هذا الموضوع كان محاضرة ألقيتها على طلبة الدراسات العليا لمرحلة الدكتوراه بقسم اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للعام الجامعي 1437هجرية .
فن القصة القصيرة جدا أو ما يختزله النقاد بقولهم : ( ق ق ج ) ولو حاولنا تفكيك هذا المصطلح لوجدناه يتكون من ثلاث كلمات تحمل الأولى دلالة نوعية , وتحمل الأخريتان دلالات كمية , وعموماً فهي جنس أدبي حديث , نص سردي إيحائي تصويري يصف حالة نفسية أو حسية , يركز القاص على التقاط الحدث وإعادة قراءته ثم إعادة خلقه من جديد .
ويمتاز هذا الفن بقصر الحجم , والإيحاء المكثف , والنزعة القصصية الموجزة ووحدة المقطع والتصوير , والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث . بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار والدهشة والمباغتة والمفارقة
وقد أطلق على هذا الفن تسميات عدة وإن شئت سمها مصطلحات وذلك لتطويق هذا المنتوج الأدبي تنظيراً وكتابة , والإحاطة بهذا المولود الجديد من كل جوانبه الفنية والدلالية
ومن هذه التسميات : القصة القصيرة جدا , ولوحات قصصية , وومضات قصصية , ومقطوعات قصيرة , ومشاهدة قصصية والخاطرة , والقصة القصيرة الشاعرية , واللوحة واللقطة , والكبسولة والبرقية , والقصة المفاجئة , وغير ذلك .
وفي هذا يقول جميل حمدان : وأحسن مصطلح أفضله لإجرائيته التطبيقية والنظرية وأتمنى أن يتمسك به المبدعون لهذا الفن الجديد وكذلك النقاد والدارسون هو مصطلح ؛ لأنه يعبر عن المقصود بدقة ما دام يركز على ملمحين لهذا الفن الأدبي الجديد وهما : قصر الحجم والنزعة القصصية . كما أنه يترجم المصطلح الإسباني المعروف المعبر عن هذا الجنس الجديد في مجال السرديات الأدبية ( Microrrelatos ) . ويعني هذا المصطلح الأجنبي المحكي القصير جدا، أو السرد القصير جدا، أو القصة القصيرة جدا.
ومما لا شك فيه ولد هذا الفن أو هذا المصطلح وإشكالياته معه إذ شهدت الساحة الأدبية في الوطن العربي أزمة حقيقية حول هذا تسمية هذا المصطلح بـ ( القصة ق ق ج ) مهدت الطريق للخلاف بين المشتغلين في هذا الحقل وأرى أن سبب هذه الأزمة مردود إلى الترجمة أعني ترجمة هذا المصطلح بهذا الاسم بسبب اختلاف القيم الثقافية والحضارية والتعددية الفكرية بين الأمم .
يرى الدكتور/ عبد الوهاب المسدي أن المصطلح المنقول من اللغات الأجنبية إلى العربية لا بد أن يمر بثلاث مراحل هي : التقبل ثم التفجير ثم التجريد . ويضرب أمثلة على هذه المراتب :
Deviation كانت العدول في مرحلة التقبل ثم فجرت عن طريق الترجمة إلى الخروج عن المألوف عن اللغة , وصارت بعد تجريدها الانزياح .
Prose poem تقبلها الباحثون بأنها الشعر المنثور وفجرت بنثر القصيدة أو النثر الشعري ثم جردت إلى قصيدة النثر .
Allegory هي الإليكورية تعريباً وتقبلاً ثم صارت الاستعارة المؤسسة بعد الترجمة والتفجير وغدت المجاز أو القصة الرمزية بعد التجريد .
ويقف الدارسون والنقاد من هذا الفن موقفهم المعتاد نحو كل جديد من مثل : شعر التفعيلة , وقصيدة النثر , فقد تباينت الآراء حول الكتابة في هذا الفن , فمنهم من رفض هذا جملة وتفصيلاً وهم المحافظون المعارضون لهذا الجنس , وهناك الحداثيون المرحبون بكل الكتابات الثورية الجديدة التي تنزع نحو التكييف والتغيير والتجريب والإبداع , معتبرين هذا الفن مولوداً جديداً لابد أن يحل في مكانه اللائق به بين كل الأجناس الأدبية الموجودة داخل شبكة نظرية الأدب .
وثمة فريق ثالث كفرقة المرجئة في علم الكلام يتربص ويترقب ويتحفظ في آرائه , فهو لا يريد أن يبدي رأيه بجرأة وشجاعة بل ينتظر الفرصة المناسبة ليعلن رأيه بصراحة سلباً أو إيجاباً .
وإني أعترف بهذا الفن الأدبي الجديد وأعتبره مكسبا لا غنى عنه، وأنه من إفرازات الحياة المعاصرة المعقدة التي تتسم بالسرعة والطابع التنافسي المادي والمعنوي من أجل تحقيق كينونة الإنسان وإثباتها بكل السبل الكفيلة لذلك.
وعندما نتحدث عن هذا الفن من حيث تطوره فإننا نجد منتوجاً إبداعياً حديث العهد ظهر مع أرنست هيمنقواي سنة 1925م حيث كتب قصة تتكون من ست كلمات : { للبيع . حذاء لطفل لم يلبس قط } , وكان يفتخر بهذا النص الإبداعي القصير جدا .
وكتب أوجستو مونيتيروسو مجموعته ( الديناصور ) وفيها : { حينما استفاق كان الديناصور ما يزال هناك } , وأحفظ للمكسيكي لوي فيليبي : { هل نسيت سيدي شيئاً ما ؟ إن شاء ربي }
ويزعم جون بارث في مقدمة كتابه الذي ضم مجموعته القصصية انه أول من قدّم هذا النوع من القصة القصيرة وهي ( كان يا ما كان , كان هناك قصة بدأت ) ويقول : هذه أقصر قصة قصيرة في اللغة الإنجليزية وعددها بلغتهم ( عشر كلمات ) .
وتفاجئنا نتالي ساروت الكاتبة الفرنسية بأول نص قصصي قصير جدا بعنوان ( انفعالات ) عام 1932م وكانت أول بادرة موثقة علمياً لبداية القصة القصيرة جدا , وأصبحت نموذجاً يحتذى به في الغرب .
ولكن الحقيقة أنّ ثمة كتّابا آخرين كتبوا هذا الجنس الأدبي قبل ساروت بثلاثة عقود وأكثر أمثال : أليكس فينونAlex vinon وأدغار ألن بوEdgar Allan Poe ، ولكنهم ما أسموا قصصهم بقصص قصيرة جداً ، وحتىّ ساروت نفسها أسمتها ( انفعالات ) ولكن فتحي العشري عندما ترجمها في مستهل سبعينيات القرن الماضي أسماها ( قصص قصيرة جداً ) وبذلك تذهب الريادة إلى ساروت .
وفي العالم العربي ظهر هذا الفن في منتصف القرن العشرين في العراق وسوريا وازدهر في المغرب منذ التسعينيات وسنوات الألفية الثالثة استجابة لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المعقدة والمتشابكة التي أقلقت الإنسان وما تزال تقلقه وتزعجه , ناهيك عن عامل السرعة الذي يستوجب قراءة النصوص القصيرة جدا والغزو الإعلامي الرقمي والإلكتروني والمثاقفة مع الغرب وترجمة نصوص القصاصين الغربيين وغير ذلك ..
وكانت البداية مع جبران خليل جبران في كتابيه ( المجنون والتائه ) , كما انتشرت في الأربعينيات عندما نشر القاص اللبناني توفيق يوسف عواد مجموعته القصصية ( العذارى ) عام 1944م واحتوت على قصص قصيرة جدا سماها( حكايات ) ونشر القاص العراقي خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا ضمن مجموعته ( القطار الليلي ) الصادر عام 1975م .
ومن الرواد كذلك : بثينة الناصري من العراق فقد أوردت في مجموعتها القصصية ( حدوة حصان ) الصادرة عام 1974م قصة سمتها ( قصة قصيرة جدا ) , وحسن برطال من المغرب .
ومن السعودية فهد المصبح في مجموعته القصصية ( الزجاج وحروف النافذة ) وحسن بن علي البطران في مجموعته ( نزف من الرمال ) وسهام العبودي في مجموعتيها ( خيط ضوء يستدق ) و ( ظل الفراغ ) .
ويرى د / جميل حمدان أن ولادة فن القصة القصيرة جدا كانت ولادة عراقية على غرار ولادة قصيدة التفعيلة مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة . ولكن على الرغم من ذلك، فإن القصة القصيرة جدا لم تتبلور باعتبارها جنسا أدبيا جديدا ولم تثر الجدال الفكري والإبداعي حول الاعتراف بمشروعيتها في ساحتنا الثقافية إلا مع بداية التسعينيات من القرن العشرين في دول الشام وخاصة سوريا ودول المغرب العربي بما فيها المغرب الأقصى وتونس.
وهنا يتبادر لأذهاننا سؤال هل عرف العرب القدماء هذا الفن ؟
يمكن أن نجد لهذا الفن جذوراً عربية تتمثل في السور القرآنية القصيرة والأحاديث النبوية وأخبار اللصوص والبخلاء والمغفلين والحمقى وأحاديث السمار والعشاق علاوة على النكت والأحاجي والألغاز ونوادر جحا .. ويمكن التناص مع هذه النصوص لقراءتها والتعرف إليها كتجارب سردية .
هاكم نصاً من سورة هود قال تعالى : (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي , وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين )) من يتأمل هذا النص يجد أن عناصر القصة القصيرة جداً قد تحققت واستفادت من تقنيات القصة الفنية من تكثيف ووحدة الحدث والقصصية واختزال المكان والزمان ثم الاستهلال المدهش والقفلة التي أنهت الحدث بطريقة مدهشة واللغة الشعرية التي شكلت عنصراً أساسياً في التكوين البنائي للقصة القصيرة .
ومهما كان الأمر، فالثابتُ حقا أن بين القصة القصيرة جدا وتراثنا السردي أكثر من تقاطُع مثلما بينهما أكثر من اختلاف. وقد اكتفت سعاد مسكين بالوقوف عند ثلاثة من فنون هذا التراث مِمّا يُعتقد أنها أقربُ إلى تلك القصة، وأوْضَحُ حضوراً فيها، تاركةً الإلمامَ بفنون حكائية أخرى تتلاقى – هي الأخرى – مع القصة القصيرة جدا في جملةِ أمورٍ، وعلى رأسها النادرة والأسطورة والخرافة والتوقيع والقصة الحيوانية . وقد خصَّ جاسم إلياس هذه القضية بوقفة مطوّلة في الفصل الثاني من كتابه { شعرية القصة القصيرة جدا} فتحدث عن أن الخبر في أصله تاريخ، وهو نوعٌ من التفصيل لحادث ذي قيمة في حياة الجماعة . وأعني الخبر الإبداعي لا الوعظي من خلال ربْط الواقع بالخيال وذلك لاسْتِثارة المتلقي، فمن هذا الكلام نستطيع تلمُّس بعضَ سمات الخبر في تراثنا السردي؛ إذ إنه قصة مركزة ذات مرجعية تاريخية في طابع التركيز والإيجاز، وفي ارتكازهما على حادث بعينه تترابَط عناصرُ التعبير عنه عُضْوياً، وتتناغَم داخلياً
ولكي يتحوّل الخبر إلى قصة بصفة عامة، اشترط النقاد شُروطاً، أبرزها :
* أن يكون للخبر أثر أو انطباع كليّ . * أن يصور حدثاً يتطور. * أن ينموَ نحو نقطة معينة
ويَلُوح من بين الأنواع السردية التراثية فنٌّ آخرُ لا تخطئ العين ما بينه وبين القصة القصيرة جدا من وشائج دعتْ دارسين إلى اعتباره أصْلاً من أصولها المحتمَلة .. إنه النُّكتة التي تختلف عن الخبر على أكثر من مستوىً؛ إذ إنها ليست خبراً مباشراً أو نقداً مباشراً، وإنما هي عبارة عن تلميحة لشيء خفي ، ولهذا ينبغي أن تكون هذه التلميحة واضحة حتى يتمكّن السامعُ منْ أن يملأ الفجوات من تِلقاء نفسه وبسُرعة .
فالواضحُ أن اثنتين من خواصّ النكتة المذكورة في هذا التعريف تحضران في القصة القصيرة جدا كذلك، وهما اعتماد أسلوب التلميح والإيماء، وتعمُّد التثغير؛ أي ترْك فجوات، أو { مناطق لا تحديد } داخل النص، ليملأها المتلقي بوصفه عنصراً مشاركاً في إنتاج الدلالة، وليس مجرد مستمع أو قارئ يستهلك النص المعروض .
وأضافت سعاد مسكين ، إلى هاتين الخصيصتيْن، خصائص أخرى تتقاسَمُها النكتة والقصة القصيرة جدا، وهي : اللعب والسخرية، واعتماد أسلوبية خاصة ترتكز على الذكاء في انتقاء الكَلِم القائم على سرعة الخاطر، والحدث الخاطف، والعبارة الظريفة الباعِثة على الابتسام في نهاية المطاف . ولكنهما يختلفان من حيث الأداء في الجمالية والاشتغال اللغوي، ويظلان نوعين سردييْن مستقلين بكيانيْهما بصورةٍ يُؤمَن معها الخوف من ذوبان الأقدم منهما في الأحْدَث.
