قراءةٌ نقدية لقصيدة«سلام» للشاعر الراحل:أحمد بن يحيى البهكلي "رحمه الله..
بقلم الأستاذ الناقد :عبد الحميد عطيف
-عرضُ النصِّ الشعري:
إلى(مَقْرَنِ النيلين)والخصْبِ في (تُوْتِي)
ســـلامٌ وشــوقٌ جـــامحٌ غـيرُ مكبــوتِ!
ولِيْ في ثَرَى (الخرطومِ) عطــرٌ مُخَبَّــأٌ
وفي (أمِّ دُرْمــــانٍ) مَنَـــاجِمُ ياقــــوتِ!
أَنَخْـــتُ رِكـابي في (الدويـم) بلهفــــةٍ
إلى منتدى(بَخْتِ الرِّضَا)ذائعِ الصيتِ!
وفي شاطئ (الخرطومِ بحري) تَقَطَّرَتْ
قصيـــدتيَ اللعْسَــاءُ من شَفَـةِ التوتِ
كم اجْتَزْتُ كي أَهْنــَا بها (جسر كَوبَرٍ)
ورغم جفــــافي لم تبــــادِرْ لتبكــيتي!
رُواءٌ ولا فَيْـــضٌ وسحـــرُ محـــــاسنٍ
فما سِحْر هاروتٍ؟! وما سِحْرُ ماروتِ؟!
كأنَّ اخضــرارَ الأرضِ أُنْــزِلَ فاستــوَىٰ
على مَرْبــعِ السودانِ كالماءِ والقوتِ!
له في مـــداريج (الجزيرة) شــــاهدٌ
يلـــوذُ بهـــا كالنـــارِ لاذَتْ بكــبريتِ
فمـا لضفـــافِ الرافــدين تلاطَمَــــتْ
على المَرْبَعِ الهادي كَغَضْبةِ عِفْريتِ؟!
فـباتَ اخضــرارُ الأرضِ أغـبرَ داكــنًا
وإنسانُها أضحى كيُونسَ في الحوتِ !
وأَجْــلَبَتِ الأمــواجُ تبتــلعُ المَــدى
وتجتــاحُ كالإعصار مُضْنَى الأباييتِ!
نَعَـــمْ هـُــوَ أمْــــرُ الله لا ريبَ، رَدُّهُ
مُحَـــالٌ، ولكنَّ العُطَـاسَ لتَشْميتِ!
ألم يَكُ في وُسْـــعِ الأعــاريب نجدةٌ
تُقِيــلُ عِثَــارًا أو تجــودُ بتثبيـــتِ؟!
أليس أسى الســودان بالمـاء شــأنُهُ
كشأنِ الأسى بالنارِ في شَطِّ بيروتِ؟!
ففي هذه غَــرْقَىٰ وأنضـــاءُ هِجْـرةٍ
وفي هذه حَــرْقَىٰ وأنضــاءُ تشتيتِ!
وفي تلك هَدْمَىٰ ما على شيئها بَكَـتْ
وحين اشتكَتْ قالوا لها:عَجِّلِيْ مُوتِي!
سـلامٌ على السودانِ وهو يخوض في
شَجَـــاهُ وقد زادوا شجــاه بتفتــيتِ!
ســـلامٌ على أرض الشـــآم وحـالُهـــا
كئيبٌ كما الصومال واليمن الحُوتِي!
تسَـــوَّرَها شُــــذّاذُ إيــرانَ حينمــــا
حَبَتْــهُمْ بحبلٍ للأذى جِدِّ مَمْتُــوتِ!
ســـلامٌ على الأحلامِ في ليبيــا ذَوَتْ
ســــلامٌ على لبنــانَ مِصْرَ وجيبوتي
ســـلامٌ على كل الأعـــاريبِ والشَّجا
يقحِّمُــهم دربًــــا يقـــودُ لتابـُــوتِ!
ورغم الدُّجــا تزداد بالهَــمِّ دُكْنـــةً
فإن انقشــاعَ الهمّ أصْــدقُ توقيتِ!
------------------
القراءة:
لطالما اعتقدت كآخرين غيري أن النصوص الشعرية الرائعة ليست إلا خلقاً يحدث بعد آلام مخاضٍ مريرة وإنشاءٍ ناتج عن تفاعلات وتفجرات عاطفية تحدث في أعماق ذات الشاعر ؛وأنَّ الكلمات التي تعبر عن تلك الحالة ليست إلا صوراً وانعكاساً لها؛ فهل يمكن أن تنتج تلك الفوضى وتلك التفجرات الوجدانية مثل تلك الصور الإبداعية المثالية الجميلة الرائعة؟
إن المنطق نفسه الذي يجعلنا نرفض أن ذلك النظام الكوني البديع جاء عشوائياً؛ يجعلنا أيضا نستبعد أن يكون النص الشعري جاء لا واعياً ونتيجة أو انعكاسا لانفجارات عاطفية حدثت في ذات الشاعر؛وبعبارة أخرى كيف لهذا الانتظام البديع للكلام أن ينتج عن تلك الفوضى؟...
