كانت النساء في أرضنا يُولدن عظماء، ثم يرحلن بصمت.
بعضهن- في متوسط العمر- تصعقهن دفقة ماء دافئة في شتاء قارس. تنتفض أجسادهن المُتعبة، وترقص آلاف الشياطين داخل شرايينهن، فرحين بزف هذه الأجساد إلى عوالم العدم.
ومنهن من يهرمن وهن في الرابعة عشر من ربيع حياتهن!
أختي مثلا؛ وُلدت يوم اكتمال القمر، فسُميت قمر. كان وجهها دائريا كالبدر في تمامه، مُشرقا وضاءاً.
كانت ترقص على خيوط الفجر، فيرقص كل شيء في المكان. الناس تمشي على وقع رقصاتها. الأمهات تُناغي أطفالها حسب ضحكاتها المتناثرة كل حين في الفضاء.
وبدأت تكبر يوما بعد يوم وفي ليلة زفافها تخشبت!
زفتها الأحبة إلى بيت الأحلام. هناك في ليلة العمر وجدت مسخا ينتظرها؛ فزعت، انتفضت عروقها، جمدت دماؤها وسرعان ما يبس وجهها!
وحين قفز ذاك الهيكل خلفها؛ بقيت ثابتة،حرّكها ،لم تستجب ،سقطت مثل خشبة منخورة.
بنت الجيران حكايتها أغرب. لقد حملت دون رجل!
ووضعته برأس ديك وجسد أرنب. اختبل الملأ في هذه الأرض العجيبة.
لم تُرجم. حُفرت لها حفرة قرب "المزبلة" ؛ وُئدت أمام أعين الناس، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم!
أما المرأة العجوز ، فهذه قصة مُحيرة!
تقول : أنها خدعت الموت أكثر من مرة بعد أن قتلت سبعة أزواج!
الزوج الأول، جعلها عبدة فرضيت في سبيل حبها. استعبد جسدها أولا ثم بدأ يسرق ضحكاتها. بعد سنة أراد عينيها. أزعجه وجهها البشوش؛ فسجنه في خوذة أسلاك! لعبت به الهواجس، أرجحته فوق حبال الشكوك. طالبها بالخضوع التام؛ فرفضت.
وذات ليلة وجدوه هائما على وجهه ويُقال أن كلبا مسعورا مزقه!
والستة الباقين ؛ منهم من أراد أن يُقامر بها فوق منضدة لعبه، ومنهم من أراد روحها قرينة لروحه، آخر وجدها جسدا يُشبع نهمه ويتفضل به على الآخرين. لكنها تمكّنت من كشفهم في الوقت المناسب.
فهاهو الثاني قد فقد عقله، والثالث بقي بنصف وجه. الرابع انشطر شطرين؛ شطر بساق اصطناعية وشطر برجل مريضة!
الخامس هرب في الثانية الحاسمة؛ حملته كفي عشيقته القوية.
السادس مات حتف أنفه. السابع صُلب ظمآنا قرب النهر.
تجتمع الصبايا لسماع حكاياتها العجيبة وهن يضحكن.
قالت واحدة:
-وهل ماتوا كلهم!
وتبتسم ابتسامة عميقة، لايفقهنها:
-لقد تفرّقوا في الأرض مقهورين، لكني رأيت مصارعهم في الحلم!
ركض الموت خلفها، خاتلها، كمن إليها ولكنها دفعته. هاهي حية بعد كل هذه السنين. لا أحد يعرف عمرها على وجه الدقة. وعندما تُسئل، تقول:
-وُلدت في ليلة النجوم!
يدهش الجميع..
-أية نجوم!
فتضحك ضحكات مُجلجلة،تتردد أصداؤها في الوديان.
تغمض عينيها وتتذكر:
-كانت ليلة غاب عنها القمر، ترك النجوم تُضيء مدة غيابه، فقد كان في عجلة من أمره ولم يعد لعدة ليال!
وتروي الجدات عن امرأة ماتت وعمرها ست سنوات، ثم أتت من جهة الشمالبعد مائة عام!
كل مواليد ذاك اليوم؛ كبروا، تزوجوا، خلّفوا ذرية ثم صاروا جدودا ورأى البعض أحفاده وشاخوا وهرموا ،بقيت واحدة نساها الموت، وأخذها الدهر نديمة، هي وحدها التي نقلت قصة تلك المرأة، لكنها اليوم مزارا في بقعة صغيرة، نُسجت حولها الأعاجيب!
وفي سنة من السنين؛ جاء رجل غريب، بدا أنه من غير هذه الأرض، يحمل معه كتبا ودفاتر.
ساكن أهل هذه الأرض؛ فتّش عن أحوالهم، أخذ يُدون كل كبيرة وصغيرة.
يجلس في الصباح تحت شجرة العوسج الظليلة، يُدخن غليونه وأنامله تخربش حروفا غريبة ،كأنها ذبابة تتحرك فوق الأوراق البيضاء!
في الليل،يغشى مجالسهم،يستمع إلى أحاديثهم، يقرأ لحظات الصمت في وجوههم، يشرب قهوتهم، يضحك معهم، يتحدث بلكنته الغريبة ثم يقبض على غلّته ويمضي.
لكن تلك المرأة وجدت قصتها في أحد دفاتره؛ غضبت. قرب الفجر، تطاير الدخان من داره.
يُقال أنه احترق مع كتبه وقراطيسه.
وهذه القصص ،بضعة أوراق ناجية من تلك المجلدات وصلت إلينا بصدفة عجيبة!
على إحدى الأوراق، خُط إسم مرضوضة!
ولكن لم تذكر قصتها وربما تكون قصتها قد أكلتها النار. وهذه الأوراق ملخبطة، استطعنا استخلاص هذه القصص مع مقارنتها بأقوال المعمرة والبقية لا يُمكن معرفة الحكايات لأنها كلمات متفرقة!
لكن ما أثار دهشتي أنني عندما سألت تلك العجوز عن شخصية "مرضوضة" ؛ تغيّر وجهها، احمرت عيناها، تناولت عصاة طويلة ذات رأس خشن، ضربتني فوق جبهتي، ففرت منها وأنا أفكر في أمرها.