تحمل أسماؤنا هويتنا الأصلية التي يعبر منها الآخرين نحونا للتعارف أو المحاسبة وتحديد نوع العلاقة وحدود التواصل المباشر أو عبر وسيط كتابي مقروء، أما التخفي خلف قناع إسم مستعار بصفة دائمة أمر قابل للتأويل وضبابية التصور للشخصية التي كان هذا خيارها، ويتوازى هذا الخيار مع ثقافة المجتمع ووعيه ومدى صلاحية المحيط للانكشاف أو التخفي للتعبير عن الرأي بحرية أكبر وتحقيق الذات وهذا متعب نفسيا لصاحب الرأي لأن الارتباط الفطري بالهوية الأصلية منذ الولادة يسبب الانسلاخ عنه ألم نفسيا وتشظي داخلي يؤدي لارتفاع وتيرة القلق ولكن الاسم المستعار يخضع لمعيار الحرية الشخصية للأديب أو الكاتب وقياس المساحة التي تمنحه بعض الهدوء والحماية للتعبير كما يريد ويرغب.
وتعود مسألة استخدام الأسماء المستعارة لها بعد زمني قديم في عمق التاريخ، ويظهر جليا في الأدب العربي والغربي القادم الينا من سجلات عصور مضت، فالأسماء المستعارة التي لجأ إليها البعض معروفة، بل وطغت في كثير من الأحيان على الاسم الحقيقي، مثلا جميعا نعرف "الفرزدق" ونعتقد أن هذا هو اسمه الحقيقي، وقلة من يعرفون أن اسمه همام بن غالب بن صعصعـة التميم، كما عرف الشاعر «مسلم بن الوليد» بلقب «صريع الغواني»، والشاعر ثابت بن جابر بلقب «تأبط شرا»، وعرف الشاعر عبد السلام بن رغبان الحمصي بلقّب «ديك الجنّ».
كما يعرف معظمنا الكاتب فولتير، لكن قلة من يعرفون أنه الكاتب الفرنسي فرنسوا ماري أرويه.
وأمام هذه الأسماء التي أشرقت على العالم بفكرها وجماليات شعرها ونثرها وأصبح لها بصمة خاصة وهي خلف اسم مستعار ولم يقلل ذلك من قيمتها بعد معرفة الاسم الحقيقي.
إذا نجد أنفسنا أمام سؤال عميق؛ ما هي العوامل التي دفعت بعض المؤثرين لاستخدام الأسماء المستعارة؟
فقد انتشر التخفي خلف الأسماء والرموز والتواقيع المستعارة وسط الأدباء والكتاب والصحافيين العرب قديماً خوفاً من البطش العثماني، ثم تحول الأمر لاحقا إلى ما يشبه العادة الثقافية، وبعد زوال ذلك العهد عكف الأدباء والنقاد على البحث بين المجاهيل الأدبية حتى يعيدونها إلى أصحابها حفظاً للحقوق الأدبية والفكرية.
ولعل من العوامل التي دفعت المثقف إلى أن يستتر وراء توقيع واسم وهمي:
1- تأخر المجتمعات وعدم تقبلها للفكر الآخر بعيدا عن النقد غير المنصف والتجريح.
2- الخوف أو الخجل من الظهور وعدم الثقة بالنفس.
3- اللجوء للتخفي والاستعارة للبوح عما في الخاطر بعيداً عن الأذى والتجريح.
4- رغبة بعض الأدباء في تجريب واختبار أنواع وأساليب مختلفة دون مواجهة التحيز من القراء.
ولم يقتصر استخدام الأسماء المستعارة على الرجل بل حتى المرأة الأديبة نزعت إلى ذلك، فقد اختارت العديد من الأديبات التخفي خلف أسماء رمزية ومستعارة للأسباب التالية:
- التحرر من القيود المجتمعية، خصوصاً أن العادات والتقاليد تمنع المرأة من الجهر بمشاعرها، فكان الاسم المستعار سبيلاً لها لقول ما لا تستطيع قوله باسمها الحقيقي،
- القصائد الغزلية، التي يرى البعض أنها تحط من قيمة المرأة اجتماعياً، فبقيت تصارع بين كتم مشاعرها، أو إظهارها بأسماء وهمية، وكان أول صدور لديوان شعري للمرأة في المملكة قد حمل اسما مستعارا.
