قصيدة الشاعرة:-هند النزاري.
«تقديم واستذكار»🌷
في الثلاثين من أكتوبر عام 2021م ؛قرابة الساعة الثامنة مساءً؛و(المدى كان وحياً) ؛تشكلتْ أثناء ذلك في سماء المخملية غيومٌ كثيفةٌ؛يؤمها ؛ويفسح لها الطريق رحباً (برقُها الساري) !
كانتْ (جوانحنا يومئذ متهللة) ومستبشرة؛ولما اتجهت أبصارنا تلقاء الأرض وكائناتها ؛؛وبنا مابنا من (رجفات الشوق) ؛بادرنا ماءٌ منهمر عن أيماننا؛ وعن شمائلنا ؛ومن فوقنا ؛فإذا المشهد الساحر الآسر ؛وقدشفَّ عمَّا انطوى عليه؛ يبرز لنا لوحةً؛بلْ آيةً فريدة من آيات الحسن البياني العذب ؛واللغوي الراسخ الجذور.
(كُنّا نُبادِلُهُ الهُطولَ رَسَائلًا)؛ وكانت (أصَابِعُنا تشع هَوًى)عذرياً؛لم يقف على ضفافه أحدٌ من السابقين قبلنا؛وثلة من الصادقين -ربما- وقفوا على شطآنه من بعدنا !
أمشاجٌ من الذكريات على اختلاف ألوانها؛وتباين رحيق عناقيدها ؛تزامنتْ مع (دَوِيِّ النَّبضِ بين ضُلُوعِنا)؛فيما كان الرعدُ المِرنان؛مغتبطاً بنعيم(الهِباتِ المُرسَلَةْ).
أيها الأصدقاء ؛عُشاق الغيمات؛ والدِّيم الوطفاء الهطلاء؛والصيِّب المدرار :لطالما عشقنا مطر السماء ؛عشقاً لايضاهيه عشقٌ في الوجود؛ وكلفنا به كلفاً ؛تقف لغة الوصف أمام اندياحه مشدوهة حيرى؛ومثلما تهتزُّ الأرض من تحتنا لمرأى هطوله؛وأناقة انثياله؛وقد كانت قبل برهة يسيرة هامدةً جامدة؛مثل ذلك الطقس الأرضي؛ اهتززنا نحن كذلك على صوتِ هتَّانه ؛ ورقصنا تحت وابل موسيقاه و ألحانه !
ولطالما تلبسنا خوفٌ خفي مبهم -ونحن الفقراء إلى الله-وأفزعتنا سطوة أشباحه ذاهبةً آيبة؛ونحن في دائرة استبطاء ماسيأتي ؛وقد طال علينا أمدُ الجدْب؛والسنواتُ العِجاف؛نراها وقدْ أضرَّت بنا !
إننا نوشك أن نشرع نوافذ قلوبنا؛لاحتضان إثم (القنوط)من رحمة الولي الحميد؛والاستسلام لمماراة شيطانه الظلوم الأفَّاك العنيد؛فإذا نداء الرؤوف الرحيم؛اللطيف الخبير؛صاحب الملك الذي لايبلى ؛يعيد ترميم انكسارات الأمل إلى مسارها الصحيح ؛كأنْ لم يمسسها أذى؛ويبثُّ في أقطار نفوس الأناسيِّ الطمأنينة والسكينة والوداعة !
نداؤه عزَّ شأنه ؛وتقدست أسماؤه؛ المؤتلق في إحدى آياته؛ نداؤه لايدركه الباطل ؛ووعده الحقُّ ؛وهو المنزه عن إخلاف المواعيد :-
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾!
ذلك المطر السماوي؛والتفصيلات المُقترنة به؛مبعثُ حياتنا؛وحياة الكائنات جميعاً؛ولاريب في ذلك ؛ولله الحمد من قبل ومن بعد.
وجئتكم هنا في موكب (مَطَرين اثنين)؛ يتعاقبان الهطول علينا ..
مطران امتزجا ببعضهما البعض ؛وتقاسما لغة الحسن والإشراق البياني ؛ فأبدعا لوحةً فنيةً أخَّاذة؛هي للمتلقين عامَّة؛متعةٌ؛وألق؛ وانتشاءُ؛وهي للمخمليين روضةٌ وارفةٌ غَنَّاء!
وذلك الكيان كله بدءاً وتفصيلاً وختاماً ؛إنما يعود فضل بناء صرحه المُمرد إلى شاعرتنا القديرة؛قيثارة المدينة ؛-هند النزاري؛رضي الله عنها..
