في سهرة رمضانية ماتعة ممتلئة إبداعا ثقافيا وفنيا ، احتفت أروقة جميعة الثقافة والفنون بجدة بالروائي السعودي العالمي المبدع الأستاذ عبده خال ، حيث استطرد في حديثَ الذكريات عن طفولته التي أخذت منحًى صعبًا ، وقد وصفها بالطفولة القاسية؛ لأنها لم تكن طفولة عادية بل مرحلة طفولة عاملة، وكان العمل فيها صعب المراس لطفل في حداثته مقارنة باليوم حيث الرفاهية وتوفير سبل الراحة والمتعة، والأصعب في طفولة عبده خال ، أن عمل ساقيا للأسرة ، يجلب إليها الماء من مكان يبعد عن القرية التي يقطنها حوالي سبعة كيلو مترات، وهذه ليست مسافة نائية بمقاييس وسائل المواصلات الحالية ، لكنها كانت بين القفار والجبال، وعبر البيداء المترامية الأطراف، حيث الحيوانات الضارية المختلفة من ذئاب وضباع وكلاب وثعالب وأشجار وأغوار وغيرها، مما يرهب طفلًا في حداثته، بل الصعوبة أنه –ومع حداثة سِنِّه– كان طفلا يجلب الماءَ على حمار أعرج، و ما يجلبه الحمار السليم في ساعة يجلبه الحمار الأعرج - حسب قوله - في ساعات، وهذه المسافة كوّنت خياله الخصب وصنعت ذاكرته الروائية منذ الصغر؛ إذ التقطت عيناه وصف دقائق كل ما تراه وتسمعه من معالم البيئة التي عايشها حقيقة، خلال رحلته الطويلة في ذاكرته و القصيرة لنا، فضلا عن معاناة الفقد لإخوة ستة يكبرونه افتقدهم صغيرًا إلا أخًا كبيرًا تربى بعيدا عنه، كما أن تربية عبده خال استحالت تربية أنثوية انعكس تأثيرها على تربيته لأولاده وبناته وعلى مجريات حياته الاجتماعية والفكرية والإبداعية، وزاد –مع نزعة تواجد الأنثى وطغيانها على أسلوب حياة عبده خال– وفاة والده وهو صغير فتولت أمه تربيته وتعليمه، ورأت فيه ما لا يراه غيرها من بذور الشهرة والقيادة فدرَّبته على إمامة الناس في قريته، وشجعته على ذلك فاستجاب بفطرته التي تربى عليها، والتي تحولت بعد ذلك بحسن ظنها في فلذة كبدها إلى العالمية، وكأنها استشرفت فيه معالم النبوغ قبل غيرها، ونمَت على يديها وبين أحضانها .. وبعد استكمال عبده خال مراحل تعليمه المختلفة تلقَّى صنوف الفن والثقافة بصحبة المبدعين؛ حيث لاذ بالفرار إلى القراءة فكان –كما يصفه أصحابه من رموز الفن– نهمَ القراءة، شغوفًا بالآداب والفنون المبدعين على اختلاف توجهاتهم الإبداعية ، حتى قال على لسان أحد أصحابه : كنا نمَلُّ الجلوسَ إليه أحيانا كثيرة من كثرة انشغاله بما يقرأ، وكذا انشغاله بكتاباته التي كنا نتساءل عن جدواها له ؟ ثم استطرد - عبده خال - في حديثه عن مرحلة التخصص الأكاديمي حيث دراسته الجامعية في قسم العلوم السياسة وبعدها فتحت أمامه أبوابه الأمل وتحقيق الطموح الذي دفن موهبته الفكرية والسياسية و الإبداعية- على حد قوله- حيث اصطدم بواقع الحياة ولا مفر من قبول عطاءات الله فكانت مهنته في التعليم كمعلم هي الدرجة الأولى في سلم طموحه وتحقيق معالم طريقه، واستمر في التدريس بإبداع يناسب تطوير الأنشطة الثقافية لطلابه ، وتَنَقّل المبدع عبده خال في التعليم ورغبة التخلص من هذه المهنة القاتلة لموهبته تراوده وما من مفر، حيث تنفيذ التعليمات والتعاميم و هذا ما يتناقض مع شخصية وحرية المبدع، حتى أصيب بجلطة دماغية كانت اختبارا وحدا فاصلا في حياته بين ما كان يعتقده ويفكر فيه ويدافع عنه، وبين ما خرج من صندوق ذكرياته جراء هذه الاختبار الحقيقي واعتبرها صدمة فرَّغتْ صندوق ذكرياته ولا يريد العودة إلى كثير منها ، بل و جعلته يعيد مجريات تفكيره في كثير من القضايا التى يقول عنها: لو عاد بي الزمن قبلها ما فعلتُها ، وهذا يرجع إلى فطرته التي تربي عليها ، ودافع كثيرا عما اتهم به سلفا خطًأ وبهتانًا دون مناقشته فيما نسب إليه، خاصة أنها كانت تحتمل النقاش، طالما أنها تبتعد عن ثوابت الدين من القرآن والسنة، حسب قوله ، فضلا عن أنها في أغلبها كانت آراء شخصية. ثم تحدث عبده خال عن مسيرته مع أغلب المبدعين من كُتّاب القصة و الرواية و الشعراء وكذا الفنانين ، وخصّ منهم صديقه الفنان طلال مداح والفنان محمد عبده الذي اعتبرَ علاقته به تزيد عن الأخوة، كما تحدث عن رفقاء الإبداع والأدب في مصر والإمارات واليمن وغيرهم، وأثر ذلك في حياته وكانت أهم محطاته التي توثق عالمية إبداعه فوزه بجائزة االبوكر العالمية في الرواية العربية بدولة الإمارات العربية عام 2010 عن روايته (ترمي بشرر) والتي لا أظن أن من اتهمه بسببها لم يقرأها وإن قرأها فهي قراءة سطحية لا تعي حدود فن الكتابة الأدبية و سماتها ، حيث كللت نجاح جهودَه الإبداعية وكانت ثمرة تكريمٍ حقيقي لمسيرته الإبداعية، وإن كانت أعماله الروائية الأخرى تستحق الدراسات الأدبية والنقدية الجادة، ومن بينها : مدن تأكل العشب، لوعة الغاوية، الأوغاد يضحكون، الموت يمر من هنا وغيرها، و من يقرأ روايات عبده خال يجد أنه ابن بيئته، حيث التقطت عينه أدق ملامحها و تفاصيلها شكليا وجوهريا باحترافية وتجرُّد دون أن يحيد رغم الاختلاف عليه والخلاف معه من قبل بعض المفكرين والتيارات الأخرى التي كالت له الاتهامات وجردته حتى من عباءة الدين ، وهذا ما استغربه، وحينما سأله أحد الصحفيين سؤالا مفاده، لو قُدِّر لك العودةُ إلى الخلف، فهل تود أن تكون عبده خال الذي أراه أمامي الآن؟ فأجاب قائلا :نعم، أود أن أكون عبده خال لكن مع شيء من التعديل وهو عدم مواجهة التيار الديني، حيث أفقدتْني تلك المواجهات صحتي ،وهذا رد يدل على تصالحه مع النفس، وتقويمِها وقبوله لها كما كانت وكما هي مع الندم على ما أوقعه في صراعات أثرت على صحته وأنهكت فكره وعطلت إبداع قلمه.. ولا زال للحديث شجون مع الروائي العالمي عبده خال.. حفظه الله