عند انتصاف النهار ، كان دكان الحلوى محطتنا الأخيرة قبل أن يتجه كُلًّا منا إلى بيته .
لم يكن كأي دكان في محيط السوق . كان عالماً سحرياً ،يقصده الأطفال فيتمتعون بحلواه المميزة ،وكعكه اللذيذ.
أمام الدكان رصت مجسمات لحيوانات وطيور ملونة، وكنا نلج داخله عبر باب محاط بألوان قوس قزح براقة .
في الداخل ، تتزاحم - على الرفوف - بطرمانات زجاجية، تختلف ألوانها باختلاف ألوان الحلوى التي تحويها .. من يتأملها يخال أنه غارقٌ في عيدٍ من الألوان المبهجة .
وسط الدكان كانت ترص طاولات توضع عليها صواني الكعك والبسكويت التي كانت تُشكل عجينتها ،ومن ثم تُخبز لتكون بأشكال الطيور والحيوانات والأزهار .
وتزين فيما بعد بالسكر المذاب الملون أو السكر المطحون.
وكان صاحب الدكان رجلاً عطوفاً ، مرحاً يلاطف الجميع ولذلك أصبح ترددنا على دكانه من طقوسنا اليومية .
أيام الأعياد كانت لها أجواؤها المختلفة التي لا تشبه غيرها ؛ حيث كانت الموسيقى تضفي على الدكان جواً مختلفاً لا يحدث إلا فيها .
يحرص صاحب الدكان في الأعياد على أن يعزف للأطفال على قيثارةٍ غريبة الشكل، بظهرٍ يشبه كثيراً ظهر السلحفاة ، تنبعث ألحان شجية من بين الأوتار التي تلاعبها أصابعه بمهارة، فيطرب الصغار ،ويشاركونه الغناء .
ببساطة ،كان الأطفال كل عالمه ،وكانوا أيضاً نقطة ضعفه ؛ أحبهم كثيراً ، وكان يحلم أن ينجب العديد منهم .
حين تزوج صاحب دكان الحلوى الفتاة التي أحبها و وقعت عيناه عليها أول مرة وهي تدخل دكانه لتشتري الحلوى ، لم يكن في حسبانه أن رحمها لم يُخلق لحمل الأطفال .
ولسنوات عديدة ،ظل الاثنان مستمرين في محاولاتٍ بائسة لإنجاب الأطفال . لجأ الاثنان للأطباء ،العرافين ، والمشعوذين .
تناولا أدوية عديدة ،وأعشاباً كثيرة ، وكل ذلك لم يحقق مسعاهما في إنجاب طفل .
ولأنه أحبها ،ولم يكن يطيق بعادها ، فقد اتخذ قراراً حاسماً أن يضع عاطفته نحو الأطفال جانباً ، مكتفياً بممارسة أبوته مع الأطفال الذين يترددون على دكانه.
ومثل بقية الأطفال اعتدتُ التردد على دكان الحلوى، لكني لم أكن مثلهم ،فلم أكن دوماً أملك المال لشراء الحلوى ،إذ ولدتُ يتيم الأب، وكانت أمي تخدم في بيوت الأغنياء من أجل تأمين قوت يومنا . كانت نقود الحلوى ترفاً لا تستطيع توفيره لي دائماً ، وفي كثير من الأحيان كنت أدخل الدكان مع بقية الصبية مكتفياً بجو المرح وسماع الغناء والحكايات .
اعتاد صاحب الدكان على حفظ أنواع الحلوى التي يُفضلها كل طفل منا ، وشيئاً فشيئاً كانت تلك الحلوى تكتسب اسم الطفل بمرور الوقت .
الفرح الذي يشعر به كل طفل منا وهو يسمع اسمه يُطلق على الحلوى ،كان فرحاً لا يعادله فرح! ظلت أسماء أصحابي تُطلق على الحلوى والكعك واحداً بعد الآخر. ولأني لم أكن من الأطفال الذين يشترون الحلوى بانتظام ، أو لأني كنت أختار أنواعاً مختلفةً من الحلوى في كل مرة ،بحسب ما كنت أملكه من نقود فقد تأخر إطلاق اسمي على أي نوع من الحلوى . بدأ بعض الصبية يتندرون على ذلك .
أحزنني الأمر .. ولكني تناسيته في النهاية ، فما بيدي حيلة ،وليس بمقدوري تغيير الحال.
وكم من ليلة نمت فيها وأنا أحلم بوجه أبي الذي مات قبل أن أولد ، وياللعجب لم يكن وجه أبي المزعوم في الحلم إلا وجه صاحب دكان الحلوى!
في أحد الأيام ،وبعد أن انتهينا من اللعب في الأزقة، عرجنا على دكان الحلوى .
يومها كانت جيوبي خاويةً تماماً من أية قطعة نقدية ، ولكني دخلت مع بقية الصبية الذين انطلق كل واحد منهم مفتشاً عن حلواه المفضلة ، وبقيت أتفرج على ألوان الحلويات المكدسة .
كان صاحب الدكان مشغولاً في إعداد مساحة على الطاولة الأمامية التي اعتاد أن يرص عليها صواني البسكويت المخبوزة .وبعد أن حصل معظمنا على حلوياته ،وقبل أن نخرج، استوقفنا صاحب الدكان بطريقةٍ استعراضية قائلاً : انتظروا ، أعددت اليوم كعكاً جديداً ، لم يسبق لكم تذوقه من قبل .
