو الغزلية أو الخمرية , بل قصيدته مقسمة بين الحب والصحراءفالمقدمة عنده جزء لا يتجزأ من التجربة الفنية فهناك وحدةنفسية وجدانية إذ يعبر من وصف الأطلال والصحراء إلىالحبيبة أو من الغزل بالحبيبة إلى وصف الصحراء مندمجا فيالتجربة معبرا عنها .
ذو الرمة كان صاحب مذهب فني فهو ينقح ويهذب ويقوّمقصائده لذا كان عماد صنعته الصورة الفنية الكلية , يتأنى فيرسمها , ويحرص على إيراد تفاصيلها وجزئياتها مما يذكرنابزهير في مقدمته الطللية لمعلقته . والألوان المركبة من أهمعناصر الصورة عنده .
كذلك من الملامح الفنية تحريك الطبيعة الصامتة والجامدةوالقدرة على الربط بين الصور المتباعدة والتشبيه وخاصةالتشبيه التمثيلي – والتشخيص والتجسيم ألوان بارزة فيشعره . فالأصمعي يقول : ” كان ذو الرمة أشعر الناس إذا شبه” ويقول ابن سلام : ” كان لذي الرمة حظ من حسن التشبيه لميكن لأحد من الإسلاميين ” ويقول ابن قتيبة : ” ذو الرمة أحسنالناس تشبيهاً ” ويقول حماد الراوية : ” أحسن الجاهليةتشبيهاً امرؤ القيس وذو الرمة أحسن أهل الإسلام تشبيهاً ” كما نلاحظ الوحدة العاطفية عاطفة الحب التي تربط بين أجزاءالقصيدة . وهو يجنح إلى الغرابة اللغوية والصورة الغريبةوهي غرابة جاءته من طبيعة موضوعه البدوي .
وهذه جملة أبيات أختارها لكم تتوافر فيها الملامح الفنيةالسابقة ويمكنك التطبيق والتذوق من خلالها , يقول :
عشية ما لي حيلة غير أنني *** بلقط الحصى والخطفي الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده *** بكفي والغربان فيالدار وقع .
ويقول : ما بال عينيك منها الماء ينسكب *** كأنها من كليمفرية سرب .
ويقول : ذكرتك إذ خطرت أم شادن *** أمام المطايا تشرئبوتسنح
هي الشبه أعطافاً وجيداً ومقلة *** وميّة أحلى منهاوأملح .
ويقول : ولما رأين الليل والشمس حية *** حياة الذي يقضيحشاشة نازع .
ويقول : وردت وأرادف النجوم كأنها *** وراء السماكين المهاواليعافر .
ويقول : ترى رعنه الأقصى كأن قموسه *** تحامل أحوى يتبعالخيل ظالع .
ويقول : كأن مطايانا بكل مفازة *** قراقير في صحراء دجلةتسبح .
ويقول : ورمل عزيف الجن في عقداته *** هدوءاً كتضرابالمغنين بالطبل .
ويقول : له أزمل عند القذاف كأنه *** نحيب الثكالى تارةواعتوالها .
ويقول : وليل كجلباب العروس قطعته *** بأربعة والشخصفي العين واحد .
ويقول : كأن حرباءها في كل هاجرة *** ذو شيبة من رجالالهند مصلوب .
س : دكتور محمد ذكرت أن الدارسين والمؤرخين بالغوا فيتقسيم العصر العباسي إلى قسمين , وهو عصر ممتد طويل , وبالتالي فهناك ظواهر تجديدية صاحبت هذه الفترة الطويلةفي كافة المجالات والمستويات , هلا حدثتنا عن ذلك .
ج : عزيزي يمكننا القول بأن العصر العباسي يعد انقلاباً ثورياًعلى العصرين السابقين في كافة المستويات , إذ انتقل المجتمعالمثقف من مجتمع بداوة إلى مجتمع مدينة وتحضر , ومنمجتمع عربي إلى مجتمع إسلامي . وقبل هذا أحب أن أشيرإلى أن سبب الاضطراب في تقسيم العصر العباسي يرجع إلىفكرة الربط بين التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي , عموماً قدسبق الحديث عن هذا التقسيم . نعود إلى ثورة الانقلاب , كماتعلمون أن الأمويين ظلوا مشدودين إلى تقاليد العصور القديمةالتي سبقته خاصة على المستويين الاجتماعي والوجدانييكيفون واقعهم النفسي في هذا الإطار ؛ لذلك لم يواجه الشعراءالأمويون أي أزمة مع أنفسهم إذ كان الطريق واضح المعالمأمامهم , فعبروا عن قيمهم بقيم العصر الجاهلي وزادوهارسوخاً , يقيسون هاماتهم بهامات الفحول فقد كان لكل شاعرأموي شاعر جاهلي يتخذه قدوة له يتمثله ويسير سيرهفالفرزدق يسير سير امرئ القيس وجرير يسير سير النابغةوالأخطل يقرنونه بالنابغة وذا الرمة بلبيد , وابن أحمر بزهير , وابن مقبل بطرفة والكميت بعمرو بن كلثوم . ولعل الذي ساعدهمغلبة الطابع العربي على الدولة الأموية سياسياً واجتماعياوأدبياً , وبقاء كثير من آثار البداوة والقيم في نفوس الناس .
كما قلت لكم , كان العصر العباسي أخصب العصور إذ شهدتطوراً وتغييراً على كافة المستويات السياسية والفكريةوالاجتماعية والاقتصادية والأدبية انعكست جميعها علىالحياة والنتاج , وأصبح الإنسان العباسي يواجه صراعاًصعباً بين التاريخ والواقع , فهل يتمسك بالتراث الماضي أميتكيف مع الواقع الجديد ممثلاً في الحياة الجديدة المتحضرة ؟يعبر عن تجاربه ويستجيب لذوق مجتمعه وثقافته , فقد نشأبينه وبين الأشكال التقليدية أشكال من الصراع وكذلك الذوق , وألفينا الشعراء العباسيين قسمين :
شعراء وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضي يعيشون تراثهويحتذون حذو أسلافهم في القيم والتعبير , ومن أولئك : محمدبن مناذر ومروان بن أبي حفصة والأحيمر السعدي وابن ميادةومحمد بن ذؤيب العماني والبهدلي وبكر النطاح وعبد الملكالحارثي والحكم الخضري وغيرهم . ولكن هؤلاء غفلوا عنأمرين رئيسين : الأول أن أي تقليد لا يمكن أن تبلغ درجته درجةإتقان مستوى الأصل . والثاني : أنهم بهذا التقليد والتمسكبالقديم قد عزلوا أنفسهم عن عصرهم وذوقه . يؤكد ذلك قولالأصمعي : ” حضرنا مأدبة وأبو محرز الأحمر وابن مناذر معنافقال ابن مناذر : يا أبا محرز إن يكن امرؤ القيس والنابغة وزهيرماتوا فهذه أشعارهم مخلدة فقس شعري إلى شعرهم , فأخذخلف صفحة مملوءة مرقاً فرمى بها عليه ” وهذا إنكار منه أنيتطلع ابن مناذر إلى مسامته أولئك الفحول .
ودار حوار بين أبي العتاهية وابن مناذر فقال له أبو العتاهية : ” إن كنت أردت بشعرك العجاج ورؤبة فما صنعت شيئاً , وإنكنت أردت شعر أهل زمانك فما أخذت مآخذهم .. ..
وفي الموشح للمرزباني أن أبا حاتم السجستاني قال للأصمعي: أبشار أشعر أو مروان ؟ قال : بشار أشعرهما , قلت وكيف ذاك ؟قال : لأن مروان سلك طريقاً كثر سلاكه فلم يلحق بمن تقدمه , وإن بشاراً سلك طريقاً لم يسلكه أحد فانفرد به وأحسن فيه , وهو أكثر فنون شعر , وأقوى على التصرف , وأغزر بديعاً – أيالجديد المخترع – ومروان آخذ بمسالك الأوائل .