- حماية الأسرة من إي اسقاطات تنالها بسبب الكتابة والتعبير بحرية شخصية خاصة في المجتمعات المحافظة جدا والمنغلقة على ذاتها وتعتبر كتابة المرأة نوع من التمرد والخروج عن القاعدة وقوانين هذا المجتمع.
ومن النساء اللاتي كتبن تحت اسم مستعار "مي زيادة" التي كتبت تحت عدد من الأسماء المستعارة منها عائدة وإيزيس كوبيا، وأيضا الكاتبة د عائشة عبد الرحمن " بنت الشاطئ".
ومن تجربتي الخاصة كنت يوما ما أكتب تحت اسم مستعار" بنت الريف" الذي اخترته منذ كنت في الصف الثاني متوسط في بداياتي حتى لا أعرض عائلتي لأي حرج أو تجريح ربما يسقط عليهم بسبب ما أكتبه ولأن كتابة الفتاة عيب، حتى نهاني والدي عن ذلك وطلب أن أكتب بإسمي الحقيقي وكانت وجهة نظرة أن حرية الرأي والتعبير حق مشروع والوضوح يجنب الزلل. وقد فقدت الكثير من كتاباتي بل قرأتها تحت أسماء أخرى ولم أستطع المجابهة أمام تنكر من استطعت التواصل معه للتخلي.
وبحسب عدد من النقاد العرب فإن المرأة الشاعرة أصّلت ذلك النوع من الأدب، وساهمت في انتشاره جراء اختيار عدد من الأديبات التخفي خلف أسماء رمزية ومستعارة للتحرر من القيود المجتمعية، خصوصاً أن العادات والتقاليد تمنع المرأة من الجهر بمشاعرها،
إلا أن الكتابة باسم مستعار عرض الموروث الفني القديم للضياع بسبب تخفي أصحاب كثير من الأعمال الغنائية التي انتشرت في ستينيات القرن الماضي بأسماء مجهولة، ومنها نصوص شعرية، وأعمال فنية غنائية، بسبب عدم معرفة أصحابها، وهو ما أفسح المجال أكثر لظاهرة السطو وسرقة اللحن والأغاني القديمة، لأن «انتشار تلك الفنون مجهولة التأليف أو التلحين تعود إلى أن عدداً من الأسر ترفض وجود أبنائها في الوسط الفني لمخالفتهم ما تراه أعرافا وقيما دينية». والأمريشمل كافة الأجناس الأدبية الأخرى. وهذا من أكبر المخاطر على الأعمال الأدبية
وقد تم رصد 450 اسما مستعارا لأدباء سعوديين، من بينهم من اختار أكثر من عشرة أسماء مستعارة للكتابة تحتها وثمة قائمة طويلة لكتاب عرب تخفوا لسنوات كثيرة خلف أسماء مستعارة، بعضهم كشف لاحقا ومتأخرا عن اسمه الحقيقي، وبعضهم بقيت دائرة عارفيه في نطاق الأصدقاء المقربين، فقد اضطر كثير من أصحاب المناصب العليا سياسيا واجتماعيا وبينهم وزراء ودبلوماسيون وأمراء إلى الاستعانة بأسماء مستعارة. حتى شغلت حيزا كبيرا جدا من عدد الأعمال الأدبية المحصورة والمجهولة المصدر.
وفي الختام لا يمكن مصادرة حق أي انسان في الكتابة بالطريقة والأسلوب الذي يختاره، والكتابة باسم مستعار، يدخل الكاتب في دوائر كثيرة ربما يصعب الانكشاف على الآخرين بعد الدخول فيها، البعض يرى الاسم المستعار سجن وحالة انطوائية على الذات الحقيقية، وربما يكون فضاء للانطلاق دون حساب المخاطر أو التبعات وكل هذا يخضع لحالة الانعتاق أو الابتعاد والجغرافية النفسية للكاتب ومقدرته على التعايش مع كافة مكوناتها صعودا أو هبوط وربما الاكتفاء بالطفو على السطح بلا تأثير.