(انطفاءُ حُلُمْ )
إنّي أُفتِّشُ
عنكِ
عنْ ضَحَكَاتِكِ الأولىٰ
وعنْ حُلُمٍ
تحقَّقَ ثمَّ أطفأهُ غَدي
مابينَ هذا الضَوءِ
يا " ليلىٰ "
وعَتْمَةِ مَشْهَديْ
ووجوهِ كُلِّ العابرينَ
إلى شموسِ الحُبِّ
والفرَحِ النَديْ
وأُسائلُ الآتينَ ما فعلَ الهوىٰ
بصباحِ وجهكِ
بالمساءاتِ الشقيَّةِ
فوقَ جيدِكِ
باحمرارِ الخدِّ حينَ تودّدِ
وأُخاتلُ الحزنَ المُقيمَ
بخافقٍ
عافَ الفِراقَ
ومَلَّ من حُرَقٍ
ومن أَرقِ السُهادِ
وما نصبَ الزَمانُ لموعدِ
وأُراقصُ العُُمُرَ المسافرَ
في هواكِ لعلّهُ
يأسىٰ وينسىٰ يَسْتَفِيْقُ
علىٰ حُلُمٍ نَدِيْ
* علي الثوابي
( قراءة الأديب والناقد الأستاذ / محمد سلطان الأمير للنصّ الشعري ( انطفاء حُلُمْ ) شعر / علي الثوابي ..
*حين تنطفىء قناديل الأحلام الباسمة المتفتحة فجأة أمام لحاظ أعيننا؛نتيجة سطو الأعاصير عليهامن كلِّ باب؛ ؛نقف إزاء ذلك ذاهلين ؛مشدوهين ؛تغالبنا العواطف المحتدمة وهي تقرع بوابات قلوبنا ؛وصليل أجراسها يذهب
بنا في تعاقب أصدائها وراء اللحاق بتلك القناديل حثيثاً مذاهب شتَّى؛فإذا خفت الأوار قليلاً ؛أو هدأت غلواء لهيبه نوعاً ما ؛ أنصتنا مصغين بحميمية صادقة إلى إشعاعات ألحان الأمس القريب؛نستنطق مكنوناتها المترعة ؛نتساءل عن شموسها المنزوية ؛وألوان أطيافها؛أين تناءت ؛وفيم توارت؟!
ألم تكن قناديلها مسرجةً على مرأى ومسمع من أنفاسنا الحانية ؛كنا نراها ؛دانية القطوف ؛زاهية الصور ؛شديدة الثراء والغنى ؛فلماذا صوَّح الروض ؛ وغاب الريُّ والثمر؟!
نستعيد شريط الماضي قليلاً ؛فنرى إليها يوم كانت تتناسل عن أقمار متوهجة ؛حدائق مونقة ؛حقول غيمية من البهجة والحبور ؛مساحات هائلة من الآمال الناعمة الوضاءة؛
في تلافيفها تنبسط تأوهات الحنين ؛وهفهفات القلوب الشجية؛ألماً ؛وعتاباً
وتحسراً على استحالة مالايعود إلى سابق عهده ؛وأنَّى لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء؟!..
في جو كهذا يحتدم الصراع النفسي بين "التصديق والتكذيب"..
فما علاقة هذه التوطئة بنص شاعرنا؟!
ألم يوقظ "معنى الانطفاء" ذلك المعترك الذي أومأتْ إليه تلك المقدمة؟!
ربما رأينا ملامح منها في هذه التأملات..
في هذا النص الغنائي نجد أنفسنا أمام المشهد الدرامي الذي أومأت إليه في التصدير ..
حمل العنوان إلينا عبارة(انطفاء حلم)؛فالحلم إذن هذا الذي نراه قريباً بعيداً ؛كالضوء المرئي ؛ أوكالنار المشتعلة ؛ غزاه "فعل الانطفاء" بجبروت هالاته الغامضة ؛فأجهز عليه ؛وانتزع منه ضوءه المؤنس الذي كان سارياً في الآفاق؛ ليصبح بعد ذلك خارج خارطة الحياة..