والقسم الثاني : شعراء أخلصوا لتجارب عصرهم واستقوامعانيهم من واقعهم الحضاري , كبشار وأبي نواس وأبيالعتاهية , وهم قادرون على النسج على المنوال القديم , فلم تكنالمسألة مسألة ضعف وقوة , وإنما مسألة ذوق وتكيف وتجربة , اقرأ أرجوزة بشار , فقد روي أن بشار بن برد حضر مجلس عقبةبن سلم وحضر معه عقبة بن رؤبة بن العجاج وأنشد أرجوزةيمدح فيها عقبة فاستحسنها بشار , فلما فرغ قال له : يا أبامعاذ هذا طراز لا تحسنه أنت ولا نظراؤك فغضب وقال إليّ تقولهذا , والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك , ثم غدا على عقبةوأنشده :
يا طلل الحي بذات الصمد *** بالله خبر كيفكنت بعدي
فأعجب به عقبة , وقال لابن رؤبة والله ما قلت أنت ولا أبوك ولاجدك مثل هذا , ووصل بشاراً وأجزل له العطية . واقرأ قوله : كأن مثار النقع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه .
وقوله : إذا ما غضبنا غضبة مضرية *** هتكنا حجاب الشمسأو مطرت دما .
س : دكتور محمد , هل المحافظة على القديم من قبيل التعصبله , ورفض لهذا التجديد ؟
ج : لا أظن ذلك , بل كان الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء وابنالأعرابي يتذوقون شعر المعاصرين , ويثنون على المحدثين , فهملا ينظرون إلى الجمال بقدر ما يهمهم اللغة والمحافظة علىالتراث , ولحاجتهم إلى الشاهد وقلة ثقتهم بما يأتي بهالمولدون والذي دعاهم إلى هذا التمسك هو المحافظة على لغةالقرآن الكريم وفهمها وتذوقها والاستشهاد بها لأنها هي المفسرةلهذا الكتاب , وأيضاً المحافظة على لغة الحديث الشريف , وخشيتهم على اللغة من ظاهرة اللحن إذ أصبحت بغداد قبلةللفرس والروم والهنود فلا بد من المحافظة على لغة القديم . وإلافإن موقفهم من المحدث واضح يقول ابن قتيبة : ” كان أبو عمرويقول : لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته ” والمحدث في قوله هذا : ” شعر الفرزدق وجرير والأخطل ” .
ويقول : ” لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمتعليه أحداً ” .
ويقول المبرد : ” ما رأيت أشعر من هذا الرجل – يعني البحتري– لولا أنه ينشدني كما أنشدكم لملئت كتبي وأمالي من شعره ” يعني أنه معاصر وهم لا يكتبون له .
ويروى عن الطوسي أنه قال : وجّه أبي بي إلى ابن الأعرابيلأقرأ عليه أشعاراً ثم قرأت أرجوزة أبي تمام مع شعر هذيلفأعجب بها , وقال اكتب فما سمعت أحسن منها , فقلت : إنهالأبي تمام . فقال : خرق خرق .
س : بالتأكيد أن هناك مظاهر تجديدية طرأت على الأشكالالتقليدية والفنية .
ج : نعم . نتيجة لتطور الحياة السياسية والاجتماعية والفكريةظهرت مظاهر التجديد في أغراض الشعر كافة المديح والهجاءوالرثاء والوصف والغزل والفخر والطرد وظهرت الخمرياتوالمجون والزهد والزندقة . وظهر أيضا الشعر التعليمي وشعرالفكاهة والشكوى من المرض ومن الزمن وشعر المجالاتالاجتماعية والمناسبات السعيدة .
أما المظاهر الفنية فوجدنا الأوزان الخفيفة والتجديد في نظامالقافية حيث استحدثوا المزدوج والمسمطات والمخمسات , وظهرت الموشحات , ونظموا على البحر المجتث والمضارعوالمقتضب والمتدارك , واستخدموا الدوائر العروضية , واستغلواالأوزان الشعبية كالمواليا . وأسرفوا في استعمال الصنعةالشعرية اللفظية والمعنوية .
أما أبرز مظاهر التجديد فهو يتمثل في رفض بعض الشعراءالالتزام بالمقدمة الطللية لأنها لا تمت إلى حياته في المدينة بأيةصلة , وليست هناك عاطفة تربطه بماضيه يقول أبو نواس :
مالي بدار خلت من أهلها شغل *** ولا شجاني لهاشخص ولا طلل
لا الحزن مني برأس العين اعرفه *** وليس يعرفنيسهل ولا جبل
لا أنعت الروض إلا ما رأيت به *** قصراً منيفاً عليهالنخل مشتمل .
ويقول أيضاً : قل لمن يبكي على رسم درس *** واقفاً ما ضرّ لوكان جلس .
ويقول بشار : كيف يبكي لمحبس في طلول *** من سيبكيلحبس يوم طويل .
ويقول مطيع بن إياس : لأحسن من بيد يحار بها الفتى *** ومن جبلي طيّ ووصفكما سلعا
تلاحظ عيني عاشقين كلاهما *** له مقلة في وجهصاحبه ترعى
هذا وقد استعاضوا عن هذه المقدمة الطللية بمقدمة خمريةوغزلية بالمذكر , يقول أبو نواس :
صفة الطلول بلاغة الفدم *** فاجعل صفاتك لابنةالكرم .
ويقول أيضاً : أحسن من منزل بذي قار *** منزل خمارةبالأنبار
شم ريحانة ونرجسة *** أحسن من أينق بأكوار .
س : هناك خصومة محتدمة ظهرت في العصر العباسي بينأبي تمام والبحتري , فما سببها ؟
ج : الخصومة احتدمت بعد وفاتهما وكانت بين أنصارهما فيالقرن الثالث والرابع , والخصومة لم تحتدم إلا حول مذهب أبيتمام البديعي , لأن هناك مذهبين متقابلين : الأول مذهبالمطبوعين الذين لا يتكلفون الشعر بل يرسلونه على سجيتهمويمثلهم البحتري الذي يؤثر صحة التأليف وسلامة السبكوحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق وحسن التخلصوانكشاف المعاني . يقول الحاتمي : كان لا يستدعي من الكلامنافرا , ولا يؤنس وحشيا , وكانت ألفاظه فوق معانيه , وأعجازهغير منفكة عن هواديه ” ولذلك قال الناس : لشعره ديباجة .
وقد صرح الآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين أن البحتري كانأعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمودالشعر وطريقته المعهودة مع ما نجده كثيراً في شعره منالاستعارة والتجنيس والمطابقة . وشايعه الأعراب والكتاب وأهلالبلاغة كالأصمعي وأبي العلاء وابن الأعرابي والشيبانيوالمبرد . وكان لا ينساق وراء البديع انسياق أبي تمام إلى حدالتكلف , بل يأخذ منه في رفق وهوادة ومهارة , وفي يسروسهولة بلا عنت ولا مشقة فطرية سمحة , يقف عند ظاهر هذاالعمل فينقل الشكل , وقلما نفذ إلى الباطن , وما يتغلغل فيه منتفكير بعيد كما كان أبو تمام يصنع
وامتاز البحتري بظاهرة استغلال الإيقاع الموسيقي للألفاظ , واقرأ إن شئت سينيته في وصف الإيوان . وكانت ثقافتهالفلسفية ضعيفة فلم يتح له ما أتيح لأستاذه من الاطلاع علىالفيض الغزير من الثقافات التي اطلع عليها أبو تمام , وبذلك لميستطع أن يصل إلى المستوى الرائع الراقي العقلي الذي وصلإليه أبو تمام , ولذلك فهو لا يخضع شعره للمنطق , ومن هناأخذ عليه أنه لا يحسن التخلص من موضوع إلى موضوع . يقول :
كلفتمونا حدود منطقكم *** والشعر يغني صدقهعن كذبه .