ورصدت سعاد مسكين، في كتابها علاقة القصة القصيرة جدا بنوع أدبي تراثي آخر، هو الأمْثولة ؛ أي القصة المَحْكية على لسان الحيوانات باعتبار ذلك قناعاً أو تكتيكاً لتمرير رسائل محددة قد لا تسمح إكراهات وظروف مّا بالتعبير عنها بلغة التقرير والوضوح .
إن قصص الحيوان تلتقي بالقصة القصيرة جدا في استخداماتها الرمزية، واتخاذها الحيوانات مُعادِلاً موازياً لرؤية القاصّ، وإعطاء صورة مكشوفة في الظاهر ودلالة مَخْفية في الباطن. وتبلغ نسبة التحول من قصص الحيوان إلى القصص القصيرة جدا نسبتها المطلقة عند بعض القصّاصين؛ ومنهم القاص السوري زكريا تامر، والقاص العراقي طلال حسن في كتاباته القصصية القصيرة جدا للأطفال .
إن الأمثولة، في تراثنا فنّ شبْه سردي، أو نصف سردي إن صحّ التعبير؛ لأنها تنبني تركيبياً على مستوييْن هامّين : مستوى سردي عبارة عن حكاية على لسان حيوان تستهدف غاية أخلاقية وتربوية، ومستوى آخر عبارة عن تقرير حكْميّ لهذه الغاية بعبارةٍ مركزة تتخذ في الغالب شكلَ مَثَل سائر أو حكمة .
وتحضر الأمثولة داخل القصّة القصيرة جدا بصورتين تتوخّيان معاً التعبير إيحائياً عن المغزى المنشود، بدلاً من المُباشَرَة التعبيرية . فأما إحدى الصورتين فتكمُن في السرد الخالص على حين تتمثل الثانية في الحوار المباشر بين الشخصيات الحيوانية. مما يجعل القصة القصيرة جدا استعارة كبرى تَصْدم أفق انتظار المتلقي وتبْعَثه على الإحساس بالدهشة والغرابة .
ويضيف جاسم إلياس إلى ما ذكرته الناقدة سُعاد أنواعاً سردية تراثية أخرى تشترك مع القصة القصيرة جدا في بعض النقاط والأمور بقدْر ما تختلف عنها في مسائل وخواصّ أخرى . ولعل ذلك التشابُه هو الدافع الموضوعي الذي حدا ببعض ناقِدينا إلى افتراض تأثر تلك القصة ببعض مقوّمات الأنواع المُشار إليها ومنها – على وجه الخصوص – النادرة والأسطورة والخرافة .
فالأولى تسجيل حرفي لحدث اجتماعي أو تاريخي غير مألوف يتصف بالغرابة والإدْهاش تمتاز بقِصرها النسبي، وذات محتوى يحْكمُه مغزى تدور حوله النادرة إما في شكل انتقاد أو سُخرية من وضْع ما أو من نمط من أنماط الشخصية وإما في شكل عِظَة إنسانية.
ويكون أبطالها عادة من الظرفاء والسكارى والبخلاء والمغفلين والأذكياء، وتغلب عليهم المفارقات التي تنتج عن البلادة أو الخُدعة . وبناءً على هذا الكلام يتضح أن ثمة جملة من خصيصات النادرة تحْضر بوُضوح، في القصة القصيرة جدا ونقصد – تحديداً – الإدهاش والمفارَقة والإيجاز والبُعد الرِّسالي والسخرية أحياناً من الوضع الماثل أمام البطل .
والأسطورة ، بوصفها حكاية تقدم تفسيراً بدائياً للكون والمعتقدات ومسار تطور الإنسان ونحو ذلك، تلتقي بالقصة القصيرة جدا في أكثر من نقطة ، لعل أهمها الوقوف بين التاريخ والخَيال . فلا أحدَ يظنّ أن الأسطورة حقيقة. ورغم أن هناك مَنْ يؤمن بها، إلا أنهم لا يَجْرؤون على البرْهَنَة على صِدْقها. لقد تمّ انتقاء الأسطورة بوساطة الذاكرة الشعبية، ثم اكتسبت استقلالاً أدبياً ذاتياً، وأحياناً ما تكون القصة القصيرة هي الأساس في الأسطورة. وهذا يحدُث عندما تشير أحداث القصة القصيرة ببطل فعلي أو تصوّري، لكنها جسدته في مكان وزمان معين، ووضعتْه في إطار تاريخي خادع .
ويفسر جاسم إلياس ذلك قائلاً : أي إن الأسطورة عملية خلق وإبداع أدبي إنساني تلتقي بالقصة القصيرة جدا؛ لأنها لا تستطيع صياغة خطابها بعيداً عن الرموز والمجازات التي تصوغ وفاءَها الفعّال لإنسانيتها من خلال التعبير عن المشاكل الشمولية التي تحيط بالإنسان بدْءاً من خلْقه وحتى بعْثه من جديد .
وتُعرّف الخُرافة بأنها (( حديثُ متعةٍ وخيال واسع خصْب يُثير الدهشة والإعجاب والذهول ... ربما كان الأكيد فيها مشجِّعاً على الإفاضة في الخيال، والإغراق فيه إلى درجةٍ تجعل المتحدِّث يبدو كالشيخ الذي أخْرَفَه الهَرَم، وفسد عقله، فبدا كالطفل لا يحاسبُه أحدٌ على ما يقوله )) .
ولا يجد الدارس كبير صعوبةٍ في تلمُّس جملة من معالم الخرافة في القصة القصيرة جدا، ولاسيما حضور المتخيَّل الإبداعي الخلاق، وتوخي البُعد الإمتاعي الجمالي، والحرص على الإدهاش وخرْق أفق توقع المتلقي . وقد أكد هذه العلاقة عددٌ من أعلام القصة القصيرة جدا، منهم الإسباني لويس مايثودبيت الذي أثبت أن (( القصة القصيرة جدا تلتقي مع الخرافة في قدراتها الدلالية والإيحائية )) .
بل إن منهم مَنْ لم يجد غضاضة في اعتبار الخرافة النوعَ الأدبي الأصل الذي انبثقت من رَحِمِه القصة المذكورة !
ويحدد النقاد ثلاثة معايير أساسية لكتابة فن القصة القصيرة جدا وهي :
** المعيار الكمي وهو معيار الحجم وهو الحاسم عند بعض النقاد في التمييز بين الأنواع السردية , ولو تتبعت الانطولوجيا في قراءة القصة القصيرة جدا وجدت أن هناك قصصاً قصيرة جدا , بلغ متنها { 4 كلمات } , وهناك قصصا قصيرة جدا , بلغ متنها حوالي { 270 كلمة } لكنني أخشى أن تتحول هذه إلى قصة قصيرة أو أقصوصة . بينما يتراوح المتوسط بين { 20- 80 كلمة } وهذا أجود وأمتع .
وينتج قصر الحجم عن التكثيف والتركيز والتدقيق في اختيار الكلمات والجمل والمقاطع المناسبة واجتناب الحشو والاستطراد والوصف والمبالغة في الإسهاب والرصد السردي والتطويل في تشبيك الأحداث وتمطيطها تشويقاً وتأثيراً .
** وهناك المعيار الشكلي الفني في كتابة القصة القصيرة جدا , فلا يتصور قصة من غير شخصيات أو أحداث أو زمكانية أو سردية , بل إنها تشترك مع أخواتها الأجناس الأدبية في الرمز والانزياح والتناص والأسطورة والإيحاء المكثف والفضاء والبنية السردية القصصية أو الحكائية واللغة الشعرية المكثفة والانتقاء والتركيز والتدقيق في اختيار الكلمات والجمل القصيرة واجتناب الحشو والاستطراد والترهل والابتعاد عن المبالغة في الإسهاب التصويري أو الحدثي .
**وهناك المعيار التداولي , وتهدف القصة من خلاله إلى إيصال رسائل مشفرة بالانتقادات للأنظمة الديكتاتورية , وللانقسامات الطائفية , والنكبات المتوالية ولأزمات الإنسان العربي المقهور والمستلب .
ويحدد الدكتور أحمد جاسم الحسين خصائص وسمات القصة القصيرة جدا في كتابه: { القصة القصيرة جدا } ، في أربعة أركان أساسية، وهي : القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف .
أما الباحث الفلسطيني يوسف حطيني ، فيحصرها في خمسة أركان أساسية ، وهي : الحكائية، والوحدة، والتكثيف، والمفارقة، وفعلية الجملة .
وإذا انتقلنا إلى المبدع السوري سليم عباسي ، فقد حصر ملامح القصة القصيرة جدا في الحكائية ، والمفارقة ، والسخرية، والتكثيف، واللجوء إلى الأنسنة، واستخدام الرمز , والإيماء ، والتلميح، والإيهام ، والاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها ، وقد ذكر هذه الملامح في الغلاف الخارجي الخلفي من مجموعته القصصية :{ البيت بيتك }.
أما الباحث السوري الأستاذ نبيل المجلي فقد جمع خصائص القصة القصيرة جدا في أرجوزة على غرار منظومات النحو والفقه والحديث ، فحصر أهم مميزاتها في خمسة عناصر أساسية وهي : الحكائية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، وفعلية الجملة .
وقد جاء ذكر السمات في أرجوزة القصة القصيرة جدا التي نظمها نبيل المرجلي، ووردت في كتاب د / يوسف حطيني" القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق":
سرد قصير متناه في القصر // كالسهم بل كالشهب تطلق الشرر // قد ميزتها خمسة الأركان // حكاية غنية المعاني // وبعدها يلزمها التكثيف // ووحدة يحفظها حصيف // واشترط الناس لها المفارقة // وأن تكون للحدود فارقة // وجملة فعلية، بها كمل // بناؤها، وحقه أن يكتمل.
** ويقوم فن القصة القصيرة جداً على تقنية التكثيف , فهو خلاصة الجماليات سواء أكان في اللغة أم في المضمون أم في العناصر أم في الإيحاء , وهم يشبهون التكثيف بالرصاصة في صغر الحجم وكبر الفعل أو كالطين الذي يمسك مداميك البناء .
يقول عبد القاهر الجرجاني عن البلاغة والإيجاز: (( إجاعة اللفظ وإشباع المعنى ))
والتكثيف يعيدنا إلى تعريف القصة المركز , قد تكون القصة ق ق ج سطراً أو سطرين تحوي عقدة بكلمة وشخصيات بضمائر وزماناً ومكاناً ضمنيين ويكون الحدث ما بين بداية داهمة وقفلة مفتوحة بما تحمله من إدهاش ومفارقة ولغة شاعرية موحية حينها تكتمل كل مقومات القصة القصيرة جدا .
ويذهب صبري مسلم إلى تحديد خطوات يستخدمها القاص للوصول إلى التكثيف الشديد في القصة القصيرة جدا وهي :
= الجمل القصيرة المركزة ذات الطابع الموحي والمختصر في أسلوب سردها . = والقدرة على الإيحاء والتعبير والإشعاع بأكثر من دلالة .
= الاقتصار على اقل عدد ممكن من الشخصيات.
= تركيز الحوار أو الاستغناء عنه إذا أمكن ذلك .
= شحن الجملة القصصية بالصورة الفنية التي تؤدي دور وصف وتشي بالمعنى وتنم عنه .
= اختزال الحدث القصصي وينطبق على التركيز المكاني والسقف الزماني للقصة القصيرة جدا.
= العناية الخاصة بالاستهلال في جذب القارئ .
= الاهتمام بنهاية القصة التي تعطي انطباعا مؤكدا نجاح القصة أو إخفاقها.
** ومن الاستخدامات التي تساعد القاص في تكثيف الحدث والموضوع هي الرمز والتناص, والإنزياح ( اللغوي, والفكري, والموضوعاتي), والاستعارة, والمفارقة بأنماطها المتعددة , وتسريع الحدث وجعله متوترا ومركزا لمنح القارئ خاصية التشويق والإدهاش فتستمد القصة القصيرة جدا خاصية قصرها- على هذا الأساس- من :1- طابع الشذرة بما فيها من تأمل فلسفي .
2- طابع المفارقة المستند إلى تعدد الدلالات والاستعارية.
3- طبع الإندغام بالشاعرية والأسطرة. بشرط أن تبقى محافظة على اشتراطاتها القصصية . استمعوا معي إلى قصة (عراق) لوفاء خرما :
دخلا دارتهما في بغداد. صاح الزوج : سرقوا كيس الرز! لطمت الزوجة خدها صارخة : بل سرقوا مصاغي.. خبّأت مصاغي في كيس الرز! رن جرس الدارة, وقفت بالباب امرأة تمد يدها بصرة وهي تهمس في خجل : خذوا ذهبكم , أطفالي جياع إلى الرز فقط .
= التكثيف في هذه القصة يعد عنصرا حيويا بما تنطوي عليه من مجازات وثنائيات تستحضر عند تحليلها أو قراءتها من فضاءات المحذوف أو الغائب أو المحتمل أكثر مما هو حاضر في لغتها ودلالاتها المباشرة .
ولذلك إذا لم يحسن القاص استخدامه فإنه يخرج القصة من دائرة الانتماء القصصي إلى دائرة الانتماء الشعري بانحرافها إلى التركيز على اللغة وضغط الحدث والموضوع بشكل غير مقبول كما في قصة (حفل) لسميحة خريس: في الليل أراقص الذكريات .
يلاحظ أثر التكثيف على بناء الشخصية التي يرسم لها القاص وجهاً واحداً، إلى جانب الشخصية المضادة التي تعوق مسيرة الأولى وتضيئها، وهنا يندر أن تظهر الشخصيات الثانوية في بنية القصة .
