يلتقط وجهه من المرآة المنصوبة أمامه , ويشربه سؤال : إن كان راضيا عن ملامحه المجهدة !! إن كان راضيا عن حياته حتى !!
كان مساء الجنوب – الدافيء - يغرق الطريق المتهالك بالعتمة؛ والمقاهي التي تنتشر على جانبي الطريق تشعره أن هناك بشراً يقاسمونه السهر .. بشر ترتسم على وجوههم سحنات تدل على غربتهم .. وبقايا دكاكين ومحطات مقفرة تبكي رحيل روّادها إلى مكان بعيد .. بعيد!!
يتجاوزها للفراغ المعتم الذي يتجلى أمامه .. إلا من نجوم تزجي ارتعاشها الأزلي لمآقي الليل , لذا يرعش ذاكرته بأغان منسية، يدندن بها وسط غاراتٍ حنينية ؛تكرّ عليه طوال امتداد الطريق .!!
في السابعة صباحاً كانت شاحنته تهوي بقلبها على طريق الخوبة .. استقبلته (( الزهوب )) الممطرة بالنسيم ؛لذا أطفأ رنة شاحنته على باب مستودع الشيخ سالم .
رمى عليه السلام بتثاؤب ..
لم يعره أي اهتمام .. كان منكبا على مراجعة أوراق وحسابات لذا لم يكن مهيأ لرد السلام على أحد !! تجارته شهدت انخفاضا طفيفاً.. ربما !!
اقترب منه ونقر على الطاولة : صباح الخير شيخ سالم ..
أزاح الكرسي المهترىء للخلف ومد يده مصافحا : اهلا ولدي محمد .. صباح النور .
البضاعة وصلت شيخ سالم .
خير إن شاء الله خير .. اترك العمال يتولون عملية إفراغها .. ولا تنس الموعد .. أعني رحلتك إلى صنعاء .. اتصل بي حسين الشيباني _ أمس _ بشأن شحنة الإسمنت ويريدها غدا !!
تركه متكوماً خلف مكتبه بعد أن تعبت عيناه في فهم نفسية هذا الرجل وانفعالاته الدخانية السادرة ..!
مشى إلى سكن العمال بتثاقل .. كان منهكا كغصن انحنى قبيل الغروب .. رمى برأسه المحتشد بحكايات الطريق .. توسد أنفاس تعبه ونام .
في الخامسة عصراً استيقظ على دوي الرعود .. الأمطار تدثر الخوبة بأشواقها .. عاد للمستودع تحت زخات المطر .. كانت شاحنته مهيأة للرحيل صوب الاخضرار .. ارتمى خلف مقودها وسار مغمورا بفرح طفولي!
وفيما الليل ينتصف مرايا الزمن ؛كان الشذى يخافق قلب محمد هاشم .. يجوب به المدى .. ويدق في ناقوس عينيه : ( لا بد من صنعا ؛وإن طال السفر )) .