أبحرتُ في قصيدة الشاعر المبدع غازي القصيبي رحمه الله؛ بهدف الوقوف على أهمِّ الأبعاد الفنية التي تجوهرت في قصيدته المتفردة ؛التي أطلق عليها تسمية(حديقة الغروب)؛ومن خلال تلك المعايشة الساعية لاكتشاف تلك الأبعاد المتشابكة في رسم خارطة النص ؛ومجريات أحداثه ؛استخلصت أبرزها وفقاً لهذا التقسيم النقدي:-
البعد النفسي ؛البعد الاجتماعي ؛البعد الديني؛ والبعد الوطني ..
وفي هذه الرحلة كنت أستشفُّ مِسحة الحزن التي غلفت أبيات القصيدة؛فأتأثر بذلك الجوِّ النفسي الذي أحاط به أثناء ميلاد نصِّه ..
إنَّ اختياره للكلمات الموحية ؛وبراعة تصويره للتجربة؛ تميَّزتْ بدقة الشعور ورهافة الإحساس.
تأسس بناء قصيدته تلك على فكرة توديع كل الجسور التي تربطه بالحياة الفانية؛ ابتداء من أقرب الناس إليه ؛زوجته ؛عائلته ؛وطنه ؛وكأنه أحسَّ بدنو أجله؛وآن الأوان للرحيل الأبدي.
في تلك القصيدة ودع الدنيا بحذافيرها على طريقته الإبداعية الخاصة المستقلة؛ على أنَّه شاعر فذ يمتلك البلاغة ؛وبعد النظر؛ والقدرة على التصوير ؛وفي تشبيهاته البيانية مايؤيد ذلك.
ففي أبياته الأولى؛ استوطن البعد النفسي فبدا مخاطباً فيها نفسه متسائلاً عن عدد سنين رحلة العمر "خمس وستون في أجفان إعصار"؛ وكأنه يخبرنا بأنه كلما أراد الهدوء والراحة ؛واجه من جديد أعاصير من الحياة؛تفرض عليه أن يجدد عراكه معها ؛ويصف لنا العناء الشديد الذي شهده في مسيرته الطويلة؛ ويعود بذلك لنفسه مستفهماً بقوله:- أما سئمت أيها الساري؟!
يحدث نفسه أما مللتِ؟! أما تعبتِ من أعدائك؟!
ثم ينتقل الشاعر لوصف مشاعره لزوجته الوفية في فتوته وشبابه وقوته؛إذ لم تتغير أو تتبدل؛ فمشاعرها ثابتة كما كانت في أطوار حياته المختلفة ؛في حالَي مرضه ؛وضعفه؛ولذلك شبه حبها بالندى الذي لولاه لأصبح جائعاً عارياً ..
ومن شدة هذا الحب الذي يبادلها إياه
تمنى البحر أن يكون قافيته التي يستقي منها الكلمات ؛ومحبرته الغيوم؛ وأن هذا الأفق الواسع يتجلى بأشعاره التي يكتبها فيها شعره ...
ثم أردف قائلاً
إن ساءلوك فقولي كان يعشقني
بكل ما فيه من عنف وإصرار!
وكان يأوي إلى قلبي ويسكنه
وكان يحمل في أضلاعه داري
وإن مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً
لكنه لم يقبل جبهة العار!
وإن سألوها عنه بعد رحيله إلى الدار الآخرة ؛عليها أن تعترف لهم بأنه كان يعشقها عشقاً صادقاً ؛ويلزمها أن تقول للجميع بدون مواربة بأنه كان بطلاً؛ ولكن ليس بطل معركة ما؛ وإنما البطل الذي لم يرضَ يوماً أن يلبس ثياب الذل والمهانة والغرور ؛ولم يبع مبادئه وقيمه بثمن بخس؛راضخاً لجبروت ظالم مُستعبد..
وأنت يا بنت فجرٍ في تنفسه
ما في الأنوثة من سحر وأسرار
ماذا تريدين مني إنني شبحٌ
يهيم ما بين أغلال وأسوار!
وابنة الفجر التي يشير إليها هنا هي ابنته؛ ومن هنا يبدأ البعد العائلي فابنته هنا توحي بالأنوثة من شدة سحرها وجمالها؛ فهو يسألها:- ماذا تريد منه؟! وبشبه نفسه هنا بالشبح؛ وكأنه يلفت النظر لرحيله القريب أو نهايته المحتومة ؛وقد شبه نفسه بفصل الخريف؛ كناية عن الجفاف والذبول والفناء
وإذا كانت الطيور تهاجر عند قدوم هذا الفصل؛فإن عمره كالورد الذي يذبل .
إنه يشتاق للأيام التي تصرمت من عمره؛ ويبكي عهد الشباب الذي انقضى سريعاً، ويقول لابنته أن لا تتبع خُطاه؛وأن تكتفي بقراءة ما كتبه.
ويا بلادا نذرتُ العمر زهرته
لعزها دمتِ إني حان إبحاري
..
تركت بين رمال البيد أغنيتى
وعند شاطئك المسحور أسماري..
إن سائلوك فقولي لم أبع قلمي
ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري..
وإن مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً
وكان طفلي ومحبوبي وقيثاري
وفي هذه الأبيات تتجسد لنا ملامح البعد الوطني؛ فهو يصف حبه الشديد للوطن؛ الوطن الذي نذر عمره له ؛ويبثُّ إليه خبررحيله القريب في قوله:- إني حان إبحاري..
وأنه سيرحل تاركاً بين رمالها الذهبية وصحرائها أغانيه؛ وكلماته التي سطرها في الوطن العظيم؛ والتي تعبر عن مدى حبه له -
و إذا سألوه عن القصيبي فليقل عنه إنه لم يبع قلمه؛ ولم يدنس أفكاره بأفكار مزيفة بل كان طفل الوطن محبوب الوطن الذي قام بإفناء عمره في حب بلاده ووطنه -
يا عالم الغيب ذنبي أنت تعرفه
وأنت تعلم إعلاني وإسراري..
وأنت أدرى بإيمانٍ مننتَ به
عليَّ ما خدشته كل أوزاري ..
أحببت لقياك حسن الظن يشفع لي
ايرتجى العفو إلا عند غفار..؟!
وتتسم الأبيات الأخيرة من القصيدة بنزعة دينية واضحة المعالم ؛طابعها العام الابتهال إلى الله؛ والاعتراف بين يديه بالخطايا والذنوب التماساً للرحمة والمغفرة من لدنه..
وترقرقت معاني الاستعطاف في هذا المقطع ؛كتفويض الأمر لله؛وإحسان الظن بعدالته وإنصافه ورحمته الواسعة ؛والرضى بقضائه وقدره ؛وفيها تجلى عنصر الخضوع لله والضراعة للذي يعلم الأسرار وخفاياها ؛أن يتجاوز عنه وأن يُحسن خاتمته وهو في طريقه إلى لقائه..
ومما يميِّز هذه الخاتمة المؤثرة أنها جاءت كفصل الخطاب؛متزامنة مع إحساسه بنهايته؛وانقضاء أجله؛وانتقاله إلى العالم الأخروي..
رحم الله الشاعر القصيبي وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة ؛ولله ما أخذ ولله ما أعطى..