ويمكن أن نشير إلى قصة { الشخير} التي تقدم شخصيتين لا تظهر من سماتهما سوى الصفة التي يبني عليها الكاتب قصته، يقول السهلي في هذه القصة :
تحدثتُ إليه طويلاً.. شرحت نظريات عديدة.. شرقتُ وغربتُ.. ثم أوقفني عن الحديث شخيرُهُ
**الحذف وهو من التقنيات الرائجة في الكتابة الحديثة عموما والقصة القصيرة جدا على الخصوص، إذ يعمد القاص إلى استعمال نقط الحذف بأشكال متعددة أهمها استعمال النقطتين المتتابعتين، ولعمري يعد ذلك دعوة للقارئ من قبل الكاتب للمشاركة في بناء دلالة القصة، حتى يتخلص من سلبيته، ويكتسب صفة القارئ النموذجي، الذي لا يكتفي باستقبال المعنى بل يساهم بشكل فعال في بنائه، يقول القاص المبدع حسن بواريق، في قصة " لوحة " من مجموعته القصصية { دوائر الدهشة } :
وقف طويلا يتأمل لوحة لحمامة وديعة تحمل غصن زيتون.. فكك البرواز.. قص الخلفية.. طارت الحمامة.. صوب فوهة بندقيته نحوها.
**الشخصيات / يستغني كاتب القصة القصيرة عن ذكر أوصاف الشخصية وتحديد ملامحها الفزيولوجية والنفسية ، وعياً منه بضيق مجالها في القصة بل يكتفي بالتلميح والإشارة وغالبا ما يشيح النظر حتى عن الاسم أو الصفة أو تدقيق الهوية، ويعمد الكاتب بالمقابل إلى استعمال الضمير فقط ، ولعل ذلك يعد من آليات تحقيق التكثيف كذلك، وهذا ما لاحظناه في عدد من قصص دوائر الدهشة، ومنها { مأتم- تكريم- زغرودة...وغيرها }
يقول القاص في قصة { تكريم } : حملوه إلى حفرة وانفضوا.. كانوا كرماء، منحوه ثوبا ناصعا وقنينة عطر...
** الزمان والمكان :
من الألية التي فطن لها كاتب القصة القصيرة جدا من أجل تحقيق درجة عالية من التكثيف إهمال الزمان والمكان، فلم يعد الزمن في القصة القصيرة جدا ذلك العنصر المبني على التسلسل المنطقي المتدفق في اتجاه واحد قادماً من الماضي صوب المستقبل ليسهم في تنامي الأحداث تصاعدياً أو تنازلياً بل انكفأ على الذات الإنسانية يحاورها ويعتمل فيها وليمنح القاص هامشاً من الحرية في القدرة على بناء النص عن طريق كسر المألوف باستباق أو استرجاع الحوادث بحيث يجعلها تعايش زمن السرد مما يعطيه أيضاً الحرية في التصرف في بناء الأحداث السابقة أو اللاحقة .
والمكان العمود الفقري الذي يربط أجزاء العمل بعضها ببعض , فالقاص يتناول المكان فيصف الأمكنة والدور والمناظر الطبيعة وهو بذلك ينقلنا إلى مناكب مجهولة توهمنا في لحظة القراءة بأننا نرقد عبرها ونقطنها فالباقي من آثار قراءتنا لأي عمل ادبي خاصة السردي يمثل غالباً في أمرين : المكان ثم الشخصية التي تتحرك فيه .
**الرمز:
يعد توظيف الرمز من الآلية المستحبة لتحقيق التكثيف في القصة القصيرة جدا، فقد يغني رمز واحد بحمولة معرفية وإيديولوجية كبيرة عن صفحات من الكلام، وهذا ما انتبه له المبدع حسن بواريق في كثير من قصصه، فنجده مثلا قد رمز بالشمعة في قصة جبروت ، التي يقول فيها :
(( كانت الشمعة تسير أمام جحافل من التائهين، تقودهم منيرة لهم الطريق تحت أشعة الشمس... عاكستها ريح صرصر عاتية... خبأت شعلته...فحل الظلام في واضحة النهار)) . كما اعتمد على رمزية الحرف في قصة { رقابة } الصفحة15
التي يقول فيها :
(( في حركة لولبية، أفلت الحرف من قبضة المقص... قبل أن يستدير، عبثا حاول البحث عن كلمات تأبين للجمل المشنوقة )) .
** مفهوم الجملة الفعليـة :
تعد فعلية الجملة من أهم الأركان والتقنيات الشكلية الأساسية في فن القصة القصيرة جدا، وقد تنبه إلى ذلك بعض المنظرين للقصة القصيرة جدا، مثل: يوسف حطيني وجميل حمداوي على سبيل التمثيل والتخصيص . إذ تساهم في تحريك الحدث وتسريعه وتراكبه وتتابعه .
ونخصها بالذكر لأنني رأيت ميلا حادا يبدو لي قسريا نحو استخدام هذا النوع من الجمل .
إن المطلوب من القصة القصيرة جدا إيصال الدلالة عبر أقصر الطرق التي لا تخرج بالفن عن طبيعته الجمالية ، وبالتالي فإن إعطاء الأولوية لتطوير الحدث يتطلب استثمار الطاقة الفعلية للغة إلى أقصى حد ممكن؛ لأن إهمال ذلك من شأنه أن يؤدي إلى ترهل الحكاية وعرقلتها عبر سرد وصفي يكون أكثر قبولا في القصة القصيرة والرواية .
ويمكن الحديث ــ نحويا ولسانيا ــ عن أنواع عدة من الجمل، مثل : الجملة الفعلية والجملة الاسمية ، والجملة الرابطية ، والجملة الوصفية ، والجملة الظرفية ، والجملة الشرطية، والجملة المبنية، والجملة المعربة، والجملة البسيطة، والجملة المركبة، والجملة التي لها محل من الإعراب، والجملة التي لا محل لها من الإعراب ..
وتتميز الجمل الموظفة في معظم النصوص القصصية القصيرة جدا بالجمل الموجزة والبسيطة في وظائفها السردية والحكائية، حيث تتحول إلى وظائف وحوافز حرة بدون أن تلتصق بالإسهاب الوصفي والمشاهد المستطردة التي تعيق نمو الأحداث وصيرورتها الجدلية الديناميكية.
وإذا وجدت جمل مركبة ومتداخلة فإنها تتخذ طابعا كميا محدودا في الأصوات و الكلمات والفواصل المتعاقبة امتدادا وتوازيا وتعاقبا.
وتمتاز هذه الجمل بخاصية الحركة وسمة التوتر والإيحاء الناتج عن الإكثار من الجمل الفعلية على حساب الجمل الاسمية الدالة على الثبات والديمومة وبطء الإيقاع الوصفي والحالي والاسمي .
هذه قصة ( انفتاح ) للكاتبة الكويتية ليلى العثمان التي استخدمت الجملة الفعلية تقول :
(( سألت الزهرة رفيقتها : ــ لماذا تفتحت قبلي ؟ قالت الرفيقة بانتشاء :ــ فتحت قلبي للنور والمطر قبلك )).
ويلاحظ إقبال السهلي على استخدام الجملة الفعلية ، لأنه يدرك بفطرته الإبداعية أن هذا النوع من الجمل يصلح حاملاً للحدث السهمي السريع الذي تقدمه القصة القصيرة جداً، وإن كنا في قصصه نلمح ميلاً حاداً لاستخدام الفعل الماضي الذي يهيئ المشهد للنهاية، ويمكن أن نشير إلى قصة { إبصار} التي تحيل على قصة يعقوب عليه السلام ، إذ يكون الـ { هناك } / الوطن معادلاً لقميص يوسف عليه السلام :
(( انطفأ النور في عينيه ، وظلّ على تلك الحال عقوداً من الزمن.. قادته قدماه إلى هناك.. أحس فجأة أنه يغوص في الماء.. تحسس صفحة الماء.. وضعه على وجهه فارتد بصيراً )) **والقصصية : تتناول حدثاً محدوداً يتم إيصاله للمتلقي عبر لمحة خاطفة , يرصد القاص من خلالها شخصية ما تقود الأحداث منذ الكلمة الأولى بعملية تتنامى فيها الأحداث بوتيرة سريعة .
وقد يبدو هذا التنامي متباعداً أو مقطوعاً عن السياقات التي تنظم سير الأحداث إلا أنها تلتحم بالخط العام الذي يبدأ من الكلمة الأولى ولا ينتهي في الكلمة الأخيرة . بل يفتح آفاقاً جديدة من التأويلات , وتخليق النهايات التي تتعدد بتعدد القراءات .
**ويتميز الإيقاع القصصي كذلك بحدة السرعة والإيجاز والاختصار والارتكان إلى الإضمار والحذف من أجل تنشيط ذاكرة المتلقي واستحضار خياله ومخيلته مادام النص يتحول إلى ومضات تخييلية درامية وقصصية تحتاج إلى تأويل وتفسير واستنتاج واستنباط مرجعي وإيديولوجي .
ويتحول هذا النص القصصي الجديد إلى نص مفتوح مضمن بالتناص والحمولات الثقافية والواقعية والمستنسخات الإحالية خاصة عند الكاتب المغربي حسن برطال كما في( الثأر) و( ماسح الأدمغة) و( ثلاث زيارات لملاك الموت) و(ميركافا) و( الضمير المنفصل...لا يستحق أن يكون كلمة) و( مي شدياق)...، لذلك يحتاج هذا النص التفاعلي إلى قراءات عديدة وتأويلات مختلفة تختلف باختلاف القراء والسياقات الظرفية.
ويساهم التدقيق والتركيز في خلق شاعرية النص عبر مجموعة من الروابط التي تضفي على النص الطابع القصصي والتراتبية المنطقية والكرونولوجية، بله عن خاصية الاختزال والتوازي والتشظي البنائي والانكسار التجريبي .
**توظيف المفارقة ( الجمع بين المتناقضات والمتضادات ) تآلفا واختلافا قوامها التهكم والتهجين والأسلبة والانتقاد . نجدها عند عز الدين الماعزي في قصته الساخرة المفارقة (( قصص طويلة جدا )) :
(( كلّمته ابنته عبر الهاتف عن سر غيابه الطويل عن البيت ... قال : إنه في ندوة ثقافية يشارك بقراءات قصصية قصيرة سيعود بعد ثلاثة أيام .
قالت : كل هذه الأيام وأنت تقرأ القصص القصيرة جدا ؟؟؟ ))
يلاحظ أن الكاتب قد وظف في قصته المفارقة القصصية الإبداعية، وذلك عن طريق تشغيل الأضداد : طويلة جدا# قصيرة جدا ، غيابه الطويل# قراءات قصصية قصيرة . وتوقع هذه المفارقة دلالات القصة ومضامينها الإبداعية في منطق الاستحالة ، والتناقض غير المقبول عقليا.
** وتقوم المفارقة بدور مهم في قصص السهلي في مجموعته الجديدة، ومعروف أن المفارقة هي أحد الأعمدة التي لا غنى عنها في هذا النوع من القص، ويمكن أن نجد لها مثالاُ في قصة { القوس والنشاب} التي يقول فيها:
(( كلما ظهر سلاح متطور اشتروا منه الكثير، وبأعلى الأسعار، فعدوهم خبيث لا يؤمن جانبه. تكدّس السلاح لديهم.. ولم يعرف بعد لماذا تصر هذه العشائر حتى الآن على استخدام القوس والنشاب ))
ويمكن أن نلمس نجاحاً آخر للمفارقة في قصة { الضفة الأخرى} إذ تشي كل المقدمات بنهاية مختلفة، ولا يفضح العنوان السر، كما حدث في القصة السابقة، مما يجعل النهاية تحتفظ بقدرتها على الإدهاش :
(( كان يفصل بينهما نهر.. أراد أن يعبر النهر إليها.. لكن ينبغي له أن يتعلم العوم . ظل ردحاً من الزمن يتدرب، وعندما أتقن السباحة مات غرقاً قبل أمتار من الضفة الأخرى)) ص30.
غير أن مشكلة هذه القصة تكمن في أنها تشبه من حيث تركيبها الحكائي، وحوافزها المحركة للأحداث قصصاً أخرى، كـ{ المهلهل } ص 45، و{ حصاد} ص41، فهي تحمل في بدايتها بشارة التغيير، وفي نهايتها المأساة غير المنتظرة، وربما كان الكاتب يسعى إلى ترسيخ إيقاع الفقد الذي يشعر به، بعد أن فقد، كفلسطيني، أحد مفردات حياته الأساسية
** ومن حيث البلاغة ، يوظف الكاتب في نصه الأجناسي الجديد المجاز بكل أنواعه الاستعارية والرمزية من أجل بلورة صورة المشابهة وصورة المجاورة وصورة الرؤيا القائمة على الإغراب والإدهاش والومضات الموحية الخارقة بألفاظ إنشائية أو واقعية تتطلب تأويلات دلالية عدة لزئبقيتها وكثافتها التصويرية بالأنسنة والتشخيص والتجسيد الإحيائي والتضاد والانزياح والتخييل
ويمكن الحديث أيضا عن بلاغة البياض والفراغ بسبب الإضمار والاختزال والحذف .
س / ولكن هل يعني أن القصة ذات السطر أو السطرين يصح تسميتها ق ق ج ؟
والجواب نعم , القصة ق ق ج ومضة تتقد لتقدم لنا حرارة التجربة , هي لحظة استثنائية من لحظات تمثل الواقع , وهي لحظة تتملك استثنائيتها لأنها تقع في دائرة زمنية ضيقة , التقطها القاص بعناية وبعين راصدة أو بوجدان خاص أو بتصيد لأنواع من المفارقة والتناقضات الساخرة , وهي لحظة حلم خاطفة قابلة للتأويل والترميز . ورغم قصرها إلا أن عناصرها مكتملة .