ولاجدال أنها أبدعت أيما إبداع؛ كعاداتها المثلى في قصائدها ذات النفس الطويل المميز.
وما لوحتها هذه إلا واحدة من عرائس متحفها العريق؛آثرتْ أن تمنحها عنوان:-(مطر ومطر) ؛فإذا بنا أمام مطرين ؛لم تفصل بينهما سوى (واو العطف) كالتوأمين سواء بسواء؛مطرين منسكبين عرفنا الخطوط العريضة لأحدهما؛وأمَّا الآخر فهو سرٌّ من أسرارها التي ستجليها لنا بأسلوبها الخاص ؛ومن اثنيهما أعدَّتْ لنا هذه اللوحة البديعة؛على ماسنرى خلال تطوافنا في ردهات هذه
الروضةُ الغنَّاء.
-القصيدة الهنديَّة:-
كانَ المَدَى وَحْيًا وكُنَّا البَسْملةْ
والقَطْرُ وِرْدُ جَوَانِحٍ مُتَهَلِّلَةْ!
كُنّا نُبادِلُهُ الهُطولَ رَسَائلًا
فَالشَّوقُ رَجْفٌ والهَوَاجسُ زَلزلَةْ!
في بَرقِهِ تَسْري ظِلالُ طُيُوفِنا
لِتُرتِّبَ اللحَظاتِ فوق المِزْوَلَةْ!
فَإذَا خَبَا شَعَّتْ أصَابِعُنا هَوًى
وتَرسَّمَ البَوحُ اتِّجاهَ البَوْصَلَةْ!
وعَلا دَوِيُّ النَّبضِ بين ضُلُوعِنا
رَعدًا يُهلِّلُ لِلهِباتِ المُرسَلَةْ!
والمُفرداتُ على انسِكابِ ضِجِيجهِ
تَبلو الشُّجُونَ وتَستَبيحُ الأسْئِلَةْ!
والغَيمُ مُضطرِبُ النَّوَاحِي سَادِرٌ
يَرعَى تَهَاوِيمَ الضِّفَافِ المُهْمَلَةْ!
وَكَأّنَّ بَحَّارًا يُجُوبُ عُبَابَهُ
ويَشُقُّ دَرْبًا للسَّوَارِي المُثْقَلَةْ!
والمَوْجُ يسْتَهدِيهِ أو يَسْتاقُهُ
فَإذا تَبَاطَأَ في العُبُورِ تَعَجَّلَهْ!
مِن أجْلِنَا انْهَمَرَ الأثِيرُ فَكُلَّمَا
زِدْنَا هُيامًا زَادَ وَقْعُ البَلْبلَةْ!
وكَأنَّمَا رَسَمَتْ خُطَاهُ طَريقَنَا
وتَعَاهَدتْنَا لُجَّةٌ مُتزَمِّلَةْ!
عِشْناهُ لا نَدْرِى ضُحًى أم عَاشَنَا
والأغْنِياتُ نَدِيَّةٌ ومُرَتَّلَةْ !
هل تَذْكُرُ الهَمْسَ المُبَلَّلَ بالهَوَى
ومَلامِحًا بالأمْنِياتِ مُظَلَّلَةْ ؟!
هل تَذْكُرُ الشِّعْرَ الذي رَدَّدتَهُ
عن عَاشِقَينِ وقُبلةٍ مُتَسوَّلَةْ؟!
وكأنَّ رُوحِي أخْبَرتْكَ بِسرِّهَا
فسَألْتَنِي عن أنَّةٍ مُتَوسِّلَةْ!
بَادَرْتَنِي والقَطْرُ يَهْمِسُ في دَمِي
وسَحَائِبي السَّكْرَى عليَّ مُنزَّلَةْ!
حَلَّفْتَني ألَّا أُوَاجِهَ وَبْلَهُ
وخَشِيتُ من فَوْضَايَ أن تَتَخَلَّلَهْ!
أو يكْسَرَ الغُصْنَ الرَّقيقَ هَزِيمُهُ
مِن نَغْمَتَيْنِ وآهَةٍ مُتَطَفِّلَةْ ؟!
وهَمَستَ غَيرَانًا تَغشَّاكِ النَّدَى
فَتلفَّعِي بِعِمَامَتِي لِنُضَلِّلَهْ!
ورَسَمتَ مِرسَاةَ الشَّمَالِ على يَدِي
حتّى تُسافِرَ في الزَّمَانِ الأخْيِلَةْ!
