"سأنتظركَ هنا" قصة للكاتب البحريني محمد أبو حسن
تردد على المكان كعادته بين فترة وأخرى عله يجد ضالته، جاء في الصباح الباكر وفي صدره بصيص من الأمل. وقف بالقرب من مدخل العمارة وهو يتأمل المارة وكأنه أضاع شيئا ما، يركز بصره في الحي فلا يرى غير أرصفة تكسوها وريقات الشجر الذابلة. وقف طويلا حتى يئس كعادته. الوقت صيف، أخذ يبحث عن مكان يستظل فيه، جلس عند تلك الشجرة العتيقة يأنس بظلالها، فهي تشبهه كثيرا في ثباته وصموده أمام ثقل هذا الزمن المشحون بالآلام، إيه.. متى يستريح؟
جلس عندها ليستريح مع عربته الخشبية ثُلاثية العجلات، والمحملة ببعضٍ من الفواكه والحلاوة التي يبيعها لأطفال المدرسة في هذا الحي. يعرف المكان جيدا. عندها تنهد طويلاً وهو يتذكر الأطفال كيف كانوا يمزحون ويلعبون حوله، إنهم نعمة وجمال الدنيا.
صدى صوتهم ومشاكساتهم اللطيفة حكاية جميلة تمتد طيلة النهار وهو جالسٌ تحت هذا الظل. لكن الطفل محموداً ذا الثمان سنوات كان كثير المزاح معه لأنه تعلق به كثيرا، اعتاد أن يناديه دائما جدو، جدو.. أحبك كثيرا.. لماذا لا تأتي معي إلى البيت؟ هناك أختي الصغيرة ليلى وأخي أحمد، سنلعب معا في الحديقة. فيصمت، أها.. قل لي إنك تخاف أن أغلبك! أنا أتحداك. هيا نذهب جدووو.. هيا، ابتسم طويلا، لكنه بكى وحاول أن يداري دموعه حين تذكر فقدان طفله الوحيد ذي الثلاثة أعوام وهو يلعب هنا قرب هذه الشجرة. تذكر حين ذهب ليجلب له بعضا من الحاجات لتلك العربة، وحينما عاد إلى المكان لم يجد أحدا!. يومها بحث عنه في كل الأماكن وكأن هذه المدينة المارقة ابتلعت طفله عن سابق إصرار وتصميم. لملم جرح الماضي ثم
نهض من مكانه ليواصل سيره قاصدا بيته الصغير المتهالك الذي ضمه مع شريكة حياته.
كان الاثنان معا روحا وجسدا واحدا لم يفارق أحدهما الآخر. يعينان بعضهما فيما يمران به من قسوة حياتهما. جاءت تلك الليلة الرطبة الخانقة، ارتفعت حرارتها، اصفرّ لونها، مرت بأربعة أيام سوداء، لم ينفعها الدواء ولا زيارات المستشفى، حانت لحظة عناقهما الأخيرة لينحني عليها مودعا تلك الروح الطاهرة وهي لم تتحمل فراق ولدها، وجدها شاخصة العينين بلا حراك في ذلك اليوم المشئوم، بعدها فارقت الحياة. لم يستسلم للزمن رغم قسوته ومرارته، ورغم وحدته وهو في الخمسين من عمره، لم تعد لديه الرغبة في جر هذه العربة التعيسة. ينظر إليها فيتذكر زوجته التي كانت تهيئها له لتضع عليها كل ما يريد بيعه لينطلق إلى المكان فيجلس عنده. هكذا كان أبو علي ذلك الرجل الطيب نشطاً ودوداً لمهنته التي أحبها طيلة حياته.
أخذ يناشد بقايا الأمل المرتبك في روحه للعثور على ذلك الطفل الذي أخفته الأيام، فهو لا ينسى تلك اللحظة التي ترك فيها ابنه وحيدا، والتي كلفته فلذة كبده، فأخذ يتردد على ذات المكان وهو يتذكر كلماته الأخيرة (أبي سأنتظرك هنا) هذه كانت كلماته الأخيرة.
هو هنا الآن وسيستمر، سوف يحدق في وجوه المارة صباحا ومساء وفي كلّ الفُصولْ.