باقات زهور الأوركيد والليليوم الأبيض المنسقة بإهتمام واضح تجمل المكان و تزيد من جو الإحتفالية بالكنيسة العتيقة التي اكتمل وصول المدعوين إليها من الأصدقاء المقربين وبعض الأقارب لحضور مراسم زفاف مارية وعدنان، لبى الجميع الدعوة بحبٍ وحماس و تمنيات صادقة بالسعادة و بالذات لمارية، اتخذ الجميع أماكنهم المحددة و قد علت وجوههم ابتسامات مشرقة و كأنها تبعث للعروس موجات طاقة إيجابية كبيرة، كانت بأمس الحاجة إليها..
بقدها الممشوق، ووجهها المستدير كبدر التمام الذي تحفه خصلات رقيقة التموج، متدرجة اللون بين الكستنائي والذهبي و البني الغامق، لم يكن من السهل أبداً أن يخمن الناظر إلي مارية أنها قد تجاوزت الخمسين بقليل، و ما أقوى الإحساس بمضي السنين بالنظر للوراء، بعد أن يعيشها الإنسان بحلوها و مرها، بالأزمات و الأوقات الصعبة و بلحظات الأنس و الفرح.
تزوجت مارية في الخامسة والعشرين من أحمد،المهاجر العربي وأستاذها الجامعي، لم تبعدها شعيراته الفضية التي تلألأت كنجمات في شعره الأسود، بقدر ما جذبها صوته الرخيم ووسامتهالآسرة، و هو يشرح لطلبته قصائد ديكنزنون أو مسرحيات شكسبير و يناقش روايات أوستن و مونتغموري و أتوود و باترسون وغيرهم، وكم سرحت أثناء محاضراته متخيلة نفسها وفارسها عاشقين كأبطال الروايات الكلاسيكية، الخالدة.
عاشت معه في "تبات و نبات" لعقد واحد من الزمن .. ثم جعلته ذبحة صدرية يغادر دنيانا، تاركاً وراءه أرملته الحسناء وريحانتين صغيرتين قد اختلط الشرق والغرب في حسنهما وذكائهما.
اقتربت صبية متأنقة وتحمل باقة ورد صغيرة، من العروس، بدت مترددة ثم همست لها:
" ماما! لدي خبر سيء!"
"سارا أرجوك لا تلعبي بأعصابي وهاتي ما عندك بسرعة!"
"لن تستطيع أختي لاورا حضور الحفل، لقد أرسلت لي رسالة نصية للتو."
" أهي بخير؟ هل حصل لها شيء؟"
" لا تقلقي أبدا ماما، لاورا بخير تماماً، تقول أنأمراً طارئاً منعها من الحضور."
كان ذلك مطلباً صعباً، فالقلق والخوف يفترسان قلب مارية، ليس فقط على إبنتها، و لكن أيضاً على عريسها عدنان الذي كان لابد وأن يكون معها منذ وقت مبكر.. هل وقع له مكروه منعه من الحضور؟ أم تراه أحجم عن مشروع الزواج برمته؟
لكنه قد أكد لها مراراً وتكراراً أنه يحبها من سويداء قلبه.. فقد أحبها من أول نظرة .. منذ أن التقيا في المدرسة الليلية، هي كمعلمة للغة الإنجليزية للمهاجرين الجدد و طالبي اللجوء السياسي لكندا، و هو الطالب العربي الشاب الذي أشتد أوار الحرب في وطنه و فُزِّعت حمامات السلام فيه فحلقت خارج حدود الأسوار حاملة بقايا أرغفة خبز و كرامة، زوّادة حتى تصل لبر الأمان.
لم يستطع فارق السن بينهما أن يحصل لنفسه على أي أهمية تذكر، ولم تتطاول العشرون عاماً كحاجز منيع بينهما، فقد كانت أمواج الحب الجارف بينهما أكثر علواً وكثافة..
هل كان ممكناً ألاّ تسلمه مفاتيح قلبها المشتاق مجدداً للحنان ودفء المشاعر بعد سنوات الترمل الطويلة، وقد أهداها عقود الياسمين بأريجها الفواح وأطعمها حبات التوت ولآلئي الرمان وأزكى التمور وأحلاها؟
كم داعب خيالها بجولات أسطورية على جناح طائر الفينيق الخالد، بين البتراء والعلا وبعلبك، وأهداها أحلى أبيات غزل جميل بثينة ومجنون ليلى ونزار قباني! ونصَّبها نفرتيتي حيناً، وبلقيس حيناً آخر على عرش قلبه الذهبي... سلمته قلبها ومعها أرقام حساباتها البنكية لتزداد فرصته في الحصول على الجنسية الكندية صلابة وتقوى حجته القانونية بقوة رصيده البنكي.
عادت سارة – ولكن هذه المرة مهرولة- تجاه أمها العروس، ومن بين دموعها المنهمرة، ناولتها بصعوبة بالغة هاتفها الجوال وقد سطعت على شاشته من تطبيق الإنستجرام صورة عروسين شابين في غاية الإبتهاج و قليل من الأصدقاء يحتفلون معهم بزفافهم على متن مركب يتهادى بخفة على نهر سان لوران.