** وأما سيميائية العنوان فمحور أساسي في كتابة هذا الفن إنه مفتاح النص , وهو أول لقاء بين القارئ والنص , وهو آخر لقاء بين الكاتب والنص , ويحبذ أن يكون مختارا من متن القصة المكتوبة , وهو عتبة رئيسة تفضي إلى قيمة جمالية ودلالة موحية عميقة لفهم النص , وأجوده المقتصر على كلمة واحدة , والنكرة أبلغ من المعرفة نحو : { سواد – حسد – حصار – ضياع – حلم – عقاب – رائحة ..} وقد يكون العنوان كلمتين أو ثلاث , لكن ينبغي أن يكون المتن محدودا بكلمة واحدة , وأن يكون ومضة دلالية , له وظيفته الانفعالية , أو الجمالية , أو الثقافية . فلو كان العنوان أربع كلمات تنافي مع محدودية المتن والحجم .
ويشترط ألا يشير إليه مباشرة للحفاظ على عنصري الإثارة والتشويق , ولعدم كشف المفارقة التي يخبئها النص , لكن دون الابتعاد بالعنوان عن مدلولات النص , حيث يضطر المتلقي في أحيان كثيرة إلى العودة لقراءة العنوان بعد قراءة النص .
وهناك من الكتاب من يتعمد احترافية المقدمة أو الخاتمة فكاتب القصة القصيرة جدا ينبغي أن يكون محترفاً متمكنا من تقنيات هذا الفن , فقد يستخدم بداية خارقة , أو بداية شاعرية , أو بداية أسطورية , أو بداية جمالية .
وكذا في الخاتمة المفاجئة أو { القفلة } الفضائية أو القفلة الساخرة أو القفلة الشخوصية أو القفلة الرمزية , والتي تفضي إلى المفاجأة والتأويل والمفارقة بين المعنى المباشر والمعنى التأويلي في متن القصة , وهو عنصر مهم في بنية القصة القصيرة جدا , لأنها - أعني الخاتمة - هي الحامل المهم في تحريك كمون شحنة اللغة .
يقول أحمد جاسم الحسين )): إن لبداية القصة القصيرة جدا وقفلتها خصوصية كبيرة ؛ تنبع هذه الخصوصية من دورها أولا، ومن قصر عدد كلمات القصة القصيرة جدا ثانيا؛ إن الدور المنوط بهما كبير، فالبداية افتتاح للنص؛ واللبنة الأولى في المعمار، ولابد لهذه اللبنة أن تكون جاذبة للمتلقي، وموظفة بحيث تخدم عموم القصة، وهذا يتطلب خصوصية في انتقاء المفردة أو الجملة لتساهم مع سواها في تشكيل إيقاع القصة بعامة، خاصة أنه غير مطلوب منها أن تصف أو تقدم بمقدمات طويلة أو قصيرة، إن بعض المطلوب منها يتمثل في الإمساك بالمتلقي وشده.
ويمكن لهذه البداية أن تكتسب مداليل جديدة مقارنة مع الخاتمة؛ فالمطلوب منهما معا أن يفتحا كثيرا من الأبواب المغلقة ؛ إذ لكل نص بداية وقفلة، لكن هاهنا يتصفان بشيء من السحر والجاذبية حيث تساهم القفلة مساهمة أكيدة في تحقيق الإدهاش الناتج عن إتمام المفارقة أو المفاجأة …))
ويعني هذا أنه لابد للمبدع من تنويع بداياته ونهاياته ، كأن يستخدم – مثلا- بداية خارقة، أو بداية حالمة، أو بداية فضائية، أو بداية حدثية، أو بداية شخوصية، أو بداية شاعرية، أو بداية رمزية، أو بداية أسطورية، أو بداية تراثية…إلخ .
أو يستخدم نهايات متنوعة، كالنهاية المفتوحة، والنهاية المغلقة ، والنهاية الفضائية والنهاية الساخرة والنهاية الموحية والنهاية الرمزية .
وعلى وجه العموم، لابد أن تكون القفلة أولا : متنوعة الأساليب والتراكيب والصيغ . وتكون ثانيا مفاجئة للقارئ، وثالثا، تكون مخيبة لأفق انتظار المتلقي. ورابعا تكون مضمرة في شكل بياضات فارغة يملأها المتلقي بتأويلاته الإدراكية. وخامسا تكون غامضة وموحية ورمزية ، تستوجب من القارئ ممارسة لعبة الافتراض والتخييل والتوقع والاستكشاف…
وتتنوع العقدة في القصة القصيرة جدا , ونعني بالعقدة الوضعية السردية الأساسية القائمة على التأزم والصراع والاضطراب والتوتر الدرامي، ويمكن تقسيم هذه الوضعية إلى الأنواع التالية :
** العقـــدة المقتضبـــة : ونعني بالعقدة المقتضبة تلك العقدة التي تتسم بالتكثيف والاختصار والاقتضاب والإيجاز كما وكيفا، كما في قصة:{ عطب} لجمال الدين الخضيري: (( متكئة على سيارتها المركونة جنب الطريق في انتظار من يغير لها إطار العجلة. كل مرة كان يتم التغيير، لكن بقيت العجلة على حالها )) .
ونجد هذه العقدة واضحة كذلك في قصة{ خشب } للمبدع نفسه:(( قال وهو يرى حرائق تلتهم الجبال والرجال : - كيف تأتّى لخُشيْبة ثقاب أن تزدرد قارة من الأخشاب؟ )) ويلاحظ أن هذه العقدة موجزة ومكثفة في شكل أحداث سلبية مركزة، كحدث العطب في القصة الأولى ، وحدث الحريق في القصة الثانية .
** العقـــدة المضمـــرة : تخلو بعض القصص القصيرة جدا ، كما عند المبدع المغربي جمال الدين الخضيري من العقدة المألوفة التي تتمظهر في شكل أزمة أو مشكلة أو وضعية صعبة، بل هذه العقدة لا يمكن استجلاؤها إلا بالتأويل والتأمل والفحص والاختبار؛ لأن هذه العقدة غير واضحة بشكل جلي، بل هي مختفية ومضمرة ، وتحضر في القصة تضمينا وإيحاء وتلويحا وإشارة كما في قصة: { النادلة } : (( نادلة سوداء مثل الفحمة. لما اتجهت نحو منضدته تسأل عن بغيته. نظر فيها مليا وقال :
ترى لو طحناك هل سنصنع منك كحلا تمتلئ به مراودنا؟! ))
من الصعب بمكان استجلاء العقدة في هذه القصة القصيرة جدا، إلا إذا مارسنا فعل القراءة الجيدة، وفعل التأويل المثمر، لنستكشف تلميحا وتلويحا بأن كثرة السواد هي العقدة المشكلة لحبكة هذه القصة القصيرة جدا.
**العقـدة المفصلـــــــة: نعني بالعقدة المفصلة تلك العقدة التي تستكمل مقوماتها الفنية والجمالية، وغالبا ما تكون عقدة عادية وطبيعية، كما في النصوص السردية المألوفة، ومن أمثلة لهذا النوع من العقدة، نستحضر : قصة:{ ثورة } لجمال الدين الخضيري: (( هاج حمار القرية وركض نحو القرية المجاورة وسفد أتانا هناك . القريتان على طرفي نقيض ولا يوحد بينهما إلا اشتباكات العصي وطقطقات المقالع .
ثار النقع بينهما من جديد . هبت كل قرية لنصرة حيوانها. سقط حشد كبير. وجدها حمير القريتين فرصة لا تعوض فنزحوا إلى مكان بعيد عن أرض الوغى ليمارسوا لأول مرة الحب على هواهم ودون مراقبة ))
ويعني هذا أن العقدة المفصلة تشبه العقدة التي نجدها في الأقصوصة والقصة القصيرة، وقد استكملت مكوناتها السردية تحبيكا وتسريدا وتخطيبا.
**العقــدة الممتـــــدة : نعني بالعقدة الممتدة في القصة القصيرة جدا تلك العقدة التي ليس لها حل أو نهاية أو انفراج ، بل تتسع تلك العقدة المتوترة، وتمتد سردا ومساحة لتهيمن على كل أطراف القصة كما في قصة: { المتلعثم } للمبدع نفسه :
(( الحانة تلفظ روادها. يلفظ جيوبه أيضا عله يجد ما يستقل به التاكسي . يعبر الزقاق المظلم الضيق . يجردونه من أحذيته ومن ساعته ومما تبقى من آدميته. يواصل المسير. يزداد تلعثمه. يزداد تنمّله. يحاول أن يحصي كم عدد المرات التي عاد فيها من الحانات والمساجد حافيا. لم يقو على ذلك، فازداد تلعثما ))
ويعني هذا أن العقدة الممتدة هي تلك العقدة التي تهيمن على النص القصصي كله. وبتعبير آخر، حينما تتحول القصة كلها إلى عقدة من البداية حتى النهاية.
** وتعد السخرية من أهم المكونات الجوهرية والأساسية للقصة القصيرة جدا ، وذلك من خلال عمليات الإضحاك ، والكروتيسك، والتشويه الامتساخي، والتعرية الكاريكاتورية ، والنقد الفكاهي، والهجاء اللاذع .
ومن يتأمل قصص الكتاب المغاربة كمصطفى لغتيري وعز الدين الماعزي وحسن برطال فإنه سيصادف ظاهرة السخرية الناتجة عن المفارقة الصارخة، والانزياح المنطقي، وكثرة الباروديا ، وهيمنة الخلل العقلي، وتكسير المواضعات السائدة ، وتخييب أفق انتظار القارئ، والتأشير على انقلاب موازين القيم ، وانكسار القواعد السائدة المقبولة ذهنيا وواقعيا ، وذلك أمام سيادة اللاعقلانية الفجة، وهيمنة سلطة الجنون ... وهكذا.
يقول مصطفى لغتيري في قصته :{ وثيقة } :(( لأنه يحب الوطن حبا جنونيا، اعتقلته السلطات، واحتفظت به في زنزانة منفردة، خوفا عليه من الضياع. إنها – اللحظة- تفكر جديا في عرضه في المتحف الوطني )) .
يعتمد الكاتب في هذه القصة الساخرة على تغيير الواقع المتناقض، والثورة على الوعي الزائف، وإدانة سياسة الاستلاب وتزييف القيم الإنسانية. كما تقوم هذه السخرية على الفكاهة، والتنكيت، والتهكم، والتعريض، والتلميح، والإيحاء، والضحك كالبكاء.
وتتأسس القصة القصيرة جدا، من حيث الهندسة المعمارية، على البداية والعقدة والجسد والنهاية. بيد أن من أهم العناصر البنيوية في هذا الفن الأدبي الجديد هو الجسد السردي، أو ما يسمى بالوسط القصصي أو الامتداد النصي .
وإذا كانت أغلب الدراسات قد تناولت البداية أو العقدة أو النهاية في مجال السرد الأدبي أو الدرامي ، فإنها أغفلت الجسد السردي الذي يختلف عن العقدة أو المشكلة أو الاضطراب أو التوتر .
ويعني هذا أن الجسد السردي قريب من الحبكة السردية المركزة أو المسهبة، وغالبا ما يتموقع هذا الجسد بين البداية والنهاية المقفلة أو المفتوحة.
وقد سمينا هذا الوسط السردي بالجسد على وجه التشبيه والتمثيل والمجاز ليس إلا، مقارنة بالإنسان الذي يتكون من الرأس والجسد والأطراف. وما يهمنا في هذا الموضوع، هو السؤال المحوري التالي :
ما هي أنواع الجسد السردي في القصة القصيرة جدا بنية ودلالة ومقصدية؟ دراسات حول الجسد السردي: إذا كانت ثمة دراسات أدبية ونقدية معروفة بنضجها وأهميتها وقيمتها في الثقافتين العربية والغربية، قديما وحديثا، قد اهتمت بالبداية والعقدة والنهاية في مختلف أجناس الكتابة، فإنني لم أجد على حد علمي- في أدبنا العربي الحديث والمعاصر دراسات نقدية نظرية أو تطبيقية مركزة ومعمقة ومختصة، تعنى بالجسد السردي في القصة القصيرة جدا تصورا وتحليلا وتطبيقا وتقويما وتوجيها، باستثناء كتابي (مقومات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري) و(القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق) للدكتور جميل حمداوي، على الرغم من وجود كتابات مهمة في مجال القصة القصيرة جدا تنظيرا وتطبيقا، قد مرت مرور الكرام على هذا الموضوع ، من أهمها: كتاب أحمد جاسم الحسين( القصة القصيرة جدا)، وكتاب الدكتور يوسف حطيني ( القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق) ، وكتاب عبد الدائم السلامي ( شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا) ، وكتاب عبد العاطي الزياني ( الماكر والتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب) ، وكتاب سعاد مسكين( القصة القصيرة جدا في المغرب: تصورات ومقاربات) ، وكتاب جاسم خلف إلياس( شعرية القصة القصيرة جدا) ، وكتاب هيثم بهنام بردى( القصة القصيرة جدا: المجموعات القصصية 1989-2008م) ، وكتاب حميد لحمداني( نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا) ، وكتاب محمد اشويكة (المفارقة القصصية) ، وكتاب نور الدين الفيلالي ( القصة القصيرة جدا بالمغرب) ، وكتاب محمد أيوب (مضمرات القصة القصيرة جدا) ، وكتاب حميد ركاطة (القصة القصيرة جدا / قراءة في تجارب مغربية).
