السماء تدثرت بسحاب أسود، تسوقه رياح الربيع بفرح عارم، حتى بللت المكان برذاذ حليبها الناعم. ألوان قوس قزح تدلت على المكان في مشهد ينضح جمالا ورقّة، وأزهار نيسان البيضاء والبنفسجية نبتت بين ساقي الخشبيتين. اعشوشب المكان حتى غطّى الصخور الرمادية بالخضرة. عبق السنديان ينزُّ بين حناياي فيختلط مع قبلات الأحبة وحكايا العاشقين. حنين اللقاء والأجواء جمعت العشاق في حضني الدافئ بعد فصل بارد وجاف، بعدها يغادروني تاركين بقايا جوري أحمر ورائحة عطر فاخر فيعود الصقيع على سطحي بالتوهج.
في سويعات الأصيل يضج الممشى بالنساء والأطفال، وبخطى أصحاب الكروش المتدلية ، الذين يبذّرون دقائق معدودة ثم يلقون بثقلهم عليّ كي يستريحوا ساعة، بعدها يغادروني تاركين نتانة عرقهم، وبقايا قوارير ماء خالية ، وفتات كعك وبسكويت أدنياهما بغير قصد نهبا لعصافير الأشجار. أكثر ما يضايقني أن يستريح على صدري من هؤلاء المارة ساعة، ثم يخرج علكة دبقة من فمه بعد أن ملّت المضغ ويلصقها في خاصرتي! استغرب من هؤلاء الكائنات التي تدخر الشحوم في كروشها ومؤخراتها ثم تحاول التفريط فيها خلال ساعة من نهار ! كائنات لا تمل الأكل حتى وهي تمشي أسنانها لا تتوقف عن المضغ! وحين يهجع المكان بعد أن قرض سواد الليل آخر فتات النهار يهجع المكان إلا من صنصنة الجنادب وفراش مبثوث يتراقص على انتصاب أعمدة الإنارة المتباعدة التي تبث ضوءاً شحيحاً على المكان. كل شيء يشح في هذا المكان وكأنها عدوى تسري في الأوصال، حتى أصبح في مهب الخراب. شح المياه وشح النظافة جعلت المكان مأوى للكلاب الضالة والجرذان، ومن لفظته الشوارع فغدوتُ مسكنا وفراشا له. المكان يسع الجميع فهذا الرجل العجوز الذي ينام في حضني بعد أن أثقل في الشرب حد الثمالة وهو يحتضن قارورة الخمر، تقفز القطة على وجهه في مشهد يبعث على النفور ، وتلعق خده ووجهه وهو في سبات عميق، فقد اعتادت شخيره كل يوم في هذا المكان ، ثم تلعق بقايا القارورة حد الارتواء ، بعدها تتمطى على بطنه وتنام. وما أن ينبلج الفجر حتى يتساقط الذباب على وجهه ويستيقظ بتأفف وهياج. يزيح القط عن بطنه ثم يرفع القارورة ويهزها ، يفتش عن آخر قطرة فيها ثم يرميها ويتمطق. بعدها ينهض ويذهب إلى داخل المدينة كي يفتش عن بقايا طعام أو يستجدي المارة باسترحام.
***
هذه الليلة أتى العجوز على غير موعده يتراقص في مشيته وهو في أوج انتشائه وسكرته، ارتمى بثقله في أحضاني ، سقط رأسه على صدره وهو مغمض العينين، تبسم قليلاً ثم أخرج ريحا استمر طويلاً أشبه بمفرقعات نارية. بعدها أخذ ينزّ بوله حارّاً حتى أغرقني به وهو يتبسم بخبث. بللني حد الغرق تماما كمن شرب برميل خمر. أخذ يسعل ويسعل حتى تقيأ كل مافي جوفه، حاول الوقوف بصعوبة بالغة ولكن قواه خارت فارتد على قفاه، فارتطم رأسه بحوافي المدببة وتمدد علّي محتضنا بوله وقيأه ، وزاده الدم بلّة في مشهد يبعث على الأسى والقرف.
مضى أسبوع ولم يُسعفه أحد! كان الجميع يمر من أمامه ويعتقدون بأنه نائم، أو كانوا يتعامون عن موته ، فمثله فائض عن الحاجة والمدينة ممتلئة بالمشردين أمثاله. انتفخ بطنه حتى انفجر، تقاتل الدود والذباب ، والنمل، والغربان على جثته ، فضجّ الممشى من رائحته . أتت الشرطة والإسعاف بعد بلاغات متكررة من رائحة عفنة تفوح في المكان. تم إقفال المحضر قبل فتحه وتسجيل حالة موت لرجل مجهول ولسبب مجهول وتم نقله إلى المقبرة فورا دون تشريح!
