ضغط سائق حافلة شيربروك 24 على مكابح الفرامل بقوة شديدة أثر سماعه ضحكة هستيرية قوية ..قوية جداً، يخيل لسامعها أنها ليست بشرية بل صادرة عن كائن آخر من تحت الأرض مثلاً أو كوكبٍ آخر أو كائن خرافي خارج من كتاب عتيق للأساطير و الحكايات المخيفة... و للحقيقة، لم تكن ضحكة بالمعنى المألوف بل هي أقرب لصرخة مكلوم أو أنين مكتوم!
ساد الحافلة المزدحمة بعد ذلك صمت مطلق و لم يتحرك أحد من مكانه لأن السائق لم يتوقف في أي محطة بل هو توقف طارئ لإستجلاء ما حدث للتو.
وإذ بسيدة شابة رسوم الحسن بادية على محياها برغم مظهرها الرث و نظارتها السميكة، المكسورة الذراع والمثبتة بخيط ملفوف عدة مرات،
يبدو عليها أنها تحمل هموم الكون على رأسها وحتى داخل حقائبها الثلاث المتضخمة وكأنها تحمل فيها جميع ملابسها و ممتلكاتها في هذه الحياة،
تطلب منه بصوت منخفض أن يفتح الباب لتخرج.. تردد السائق ثم استجاب لطلبها..
جمعتني بها الصدف عدة مرات في نفس الحافلة رقم 24 و تبادلنا ابتسامات و تحيات من بعيد و في كل مرة يذوب قلبي شفقة عليها و أتخيل ألف حكاية و حكاية عن حقيقة وضعها .. أهي معنفة أسرياً؟ أهي مطلقة ومحرومة من حضانة صغارها؟ أم مجرد حسناء فقيرة ومتشردة؟
إلى أن رأيتها ذات مرة في حديقة ويست ماونت العامة الواقعة على شارع شيربروك، وقد بدا أن أحد كراسي الحديقة وما حوله من عشب و شجيرات صغيرة قد تحول لسكن لها، تأوي إليه بعد التجوال اليومي بالحافلة، فتستريح من حمل الحقائب و تستمر في محادثة نفسها أو محادثة أشخاص تتخيل وجودهم وبين الفينة والفينة تهتز أشجار الحديقة و أغصانها وأوراقها و زهورها بقوة ضحكاتها الهستيرية..
لمحتني من مسافة قريبة .. ابتسمت ولوحت لي بترحاب...
ترددت فيما بدا لي دهراً... هل استجمع شجاعتي وأغتنم الفرصة لأقترب أكثر وأحادثها، و أشبعفضولي بمعرفة قصتها؟
أم أرضى من الغنيمة بالإياب وأدع الخلق للخالق وهو أرحم الراحمين؟
و قبل أن أصل إلى قرار، أقترب منها شابان مفتولا العضلات في ملابس بيضاء رسمية، و أخرج أحدهما ورقة و أراها إياها، و بكل استسلامٍ بدأت تجمع ما تناثر من أشيائها في حقائبها الثلاثة ..
أحضرني قلبي بقربها قبل أن يذهبا بها وقد صارت الرؤيا أمامي ضبابية و قد اختلطت دموعي برذاذ مطر خفيف و كأن السماء تبكي معنا..
لدهشتي الشديدة مدت يدها لي بورقة صغيرة وهمست:
" أرجوك أن تزوري قبر صغيرتي بدلاً مني كلما سمح وقتك!"