** ويمكن القول : أن ثمة أنواعا مختلفة من الجسد السردي في القصة القصيرة جدا، وهي على النحو التالي :
= الجسد القصصي القصير : وهو الذي لا يتعدى بعض الجمل القليلة جدا، كما يبدو ذلك واضحا في قصة( أدوار) للمبدعة الأردنية بسمة النسور التي تصور فيها جدلية الذكورة والأنوثة، و جدلية الخطيئة والتوبة :
(( هو يواصل ارتكاب الخطايا . هي : تواصل الغفران )) تحوي هذه القصة جسدا مقتضبا قصيرا من حيث السعة والحجم البصري، تعبيرا عن كثافة القصة القصيرة جدا واختصارها وإضمارها الفني والجمالي .
= الجسد القصصي المتوسط : يتخذ حجما متوسطا من سطرين فما فوق ، أو هو الذي يتخذ خمسة أسطر أو نصف الصفحة على أكبر تقدير، كما يظهر ذلك جليا في قصة ( تخبط ) لشريف عابدين التي يصور فيها واقعا محبطا مترديا، تنحط فيه القيم الأصيلة، ويتخبط فيه الإنسان ضياعا وتيها واغترابا :
(( بعدما فشلت الشرطة في استعادة المسروقات؛ رفع يديه إلى السماء داعيا . لكن مسروقاته لم تسترد .أرجع ذلك إلى أن السماء كانت مبلدة بالغيوم، فلم تصل دعواه . بحث في النشرة الجوية عن مكان تكون فيه السماء صافية. بعدما أبلغ الشرطة ، توجه صوب تلك البقعة للدعاء، عاد ليجد منزله.... سرق من جديد ))
ونجد هذا الحجم نفسه عند المبدعة الكويتية هيفاء السنعوسي في مجموعتها : ( إنهم يرتدون الأقنعة ! وقصص أخرى) ، سيما في قصتها ( معادلة ) التي تصور خوف الفتاة الجميلة من الموت المفاجئ أثناء الولادة:
(( تلد فتاة جميلة بعد ساعات من المعاناة في حجرة الولادة.. تملأ قطرات العرق جبهتها.. تنقل إلى حجرة أخرى.. يزورها زوجها.. تقرأ ملامح وجهه...تبكي.. فقد عرفت أن والدتها التي تعرضت بالأمس لنوبة قلبية مفاجئة.. قد غادرت اليوم حجرة العناية الفائقة إلى عالم آخر!))
يتبين لنا من خلال هاتين القصتين القصيرتين جدا بأن جسدهما السردي ليس قصيرا من حيث الحجم، وليس طويلا، بل هو حجم متوسط ، قد لا يتعدى بعض الأسطر المعدودة أو نصف الصفحة المكتوبة.
= الجسد القصصي الطويل : هو الذي يتعدى الصفحة أو يقترب في صياغته الحكائية من نفس الأقصوصة أو من نفس القصة القصيرة أو من نفس الرواية أو من نفس المسرحية أو الشعر ، كما يتضح ذلك جليا في قصة( النادل) للمبدعة المغربية الزهرة رميج التي استخدمت فيها النعوت والصفات والأحوال والتشخيص المجازي في وصف المكان، ونقل أجواء الحفل الموسيقي :
(( تحول فضاء الفيلا الفخمة إلى حديقة تفوح منها روائح أغلى العطور وتينع فيها أجساد أجمل النساء. كان الحفل في أوجه. إيقاع الموسيقى يزداد ارتفاعا والأجساد حرارة وعريا. عندما توقف النادل الشاب ذو البدلة الرسمية الأنيقة عند إحدى الموائد ، كانت صاحبة الجسد الممتلئ والصدر شبه العاري تحكي نكتة ماجنة. استمرت في الحكي بعدما سحبت نفسا عميقا من سيجارتها الفخمة ونفخت الدخان الذي ارتطم بوجهه وهو ينحني ليقدم لها الشاي...تابع النادل طريقه على المائدة المجاورة. قالت إحدى الحاضرات وهي تكاد تنفجر من الضحك : ألم تخجلي وأنت تحكين النكتة أمام الرجل؟ أجابت وهي تنظر حولها في استغراب: أي رجل؟!)).
يلاحظ أن جسد هذه القصة القصيرة جدا طويل إلى حد ما، يتعدى نصف الصفحة، ويتسم بالإسهاب والتمطيط والتوسع الوصفي والحواري. ويعني هذا كله أن الجسد السردي في القصة القصيرة جدا قد يكون جسدا قصصيا مقتضبا ومختزلا، أو جسدا متساويا في دلالته وسعته ، أو جسدا قصصيا متناميا ومتصاعدا .
** الجسد السردي أو الحدثي : هو ذلك الجسد الذي يرد في شكل حدث سردي أو واقعة حدثية، كما يبدو ذلك بينا في قصة ( ساعة تنبيه) للمبدع العراقي هيثم بهنام بردى ، حيث يصور فيها السارد واقع الانفجارات الإرهابية، مجسدا واقع الإنسان العراقي المحبط :
(( حين دوت أصوات الانفجارات في الخارج تململ الرجل الراقد في الموضع، أنهض الجزء العلوي من جسده المتصلب بصعوبة ثم مد ذراعه اليمنى نحو رف خشبي والتقط قنينة الإرضاع المليئة بالحليب الدافئ ، ومد ذراعه الأخرى وأمسك الجسد اللدن اللابد جنب قائمة السرير ووضعه فوق البطانية. خض الزجاجة جيدا ثم أدخل ثديها المطاطي في الفم الصغير.
وحين خيم السكون على الفضاء وصار الصمت المريب لغة الكون سحب الرجل قنينة الإرضاع الفارغة من الفم الوردي، وضعها في مكانها تحت السرير ثم عقد ذراعيه تحت رأسه وأسبل جفنيه..)) .
يعتمد جسد هذه القصة القصيرة جدا على ذكر الأحداث والوقائع المرتبطة بالشخصية المحورية من البداية حتى النهاية، مرورا بالعقدة المضطربة التي زادت النص توترا وتعقيدا ومأساة.
** الجسد الوصفي : هو الذي يتخذ طابعا وصفيا كما في قصة ( كآبة) للمبدع السعودي حسن علي البطران، وقد أخذت من مجموعته (بعد منتصف الليل) ، حيث يصف فيها السارد حالة جنائزية حزينة، ضمن مشهد تربوي كئيب :
(( يدلف إلى حصته الأولى كل يوم ويراه كئيبا. لم يره في سنواته الماضية بهذه الحالة. فضوله المقنن رماه بوشاح صامت. ترافقه سيول جارفة من عيون زملائه الذين قرأوا الفاتحة على روح والده..))
يتسم الجسد الوصفي في هذه القصة القصيرة جدا باستعراض النعوت والأحوال والأوصاف والمجاز والصور البلاغية لتجسيد الموصوف في مختلف هيئاته وحالاته.
** الجسد القصصي الحواري: وهو الذي يتخذ شكل حوار سردي أو قصصي، كما يتجلى ذلك واضحا في قصة ( قدمان ) للمبدع الفلسطيني يوسف حطيني، ضمن مجموعته ( دماء) ، وهي تصور الفرقة المأساوية للإخوة العرب وترديهم المحبط بين اليمين واليسار:
(( اليسرى واليمنى كانتا تمشيان معا بينما ينصب الرعب في كل خطوة يخطوانها. حين وصلتا إلى باب الفرع( ن ) قالت اليسرى: أنا من يجب أن يدخل أولا، لأن أفكاري اليسارية هي التي قادتنا إلى هذا المكان.
قالت اليمنى : العرب تدخل باليمين. كان السيد ( ن) في غاية الشماتة حين رآهما تنزفان دما، وقد توحدتا تحت الفلقة)).
تتميز هذه القصة القصيرة جدا بطابعها الحواري الدرامي الذي يعبر عن صراع القيم والمواقف واللغات والأهواء الإيديولوجية .
** وهناك من النقاد والكتاب من يجعل بين هذا الفن وقصيدة النثر علاقة حميمية من حيث التشابه , بل البعض يجعل أحدهما هو هو , ولاشك أن المشكلة عويصة وعميقة , ومنشأها أن فن القصة ( ق ق ج ) لا يزال بكراً غضاً طرياً سواء في التنظير أو في التطبيق , فالنقاد والدارسون والكتاب متخبطون في أوحالها , إذ لم يتمكنوا بعد من تقنين وتحديد تقنيات هذا الفن , في حين أن هناك نقاداً آخرين يرفضون هذا الفن في انتمائه إلى منظومة الأدب العربي , ومن هنا ينشأ هذا الخلاف .
خذ مثلاً يقولون في تعريف قصيدة النثر : هي قطعة نثرية موجزة موحدة مضغوطة تخلو من الأوزان والقافية , وتعتمد على جمال الصورة , ورقة اللفظ وتصوير العواطف , والدفقة الشعورية النفسية المرتبطة بالتجربة , ويشترطون لها شروطا كالكثافة والتوهج والوحدة العضوية . إذاً نحن في حيرة وتيه .
وبالتالي فهناك قصاص نجد في نتاجهم أن البنية السردية قد غدت بنية شعرية عالية , وكأن البنية السردية تتناص مع الشعر الحديث , نجد هذا عند الأستاذ أحمد عسيري , والأستاذ جمعان الكرت والأستاذ محمد الميزني والأستاذة أمل مطير , وغيرهم , ولكني أخشى أن تفقد الترابط , وتطغى الشعرية على السردية فنجني على هذا الفن .
ولذلك أرى أن هناك فرقاً بين الجنسين , فالقصة القصيرة جدا تكتب بطريقة سردية تستلزم وجود حدث وشخصية وغالباً ما تكون فكرتها واضحة ومباشرة . في حين أن القصيدة النثرية تكتب بطريقة شعرية , تقوم على التعبير عن اللحظات الشعورية عبر أنساق لغوية قادرة على توليد دلالات متغيرة , ويبقى الإيجاز والتكثيف والسرد وقصر الشريط الزمني واللغوي للعمل الإبداعي هي عناصر نجدها في القصة القصيرة جدا كما في القصيدة الومضة , ولكن ما يميز الفنيين الاحتراف في التناول , فلا يطغى أحد الفنين على أخيه .
وأكاد أجزم أن كاتب القصة القصيرة جدا قد يكون شاعراً , لكن الذي لا يختلف عليه اثنان أن كاتب القصة القصيرة جدا هو كاتب رواية وكاتب قصة قصيرة . ويتطلب ذلك مهارة في الكتابة والتمكن من تقنيات هذا الفن في التكثيف والاختزال وتوظيف النزعة القصصية .
إن العلاقة بين القصة والقصيدة - حسب طراد الكبيسي - تنطلق من تداخل عناصر مشتركة عديدة بين القصيدة والقصة مثل : الغنائية ، الشاعرية، الكثافة، الأسلوبية الأدبية، والانزياحات اللغوية ، والدفق العاطفي، والدهشة أو المفارقة، أو ما يدعى بـ( أفق الانتظار)، وبتعبير آخر لـ (بيفرلي كروس) القصة الشاعرية هي التي تستخدم صيغ الشعر مثل الجناس والصورة المجازية والإيقاع النثري والتقابل والتوازي .. الخ.
ولعل هذا ما دعا بعضهم لأن يرى أن كثيرا من المقاطع النثرية في القصص القصيرة جدا، يمكن عدها بمثابة قصائد نثر، وكثير من قصائد النثر يمكن وصفها بقصص قصيرة جدا، وباختصار نقول: إذا كانت القصة القصيرة جدا تميل إلى الشاعرية فان القصيدة القصيرة جدا تنزع إلى السردية .
ويمكن - وعلى سبيل المثال - أن نسأل : في إي نوع نضع هذه القصة القصيرة جدا ( بيتزا) للقاصة المغربية فاطمة بو زيان : في نوع القصة القصيرة جدا، أم قصيدة نثر؟
(( قال لها: - أنت البيتزا التي اشتهيها ليل نهار! هو في ايطاليا ..
هي في قرية صغيرة ..والبيتزا سؤال .. حملته إلى المدينة // حطه النادل أمامها فطيرة مزينة! / تأملتها مليا ..// أعملت السكين فيها ..// ثم تناولت مثلثا منها ..
ثم مضغته على مهل ..// ثم ابتلعته ومصت شفاهها في تلذذ ..// ثم همست:
- ما ألذني !! ))
في هذا النص كل عناصر القصة والقصيدة متداخلة متفاعلة فيه: الكثافة، الشخصية القصصية، البنية الإيقاعية، الأدبية السردية، والمفارقة.
وعلى العكس حين يتخلى القاص عن عنصر التكثيف فإنه سيقود قصته إلى الترهل وربما التفاصيل التي لا حاجة لوجودها في القصة كما في قصة ( بيتان) : (( اختلفا فيما بينهما, ولم يطيقا العيش معا. ثم أعلنا الطلاق وبكى الأطفال..
أراد كل منهما أن يعمر بيتا مريحا للأولاد.
اشترت أرضا قريبة من القلب, واشترى مساحة قريبة من العقل المتسلط.
أشادت غرفة صغيرة من الصدق والعفوية, وبنى غرفة شاسعة من الكذب والادعاء .
بنت غرفة من الحرية, وبنى غرفة من التربية الصارمة.
ملأت مطبخها بفواكه الحنان والتضحية, وملأ مطبخه بفواكه الحب المطعمة بفاليوم الخوف والأنانية.
