ربما لو بقيتْ (نبيلة) قيد الحلم لبقيتْ طول حياتها سعيدةً, لكنّها سعت لتحقيق حلمها الّذي هو اللّقاء بأمّها, وموقفها هذا أعاد لي من ذاكرتي قصّة بائع البلّور في رواية الخيميائيّ للرّوائيّ البرازيليّ (باولو كويلو), ذلك الرَّجل المغربي المسلم الّذي عمل عنده (سنتياغو) بطل الرّواية لوقت عند عبوره مسافراً إلى صحراء مصر, فقد كان حلم تاجر الأواني البلّورية أن يجمع المال؛ ويكون على قدر من الثّراء ليزور مكّة ويؤدّي فريضة الحجّ, وعندما سأله سانتياغو: ولمَ لمْ تذهب إلى مكة الآن؟ قال التّاجر: لأنّ مكّة هي الّتي تبقيني قيد الحياة, وهي الّتي تمنحني القوّة على تحمّل كلّ هذه الأيَّام المتشابهة. وبعد مدّة من الزّمن وحصوله على الثّراء لم يذهب للحجّ وبقي قيد حلمه, لم يخرج من شرنقة الحلم بقي ينام ويصحو على لذّة الحلم, أو كما عبّر باولو كويلو عاش أسطورته الشّخصيّة..
وكذلك في رواية ذهب مع الرّيح, فضّل (آشلي) بطل الرّواية أن تبقى (سكارلت) حبيبته وأوّل نبضات قلبه؛ أن تبقى حلمه الّذي يجعله على قيد الحياة, ولا يمزّقه بتحويله إلى واقع رغم أنّ الفرصة في الزّواج منها قد تهيّأت له أكثر من مرّة, لكنّه فضّل أن يعيش حياته وهو يحلم بها وهي قريبة منه, بل أقرب من أنامله إليه...
لذيذٌ أن نبقى نعيد صياغة حلمنا بتفاصيله ونحن نعد السّيناريو في خيالنا, ونبعد عن الحلم كل المعكّرات والمزعجات, ونحن نعيد صياغة الحلم لنضيف الشّخصيّات الّتي نحبّها ونرتقي بها حتَّى تصل إلى سحابة حلمنا, ونجعل الحلم أبيض نقيّاً صافياً, كلّ السّبل إليه مستقيمة, وكلّ الأشخاص الّذين فيه يلقون علينا بهالة المباركة للإنجاز، لكنّه يبقى حلماً عالقاً بين سحائب أفكارنا، الواقع هو الصّدمة الحقيقيّة عندما تقترب من حلمك، ففي كثير من الأوقات لم يبق على حلمك إلّا أن تتناوله بيدك فتحضر عيون التّلوّث وقلوب الحسد وتؤذيك وبدلاً عن التّصفيق لك, تمزّق فرحتك وتنثر الرّماد على عيونك..
نعود (لنبيلة) الّتي كانت كلّ يوم تسأل عن أمّها, تسأل عن اسمها, وعن ملامح وجهها وعن لون بشرتها, وكيف هو صوتها, وهل هي جميلة كما في حلمي؟ كانت سعيدةً وهي تحلم وعندما طرقت بابها بلهفة وبين ذارعيها كلّ زهور الحبّ وعطور الجمال انتظرت اللّحظة الّتي تفتح لها أمّها الباب وتملأ جوفها الفارغ؛ الّذي بقي لعشرين سنةً جائعاً ينتظر حضن أمّها لتملأه بالحبّ, وتمسح من على أهدابها ألم السّنين, وتقبض على يدها الّتي أصبحت كالشّوك من لهفة اللّقاء، انتظرتها تقرأ الشّوق في عيونها وتغفو بها غفوة تنسى فيه كل الهجران والبعد والاحتياج الّذي كانت تتوقّد حتَّى كادت تكون رماداً.
كانت المفاجأة أكبر من تحمّل الفتاة, أمّها منطفئة جافّة بلا ملامح, لم تحضنها ولم ترحّب بها ولم تبكي لحرقة الشّوق؛ بل كانت تعلم عنها كلّ شيء ولم تحاول الوصول لها، تركتها خلف جدار عال وبين غرباء كل يوم يتغير لها وجه وتبقى تحت رجاء ذلك الوجه ألا يقطّب جبينه عندما ترسل له نظرةً...
ذاب حلم (نبيلة) وعادت تسحب أقدامها لا تعلم أيّ طريق سلكته, كانت تنظر وهي في السّيارة إلى الخلف إلى الطّريق الّذي يبعدها عن أمّها؛ كأنّها في رجاء أن تعدل أمّها عن ذلك الجفاء والبرود وتلحق بها وتتناول يدها وتقبّلها وتعتذر لها وتمسح على شعرها، ولم تفعل!!
وأصبحت(نبيلة) جوفاء من الدّاخل كأنّ في صدرها لهيب لا تطفئه محيطات الأرض,
هذا ما علمته عنها, وسألت عنها وأخبروني أنّها بخير؛ وأنا أعلم أنّها ليست كذلك..
أرجوكم حافظوا على جزء من أحلامكم, وعيشوا لذّة صياغة الحلم كلّ ليلة قبل أن تسدل الجفون ستائرها وتودّع الظّلام وتدخل في عمق الحلم.
هناك سؤال: من الّذي أعطى نبيلة أدوات الحلم؟ من الّذي رسّخ في عقلها أنّ أمّها كلّ الحياة؟ من الّذي أغلق في مساحات أفكارها كلّ أبواب الرّجاء والفرح وقرنه بقرب أمّها؟ ليتهم علّموها ألّا تربط فرحتها بأيّ شيء, ليتهم قالوا لها متى حلّت الفرحة فانعمي بها ولا تنتظري أحداً ليفتح لك علبة الفرح.