ولمَّا انطفأ حلم شاعرنا بغتة باعترافه هو وشهادته"موقع الحدث" كما يقال في التعبير المعاصر ؛لم يقف إزاء ذلك حائراً؛ مقطب الوجه؛ مسلوب الإرادة؛ مكتوف اليدين ؛لم يكن سلبياً بأي شكل من الأشكال ؛إنما نحا بأصدائه الذاتية منحى آخر ؛استقبل الحدث المؤلم وفقاً لتساؤلاته الذاهلة في أعماقه؛ المشروعة بطبيعتها :
كيف لحلمٍ فاتنٍ كهذا ؛رعاه و شذَّبه ؛وهذَّبه؛ ومنحه عصارة فكره ؛وكوثر وجدانه ؛كيف له أن يتهاوى على أرض البسيطة في ساعة من نهار؟!
في تيار هذه الهواجس المحتدمة سار مركب شاعرنا ؛يتجاذباه المدُّ والجزر ؛سار خفاق الشراع؛ غير ساخط ولاناقم ؛ يستقصي الاحتمالات التي أودت بهذا الحلم؛ وطمست معالم جبينه الوضًاء ؛وهو في خضم تساؤلاته؛ ابتدأ سلسلة من الممارسات الذاتية سارت على وتيرة واحدة ؛يؤطرها القلق والغرابة ؛رأيت أن أقسَّمها في ضوء تعدد محاورها :
*المحور الأول:
إنّي أُفتِّشُ
عنكِ
عنْ ضَحَكَاتِكِ الأولىٰ
وعنْ حُلُمٍ
تحقَّقَ ثمَّ أطفأهُ غَدي
انطلق من إنَّ المؤكدة موصولة بياء المتكلم واختار لفظة "أفتّش" بصيغة المضارع الحاضر ؛وهي لفظة موحية تحيل أصداؤها على البحث عن مفقودات غالية الثمن توارت في مهبّ النسيان ؛مادية كانت أومعنوية؛ ثم تفضي بنا رحلة تفتيشه القلقة إلى تلك اللحظات المخملية التي عاشها في كنف محبوبته وضحكات ثغرها المائجة بألوان السحر على أنَّ تلك الضحكات في رمزها للحب والرضا والإعجاب تخفي حلماً باذخاً سرعان ما تجسد على أرض الواقع؛ ليعانقه الشاعر عناق القلب للقلب؛وفي التعبير بالحرف "ثمّ " مايؤيد أنَّ المرحلة الزمنية لم تكن قصيرة؛إضافة إلى تعبيرها عن حدث الانطفاء ؛في إسناده إياه إلى الغد الزمان ؛لاإليها مباشرة؛ وفي ذلك نوعٌ من الأدب الجميل في التماس معاذير الأحباب ..
إذن لم تكن فتاة حلمه الأثير سبباً مباشراً في عملية الانطفاء؛ وإن تكن هي الملهمة ؛وسر ميلاد التجربة.
*المحور الثاني:
وأُسائلُ الآتينَ ما فعلَ الهوىٰ
بصباحِ وجهكِ
بالمساءاتِ الشقيَّةِ
فوقَ جيدِكِ
باحمرارِ الخدِّ حينَ تودّدِ
يلاحظ أن الرحلة هنا متصلة بالخطوات الأولى لرحلة التفتيش ؛وهي هنا معتمدة على الفعل المضارع "أسائل"؛وفيه عنصر المشاركة ..
وتتجوهر المشاركة هنا في مساءلة الآتين من أماكن بعيدة؛ ممن هم على معرفة وثيقة بحسنائه؛رجاء أن يبثَّ هؤلاء قدراً من أشجانه المستعرة ؛
عن هواها اليانع الخصيب؛وإلى ماذا آلت به الليالي والأيام ؛وأثره عليها هي بالتحديد ممثلاً في أهازيج صباحاتها ؛ ورفيف أمسياتها؛ إذ طالما شهداها معا ؛في ظلال ذلك الحلم البديع.
ويلاحظ أن الصباحات والمساءات هنا على عنصر المقابلة بينهما ؛يشكلان اهتمام محبوبته في السابق حين كانت تطلعه على مجريات الأحداث؛ وتقاسمه الحلو والمرّ على حد سواء فضلاً عن تركيبتها النفسية هي واستشعارها حركة الزمان وتقلبات فصوله وأوقاته.