ولم يكن ذو القروح يلهج *** بالمنطق ما نوعه وماسببه .
والشعر لمح تكفي إشارته *** وليس بالهذر طولتخطبه .
يقول ابن الأثير عن ألفاظه : ” نساء حسان عليهن غلائلمصبغات , وقد تحلين بأصناف الحلي ” وسئل أبو العلاء : أيالثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي ؟ فقال : المتنبيوأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري . وقد برع فيالوصف . وتجدر الإشارة إلى أن البحتري كان يتشبه بأبي تمامفي شعره ويحذو مذهبه , وقلّ معنى لأبي تمام لم يعملالبحتري في نحوه كما ذكر ذلك ابن المعتز .
والمذهب الثاني مذهب المتكلفين الذين يبعدون في المعنىويغمضون فيه , ويميلون نحو الصنعة والفلسفة والخروج عنعمود الشعر والتجديد في الصياغة واتخاذ البديع مذهباويمثلهم أبو تمام . يقول الآمدي عن أبي تمام : ” أما أبو تمامفقد خرج عليه – يقصد عمود الشعر – ويقول البحتري عنأستاذه أبي تمام : ” كان أغوص على المعاني مني وأنا أقومُبعمود الشعر منه ” .
أبو تمام أكبر شاعر عربي أنجب في البشرية من الرأس إلىالقدم , وأكبر شاعر تغنى بأعمال المعتصم , والدارس لأبي تماميجد أن شعره زاخر بجميع معارف عصره كالتاريخ والفلسفةوالمنطق وعلم الكلام , فضلاً على اطلاعه الواسع على التراثالعربي القديم اطلاعا لا نظير له , وأن أبا تمام كان ذا ثقافةواسعة وعميقة , يشهد له بذلك حفظه أربعة عشر ألف أرجوزةغير المقاطع والقصائد , كما تشهد له اختياراته وحماسته , قالعنه البحتري : أبو تمام عالم غلب عليه الشعر . وأنه كان أيضاًذا ذكاء متقد فقد مدح المعتصم بقوله :
إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنففي ذكاء إياس .
فقال الفيلسوف الكندي : ما زدت على أن شبهت الأميربصعاليك العرب , الأمير فوق ما وصفت , فأطرق قليلاً ثم رفعفانشد : لا تنكروا ضربي له من دونه *** مثلاً شروداً فيالندى والبأس
فالله قد ضرب الأقل لنوره *** مثلاً من المشكاةوالنراس .
وأنشد قصيدته المشهورة في قصر عبد الله بن طاهر في خراسان:
هن عوادي يوسف وصواحبه *** فعزماً فقدماً أدركالنجح طالبه
فقال له أبو العميثل : لم لا تقول ما يفهم ؟ فقال : ولم لا تفهم مايقال .
ولقد انتهى مذهب التصنيع عنده إلى غايته , وتفوق علىأستاذه مسلم بن الوليد . والناظر في شعره يجد فيه غرابةوغموضا فنيا , وإشارات تاريخية وفلسفية , وغوصاً وراءمعانيه الجديدة والمبتكرة , أو معانيه القديمة المكسوة حلةجديدة من أصباغ البديع وألوانه .
وقد برع في الرثاء , كما أنه يكثر من استخدام الأدلة المنطقيةوالأضداد المتنافرة يقول :
خذها مغربة في الأرض آنسة *** بكل فهم غريبحين تغترب .
ويقول : كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر *** فليس لعين لميفض ماؤها عذر
تردى ثياب الموت حمراً فما دجى *** لها الليل إلاوهي من سندس خضر
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة *** غداة ثوى إلااشتهت أنها قبر .
ويقول : لا تنكري عطل الكريم من الغنى *** فالسيل حربللمكان العالي .
ويقول : فإني رأيت الشمس زيدت محبة *** إلى الناس أنليست عليهم بسرمد .
ويقول : اصبر على مضض الحسود *** فإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله .
ويقول : وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسانحسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيبعرف العود .
ويقول : مطر يذوب الصحو منه وبعده *** صحو يكاد منالنضارة يمطر .
ويقول : ضوء من النار والظلماء عاكفة *** وظلمة من دخان فيضحى شحب .
ويقول : دمن ألم بها فقال سلام *** كم حلّ عقدة صبره الإلمام .
يقول الآمدي عن هذا البيت : ” أبو تمام عندي في قوله هذاأشعر من البحتري في سائر أبياته ” وله معنى جديد مبتكر , يقول في مدح المعتصم :
هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروفوالجود ساحله
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه *** ثناها لقبض لم تجبهأنامله
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق اللهسائله .
س : ظهر تياران متناقضان في العصر العباسي هما : تيارالمجون وتيار الزهد , فما العوامل التي أدت إلى ظهورهما ؟
ج : المجون والزهد وجهان لعملة واحدة , ولا شك أن هناك عواملأدت إلى ظهور كل منهما يرد يوسف خليف عوامل نزعة المجونإلى اضطراب الحياة السياسية حيث فقد بعض الشباب الثقةفي الحياة والحكام فاندفعوا خلف المتع يعبون من كؤوسهاحتى الثمالة قبل أن تنضب وتجف . كما أن تطور الحياةالاجتماعية ووجود الطبقات المتحضرة والمترفة والأموال المتدفقةعلى العراق وارتفاع مستوى المعيشة كانت من أبرز عوامل نزعةالمجون .
وكان لانتشار العنصر الأجنبي الفارسي أثر في صبغ المجتمعالإسلامي بالعادات والتقاليد الفارسية مثل : الأزياء والأعيادوالاحتفالات والأطعمة والأشربة وغير ذلك . وأدى انتشارالجواري الأجنبيات وامتلاء قصور بغداد إلى ظهور الغناءوالخمر والرقص والغواية والقيان والإماء الشواعر ومعابثةالرجال والشذوذ والتغزل بالغلمان والغلاميات . بل وكانتالحانات منتشرة كانتشار الأديرة المسيحية في العراق كل هذاكان عاملاً لظهور هذه النزعة .
وجاء الزهد رداً فعلياً لهذه النزعة رغبة من الإنسان في التغييروالتقشف وترك الملذات والانتباه إلى عالم الروح وهذا أمرطبيعي فكما كانت حانات بغداد والبصرة والكوفة وبيوتالقيان تغص بالمجان والخلعاء والشذاذ كانت هذه المدن تغصبالوعظ والعباد والنساك .
والزهد لم يكن لوناً واحداً ولا صورة واحدة , إنما كان علىصورتين : زهد إسلامي خالص يستمد مادته من القرآن والسنةويذكر بالحساب والعقاب والجنة والنار. وزهد مانوي دعت إليهجماعات من الزنادقة يستقي مادته من الزرادشتية والنصرانيةوالبوذية , ومن أشهر شعرائه صالح بن عبد القدوس .
س : عرف عن عدد من الشعراء في العصر العباسي ما يعرفبشعر المجون والخمريات ثم نقرأ لهم شعراً آخر في الزهدوالوعظ , فبم تفسر ذلك ؟ وما موقف الباحثين من أبي العتاهيةوزهد أبي نواس ؟
ج : أفسر ذلك بان العصر العباسي قد استوعب هذه التياراتالمجون والزندقة والشعوبية والزهد وأفسح المجال لها . ولولاهذا التيار ما ظهر التيار المناقض له , بمعنى لولا مجون أبينواس وخلاعته ما ظهر زهد أبي العتاهية , ثم إن الزهد تياريقابل المجون ولا يقابل الزندقة بدليل الزهد المانوي الذي نجدهعند صالح بن عبد القدوس .