مضت أيام قبل أن تخف حدّة الرائحة. لم يعد للمكان أُلفة دافئة أو حنين رطب سوى تباريح الغبار والأوراق المتفسخة ، والفصول تترى وأنا كقبر مفتوح يهفو إلى جنازةٍ طازجة، أشتاق إلى سماع حفيف الأثواب ومواءات القطط ، أشتاق إلى نقر العصافير وهي تأكل بقايا الفتات في حجري، بل صرت أشتاق حتى إلى نتانة العرق الذي ينزّ من الأجساد المترهلة، المهم أن يوليني أي أحد الحد الأدنى من الاهتمام فأنا كائن أتوجع من كابوس الغياب.
في صباح يوم قائظ أتى إلى المكان كتيبة بائسة من العمال، مدججين بالمطارق والمعدات، أخذوا ينبشون المكان، ويقتلعون الصخور والأشجار ، سحقوا الأعشاب والذكريات الجميلة، وصلوا نحوي رفعوا مطارقهم أرادوا تفتيت أوصالي التي سرى فيها الخوف، فأشار إليهم كبيرهم بأن يتوقفوا ! فكأن القدر كان لي كريما في ساعة نحس، أتى لمعاينتي ، تفحصني جيداً، تأملني طويلاً، رفع قبعته وحك رأسه كمن يستذكر معادلة صعبة. أخذ يضرب على كل خشبة في جسدي، والعمال ينتظرون أوامره، تمنيت أن يكون لي في هذه اللحظة أياد كالبشر كي أبتهل بها لخالق السماء كي لا يؤذيني. تراجع قليلا ثم أمر عمّاله بحملي ووضعي في صندوق شاحنته. حمدت الله كثيرا ولكني بقيت على وجل، لا أعرف مصيري ، ولكن ما أنا واثق منه أنهم قطعوا حبل مشيمتي بالمكان، وسأفارقه إلى الأبد.
بعد الظهيرة وبعد انتهاء ساعات العمل، قادني إلى خارج المدينة ، كنت أرى الأشياء تصغر وتصغر حتى تلاشت في الرمال. مشينا قرابة الساعة حتى وصلنا إلى مستودع لخردوات الأخشاب. أنزلني اثنان من الرجال حتى ناءوا بحملي. قبض ثمني البخس على عجل ثم رحل غير آسفٍ عليّ.
بقيت أياما معدودات حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه مسامير خاصرتي وظهري مبثوثة في المكان تتناشج بحسرة، قطعوني أوصالا متفرقة، ركموا سواعدي وساقيّ على ظهري وبطني، حتى تاهت ملامحي. حملوني بعدها إلى ماكينة ضخمة، يُسمع أزيزها من بعيد، أدخلوني في جوفها المظلم قطعة قطعة ، مررت على آلة حادة سنفرت ظهري وبطني ، خرجت منها وقد جلت أوساخ السنين ، بدوت في منظر لامع تماما كمن لبس ثوباً قشيباً. بعدها تم نقلي إلى طاولة عريضة بها أنواع كثيرة من الدهانات والأصباغ النفيسة. أخذ العامل يمرر فرشاته الدبقة ويغرقني بألوان السنديان الزاهية حتى غدوت ناصعا كبطن عروس.
بعدها حملني بعناية فائقة وأدخلني في غرفة بها أضواء صفراء ساخنة. بعد ساعة أخرجني منها وقد جف الدهان. أعاد الكرة ، أشربني الدهان حد الشبع، ثم أعادني في الغرفة. بعد ذلك حملني إلى عامل آخر ولكن هذه المرة كانت العناية أكبر، تم تغليفي بورق فاخر ، ثم وضعني في صندوق تم إغلاقه بإحكام.
حُمل الصندوق في سيارة وسارت بي مسافات طويلة. بعدها حُملت في وسيلة أخرى كنت أسمع من خلالها أصوات النوارس والعصافير. تناقلتني الأيدي والوسائل، جالوا بي الديار والمحيطات، حتى نزلت في مكانٍ ينشر الارتياح، مكان يشي بقصر منيف ينضح عطراً وبهجة، انتشرت في باحته سجاجيد حمراء تدوسها أحذية لامعة، وأشخاص في بذلات وفساتين ضيقة راقية أنيقة، وألحان هادئة وعذبة سرت في المكان.
تم فتح الصندوق، وتم تجميعي مرة أخرى ولكن بشكل مغاير، بشكل مربع زواياه قائمة، وبجانبي مجموعة كثيرة بنفس الشكل. بعدها تم نصبنا على جدار القصر الرخامي ، وهكذا انتهى بي المطاف بعد أن كانت أضلعي الخشبية مكانا يليق بالعاشقين والمشردين، أصبحت بروازا لصورة نفيسة رسمها فنان مبدع في متحف أوربي فاخر وكبير .