*المحور الثالث :
وأُخاتلُ الحزنَ المُقيمَ
بخافقٍ
عافَ الفِراقَ ومَلَّ من
حُرَقٍ
ومن أَرقِ السُهادِ
وما نصبَ الزَمانُ لموعدِ
الاعتماد هنا على فعل "أخاتل" وهو منسجم مع ماقبله من انطلاقات؛بيد أنَّ الشاعر بعد أن خاب أمله في الآتين ؛وحيث إنه لم يحظ بمايطفىء لوعته؛ويسرِّي عن نفسه بعض آلامها ؛ لم يكن من مفرٍّ؛سوى مواجهة الذات المترعة جوانحها بفيض الحزن المقيم ؛فنراه ينصت إلى وجيب قلبه "الخافق الذي عاف الفراق؛ وسئم مرارات الانتظار "؛ وملَّ المواجع المحدقة به ؛والسهر الطويل المضني؛والأشباح المخيفة التي ينصبها الزمان أفخاخاً ؛أمام أمانيه وتطلعاته.
*المحور الرابع:
وأُراقصُ العُُمُرَ المسافرَ
في هواكِ لعلّهُ
يأسىٰ وينسىٰ يَسْتَفِيْقُ
علىٰ حُلُمٍ نَدِيْ
ويأتي هذا المحور معتمداً على الفعل "أراقص" متمماً لما قبله؛وبين المخاتلة والمراقصة علاقة دقيقة جداً؛ممثلا في العنصر الحركي الإيحائي؛ فهو هناك:يخاتل حزنه المقيم"؛وهنا "يراقص عمره المسافر" ؛وفي كلاالحالتين هو في مقام المواجهة الذاتية ؛ونوازع نفسه الداخلية؛وهو هنا يجعل العمر المسافر موازياً له ومناظراً؛والمراقصة تدور في فلك الآمال الدفينةوالأمنيات المسافرة
إلى حيث مالايعلم أحدٌ عن وجهتها
في واقع الأمر ؛ لكنه هنا يستعير لفظة مسافر ؛وهي صيغة تحمل معنى الاستمرارية؛ ويخلعها على العمر الزمني غيرالمنفصل عنه بطبيعة الحال؛والمحدد في "هواك "..
ولايخفى علينا مافي الأسفار من ضنك وعناء واغتراب وقلق وانتظار؛ فهو إذن سفرٌ مضطرُّ إليه ؛ولاحيلة له سوى الإبحار في فلك أمانيه المتعلقة بحسنائه تلك؛ويفضي به ذلك إلى إرسال رجاءاته القلبية بواسطة "لعلَّ"؛ويقرن بها رسائل حارةً من الوجد واللوعة عبر توالى حمولات ألفاظ (يأسىٰ ؛وينسىٰ؛ يستفيق)وثلاثتها مستقبلية ؛ومن
شأنها- في ضوء تطلعات شاعرنا -أن تعيد بناء نسيج الحلم الذي أفلتَ من بين يديه؛ليراه مكتمل الإشعاع في شغاف القلب؛ وأقطار النفس؛ وقد أورق ثانية؛بعد اليباس والانطفاء ؛مستعيداً بذلك خضرة أغصانه اللدنة الناعمة؛أوليكن ذلك فاتحة انبلاج حلم نديِّ آخر ؛يرفو الجراحات الماضية؛ ويكون نافذة أخرى لعهد من العمر ناضرٍ وجديد..
وماذا بعد؟!
لايسعني في نهاية هذه الجولة القصيرة إلاالثناء الودي على ريشة شاعرنا القدير بما هي أهل له ؛راجياً لحلمه المنشود أن يستعيد رفيف أجنحته ثانية؛في بساتين العمر الجميل؛وآخر دعوانا أنِ الحمد لله..
* محمد سلطان الأمير
* ———————————————
( كلّ الامتنان وعظيم التقدير للأديب الأريب الأستاذ / محمد سلطان الأمير على هذه القراءة الإبداعية التي أتت نصًّا إبداعيًا موازيًا للقصيدة وفاقتها 🌹)