أما شطر السؤال فقد وقف الباحثون من زهد أبي العتاهيةمواقف متباينة فيرى طه حسين أن أبا العتاهية كان منافقاً فيزهده ولم يكن مخلصاً له , وأنه كان يظهر خلاف ما يبطن . وذهب شوقي ضيف إلى أن زهده كان مانوياً إسلامياً . ويقوليوسف خليف كان زهده إسلامياً خالصاً وصادقاً فيه , ويعده عزالدين إسماعيل داعية إلى الزهد أكثر منه زاهداً ؛ لأن أباالعتاهية كان لا يمدح إلا من أجل الحصول على المال ولأن سلوكأبي العتاهية الشخصي لم يكن ترجمة توافق أقواله مع أفعاله .
وعلى الرغم من أن ديوان أبي نواس يتضمن باباً في الزهدفإننا نميل إلى التحفظ إزاء معظم الشعر الذي أورده الرواة لهفي هذا الباب , فلم يكن مصادفة أن ينسب بعض هذا الشعر مرةإلى أبي نواس ومرة إلى أبي العتاهية لألفة النغم بينهما أوطابع الأداء الشعري أو العفوية والانسياب في اللغة أو الاعتمادعلى المعجم القرآني في صياغة هذه المعاني , ففي هذهالشواهد نحس بشاعر يمارس تجربة حقيقية ترتبط ارتباطاًوثيقاً بواقعه النفسي وبأزمته الخاصة , ومن العسير أن نسميهذا زهداً بل هو ضرب من يقظة الضمير لدى الإنسان بعد أنيكون قد استنفذ ملذات الحياة وإحساس في التوبة والعفووالغفران .
س : دكتور محمد هناك من يصم أدب الدول المتتابعة بعصورالانحطاط والضعف , فما قولك في هذه التسمية ؟
ج : من يقرأ تاريخ هذه الدول ناهيك عن أدبها يجد أن المسلمينقد وقفوا أمام أطماع وأحقاد وأهداف الغزاة التتريين والمغوليينوالصليبين ثمانية قرون في وقت كان العدو الداخلي الشيعيينخر في عظم الأمة وينفث سمومه في جسم الأمة المسلمة , إلاأن المسلمين وقفوا وقفة جادة ومتحدة في جبهة واحدة ضدالأعداء وضد ما سعوا إليه , وكان للتضحيات الجسيمةوالجهود المتواصلة التي بذلها المسلمون قادة وشعوباً الدورالرئيس في القضاء على الأعداء .
وقد شارك في تلك الجهود المجاهد بسلاحه , والعالم بفقهه , والكاتب بقلمه , والشاعر بلسانه .. ولعبت الكلمة دوراً هاماً فيكل حرب من حروب التحرير والمقاومة ضد العدوان . وقدم شعرالحرب في مواجهة الأعداء صفحات مشرقة من دور الكلمة فيالتحريض على القتال إذ كانت الكلمات سيوفاً مشهرة ورماحاًمشرعة في وجه الأعداء الطامعين بالإضافة إلى أنها صاغتوجدانات المقاتلين الذين حملوا السيوف ورفعوا الرماح فدفعتبهم إلى الموت أو النصر في المعارك التي خاضوها .
حقا لقد أدت الكلمة دورها في عصر الحروب الصليبية , شهدبذلك رجل كان يقف على رأس أكبر قوة إسلامية مقاتلة في ذلكالعصر , ألا وهو صلاح الدين الأيوبي حيث قال لفرسانه غداةفتح القدس : ” لا تظنوا أنني فتحت البلاد بسيوفكم , بل بقلمالقاضي الفاضل ” إن القاضي الفاضل لم يحمل سيفاً ولا رمحاًفي تلك الحروب , ولم يوتر قوساً أو يطلق سهماً فيها , بل شرعقلمه وعبأ شعره بشحنات هائلة من الكراهية والحقد على العدوالمغتصب , وقاتل بخطبه ورسائله .
أعود إلى سؤالك , نعم لقد أطلق الجائرون المتحاملون على هذاالأدب أدب الضعف والانحطاط , وهو كلام يلقى على عواهنهدون محض , إذ ذهب أحمد الجندي وعبد العزيز الأهواني وزكيالمحاسني وغيرهم إلى أن شعر هذا العصر كان سطحياً يكررنفسه في أفكاره وتعبيراته وصناعته فقيراً في صوره وأخيلتهولمحاته الفنية الأخاذة بحيث لا تجد أمامك شيئاً جديداً .
وفي موضع آخر يصف الجندي شعر هذا العصر بالانحطاطويحدد بداية ذلك الانحطاط بأوائل القرن الخامس للهجرة , ثميرده إلى سببين أولهما : ولع الشعراء بالمحسنات اللفظية التيتحمل في طياتها المبالغة المستكرهة , والتكلف المستهجن , والصنعة الثقيلة التي تحول دون التعبير الشعري الصادقالمحبب . وثانيهما : أن الملوك والممدوحين من الرؤساء كانأكثرهم من أصل غير عربي بل وربما كان الكثيرون منهم لايجيدون فهم اللغة العربية فهماً فنياً صحيحاً بحيث كانالشعراء يضطرون إلى تبسيط أشعارهم والتلاعب بألفاظهملتعجب أولئك الممدوحين الذين أولعوا بالبساطة اللفظيةوالمعاني السطحية التي قد تصل إلى حد التفاهة , وبالتلاعببالمحسنات البديعية .
أما وصف شعر هذا العصر بالانحطاط ففي أغلب الظن أنه راجعإلى أوائل العصر الحديث , ويرجح عمر موسى أن جرجي زيدانأول من أطلق لفظ الانحطاط على عصور الدول المتتابعةمستفيداً من المصطلح الأجنبي ( decadence ) وهو مرحلة تعقدفيها الفن ومال إلى التأنق الزائد في الصور والألوان والأشكالوالزخارف . وإن من الخطأ البيّن استخدام هذا المصطلحالأجنبي المعرب لأنه لا يفي بالغرض المطلوب , ولا يجوز لناإطلاقاً استعماله ما دمنا لم نقم بدراسة آثار هذا العصر , فمازالت محفوظة في خزائن دور الكتب في الشرق والغرب , لمتنفض عنها غبار الزمن المتراكم عبر تطاول السنين وكر الأعوام .
وأما أن شعر هذا العصر سطحي يكرر نفسه فإننا نحيلالجندي ومن لف لفه إلى كتاب واحد من الكتب التي حوت قدراًكثيراً من شعر العصر هو كتاب الروضتين , ذلك الشعر المرتبطبأحداث جسام خطيرة مرت بها الأمة الإسلامية , فكيف ينفيالعمق والأصالة عن شعر صوّر أحداثاً كبرى بما احتوت منصراع عبر قرون متطاولة من الزمان بين أمتين وحضارتين ..
وأما التكرار الذي أشار إليه الجندي فهو ظاهرة لا بد منوجودها على درجة من الدرجات في شعر قيل في فترة واحدة , وعالج قضية واحدة , وعاش في ظل مؤثرات كبيرة واحدة , ومعذلك فإنه يصعب إطلاق هذا الحكم دونما تحفظ على جميعالشعر الذي نظم في هذه الفترة ؛ لأن التنوع والفردية فيهظاهران , مثلما أن قدراً من التماثل والتشابه موجود كذلك .