سيّجت بيتها المنمنم بورود الجرأة والتفاؤل والفرح, وسيّج بيته بسياج الكآبة والتسلط.. حينها طار الأولاد صوب البيت الصغير على جناحي فرح إنساني لا تشوبه شائبة )).
وعلى كل حال إن عدم وجود دراسات تطبيقية حول هذا الفن جعلتنا نركب هذا ونركب ذاك , وأصبح هذا الفن حمار من لا حمار له . العجيب في الأمر أن النقاد يطلقون على هذا الفن أعني ( ق ق ج } تسميات عدة منها : الومضة – الكبسولة – البرقية – اللقطة – التوقيعة – القصيدة الخاطرة – قصيدة الهوامش – القصيدة النجوى – والقصيدة الومضة ..
وقصيدة الومضة أو اللقطة هي ومضة خاطفة ولمحة عابرة ودفقة وجدانية , تعبيرها مركز ومكثف , ومرجعها اللحظة الشعورية في روح الإنسان . ومصطلح القصيدة القصيرة جدا مصطلح يوناني كان يطلق عليه { الإبيجرام } , وأول من تحدث عنه الدكتور / طه حسين في كتابه : { جنة الشوك } , وعرفها الشاعر الرومانسي الانجليزي كوليردج بقوله : (( إنها كيان مكتمل وصغير جسده الإيجاز والمفارقة روحه )) , فكلام كوليردج هو وصف للقصة القصيرة جدا , فهناك تداخل وتماس بين الفنيين , وأعشق للأديب غازي القصيبي – رحمه الله – قوله : تصرمت السنون , ولا سبيل إليك , وأنت واضحة السبيل وأحفظ لأستاذنا الكبير عز الدين المناصرة قوله : (( وصلت إلى المنفى , في كفي خف حنين , حين وصلت إلى المنفى الثاني , سرقوا مني الخفين ))
وأيضاً يجب ان نعرف أن اللغة وعاء حاضن للإبداع بكل أجناسه , لكنها تبقي الشعر شعراً والنثر نثراً , ولا يعني أن الفصل يلغي عمليات التلاقح بين الأجناس الأدبية . لكنه يسمح بأن يحتفظ كل جنس بالخصائص اللغوية والجمالية التي تكون فيه لا في سواه . فالأعمال النثرية رغم تماسها الفني والجمالي مع الشعر لكنها تظل نثراً يتمتع بقدر كبير من حرية النسج . فالشاعر يكثف ويلتمس الإيقاع والكاتب يفصّل ولا يعنيه الإيقاع . الشعر تعبير عن أحاسيس ومشاعر ذاتية , والنثر خطاب توصيفي علاجي عام في الغالب يقبل الإطالة والإسهاب .
س / ما الفرق بين القصة القصيرة والقصة ق ق ج ؟
ج / القصة ق ق ج تنتسب إلى القصة القصيرة لكنها تخالفها في التشكيل والبناء فهي لا تُعنى مطلقاً بالدخول في التفاصيل , وتتخلص من الحشو وتقوم على اختزال اللغة ومباشرة الحدث دون مقدمات ودون إعطاء تفسيرات لتدع ذلك للقارئ باقل ما يمكن من الكلمات , دون إلغاء صفة القص المرتكز على وحدة الحدث تديره شخصية مركزية او شخصيات ضمن فضاء زماني ومكاني محددين وبتقنيات خاصة تقوم في أساسها على التكثيف .
فالقصة ق ق ج معنية بوحدة الحدث من حلال لقطة تجسده أو لحظة ترتبط بالزمن الذي غالباً ما يكون نفسياً , والفعل فيها هو الفعل الداخلي المعتمد على الفكرة لا الفعل الخارجي كما في القصة القصيرة .
س / هل القصة القصيرة جداً جنس متفرد بذاته , ابن شرعي للقصة القصيرة , أم هي وليد مسخ لا يحمل من القصة إلا اسمها ؟
ج / إن أول من نادى بفكرة تجنيس الأدب هو أرسطو , حيث كان ينظر إلى الأدب أنه كائنات عضوية حتى إذا بلغت حد الكمال استوت وتوقف نموها .
ويرى محمد غنيمي هلال : أن كل جنس أدبي له طابع عام وأسس يتوحد فيها ويتميز بها عما سواها بحيث يفرض نفسه بهذه الخصائص على كل كاتب يعالج فيه موضوعه مهما كانت أصالته أو بلغت مكانته في التجديد . ولا يعني هذا أن الأجناس الأدبية قوالب جامدة لا تتداخل وتستعين بميزات وخصائص غيرها , فهي في حركة دائبة تتغير قليلاً في اعتباراتها الفنية من عصر إلى عصر , ومن مذهب أدبي إلى مذهب أدبي آخر .
أما موقف النقاد والدارسين فمتفاوت بين مؤيد لفكرة إعطاء هذا المولود جنسية أدبية وبين من يراه وليداً سرعان ما يعود لأحضان أمه القصة القصيرة حاملاً صفاتها وجينها الوراثي
وإذا أخذنا القصة القصيرة جدا في ضوء هذه المعايير والقوانين، فهي جنس أدبي مستقل وخالص، مادامت ترتكن إلى أركان وشروط. فالأركان هي عناصر ثابتة لا يمكن الاستغناء عنها، أما الشروط فهي ثانوية ومتغيرة ومتحولة، تشترك فيها مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى.
ومن أهم الأركان التي تستند إليها القصة القصيرة جدا، نذكر: الحجم القصير جدا الذي لا يتعدى نصف صفحة، ووجود الحبكة القصصية المختزلة، بالإضافة إلى التكثيف، والإضمار، والإدهاش، والمفاجأة، والشذرة، وفعلية الجملة والتركيب. أما الشروط التي تشترك فيها مع باقي الأجناس الأدبية الأخرى، فهي الرمز، والانزياح، والتناص، والأسطورة، والإيحاء، والتلميح، والوصف، والفضاء، والشخصيات، والرؤية السردية، واللغة، والأسلوب…
وتتخذ القصة القصيرة جدا مثل باقي الأجناس السردية الأخرى أنماطا فنية مختلفة ومتنوعة، فقد تكون قصة قصيرة جدا واقعية، وقد تكون رومانسية، أو رمزية، أو سريالية، أو طبيعية ، أو أسطورية، أو فانطاستيكية، إلخ…وذلك حسب المواضيع والتيمات والأشكال والمقاصد.
وقد تكون قصة قصيرة جدا كلاسيكية أو تجريبية أو تأصيلية تراثية من الناحية المدرسية والجمالية.
ويعني هذا أن القصة القصيرة جدا لا تختلف بشكل من الأشكال عن باقي الفنون والأجناس الأدبية الأخرى.
وقد سبق الأستاذ جاسم خلف إلياس، وآخرون، إلى اعتبار القصة القصيرة جدا نوعاً سردياً داخلاً في جنس القصة. فقد حددها بأنها (( نوع قصصي أكثر جُرْأة، وأكثر إثارة للأسئلة )) , وعرفها، في موطن آخر، بأنها (( نوع قصصي قصير يستقي أسسه الجمالية من بِيئته الداخلية التي منحت الـ (جدّا) وجوداً شرعياً لا بفرْضه من الخارج عليه، بل بتفاعلها مع تجليات وتمظهُرات قصصية جعلتْها تغاير المواصفات المتحققة في أنواع قصصية أخَر، بتعاقد طبيعي بين المؤلف والقارئ فرضته التغيُّرات الشُّمولية، وبتأثير متبادَل بينه وبين الأنواع الأدبية المُجاورة له في سياقاته التاريخية والجمالية ))
وأكّد ذلك، في موضع ثالث، نافياً ارتقاء القصة القصيرة جدا إلى مستوى الجنس الأدبي؛ حيث قال: (( ليست القصة القصيرة جدا جنساً أدبياً قائماً بذاته يؤسّس نفسَه بنفسه، وإنما هو نوع أدبي فرعي له أصولٌ يتكئ عليها، ويستمدّ وجودَه منها )) .
وإن القول بانتساب القصة القصيرة جدا إلى جنس القصة ليس معناه قيام علاقة استنساخية بينهما، تجعل الفرعَ صورة مقتطعة من الأصل، بل إن بينهما فروقاً مائزةً، إلى جانب ما يجمعهما من قواسمَ مشتركةٍ، بحُكم اتفاقهما في المنبع والأصل. فالقصة القصيرة جدا، كما يقول باسم عبد الحميد حمودي:
(( ليست جسداً مفصولاً عن فنّ القصة القصيرة، ولكنها تراعي التكثيف والجوّ الخاص وضرْبة النهاية، وتراعي التركيز والاقتصاد في الكلمات كذلك))
س : إذا دكتور محمد ما سبب انتشار الكتابة في هذا الفن , وكثرة نتاجه , ما دام أن هناك احترافية ينبغي أن تتوافر في كاتب هذا الفن كما تقول ؟ .
ج : أقول إن فن القصة القصيرة جدا صعب المراس , ويحتاج إلى مبدع كفء , وكاتب متمرس يميز بين فنون القصة { الرواية والقصة والقصة القصيرة جدا } . هناك يا أستاذ فايع سبب سيكولوجي ابتليت به الساحة الأدبية سواء أكانوا نقاداً أم كانوا كتاباً أم كانوا شعراء ذلك هو { حمى الريادة } , فكل منهم يريد البروز والظهور والسطوع غير مبال بمسيرة نتاجه , إذا كان شعراؤنا القدماء ينقحون شعرهم حولاً كاملاً , ونوابغنا الكبار لا يريدون الشعر إلا بعد الأربعين , فما بالك اليوم في شعراء أو كتاب في سن الأحداث هذه مشكلة نجني عواقبها اليوم أو غدا أو بعد حين , فالقاص مثلاً ينشر في مدونته الرقمية أو في موقعه التواصلي الاجتماعي نتاجه كي يحتفي به ونحو ذلك . كما أن من أسباب هذا الانتشار عصر التقنية والعولمة والديناميكية , فوتيرة الحياة السرعة .
ولا نجهل الرغبة في الاختصار والإيجاز وتفضيلها في عمليتي الإبداع والترسل. أيضاً من الأسباب المثاقفة مع الغرب إما بالاتصال والمباشرة أو ترجمة نصوصهم أو استيحاء كتاباتهم , كل هذا وغيره كان سببا في هذا الانتشار .
ولكن القصة القصيرة جدا كما تتطلب كاتبا مبدعاً محترفا متمكنا قادراً على استلهام الحدث فكذلك تستوجب قارئا ضمنياً متميزا ومتلقيا حقيقياً متذوقاً واعيا يدرك جيدا أن القصة ( ق ق ج ) ذات لغة مكثفة تولد الانفعال والدهشة واللذة , وتدفعه إلى استخدام ملكة التخييل والنقد والتصوير . ولك أن تقرأ لحسن الحازمي وعبد العزيز الصقعبي وجار الله الحميد وفهد المصبح وسهام العبودي ونجاة خيري وشريفة الشملان وفاطمة سعد الغامدي وغيرهم .
س : هل فن القصة ق ق ج جدا يستوعب عصرية الأمة وأزماتها ؟
ج : كما قلت لك هذا الفن لا يختلف عن باقي الفنون والأجناس الأدبية الأخرى , يتناولها بطريقة أسلوبية بيانية رائعة تثير الإدهاش والإغراب والروعة الفنية وتترك القارئ مشدوداً وحائراً أمام شاعرية النص المختزل يسبح في عوالم التخييل والتأويل . فاتجاهاته الأدبية تستوعب قضايا الأمة فقد تكون القصة القصيرة جدا رومانسية أو رمزية أو سريالية أو أسطورية أو فانطاستيكية .
قد عالجت هموم الإنسان وتطلعاته ورؤاه وانفعالاته وصراعه مع ذاته ومع واقعه , كذلك المجتمع وقضاياه وما يعتوره ويمور فيه من آمال وطموحات , أو هزائم وانكسارات ورغبة في التغيير , أيضاً الحروب والاغتراب والهزيمة والضياع الوجودي والحب والتغني بحقوق الإنسان .
س / ما عوائق القصة القصيرة جدا ؟
ج / كثير من كتاب القصة القصيرة جدا يكتبون قصصهم، وهم يحملونها بالعبر والمواعظ والحكم والنصائح، وذلك اقتداء بأخبار المواعظ في الموروث السردي العربي القديم . ومن ثم فثمة فوارق فنية وجمالية بين الموعظة والقصة القصيرة جدا، فلابد لهذا الجنس الأدبي الجديد من الجمع بين الإخبار والفن، وبين الفائدة والمتعة الجمالية.
ومن النماذج التي تتضمن النزعة التعليمية وخاصية الموعظة قصة:{ الدين } للقاص السوري عمران عز الدين أحمد :
(( رأيته يرفع يده في السماء ويهوي بباطن كفه على صدغ أبيه. اقتحمت جمهرة الناس، اقتربت منه مؤنبا، فصدني أبوه وشلال من الدموع ينهمر على خديه : اتركه يا بني، ففي هذا المكان وهذا التاريخ، صفعت أبي الذي كان قد صفع جدي قبلا )).
تقدم لنا هذه القصة القصيرة جدا موعظة دينية ونصيحة أخلاقية، كأن القصة القصيرة جدا قد تحولت إلى وسيلة للتهذيب والتخليق .
وبذلك، فقدت رواءها الأدبي، وطابعها الفني والجمالي. وقد ذهب الأصمعي قديما إلى أن الشعر إذا دخل باب الخير، لان وضعف. كما تتميز القصة القصيرة جدا عن الشذرة التي تتسم بالمزاوجة بين الشعر والحكمة الفلسفية أو التأملية. في حين، إن القصة القصيرة جدا قصة وحكي، قبل أن تكون حكمة أو موعظة أو نصيحة أو شذرة.