وابْتَلَّ جِسْرُ الذِّكرياتِ فَهَمْهَمَتْ
تَرْعَى حُقُولَ الأمْسِ وهْي مُغَسَّلَةْ!
كُنَّا وكانَ القَطْرُ يَهْمِي عَبْرَنَا
فَنَتِيهُ خِصْبًا في القِفَارِ المُوحِلَةْ!
ويَضُوعُ نَشْرُ الحُبِّ عَبْرَ عُرُوقِنَا
لِتَشّفَّ عنه عُيُونُنَا وتُجَمِّلَهْ!
ونُضَمِّخُ الدّنيا بِعِطْرِ نَعِيمِنَا
ونَجُوبُ قِيعَانَ المُنَى المُتَبَتِّلَةْ!
كي يَسْتَمِرَّ القَطْرُ دونَ تَوَقُّفٍ
والوَقْتُ غَاوٍ والشُّجُونُ مُهَلْهَلَةْ!
والآن يَهْمِي الغَيْثُ فَوقَ مَفَاوِزِي
ذِكْرَى على يُتْمِ الطَّرِيقِ مُوَلْوِلَةْ!
قَطَرَاتُهُ سَرْدٌ لِألفِ رِوَايَةٍ
لِمَلَامِحِ السَّنَوَاتِ وهْي مُعَطَّلَةْ!
مَا عَادَ يَطْرَبُ لِي إذَا غَنَّيتُهُ
لَحْنِي دُوَارٌ وانْثِيالِي جَلْجَلَةْ!
وأنَا عَزَفْتُ عن الغِنَاءِ وخَانَنِي
طُولُ المَقَامِ إذِ اقْتَفيْتُ تَرَسُّلَهْ!
وهَشَشْتُ عن وَجْهِي فُضُولَ رَذَاذِهِ
وأنَا بِشَالِ سَآمَتِي مُتَسَرْبِلَةْ!
كان ابْتِلالُ الرُّوحِ مِنْحَةَ ومضَةٍ
والآن تَجْفِيفُ الهَوَاجِسِ مُعْضِلَةْ!
مَضَتِ الغُيُومُ وقد مَضَيتَ مُوَدِّعًا
وبَقِيتُ في قَلبِ اللَّهِيبِ مُبَلَّلَةْ!
تتصبَّبُ الآلامُ من عَينيَّ في
فِنْجَانِ بَائعةِ الرُّؤى المُتَجوِّلَةْ!
فَتَبُثُّ في وجهِي طَلاسِمَ سِحرِهَا
وعُيُونها بالمُستحيلِ مُحَمَّلَةْ!
وتَظَلُّ تَهْذِي والرُّقَى مَنْثُورةٌ
بين المَبَاخِرِ والنُّذُورُ مُجَدْوَلَةْ!
وأنا أُسَافِرُ في الجَفَافِ وغايتي
أن أقْتَفِي خَيطَ الوِصَالِ وأغْزِلَهْ!
أشْتَاقُ نَبْضَاتِي التي أهْمَلتُهَا
مُذْ جَفَّفَ القَلْبُ المُعَانِدُ منهَلَهْ!
ولَهَا دَوِيٌّ في الفَرَاغِ يَؤودُنِي
والقَطْرُ والآمَالُ تَحْتَ المِقْصَلَةْ!
أُصْغِي إلى هَمَسَاتِها وتَفُوتُني
بالرُّغْمِ من صَمْتِ الخُطَى المُتَملمِلَةْ!
وقَصَائدِي ظَمْآنةٌ وصَلَاتُها
مَرْدُودةٌ في الأمْسِياتِ المُمْحِلَةْ!
عُدْ مَرَّةً كي أسْتَعِيدَ مَواسِمِي
واتْرُكْ مَوَاعِيدَ الخِصَامِ مُؤجَّلَةْ!
عُدْ واجْلُبِ المَطَرَ القَدَيمَ فَإنَّنِي
ما زِلتُ في مَرْقَايَ أرْعَى الأسئِلَةْ!
فالأمْرُ قَيْدُ هُنَيهَةٍ نَصْطادُهَا
نَتْلو عليها أبْجَدِيَّاتِ الوَلَهْ!
حتّى إذا ابْتَلتّْ عُرُوقٌ في الهَوَى
وارْتَدَّ قَفْرٌ عن رُؤَاهُ المُوغِلَةْ!
وَزَهَتْ بألوَانِ الرَّبيعِ حُقُولُنَا
جَاءَ الزَّمَانُ يُديرُ فيها مِنْجَلَهْ !