ثم إن تحديد بداية ذلك الانحطاط المزعوم بالقرن الخامسالهجري وهو القرن الذي انطلقت فيه الشرارة التي أشعلت نارالحروب الصليبية هو تحديد فيه ربط بين الأدب وبين النواحيالسياسية في المشرق الإسلامي , ومعلوم أن التحولاتالسياسية والمادية تسبق التحولات الفكرية بمراحل , ولا يوجددائماً ارتباط بين الضعف السياسي وضعف الأدب , وإذا وجدشيء من هذا الارتباط فإنه لا يمكن أن يظهر في النصوصالشعرية بين يوم وليلة ؛ لأن الظواهر الأدبية لا تولد مباشرة بلتحتاج إلى زمن كاف كي تولد وتتبلور .
وتحليل الضعف الأدبي بوجود البديع في شعر هذا العصرونثره لا يقوم على استقراء دقيق لهذه الظاهرة في أدبنا العربي, إذن ظاهرة البديع لم تكن طارئة في القرن الخامس الهجريلأنها قد برزت في الشعر والنثر قبل القرن الخامس الهجريوفي أقدس كتابين , وعاشت في أدبنا حتى قدر لها الذيوعوالانتشار بشكل واضح ولافت للأنظار خلال القرن الرابعالهجري .
وأما الحديث عن أعجمية الممدوحين فيمكن الرد عليه بأن العبرةفي هذا الأمر ليست بالعرق أو الجنس , بل بفهم اللغة وتذوقالأدب . والدليل على ذلك أن عدداً غير قليل من أعلام الشعروالنثر في أدبنا العربي لم ينحدروا من الجنس العربي ولكنتمكنهم من اللغة العربية وشغفهم بالأدب العربي وتذوقهم لهجعل منهم رواداً بارزين في أدبنا العربي , بل دعائم قامت عليهانهضة أدبية زاهرة . ثم إن الحكم على شعراء الحروب الصليبيةبأنهم كانوا في دور ضعف وانخذال في اللفظ والأسلوب حكمجائر ومجاف للحقيقة التي يعلنها صراحة هذا القدر الكبير منالشعر الحربي الجزل الأسلوب الذي ما زال يملأ النفس حماسةواشتعالاً كلما قرئ حتى يومنا هذا . والركاكة لا تتناسب معالموضوعات الحربية التي طرحها هذا الشعر , تلك الموضوعاتالتي تتطلب قدراً كافياً من الجزالة في اللفظ والمتانة في السبك , والقوة في التعبير .
وأما المنصفون فقد وصفوه بأنه العصر الفضي للأدب , وأنهيتميز بالإبداع والعبقرية والقوة والصدق العاطفي والبراعة فيالصنعة والمهارة الفنية مثل : المستشرق جب , وعبد الطيفحمزة ومحمود أبو الخير وجودت الركابي وشوقي ضيفوأحمد بدوي .
ومن روائع القصائد : قصيدة الشمعة للقاضي الأرجاني :
نمت بأسرار ليل كان يخفيها *** وأطلعت قلبهاللناس من فيها .
وقصيدة البردة للبوصيري يقول :
أمن تذكر جيران بذي سلم *** مزجت دمعا جرى منمقلة بدم .
وقصيدة البهاء زهير يقول :
بك اهتز عطف الدين في حلل النصر *** وردت علىأعقابها ملة الكفر
كفى الله دمياط الحوادث إنها *** لمن قبلة الإسلام فيموضع النحر
وقصيدة غوطة دمشق لابن عنين .
س : إذا نستطيع القول أن الحروب كان لها أثر كبير فيموضوعات ومظاهر الأدب في تلك الفترة .
ج : بالضبط فقد تلونت موضوعات الأدب بين حزن وفرحوحسرة وبهجة وبين تمجيد للأبطال وحث على النزال وصورهاالأدب وأبقاها خالدة على مر العصور , ومنها : الحثوالتحريض والاستنجاد وتمجيد البطولة وتسجيل المعاركومدح الملوك والأمراء والولاة والقادة وتمجيدهم ورثائهم , وهجاء المتخاذلين من الحكام وذم الخونة , والحماسة والفخر , وتصوير الفرنجة , والمدائح النبوية , ووصف الجيوش وأدواتالحرب كالسيوف والرماح والقسي والسهام والمجانيق والراياتوالابتهالات والنشيد وتسجيل المعارك الكبرى والتهنئة بالنصر , وتسجيل المشاعر .
س : دكتور محمد أحب أن أسالك عن السمات والظواهر العامةوالأشكال المستحدثة في الشعر المملوكي , وباختصار لوسمحت .
ج : قامت الدولة المملوكية من سنة ( 648 إلى 923 ) وهم سنيونحريصون على الدين الإسلامي وإقامة شعائره , ومن أشهرسلاطينه قلاوون وبيبرس وقطز قائد معركة عين جالوت . ومنالظواهر التي نرصدها في دراسة العصر المملوكي حبهم للشعروالاحتفاظ بمكانته ورعايته وتدوينه وتذاكره وكثرة عدد الشعراءبحيث يعسر على الباحثين حصرهم , بالإضافة إلى تفرغالشعراء لنتاجهم الفني . كما نرصد السطحية والسهولةوالركاكة . وظلت فنون الشعر التقليدية موجودة ويعد فن المديحأكبر وأهم الأغراض ولم يطرأ عليه جديد , والظاهرة البارزة فيشعر الرثاء البكاء على الدول البائدة والمدن الزائلة , وتميزبصدق العاطفة والبعد عن التكلف . وظل الهجاء إرثاً توارثهالشعراء وسار في أنواعه مسير العباسيين ومال إلى الشعبيةوالهزل والضحك والتندر . ولم يتركوا شيئاً إلا وصفوه وافتنوافي وصفه فوصفوا المرأة والطبيعة والشمعة والغوطة والخمروالشراب والأسواق والضيوف والثقلاء ..
أما الأشكال الشعرية المستحدثة فوجدنا التاريخ الشعري – أوحساب الجمل , والألغاز والأحاجي والتشجير والطرد والعكسوالشعر الهندسي وذوات القوافي وألوانا من البديع مثلالقصيدة المهملة والقصيدة المعجمة والجناس والنثر شعروالتطريز . واستحدثوا معاني شعرية مثل الشعر الصوفيوالمدائح النبوية والحشيشة وشعر الفكاهة والإخوانيات
س : كثر الجدل حول الأدب الإسلامي وحقيقته ودوره , ولا جدالأن هذا الأدب أصبح أمراً واقعاً في حياتنا , وضرورة لا غنى لناعنها ؛ دكتور محمد سلط الأضواء على هذا الموضوع .
ج : أقرأ في سؤالك مفردتين الأدب والإسلامي , فالأدب هوالجمال والإبداع وبه يتميز ما هو أدب من غيره من ضروبالقول الأخرى . وهو حق مشاع ومشروع بين أصحابالاتجاهات الأدبية جميعها مهما كانت مشاربهم الفكريةوالعقدية
وكون الأدب إسلامياً أن يجمع إلى الإبداع والجمال الرؤيةالفكرية المنطلقة من عقيدة الإسلام , وأن تكون العقيدة هيالتربة التي تنمو فيها التجربة الشعورية , ويحدد عبد الرحمنرأفت الباشا تعريفاً له فيقول : الأدب الإسلامي وهو التعبيرالفعلي الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان على وجدانالأديب تعبيراً ينبع من التصور الإسلامي للخالق ومخلوقاتهولا يجافي القيم الإسلامية .
والأديب المسلم وغيره له رسالة يؤديها لمجتمعه كما كان أسلافهيفعلون فهو بمثابة المصلح الاجتماعي يعالج أحوال الماضيلغرض الاستفادة منها , ويعالج أحوال الحاضر لإصلاح مافسد منها , ويعمل على رسم المنهج السوي مستقبلاً ليكونأسعد وأفضل .
