تجاويف التجاويف
قرأت – صدفةً - نصا بديعا للأستاذة القديرة بدور بن سعيد ، وأنا يستهويني النص الجميل ، ويستوقفني المعنى العميق ، إنه نص يقف في أعلى درجة من درجات سلم النثر الفني، ويجاور أول درجة من درجات الشعر ، نص رائع مكتنز بكل جمال .
النص دائري في أحداثه وتسلسله ؛ إذ عادت الكاتبة إلى نقطة البدء؛ إذ بدأت وهي في مفترقي حيرتها ، وانتهت عند مفترقي حيرتها ، حتى في العبارات فقد بدأ النص بالخطى الثقيلة ،وانتهى بالخطى الوئيدة.
أحكمت الكاتبة نسج نصها ، وأجادت سبك فكرتها ، ولم يوجد في النص أية ثغرات ، وليس فيه أي خلل ،ولا فجوات ، فهو نص محكم رصين، فكل كلمة تؤدي دورها في مكانها ، وتُسلمُك للتي تليها ،وكل تركيب يحقق مقصوده ،ويوصلك لما بعده.
تدهشك الكاتبة باستخدام "غير المألوف" من العبارات ، فالجميع يقول أقف في مفترق طرق ، ولكنه عند بدور ليس مفترق طرق ، وإنما مفترق حيرة، فكأن كل الطرق تؤدي إلى حيرة .
كذلك تغيِّر الكاتبة – بحكمة بالغة - طبيعة الأشياء ، فالقطب الشمالي لم يعد متجمدا ، والساعة لم تعد بها أرقامها التي تشير للوقت.
الوردة هي بطلة النص ، فهي الهدية القيمة في فصل الشتاء وهي التي زرعتها الكاتبة في مفترق حيرتها ، وهي التي يزرعها الزارعون ثم يخسرون، وهي التي انبلجت أساريرها ، وهي التي تُركت على الطاولة تثمينا لدور الطاولة في تقبل ما دار عليها من عبث .
لغة النص لغة شعرية رقيقة موحية ، تضاهي أبلغ القصائد لغة ،
من حيث المفردات الرقيقة والتراكيب الجزلة.
أما الصور البلاغية في النص فلا تحصى ، وحسبي منها :
الاستعارات مثل :
نسج رداء الأمل
أفيض بماء الصبر
جمر الأرق
تضحك شموس الضحى
وكذلك التشخيص ؛ حيث جعلت الطاولة كأنها إنسان يعاني ما يعانيه الإنسان حين قالت : " عرفانا للطاولة التي تحملت عبثهم في الليلة السابقة" وهذا قمة الاتحاد بين الإنسان والمحيطات به من جمادات.
ويبرز التجريد، حيث جردت من نفسها شخصية أخرى وقالت إنها سئمت توبيخها ، فمنحتها وردة.
يوجد كذلك الطباق الجميل والتضاد الرائع بصورته كطباق إيجاب بين "الشروق والغروب" ، أو كطباق سلب في "لينطفئ ولا ينطفئ " ؛ مما أعطى المعاني وضوحا.
ويظل النص يحمل القارئ لمشاركة الكاتبة حيرتها ، وهي في مفترق حيرتيها بين العودة لارتداء ثوب الأمل ، والبقاء حيث هي دون قدرة على التحرك؛ وذلك لثقل الخطى.
والحيرة السائدة في النص منطقية وطبيعية ؛ لأن عنوان النص وهو تجاويف حلم ، فالتجاويف متشعبة ومتعددة المسارات ، ومختلفة الطرق ولا تدري أي الطرق يمضي بك للمخرج الآمن.
ـــــــــــــــــ
تجاويف حلم ..
أقف بين مفترقي حيرة إما أن أعود لنسج رداء الأمل وارتدائه عندما يخذلني واقعي أو أظل حيث أنا ثقيلة خطاي وخاوية يداي من همتهما القديمة وفي ذات الوقت قلقة أفيض بماء الصبر على جمر الأرق لينطفئ ولا ينطفئ، عيناي معلقتان على جدار الزمن ترقب الشروق كما تتهيأ للغروب ، وتعد أرقام الساعة الخالية من الأرقام إلا من مواضعها الناصعة والتي يفهمها إنسان العصر الحديث كلوحة جامدة بألوان مختلفة ، وأشكال إلكترونية متعددة ، تمضي ثوانيها الرتيبة ويزداد التعب ، تضحك شموس الضحى فتنبلج أسارير الورد بينما زارعوه يخسرون عند بيعه أكثر مما بذلوه في زراعته ، يقولون بأن الشتاء موسم الهدايا الأول وليس كالورد هدية تقدم لمحبيه في مختلف مناسباتهم ومناسبات الأقوام الآخرين الذين دأبنا على تقليدهم والسير في ركابهم ، لن أوبخ أحداً حتى نفسي سئمت توبيخي لها فتوقفتُ لأمنحها وردةً بيضاء شبيهة بثلوج القطب الشمالي والتي لم تعد متجمدة ، نعم وردة بيضاء وجدتها على طاولة ما تركها اصحابها عرفانا للطاولة التي تحملت عبثهم في الليلة السابقة ، أخذت الوردة وزرعتها بين مفترقي حيرتي ولذت بالصمت لأفكر من أنا في تجاويف هذا الحلم الطويل المتشعبة مشاهده والوئيدة خطاه.
بدور سعيد..