وقام بإحضار صينية مغطاة بقطعة قماش ،أزاحها بعد أن جعلنا نردد كلمات سحرية مضحكة.
وما أن كشف عن حلواه الجديدة ،حتى جحظت عيناي ،وتسمرت في مكاني وأنا أتأمل جمال وروعة تلك القطع !
كان صاحب الدكان قد خبز كل قطعة منها على شكل شجرة ،ورسم أوراقها وفروعها بألوان خضراء وبنية ،وأضاف لها قطعاً من العنب المجفف، فبدت الكعكة كشجرة مثمرة لذيذة.
ومثل بقية أصحابي ، سال لعابي ،ولكني تذكرت جيبي الخاوي من النقود .
بقيت واقفاً ،أتأمل أيدي الجميع وهي تمتد بالنقود لصاحب الدكان ،وبالأيدي الأخرى تلتقط قطع الكعك وتلتهمها مباشرة.
وفيما كان هذا الصخب والهرج مستمراً ، وفي لحظة جنونية غاب فيها عقلي ،امتدت يدي بين بقية الأيادي دون تفكير ، وبحركة سريعة ،اختطفت إحدى القطع ووضعتها بخفة داخل فمي وأبقيته مغلقاً دون حراك حتى لا يشعر بي أحد .
تسللت خارجاً من الدكان قبل الجميع ، وتوقفت متوارياً في أحد الأزقة ،وهناك بدأت في تحريك فمي، متناولاً قطعة الكعك التي سرقتها للتو . ذابت في فمي ،وشعرت بها تختلط بلعابي . كانت هشة ولذيذة الطعم ، يغلب عليها طعم القرفة والزنجبيل المخلوطين بالسكر . بقيت استحلب طعمها في فمي ، متمنياً ألا ينتهي ، ولكن مثلما تنتهي الأشياء الجميلة سريعاً ،فقدت الطعم اللذيذ للقطعة ،وحل مكانه طعمٌ مر لم أطقه !
لم أنم تلك الليلة .
بقيت أتقلب في فراشي ،يتناهبني إحساس الذنب لما فعلت.
وفي منتصف الليل شعرت بآلامٍ في بطني كادت تقطع أحشائي.
أدركت على الفور أن تلك الآلام كانت جزائي على ما اقترفته من سرقة .
بقيت أتألم متحاشياً أن أصدر أي صوت قد يُشعر أمي بما أكابده من أوجاع .
وحين خفت آلام بطني قليلاً ، نمت منهكاً ؛ فحلمت بصاحب الدكان وهو يصفعني بعد أن اكتشف سرقتي .
كنت أصرخ من الوجع وما بين صفعاته ظللت أكرر كلمات الاعتذار التي لم يقبلها - كما يبدو- حيث استمر في توجيه صفعاته لي .
أفقت مذعوراً ،وقررت أني ما أن يأتي الصباح فسأذهب لصاحب الدكان وأعتذر له عما فعلت ، وسأطلب منه تكليفي بأي عمل أقوم به في دكانه حتى أستوفي له ثمن الكعكة التي سرقتها منه .
وبمجرد أن أشرقت الشمس، نهضت من الفراش ، وخرجت من البيت مسرعاً، متجهاً نحو دكان الحلوى .
وجدت أصدقائي قد سبقوني إلى هناك ، فبدأ قلبي يدق سريعاً ،حتى شعرت بأنه سيخرج من صدري .وما إن وطئت قدماي المرتعشتين إلى الداخل، حتي أصاب الخرس لساني ولم أجد الشجاعة لأن أنطق حرفاً واحداً .
بقيت محملقاً في وجه صاحب الدكان، دون أن أُبعد عينيّ عنه ، وفي كل لحظة كنت أتخيله ينظر إليّ بعينين غاضبتين يتطاير منهما الشرر!
بقي صاحب الدكان يمازحنا ،ويحدثنا كعادته ، مستعرضاً أنواع الحلوى التي خبزها اليوم .وفيما كان رفاقي يحصلون على الكعك والحلوى التي يحبونها ، فكرت أنه من الأفضل أن أحدثه على انفراد بعد مغادرة الجميع ، فربما وقتها أستعيد شجاعتي ،وتنفك عقدة لساني،وعندها أتقدم معتذراً منه على ما فعلته.
استدار رفاقي نحو الباب ،وبقيت أنتظر خروجهم . ولكن، وبشكل مباغت، استوقفهم صاحب الدكان بصوت عالٍ وأمرنا أن نتقدم نحوه .
بلعت ريقي ،وتقدمت مع الجميع ..
بقي رأسي مطأطئاً إلى الأرض وداهمني شعور بالخزي والعار ، وتمنيت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض ، وتمتد منها ألف ذراع وذراع فتجرني إلى بطنها، وتغلق عليَّ دون أن أتمكن من رؤية نظرات الاحتقار واللوم في عيون أصحابي .
أشار صاحب الدكان إلى ذات الكعك الذي سرقته قائلاً : لقد قررت اليوم تسمية الكعك الذي تذوقتموه بالأمس باسم أحدكم ، فقد كان أكثركم إعجاباً به.
زاد اضطرابي وكنت على وشك أن أفقد وعيي . أكمل صاحب الدكان إعلانه مبتسماً ،وهو ينظر في وجهي :
- وهذا المحظوظ هو (صاحب الحلوى)
ونطق اسمي مشيراً إليّ!