ووضع دارسو الأدب الإسلامي محددات وضوابط بين القائلونتاجه , ولكي يكون الأدب إسلامياً لا بد له أن يتفق والتصورالإسلامي , إذاً فهناك خصوص وعموم , فالأدب الإسلاميبمفهومه الخاص أن ينطلق الأديب من تصور إسلامي للخالقثم للكون وللحياة والإنسان مع توافر الخيال .
والأدب الإسلامي بمفهومه العام أن يبدع الأديب أدباً مباحاً لايتصادم مع الإسلام وإن لم ينطلق من ذلك التصور . وأما النتاجفإما أن يكون نتاجاً غير إسلامي ويندرج تحته نتاجان :
إما أن يكون النتاج صدر من غير المسلمين , وإما أن يكون صدرمن مسلم ولكن نتاجه يتصادم مع ثوابت الأمة وتعاليم الإسلام . وإما أن يكون النتاج غير إسلامي ولكنه يتوافق مع الإسلامومع الفطرة السوية ولكن المبدع ليس من المسلمين فليس هذابأدب إسلامي .
وطرق الأدب الإسلامي كافة الموضوعات الشعرية عبر مجالاتهالثلاثة الكون والإنسان والحياة , ملتزماً بسماته وخصائصهالبارزة مثل : الالتزام العقدي والخلقي والهدف والغايةوالشمول والتكامل والصدق والواقعية والحيوية المتطورة .
س : دكتور محمد هل نحن اليوم بحاجة ماسة لهذا الأدبالإسلامي ؟
ج : الإجابة عن هذا السؤال ذكرها مفصلة الدكتور وليد قصابفي كتابه في الأدب الإسلامي , نذكرها هنا بإيجاز : الحاجةالأولى : الخروج من حالة انعدام الوزن التي يعيشها الأدبالعربي الحديث , وتقهقر الذات , وضياع الهوية , وفقدانالوجود , وغيبة التصور . والثانية : تصحيح مسار الأدب , وردهإلى جادة الصواب , واستنقاضه من وهدة الضياع التي يحدرفيها . والثالثة : تحرير الأدب العربي من قبضة العبودية للآخرومفاهيمه وذوقه ومدارسه المتناقضة . والرابعة : رد الأدب إلىدوره الإيجابي الفاعل في الحياة ليصبح أداة لإسعاد الإنسانوبنائه بناء سليما وتثبيت الطمأنينة والأمان في قلبه . والخامسة : ربط الإنسان بخالقه , وتذكيره برسالته في الأرض . والسادسة : ربط حاضر أمتنا في أدبها بماضيه , وإقامة جسرمن التواصل والحوار بين التراث والمعاصرة . والسابعة : تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة في الأدب والنقد مما أشاعتهالمدارس الغربية , والاحتكام إلى ذوق الآخرين في الاستحسانوالاستقباح . والثامنة : الاتجاه نحو العالمية ؛ إذ أن من ينشدعالمية الأدب من المسلمين لا تتحقق لهم إلا بالأدب الإسلاميلأمرين : الأول أن عالمية أي أدب لا تتحقق إلا من خلال محليته , والدب الإسلامي هو دعوة إلى الخصوصية والتميز وتحقيقالفرادة والأصالة , لأن العالمية لا تتحقق بالتقليد . والثاني : الأدب الإسلامي مهيأ لتحقيق تلك العالمية بسبب عموميتهالنابعة من عمومية العقيدة التي ينطلق منها , وإنسانيةخطابه الذي يتوجه به إلى الناس كافة في كل زمان ومكان . والتاسعة : زرع بذرة من بذور توحيد المسلمين وتمتين رابطةالعقيدة بينهم وذلك عن طريق تحقيق الوحدة الأدبية التيسيكون لها أثر فعال في توحيد الرؤى والمشاعر والتعبير عنالآلام والآمال المشتركة . والعاشرة : أن الأدب الإسلامي يتكاملله جانبا التطبيق والتنظير فيكون عوناً للأدباء على الابتكاروالإبداع .
س : هناك أدب جديد يدرس في جامعاتنا , ألا وهو الأدب المقارن, فما المقصود به , وما شروطه وعوامله ؟ واذكر لنا نموذجاً مننماذجه .
ج : هو علم مستقل عرف في نهاية القرن 19وبداية القرن 20, واستقل عن تاريخ الأدب والنقد الحديث , وأول من استخدم هذااللفظ فيلمان في جامعة السوربون بفرنسا سنة 1827م , ومرّبثلاث مراحل : الأولى 156ق- م محاكاة اللاتين – الرومانلليونان – الإغريق . والمرحلة الثانية المحاكاة في العصورالوسطى , والمرحلة الثالثة عصر النهضة في القرنيين 15- 16. وساعد على ازدهار الأدب المقارن في هذه المرحلة الرومانسيةوالثورة على الكلاسيكية والنهضة العلمية .
والأدب المقارن بفتح الراء وكسرها يؤثر ويتأثر فهو مؤثر ومتأثر, ويعرفونه بأنه دراسة الأدب القومي – كالعرب أو الفرس أوالروم – في علاقاته التاريخية بغيره من الآداب الخارجة عننطاق اللغة التي كتب بها هذا الأدب . إذا هناك شرطان اللغةوالعلاقات التاريخية ونقصد بها ( التأثر والتأثير ) فمثلاً : رودكي أول شاعر فارسي له ديوان عند الفرس تأثر بالقرآنوالحديث والشعر وخاصة بخمريات أبي نواس , وهنا يمكنناعقد دراسة مقارنة بين الشاعرين لوجود العلاقة التاريخية .
أما ملتون الفيلسوف فقد كان أعمى ومتشائما تحدث عنالجزيرة العربية والأتراك والعثمانيين , ولكنه لا يعلم شيئاً عنالمعري لذا لا يمكننا عقد مقارنة أدبية بينهما لعدم وجود العلاقةالتاريخية . وتأثر دانتي الإيطالي بالمصادر الإسلامية فنظمقصيدته ( الكوميديا الإلهية ) باللغة الإيطالية تحدث فيها عنرحلة قام بها إلى السماء فراراً من أهل الأرض , وعند دراسةالعلاقات التاريخية يتضح أن دانتي اطلع على ترجمة باللغةالإيطالية لرسالة الغفران الخاصة بالمعري , ومن ثم تدخل هذهالدراسة في مجال الأدب المقارن . وألف الآمدي كتاباً في الموازنةبين الطائيين فهذا لا يمكن أن يدخل في دراسة الأدب المقارنلاتفاق اللغة , ومثله كتاب حافظ وشوقي لطه حسين . لكن عندمايتأثر شاعر فارسي – اطلع على الثقافة العربية – وهو نظاميالكنجوي بقصة المجنون وليلى في الأدب العربي فيجوز أننعقد مقارنة بينهما , وكذا عندما يمتد التأثير والتأثر إلىالتركية ويتأثر شاعر تركي وهو فضولي بالمنظومة الفارسيةفيجوز لنا أيضاً أن نعقد مقارنة بينهما لاختلاف اللغة وعندمايتأثر الأديب الفارسي حُميدي بمقامات البديع والحريريفيجوز أن نعقد مقارنة بينهما لاختلاف اللغة .