هذا وتتحول كثير من القصص القصيرة جدا إلى نص شاعري؛ بسبب الشاعرية المتخمة، وكثرة الجمل الإنشائية الانفعالية التي تلتقط الأحاسيس والمشاعر الذاتية، فتستعمل الصور المجازية بكثرة، إلى أن تتحول القصة إلى استعارة بلاغية كبرى، كما في قصة القاص السوري حياة أبو فاضل :
(( صداقتنا مذ خلع ألوان الخريف عن شجرة المشمش في حديقتنا. وقفت تحتها صغيرة، مأخوذة، شعري يصافح الورق الراقص والهواء البارد، وصوت أمي طائر من داخل البيت : ادخلي ، أو ضعي قبعتك على رأسك! سمعتها وما سمعتها. كنت أعتقد عهد صداقة مع الشمالي الساحر القاسي. فكيف أخفي عنه شعري الطويل داخل جدران قبعتي ؟ ))
تشبه هذه القصة قصيدة شعرية نثرية يتحكم فيها محور المشابهة والمجاز، ويتخللها نسيج شاعري ذاتي وانفعالي، يقرب القصة من عالم الشعر وخيوطه الخيالية.
ونجد الكاتب المغربي محمد فاهي يكتب قصة قصيرة جدا تحت عنوان :{ أحمر أسود }، كأنها قصيدة نثرية، فلولا ما كتب على الغلاف الخارجي )) قصص قصيرة جدا (( ، لقلنا : إنها قصيدة شعرية :
(( مرة أخرى // أشاطرك الهجوم علي // برمح السياسة من قبل // وباسم اللسان من بعد
ولا ذنب لي // سوى أنني لم أكن عبدك // ولن أصبح سيدك // أما دمي
فسألعقه بلساني // كي لا يقطر قلمي // بالحبر الأسود وحده // فانظر أين أنت
بعد أن ينجلي الغبار )) .
فهذا النص لا علاقة له بأي حال من الأحوال بالقصة القصيرة جدا؛ وذلك لعدم وجود القصصية والحكائية والتكثيف السردي . والواضح أنها أقرب إلى قصيدة شعرية نثرية ليس إلا .
** ويلاحظ أيضا أن كثيرا من كتاب القصة القصيرة جدا يعتقدون أنهم يكتبون جنسا أدبيا جديدا، بل هم يكتبون الخواطر بطريقة إنشائية شاعرية ، بعيدا عن مكونات النزعة القصصية والحكائية، كما في قصة: { ابتلاء } للقاصة المغربية مليكة بويطة: (( حلمت ، أن أغمض عيني ، وأراك رحلت عني قبل أن يرتد إلى طرفي ، أنا أحملك، والناس أثقلت كاهلهم، أنت أيها الداء، الكل يبحث لك عن دواء، وأنا من هذه الزاوية في الوراء ، اخترقت جلدي وسكنته، كما يسكن الجان المصاب، دخلت قريتي ونشرت بها الفساد، وأكثرت النسل والأولاد، تسربت، تسربت المياه في الآبار، أطعمتك ورويت ظمأك بكل سيول الدموع، استضفتك فكنت لك كحاتم الطائي، فلا يوما نهرتك، ولا يوما أحرقتك، بل تحملت نظرات العيون، وإشارات الأصابع، ونظرات الرفق، وكنت دائما أقول : الضيف مهما طال مقامه لابد أنه راحل، فهل سوف تفارقني وترحل، أم تنتظر رحيلنا معا؟ ))
تتحول هذه القصة إلى أحلام وخواطر وانطباعات وجدانية، ترصد فيها الكاتبة أثر الابتلاء على نفسيتها الرقيقة، مستخدمة في ذلك لغة زئبقية شاعرية.
وعليه، فلابد من احترام أركان القصة القصيرة جدا، وهي: الحجم القصير جدا الذي لا يتعدى نصف صفحة، وتوظيف الحبكة السردية القصصية(مطلع، وعقدة، وصراع، وقفلة)، واستعمال فعلية الجملة، والتكثيف، والإضمار.
س / حدثنا يا دكتور محمد عن حضور المرأة في كتابة القصة القصيرة جدا ؟
ج / من الأكيد أن فن القصة القصيرة جدا هو فن رجولي بامتياز تنظيرا وتطبيقا، على الرغم من وجود بدايات نسائية كما هو الحال في العراق، حيث كانت بثينة الناصري رائدة في مجال القصة القصيرة جدا بالوطن العربي ، فقد كتبت في مجموعتها القصصية :{ حدوة حصان } الصادرة عام 1974م قصة سمتها:
{ قصة قصيرة جدا } . وبعد هذه التجربة ، ظهرت مجموعة من الأصوات النسائية التي تهتم بالقصة القصيرة جدا إبداعا ونقدا وبحثا ودراسة ، وقد فرضت هذه الأصوات القصصية نفسها – فعلا- في الساحة الثقافية العربية بشكل من الأشكال، وخاصة الناقدة المغربية سعاد مسكين التي تميزت بكتابها القيم:{ القصة القصيرة جدا في المغرب تصورات ومقاربات} .
ومن بين هذه المبدعات والناقدات الأخريات اللواتي ارتبطن بفن القصة القصيرة جدا إبداعا ونقدا، نذكر: لبانة مشوح، وجمانة طه، ومية الرحبي، ودلال حاتم، وسعاد مكارم، وسلوى الرفاعي، وابتسام شاكوش، وهيمى المفتي، ووفاء خرما، وشذا برغوث، وعبير إسماعيل، وأميمة علي، وندى الدانا، وإيمان عبيد، وابتسام الصالح، وأمل حورية، وميا عبارة، وسوسن علي، وأمينة رشيد، وسها جودت، وحنان درويش، ومحاسن الجندي، وليما دسوقي، وحسنة محمود، وجمانة طه، وضياء قصبجي، وليلى العثمان، وفاطمة بوزيان، والسعدية باحدة، والزهرة رميج، وشيمة الشمري، وبديعة بنمراح، وبسمة النسور، ووئام المددي، وسهام العبودي، وحياة بلغربي، وكريمة دلياس، وأمينة الإدريسي، ومليكة الغازولي، ومية ناجي، وهيفاء سنعوسي، ومليكة بويطة، وسناء بلحور، ووفاء الحمري، وزليخا موساوي الأخضري، وفاطمة بوزيان، وزهرة الزيراوي، ومليكة الشجعي، ولبنى اليزيدي، وحبيبة زومي، ونوال الغنم، وسعاد أشوخي، ولطيفة معتصم، وعائشة موقيظ، ومريم بن بخثة، ونعيمة القضيوي الإدريسي، وسلمى براهمة…
ونلاحظ أن هذه الأسماء الكثيرة إن دلت على شيء، فإنما تدل على مشاركة المبدعة أو الناقدة لأخيها المبدع أو الناقد في إثراء القصة القصيرة جدا بالوطن العربي مشرقا ومغربا.
** هذا وتتميز الكتابة النسائية القصصية القصيرة جدا بالمقارنة مع الكتابة الذكورية بمجموعة من السمات والخصائص ، ومن بين هذه المميزات على المستوى الدلالي :
طرح موضوع جدلية الذكورة والأنوثة عبر محوري الصراع والتعايش، والتركيز على البيت والأسرة والتربية برصد التناقضات المتفاقمة، وتبيان نسيج العلاقات البنيوية المتحكمة في الأسرة سلبا وإيجابا، وخاصة على المستوى التفاعل السيكو اجتماعي والقيمي والإنساني ، والانطلاق من الذات الشعورية واللاشعورية في التعامل مع الظواهر الحياتية ، بغية تحقيق التواصل الإنساني، والتفاعل مع منطق الأشياء، والارتكان إلى أعماق الداخل الوجداني في معالجة القضايا الذاتية والموضوعية ، و استنطاق السيرة الذاتية والأنا، والتركيز على المكبوتات الواعية واللاواعية في استعراض المشاكل الداخلية والذاتية ، والاهتمام بالطفولة التي تعد فرعا أساسيا للأمومة، ورصد الواقعين: الذاتي والموضوعي بكل تناقضاتهما الإنسانية والتشييئية . علاوة على الاهتمام بجسد المرأة الجمالي والإيروسي والشبقي، والعزف على نغمة الحب وإيحاءاته الواقعية والرومانسية والجنسية، واستعمال الخطاب العاطفي والوجداني والانفعالي، مع الإكثار من البكائية الحزينة والمواقف التراجيدية، والاهتمام بالتخييل الحلمي والرومانسي ، وذلك على حساب فظاظة الواقع، ومرارته الشديدة، والبحث عن السعادة المفقودة تلذذا وانتشاء، والتطلع إلى الزواج المثالي الطوباوي. ولا ننسى كذلك التغني بالسأم، واليأس، والملل، والداء، والألم، والقلق الوجودي، ورصد الهموم الذاتية والموضوعية، وانتقاد المرأة المغرورة والمتبجحة انتقادا شديدا.
أما على الصعيد الفني والجمالي، فيلاحظ استعمال الكتابة الذاتية في شكل ذكريات شاعرية، وخواطر إنشائية حلمية، واستحضار ضمير المتكلم بشكل مكثف، والاسترسال في الكتابة الشاعرية والانفعالية، وتخطيب الكتابة بالمنولوج التأملي، وتوظيف الرؤية الداخلية أو الرؤية ” مع”، واستخدام أسلوب السخرية والمفارقة في إطار الصراع الجدلي مع الرجل، والاستعانة بالكتابة الرقمية الافتراضية في توصيل الرسائل الذاتية والعاطفية، وتوظيف الفانطاستيك لرصد التحولات الامتساخية البشعة ، إذ تتحول الكائنات الإنسانية (الرجل على سبيل الخصوص) إلى حيوانات ماكرة وخادعة ، ثم تؤول إلى ذوات مشوهة ممسوخة عضويا ونفسيا وقيميا. بالإضافة إلى استعمال الكتابة الحلمية والرومانسية في التعبير الذاتي، وتبليغ الرؤى والمقاصد المباشرة وغير المباشرة، والسقوط في بعض الأحيان في التقريرية والمباشرة في معالجة قضايا الذات والموضوع، وتعطيل علامات الترقيم في الكتابة القصصية، كما يتضح ذلك جليا عند المبدعة المغربية فاطمة بوزيان، وذلك استرسالا وانسيابا وتدفقا، بغية تحقيق أهداف فنية وجمالية وتعبيرية، والتميز بخاصيتي التجريد والغموض الفني (الزهرة الرميج- مثلا-).
وعليه، فلقد حققت الكتابة النسائية بالوطن العربي شأوا كبيرا في مجال القصة القصيرة جدا قصة وخطابا ورؤية، سواء أكان ذلك على مستوى التخطيب الفني والجمالي أم على مستوى انتقاء القضايا الجادة والمصيرية، والتعبير عنها بواسطة كبسولة قصصية قصيرة جدا .
وإذا كان الإبداع النسائي في مجال القصة القصيرة جدا، قد فرض نفسه بإلحاح، وأصبح ظاهرة أدبية لافتة للانتباه، فإن النقد النسائي العربي في مجال القصة القصيرة جدا ما يزال في هذا المجال متعثرا بالمقارنة مع النقد الذكوري المطرد. وعلى الرغم من ذلك، يمكن استثناء بعض الأصوات النقدية المتميزة عربيا، كسعاد مسكين، وسلمى براهمة ، ولبانة مشوح، وفاطمة بن محمود…
س / ماذا عن ظهور القصة القصيرة جدا في السعودية ؟
منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين ، في شكل قصيصات، وأحاديث مختزلة، وقصص قصيرة، وخواطر أدبية ، وأخبار موجزة ، وصيغ شاعرية مختصرة، ومحكيات سردية مقتضبة ومكثفة، متأثرة في ذلك بالسرد العربي القديم أو السرد الغربي المعاصر.
وكانت هذه الإبداعات الأدبية القصصية تنشر في مختلف الصحف والمنابر الإعلامية والثقافية المحلية والوطنية والعربية. وقد ساهمت مجموعة من النوادي والجمعيات والمؤسسات الأدبية والثقافية بالسعودية في ترويج القصة القصيرة جدا في شتى ربوع المملكة، والعمل على انتعاشها وازدهارها تعريفا وتقديما ونقدا، وتشجيع أصحابها بالجوائز المادية والمعنوية، وتكريمهم إعلاميا في عدة ملتقيات وندوات، مع السهر على طبع مجموعاتهم القصصية داخل البلاد وخارجه.
وقد عبرت القصة السعودية القصيرة جدا عن الذاتي والموضوعي والميتا سردي، منطلقة في ذلك من الخصوصيات المحلية والقضايا الوطنية والقومية والإنسانية، مستعملة مجموعة من القوالب الشكلية والجمالية المتنوعة التي كانت تجمع بين الطرائق الكلاسيكية والطرائق التعبيرية الجديدة والحداثية. ولم تكتف القصة القصيرة جدا بالسعودية بما هو مباشر وواقعي وحرفي من الواقع المرصود، بل تعدت الموضوع المرئي إلى الموضوع المجرد في التعامل مع القيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية، واستعمال الرموز الموحية والعلامات الانزياحية، وتوظيف التناص والدوال السيميائية للتعبير عن مشاكل الإنسان السعودي بصفة خاصة، ومعاناة الإنسان العربي بصفة عامة.