تداعت هذه الخواطر إلى بالي حينما شرعتُ أقرأ في قصيدة (سلام) للشاعر الكبير الدكتور أحمد البهكلي ؛فمثل هذا البناء المرصوص والسبك الرائع ؛والانتظام المتقن ؛والإبانة الأخاذة ؛والمضامين الإنسانية الجميلة ؛والرسالة الهادفة ؛وهذا العرض المعرفي البليغ؛ وتلك الانسيابية الجمالية ؛وذلك التناسق الإبداعي ؛لا يمكن أن يصدر عن مجرد انفعالات وجدانية كردة فعل على أحداث معزولة عن امتدادها الموضوعي والواقعي المتجذر ليس في ذات الشاعر الداخلية بل في ذاته الكونية (إذا جاز التعبير)... وحينما نذكر الواقع الموضوعي والذات الكونية ؛نذكر ما يتصل بهما من وشائج وعلاقات يتلاشى إزاءها المنحى الوجداني الذاتي كمصدر للإلهام ؛وخالق للإبداع ؛وكعامل باطني يسيطر بغير إدراك على الحالة الشعرية شكلاً ومضموناً... حيث تتسرب الذات الخاصة (الأنا) في الروح العامة (نحن) الكونية وتذوب في اهتمامات الشاعر وقضاياه الإنسانية والسياسية الكبرى وهذا شأن الشعراء الكبار...
التفجر الوجداني قد يكون مناسباً للشعراء الشباب ؛والمبتدئين ؛لكن على مستوى الكهولة الشعرية والعقلية التي تهتم بالقضايا الكبرى ؛وتتميز بالعمق والخصوبة والنضج؛والمتقنة بالنقد الذاتي ؛والنظر البعيد ؛والتخطيط المتأني أجد أنَّ الوضع مختلف؛حيث لم تعد أحلام الطفولة والشباب وذكريات الماضي وأمنيات الأمس معيناً رئيساً للقريحة حتى لو بدت كمتكأ لها كما هو الحال في (سلام)؛ إذ لا نلمس أن ثمة صراعاً داخلياً في الذات الشاعرة بقدر ما نلمسه من انعكاس لتصادمات الإرادات ؛والفكر والاعتقاد في الواقع الموضوعي ؛وعلي صعيد الذات الكونية ؛وعالم الشاعر الخارجي؛تلك حالة تغشى إرادة العقل الواعي أكثر مما تغشى إرادة العقل الباطن أو الوجدان ، وكل هذه الخصائص مكرسة في النص بشكل عالي الإبداع والإتقان، ولهذا يبدو أن (سلام) ليس نصاً بارداً ومسالماً وأن هذا الهدوء المنبسط على سطحه يخفي في أعماقه عالماً مدهشاً من الإضرام والحركة ابتداء بالعنوان (سلام) الذي يفتح لنا بضعة أبواب للولوج إلى عالم النص ؛وانتهاء بالمخرج الوحيد لانقشاع الهم ؛وزوال الدجى وهو مخرج يفضي إلى فضاء زمني وموضوعي واسع المدى متعددالممكنات والاحتمالات... فسلام العنوان مثقلٌ بالدلالات فهو حين يفتح لنا أفقيا باب الدخول والإقبال المكلل بتحية الإسلام ويربطنا من الوهلة الأولى بالقيم الإنسانية القائمة على المحبة والرحمة بين البشر يفتح لنا باب الوداع والمفارقة ويحيلنا ضمنيا إلى حكمة القول عند مخاطبة الجاهلين وهو في ذات الوقت يوغل بنا رأسيا في عمق الذاكرة الدينية والتاريخية ليذكرنا بضيفي إبراهيم ..
وهكذا تأتي الذات الشاعرة لتتجلى في النص متدثرة بالحب والإلهام والنبوآت؛ وفي النص يتكرر لفظ (سلام) بحمله الثقيل المفعم بالحزن واليأس وانعدام اليقين... سلام المنكوبين المثخن بالآلام والجراح والهزائم ليذكرنا بتلك المقولة الشهيرة (سلام عليك يا سوريا سلام لا لقاء بعده)...
وكما يقال :(الشعر ديوان العرب وبه تعرف علومهم ومآثرهم)؛ نلاحظ كيف أجاد الشاعر توظيف الجغرافيا والتاريخ والدين والمعتقد والسياسة والمعالم وجمع شتات الأمة في أسطر معدودة تحوي كمَّاً هائلاً من التداعيات النفسية والعقلية...
لقد وظف الشاعر طاقة هائلة من المشاعر في البيتين الأخيرين وشخص الواقع الحياتي تشخيصاً دقيقاً غير أني لا أتفق معه في نظرته إلى نهاية الأعاريب الحتمية التي قضى بها فانقشاع الهم آت لا محالة ولو بعد حين...