وللباحث في مجال الأدب المقارن عدة أولها أن يكون على علمبالعلاقات التاريخية , وأن يكون على علم بأكثر من لغة وأكثرمن لهجة , وأن يكون على علم بتاريخ الأدب فهناك كتاب هنديفارسي عربي يسمى ( كليلة ودمنة ) يتناول الحكاية على ألسنةالحيوانات , ومن خلال تاريخ الأدب يتضح للدارس أن هذاالكتاب يحمل غرضاً سياسياً وهو تنبيه الشعوب الغارقة منخطر الاستعمار . ويجب أن يكون الباحث على علم بالمصادروالمراجع , وهناك مجموعة من ذوي اللسانيين منهم الطبريوابن قتيبة وابن المقفع وأبي حمزة الأصفهاني والغزالي صاحبالإحياء الذين قاموا بإثراء الثقافتين العربية والفارسية معاً . والخامسة أن يكون على علم بالترجمة الدقيقة التي لا تسببخللاً في المعنى . وتكمن أهمية الأدب المقارن في إثراء الأدبالقومي عن طريق الأجناس الأدبية . كما تكمن أهميته فيالالتقاء والامتزاج بين الشعوب , ومعالجة المثالب والاتقاءبالمناقب . كما ان الوصول إلى العالمية وخروج الأدب القومي مننطاق القومية إلى نطاق العالمية من الأهمية بمكان لكن يجبعلى الأديب الذي يسعى إلى العالمية ألاّ يغفل هويته ولا ينسىقوميته .
س : ذكرت في مطاوي حديثك الكوميديا الإلهية , فهل يمكنالحديث عن هذه الكوميديا ؟
ج : تأثر دانتي بالمعري في رسالة الغفران , ولد دانتي فيفلورنسا بإيطاليا في ظل اضطراب سياسي وآخر اجتماعي بينالحزب الديمقراطي والحزب الإقطاعي . ذهب مع أبيه وهو فيالتاسعة عشرة من عمره إلى وليمة لأحد الأثرياء فتعلق قلبهبفتاة تسمى بياتريس وهي ابنة صاحب الوليمة وعلى الرغمأنه لم يرها سوى أربع مرات فإنه أراد أن يتزوجها لكنها ماتتقبل أن يتقدم لها بأيام , فلجأ دانتي إلى العزلة وألف كتاباًبعنوان : ( أيام الشباب والصبا ) يعد مسودة للكوميديا .
بعد تأليف هذا الكتاب تزوج دانتي من ابنة أحد زعماء الحزبالديمقراطي , وبعد انضمامه إلى هذا الحزب انقلب عليه ثم كانالنصر حليفاً للحزب الديمقراطي على الحزب الإقطاعي فتجمعأعضاء الحزب الأول واتهموا دانتي بالفساد والسرقة والعديدمن التهم وتمت معاقبته بالنفي إلى إكسفورد بإنجلترا ثمانيعشرة سنة ألف من خلالها قصيدته التي سماها الكوميدياالإلهية .
تبدأ الرحلة بدخول دانتي الغابة عن طريق الخطأ ويدّعي أنهرأى نوراً من بعيد وهو نور المسيح وعندما اقترب منه رأى أسداًونمراً وذئباً فاشتد به الخوف ونزل به الرعب فجاءت إليه روحصديقه فرجيل ( جبريل ) يخبره أن بباتريس ( الإله ) هي التيأرسلته ثم اغتسل دانتي بماء البحر ( زمزم ) لتبدأ هذه الرحلةمروراً بأقسامها الثلاثة :
الأول : الجحيم , فيدعي دانتي أنه ذهب إلى الجحيم فرأىالصالحين والطالحين , وشاهد من ظلموه من أهل فلورنسا . ويبدو أنه اختلط عليه الأمر بين الجحيم والمحشر .
والثاني : المطهر , يقول دانتي إنه رأى الشيطان يعذب في الدركالأسفل من النار ورأى الخنساء تتحدث إلى أخيها صخر , وهويقول لها عندما تنظر إليه من نافذة في الجنة : لقد صدقت ياأختاه , كأنه علم فوق رأسه نار . ثم غاص في بحر النسيانلينتقل إلى الفردوس .
والثالث : الفردوس , يدعي أنه رأى الديك العملاق ( البراق ) وصعد إلى السماء الثامنة ( السدرة ) ورأى الملائكة لها أجنحةكالنسور , ورأى الأفلاك ( السموات السبع ) ويذكر أنه رأىالمريخ وعطارد والزهرة … ورأى الملائكة تصلي وتسبح حولالبيت المعمور في صفوف .
وتكشف الدراسة المقارنة عن أن رحلة النبي – صلى الله عليهوسلم – كانت رحلة حقيقية وبأمره سبحانه وتعالى سرى فيهابجسده وروحه تسلية للفرار من أهل الأرض عندما أذن ربالسماء , أما رحلة دانتي فهي رحلة خيالية لا روح ولا جسدقائمة على الباطل فراراً من اهل الظلم الذي تعرض له فيإيطاليا .
غسلت الملائكة قلب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بماء زمزمقبل الرحلة , واغتسل دانتي بماء البحر قبل الرحلة . وأرسل اللهجبريل إلى النبي– صلى الله عليه وسلم – أما دانتي فقد جاءتإليه روح صديقه الشاعر فرجيل . وأخبر جبريل أن الله هو الذيأرسله للنبي – صلى الله عليه وسلم – أما فرجيل فقد أخبردانتي بأن الذي أرسلته بياتريس .
تحدثت المصادر عن البراق , وتحدث دانتي عن الديك العملاق . صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى السدرة التي تليالسماء السابعة , بينما يدعي دانتي أنه صعد إلى السماءالثامنة . تخبر المصادر الإسلامية أن الملائكة مخلوقات نورانية , ويدعي دانتي أنها مخلوقات كالنسور لها أجنحة , وتحدثتالمصادر الإسلامية عن السموات وتحدث دانتي عن الأفلاك , وتحدثت المصادر الإسلامية عن البيت المعمور وكذا دانتي .
س / اتصل الأدب العربي بضروب شتى من آداب الأمم الأخرىما أدى إلى بروز عدة مذاهب واتجاهات أدبية غربية كان لهاتأثيرها على الأدب العربي حدثنا عن بعض هذه المذاهب .
ج / سأتخطى الكلاسيكية وأتحدث عن الرومانسية الابتداعية (( romanticisme )) ولدت في أوربا أواخر القرن الثامن عشرنتيجة للثورة على القيم الكلاسيكية التي وقفت ضد حركةالتطور والحرية وتحكيم سلطة العقل والانطلاق في رحابالخيال والإعراض عن المدنية والاتجاه إلى الأرياف والعنايةبالنفس الإنسانية والبساطة في التعبير والتفكير عن التكلفوالتصنع .
وقد ابتدع مصطلح الرومانسية الكاتب الفرنسي ستندال فيبحثيه { راسين وشكسبير } حيث عالج إمكانيات تشخيصالأدب الجديد في عصره وتمييزه عما سماه بالأدب الكلاسيكي .
وكان لأفكار جاك رسو أثرها الذي مهد للثورة الفرنسية سنة1889م وهي القيم التي بشرت بها الليبرالية والنزعة التحريريةفي مجالات السياسة والاجتماع والفكر والأدب .
ويعد فيكتور هيجو أب الرومانسية في فرنسا وذلك من خلالتحليله القيم للمذهب الرومانسي في مقدمته الرائعة لمسرحية { كرومويل } التي تعد دستور الأدب التمثيلي الرومانسي . وكانشكسبير أول من نسج خيوط الرومانسية في مسرحياته ثمتجسدت في أعمال وردزورث وكولوردج .
لقد جاءت الرومانسية تأكيداً لإعلاء فلسفة الذات وتقديم الفردعلى المجتمع وتقديم العاطفة على العقل والقلب على الدماغوالشعور على المنطق والموهبة على الصنعة .
