في مطعمٍ هادىء يطلُّ على البحر
وحيدًا كعادته،
المكان بأجوائه الحالمة والدافئة يأسره وينسيه عزلته الاختيارية. هنا الموسيقى سيدة المكان، الأنغام الهادئة تسلب الروح. لكنه كان وحيدًا.
العشّاق في حلبة الرقص يتعانقون. يرقصون. يحتفلون بما في قلوبهم من اشتياق ولهفة وصبابة في ذلك المطعم المفتوح المطل على سحر وغموض الماء. لكنه كان وحيدًا.
التفتَ يمينًا وشمالًا، شعر قليلًا بغربة وسط هذا الفرح النابض، حاول جاهدًا أن يتجاهل شعوره. كل روّاد المطعم يرقصون، هو الوحيد الجالس على طاولته مع كأسه وسيجارته سارحًا في ملكوته الخاص. فجأةً تدخلُ سيدة في غاية الجمال والأناقة، كل الطاولات كانت مشغولة، اعتذروا لها بأدب، بدأت تتلفت والحيرة والاحباط على وجهها أو هذا ما شعر به. انتبه فجأةً للموقف، فاقترح على الجرسون أن تنضم إلى طاولته إن شاءت، وبدا أنها لم تمانع فأقبلت عليه وهي تبتسم. مدّت يدها مصافحة وهي تقدم نفسها، فهم منها شيئين فقط أن اسمها إيلينا وهي من السويد. لم يفهم منها أي شيء آخر فهي لم تكن تتحدث غير اللغة السويدية وشفتين لا تكفان عن الابتسام.
جلسا متقابلين ينظران الى بعضهما فقط. إيلينا مثله تمامًا تدخن بينما ترتشف كأسها بعمق. خجل من خجله لأنها كانت جالسة بثقة وكبرياء وبأناقة ورقيّ السويديين دون أي شعورٍ بالإحراج، حسدها على قوتها وجرأتها. دقّق النظر فيها وتمكّن من تقدير عمرها وافترض أنها في الثلاثينات بملامح تشبه شجرة ورد وشعر ذهبي ينسدل على كتفيها مثل شلال خارج من تنور، لكن تنور دافىء.
الموسيقى تنساب مثل حلم ... مثل حياة أخرى ... لم يتردد كثيرًا .. نهض تلقائيًا وأمسك بيدها وقادها إلى حلبة الرقص وهي مستسلمة بل وارتمت في حضنه بكل جرأة، واضعة رأسها على كتفه، كان عطر شعرها مُسكرًا، جسدها المثير الطري وعبقه الفاخر سافرا به إلى عوالم لا أسماء لها ...أغمض عينيه وهو يراقصها فليس هناك أي مجال للتواصل غير الابتسام والتلامس.
أغمض عينيه أكثر وأكثر وغادر وغادر ...ربما إلى خارج الزمن ...رأى سحبًا ونوارس بيضاء تحلًق في مجموعات فوقه تظلّله بحنانها...رذاذ مطر بارد ينعش وجهه ..أقواس قزحٍ بألوانٍ لم يرها من قبل.. لم يتوقف عن الرقص تلك الليلة. عندما فتح عينيه أخيرًا وجد نفسه وحيدًا في مكانٍ لا يشبه شيئًا ..مكان لا أحد فيه ...لا أحد!!!