وقد أثرت على الأدب العربي وظهر هذا الأثر في شكل كتابين { الغربال } لميخائيل نعيمة وكتاب { الديوان } لعباس العقاد وهيكتب نقدية مهمة اعتمد عليها الرومانسيون في معالجةموضوعاتهم الشعرية وفي ظل ذلك نشأت تنظيمات أدبيةأهمها :
الرابطة القلمية أو جماعة المهجر 1920م بزعامة جبران ونسيبعريضة وإيليا ابو ماضي وميخائيل نعيمة .
مدرسة الديوان 1921م ويمثلها شكري والمازني والعقاد . مدرسةأبولو 1932م ويرأسها أحمد زكي أبو شادي ومن شعرائها أبوالقاسم الشابي وإبراهيم ناجي .
ويتصف الشعر الرومانسي بملامح من أهمها :
*- الأدب الرومانسي هو خلق وإبداع وتعبير عن الذاتالإنسانية وليس محاكاة واحتذاء ولذلك دعوا إلى تحريره منربقة الآداب القديمة .
*- أن شعراء الرومانسية يميلون إلى الدين لانسجامه مععواطفهم , فهم مشدودون إلى عالم الروح وغموضه وأسراره .
*- مجّد الرومانسيون الشكوى والقلق والألم والحزن , وتغنوابمشاعر اليأس والخيبة وشاع في شعرهم الشك والحيرةوأسرفوا في التشاؤم والتبرم من الماضي ومآسيه والغربةوالحنين.
*- يمزجون شعرهم بالطبيعة حيث يستوحون منها صورهمالمبتكرة وخيالاتهم وتأملاتهم فهي مصدر إلهامهم وملاذهموأنيسهم وخاصة المناظر الكئيبة التي تتلاءم وأحاسيسهمكالعواصف والقمر الشاحب و الليالي المظلمة والأمواج الهائلةوسقوط أوراق الشجر والضباب وتلبد السماء بالغيوم ولذلكيجدون فيها متنفساً يستريحون إليه .
*- دعت الرومانسية إلى تحطيم سيطرة العقل الذي نادت بهالكلاسيكية ونادت بتحكيم العاطفة
*- رفض الرومانسيون أن يكون الأدب تعبيراً عن المجتمع أو ربطالشعر بغايات خلقية أو توظيفية في الإصلاح والتربية أوتجنيده في خدمة القضايا الاجتماعية والسياسية , وراحواينادون بـ { الفن للفن } تصوير للمشاعر الفردية أغنية يسليبها الشاعر نفسه بجرأة واندفاع لا يعرفون التحشم والاستتار .
*- ليست المرأة عند الرومانسيين صورة جسدية بل هي روحمثالية تتميز بالحيوية والجمال ولذا كانت عاطفة الحب محورالموقف من المرأة فهي وسيلة للخلاص من الاغتراب بل قدارتفعوا بالحب إلى درجة التقديس .
وتتسم خصائصه بالتحرر من قيود الشكل , ويبدو الاهتمامبالمضمون , وتنمو الوحدة العضوية في قصائدهم , ويستقيشعراء الرومانسية معجمهم الشعري من الطبيعة ومن الأجواءالروحية , وتمثل الصورة الكلية أهم عناصر البناء الشعري , وتسيطر ذاتية الشاعر على القصيدة , ويظهر التجديد واضحاًفي نتاجهم الشعري كالشعر الحر وتعدد القوافي وقصيدة النثروغير ذلك .
2= المدرسة الرمزية :
مدرسة أدبية خلفت البرناسية في الشعر , واستقرت في الآدابالأوربية منذ عام 1880م , اتخذت من الإشارة واللمح اداةللتعبير عن الانطباعات النفسية .
والرمز عند العلماء علامة تدل على شيء له وجود قائم بذاته , وعند الدباء هو وسيلة للتعبير عن التجارب الأدبية المختلفةبواسطة الرمز .
نشأت في فرنسا نتيجة لعوامل عقدية واجتماعية وثقافيةفالإنسان الغربي منغمس في المادية والبعد عن الله والإيمان به , كذلك الصراع في المجتمع وعجز اللغة عن التعبير كل ذلك دعاإلى استخدام الرمز ليعبر من خلاله الأديب عن مكنونات صدره .
ولم تعرف الرمزية مدرسة ادبية إلا في سنة 1886م حيث أصدرعشرون كاتباً فرنسياً بياناً في جريدة { الفيجارو } يعلنون فيهاعن ميلاد الرمزية . وكتب الشاعر الفرنسي شارل بودليرقصيدته المشهور { المراسلات } وكانت رموزاً بحته . ويعد فرويدوبدجون وإدجار من أبرز روادها . وتتسم بخصائص عامة منها:
*- تراسل الحواس كإعطاء المسموعات ألواناً والمشموماتانغاماً وكون المرئيات عاطرة فالألوان والروائح والأصواتتتداخل وتتناوب , ورائدهم في ذلك بودلير يقول في قصيدتهالمراسلات : (( ثمة عطور ندية كجسد الأطفال عذبة كآلةموسيقية خضراء كالمروج )) .
*- الإيحاء كقولهم : الربيع الشاحب والفجر المتثائب والشفقالبارد والضوء الخافت أو الباكي والأرض الساخنة والسكونالمقمر والحلم الجميل , وتخطى ذلك إلى الألوان فاللون الأحمريرمز إلى الحركة والحياة الصاخبة والثورة والغضب والقتال . واللون الأخضر يرمز إلى السكون والطبيعة والانطلاقوالخلاص . واللون الأزرق يرمز إلى العالم الذي لا يعرف الحدودواللون الأصفر يرمز إلى المرض والحزن والضيق والضعفوالتبرم , واللون الأبيض يرمز إلى الطهر والهدوء واللونالبنفسجي يرمز إلى الصوفية .
*- رفض النزعة العلمية والروح الواقعية والبحث عن عالممثالي .
*- الجرس الموسيقي الداخلي والغموض والتلميح والدعوة إلىتحرير شكل القصيدة من الوزن والقافية وكتابته مرسلاً حراً , وعلى يد الرمزية ولدت قصيدة النثر وكان بودلير من اشهرشعرائها .
*- اللجوء إلى الاساطير كأسطورة السندباد والعنقاء والتنينوعشترون وتموز والغول .
3= المدرسة البرناسية أو الفنية :
البرناسية مذهب أدبي فلسفي ظهر كحركة أدبية سنة 1870م فيفرنسا ردة فعل معارضة للرومانسية الموغلة في الذاتية عنأحزان الفرد وعواطفه الخاصة دون المشاركة الجماعية لأبناءالإنسانية .
وتقوم البرناسية على اعتبار الفن والأدب غاية في ذاتيهما وأنمهمتهما الإمتاع فقط لا المنفعة وإثارة المشاعر وإلهابالإحساس وتحطيم القديم وتدميره لبناء العالم الجديد الخاليمن الضياع – حسب زعمهم – والقديم في رأيهم هو كل ماينطوي على العقائد والأخلاق والقيم والتوجيه , وعزل الأدب عنقضايا الحياة الاجتماعية والسياسية والوطنية وهذا ما يسمىبالأدب المكشوف أو الفن لأجل الفن بخلاف الرومانسية التيترى أن الفن والأدب وسيلة للتعبير عن الذات .
أطلق أحد الناشرين الفرنسيين على مجموعة من القصائدلبعض الشعراء الناشئين اسم البرناس المعاصر إشارة إلى جبلالبرناس الشهير باليونان التي تقطنه آلهة الشعر كما كانيعتقد قدماء اليونان إلا أن الاسم ذاع وانتشر للتعبير عن اتجاهأدبي جديد .
ويعد الشاعر الفرنسي شارل لوكونت دي ليل رائد المذهبالبرناسي , كما يعتبر تيوفيل جوتيه رائد نظرية الفن للفن , ومنهم أيضا : مالا راميه والكونت دي ليسل وفيرلين وفرانسواكوبيه وسولي برودوم .