ومن أهم الكتاب السعوديين الذين كتبوا القصة القصيرة جدا بالمملكة، نذكر منهم: محمود تراوري، وحكيمة الحربي، وجار الله الحميد، وخالد الخضري، وأميمة الخميس، وتركي ناصر السديري، وإبراهيم محمد شحبي، ومحمد منصور الشقحاء، وشريفة الشملان، وفالح عبد العزيز الصغير، وحسن الشيخ، وسهام العبودي، والبراق الحازمي، وفهد العتيق، وأحمد محمد عزوز، وفردوس أبو القاسم، وأحمد القاضي، وصلاح القرشي، ويوسف المحيميد، وطلق المرزوقي، وفهد أحمد المصبح، وهدى بنت فهد المعجل، ومحمد النجيمي، وطاهر الزارعي، ومشعل العبدلي، وأميمة البدري، وعلي حمود المجنوني، ونورة شرواني، وتركي الرويتي، وجابر عامر وعوض الشهدي، ومحمد علوان، وحسن علي البطران، وعبد السلام الحميد، ونورة بنت سعد الأحمري، وسعاد السعيد، وفاطمة سعد الغامدي , وفهد الخليوي، وجبير المليحان، وهيام المفلح، وعبد الحفيظ الشمري، وعبد العزيز الصقعبي ...
** ويلاحظ أن السرد الحكائي بالمملكة العربية السعودية يتأرجح بين القصة القصيرة والأقصوصة والقصة القصيرة جدا. والدليل على ذلك المصطلحات التي كان يستخدمها الكتاب القصاصون، من بينها :
قصص، قصص قصيرة جدا، قصص قصيرة، مجموعة قصصية، نصوص قصصية... وهذا التعدد في المصطلحات والمفاهيم إن دل على شيء، فإنما يدل على اختلاط الأجناس الأدبية وتداخلها، ومزج الكتاب السعوديين بين كل الأنواع السردية في بوتقة جنسية واحدة، وصهرها ضمن ما يسمى بالقصة.
أضف إلى ذلك أن فن القصة القصيرة جدا لم يستقر بعد نظريا وتطبيقيا في العالم العربي بصفة عامة والمملكة العربية السعودية بصفة خاصة. ولم يدخل بعد قاموس نظرية الأدب وخانة الأجناس . لذلك، نرى المبدعين السعوديين يتعاملون مع هذا الجنس الأدبي الجديد المسترفد من الغرب، بنوع من الحيطة والحذر والحشمة والاستحياء والوجل والمرونة ، خوفا من غضب النقاد ، وبطشهم الشديد، وتحصينا من ردود فعل القراء الذين قد لا يعترفون بهذا النوع القصصي القصير جدا.
** وعلى مستوى التحقيب الزمني ، نلاحظ أن القصة القصيرة جدا بالسعودية لم تظهر إلا في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، مع محمد علوان بمجموعته القصصية( الخبز والصمت). وبعد هذه الفترة، وقع ركود أدبي نسبي طوال عقد الثمانين لتنطلق الحركة الأدبية والقصصية مع فترة التسعينيات، فيزدهر النشر والإبداع والنقد بسبب انتشار التعليم، واهتمام المملكة بتثقيف شبابها وشاباتها، علاوة على الرخاء الذي عم المملكة السعودية بسبب أرباح عائدات النفط. وقد أثر كل هذا إيجابا في الإنسان السعودي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا وتربويا. ومن ثم فلقد انطلقت نهضتها العلمية والفكرية والثقافية في وقت مبكر مقارنة بالدول الخليجية المجاورة الأخرى، مثل: قطر، وعمان، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة...
وعليه، فقد تطورت وتيرة الإبداع القصصي القصير جدا مع التسعينيات وسنوات الألفية الثالثة، مع ازدهار النشر الصحفي، وانتشار المنابر الورقية والرقمية.
أما عدد الذين يكتبون القصة القصيرة جدا، فهم كثر يتجاوزون الأربعين مبدعا...لكن البداية الحقيقية للقصة القصيرة جدا بالسعودية كانت في سنة 1992م مع المجموعة القصصية( فراغات) لعبد العزيز صالح الصقعبي، لتعقبها مجموعات قصصية قصيرة جدا مع سنوات التسعين وسنوات الألفية الثالثة.
أما على مستوى النشر، فقد لاحظنا أن المجموعات القصصية السعودية تنشر داخليا من قبل النوادي الأدبية برياض، وحائل، وجازان، وجدة، والطائف، وأبها، والدمام... وخارجيا في دور النشر الموجودة بالعواصم العربية كعمان، والقاهرة، وبيروت، وصنعاء، والرباط. بل هناك بعض المجلات التي تسهر على نشر القصص القصيرة جدا، ولاسيما القصص التي يكتبها السعوديون، كمجلة ( الجوبة)، و( المجلة العربية)، ومجلة (أبعاد)، و(الإمارات الثقافية)، ومجلة (الرافد)، ومجلة ( دبي) الإماراتية...على سبيل الخصوص، فضلا عن الصحف الورقية المحلية والعربية والعديد من المواقع الرقمية الإلكترونية .
ونستشف أيضا من هذا كله أن معظم هذه المجموعات القصصية لها حجم قصير أو متوسط، وتضم صفحات معدودة ما بين الخمسين والمائة، وأكبر مجموعة نسبيا هي مجموعة (المخش) ليحيى سبعي بنحو مائة وسبع وثلاثين صفحة.
وتحيل عناوين هذه المجموعات القصصية، في أبعادها الدلالية والمرجعية والمقصدية، على مجموعة من التيمات الموضوعية التي تعكس لنا رؤى الكتاب والقصاصين السعوديين إلى العالم، و تتأرجح بين رؤى ذاتية ورؤى موضوعية . كما تتميز هذه القصص القصيرة جدا برؤى فلسفية ودينية مأساوية قائمة على الحزن والمعاناة والاغتراب والوحدة والتشاؤم والضياع، ورؤى أخرى متفائلة تستشرف غد الأحلام والأمل المعسول والمستقبل السعيد.
** ومن بين هذه التيمات الدلالية والوحدات الموضوعاتية التي انكبت عليها القصة القصيرة جدا بالسعودية بالمعالجة والتناول والتمطيط : الفراغ، والعبث، والمعاناة، والأمل، والتلذذ بالأحلام، والارتكان إلى الصمت والسكون، والتساؤل الفلسفي، والاغتراب الذاتي والمكاني، والهروب، والمرأة، والعنف والقسوة، والإبداع والفن، والموت، والقلق، والنفي، والهجرة، والطبيعة، والحزن، والحيرة، والتفرد، و طرح أسئلة الذات والذاكرة، والثورة على المدينة والواقع الموبوء.
** ونشيد كذلك أيما إشادة بالعمل الجبار الذي قام به الأستاذ القاص خالد اليوسف، عندما انتقى أجود المختارات من القصة القصيرة جدا بالسعودية قصد التعريف بكتابها السعوديين، وتسهيل مأمورية البحث والدراسة والتنقيب على كل الباحثين والطلبة والدارسين والنقاد، وخاصة الذين يستوجبون أن تكون النصوص القصصية القصيرة جدا متوفرة بين أيديهم، بغية مدارستها، وتأويلها، وتحليلها، وتفكيكها بنية وتشريحا.
** ويلاحظ أيضا أن هناك من الكتاب السعوديين من لم يجمع بعد قصصه القصيرة جدا في كتاب ويكتفي فقط بنشرها في الصحف الورقية والمنابر الرقمية. وهناك من شمر عن ساعده جادا لطبع مجموعته القصصية جدا كالقصاص حسن علي البطران، و نورة شرواني، وطاهر الزارعي، وعلي حمود المجنوني، وتركي الرويتي، وجابر عامر عوض الشهدي، وعبد العزيز الصقعبي، ومريم الحسن، وغيرهم...
ومن هنا، فأهم انطباع سيخرج به الدارس، وهو يدرس القصة القصيرة جدا في المملكة العربية السعودية، هو كثرة الإنتاج والمبدعين مع قصر المجموعات القصصية القصيرة جدا حجما وكما وكيفا. ناهيك عن اضطراب المصطلح وضبابيته من مبدع إلى آخر؛ بسبب حداثة هذا الجنس المستورد، وعدم اقتناع الكثير من المبدعين بهذا الفن الجديد، وتأرجح الكتاب أنفسهم بين فن القصة القصيرة وفن القصة القصيرة جدا؛ مما ترتب عن ذلك ظاهرة الخلط بين الأجناس، وتداخل المفاهيم الأجناسية نظريا وتطبيقيا.
وإذا كان هؤلاء الكتاب السعوديون قد تناولوا مواضيع محلية ووطنية وقومية وإنسانية وميتاسردية في مجموعاتهم القصصية، من خلال تصورات ذاتية وموضوعية، فإنهم قد انطلقوا من رؤى متفائلة ومتشائمة. كما أنهم فنيا وجماليا، قد جربوا الأشكال التقليدية الكلاسيكية. وبعد ذلك، استثمروا الأنماط السردية الجديدة، ووظفوا في أعمالهم الإبداعية أحدث التقنيات الحكائية لمسايرة مستجدات الغرب في مجال السرد القصصي، والدخول في العولمة الثقافية من أبوابها المفتوحة.
** وهاكم دراسات تطبيقية في القصة القصيرة جداً :
يتحدث د . يوسف حطيني عن مجموعة محمد توفيق السهلي الجديدة من الذي يسرق الأحلام؟! فيقول : (( يشكل الحلم لدى القاص والباحث الفلسطيني محمد توفيق السهلي أرقاً دائماً، إذ يجد الحلم مكانه في مجموعتيه القصصيتين اللتين صدرتا تباعاً، فقد حملت الأولى عنوان { أحلام محرمة } ، فيما حملت الثانية عنوان { الحلم المسروق } .
وقد ارتضى السهلي لهاتين المجموعتين القصة القصيرة جداً شكلاً فنياً، مما يجسد إيمانه بقدرة هذا الشكل الفني على احتضان أحلامه التي سرعان ما يكتشف المتلقي أنها تنحصر في حلم واحد كبير هو حلم العودة إلى الوطن.
يدرك القاص في مجموعته الجديدة { الحلم المسروق } أن التعامل مع القصة القصيرة جداً يفترض حداً أعلى من التكثيف، وهذا ما ينعكس على جميع عناصر القص، إذ يستطيع المرء مثلاً أن يلاحظ أثر التكثيف على بناء الشخصية التي يرسم لها القاص وجهاً واحداً، إلى جانب الشخصية المضادة التي تعوق مسيرة الأولى وتضيئها، وهنا يندر أن تظهر الشخصيات الثانوية في بنية القص.
ويمكن أن نشير إلى قصة { الشخير} التي تقدم شخصيتين لا تظهر من سماتهما سوى الصفة التي يبني عليها الكاتب قصته، يقول السهلي في هذه القصة:
(( تحدثتُ إليه طويلاً.. شرحت نظريات عديدة.. شرقتُ وغربتُ.. ثم أوقفني عن الحديث شخيرُهُ )) . الحلم المسروق، ص28.
وتقوم المفارقة بدور مهم في قصص السهلي في مجموعته الجديدة، ومعروف أن المفارقة هي أحد الأعمدة التي لا غنى عنها في هذا النوع من القص، ويمكن أن نجد لها مثالاُ في قصة { القوس والنشاب } التي يقول فيها:
(( كلما ظهر سلاح متطور اشتروا منه الكثير، وبأعلى الأسعار، فعدوهم خبيث لا يؤمن جانبه. تكدّس السلاح لديهم.. ولم يعرف بعد لماذا تصر هذه العشائر حتى الآن على استخدام القوس والنشاب )) ص11.
وفي تقديري أن العنوان هو الذي خان هذه القصة، وخفف من مفارقتها النهائية، وربما كان من الأفضل للكاتب اختيار عنوان يحفظ للخاتمة صدمتها، وسطوتها على المتلقي.
ويمكن أن نلمس نجاحاً آخر للمفارقة في قصة { الضفة الأخرى} إذ تشي كل المقدمات بنهاية مختلفة، ولا يفضح العنوان السر، كما حدث في القصة السابقة، مما يجعل النهاية تحتفظ بقدرتها على الإدهاش:
(( كان يفصل بينهما نهر.. أراد أن يعبر النهر إليها.. لكن ينبغي له أن يتعلم العوم. ظل ردحاً من الزمن يتدرب، وعندما أتقن السباحة مات غرقاً قبل أمتار من الضفة الأخرى)) ص30، غير أن مشكلة هذه القصة تكمن في أنها تشبه من حيث تركيبها الحكائي، وحوافزها المحركة للأحداث قصصاً أخرى، كـ{المهلهل } ص 45، و{ حصاد } ص41، فهي تحمل في بدايتها بشارة التغيير، وفي نهايتها المأساة غير المنتظرة، وربما كان الكاتب يسعى إلى ترسيخ إيقاع الفقد الذي يشعر به، بعد أن فقد، كفلسطيني، أحد مفردات حياته الأساسية: الوطن.
وثمة إيقاع لا يقل حضوراً عن إيقاع الفقد، ألا وهو إيقاع الحنين الذي يبرز في قصص عديدة، ويشير من قريب أو بعيد نحو الأرض الفلسطينية الأسيرة، ونجد ذلك في قصة { كان يشبهني } ص 8، و{ النرجس } ص12، و{ الأصص} ص14، و{ عطش } ص18، و{ قسم } ص 60، و{العاشق} التي تأتي من خلال السياق التالي :
(( ضربوه وما اعترف.. قطعوا يده اليمنى فاستمرّ في صمته.. بتروا اليسرى فأصرّ على عدم الاعتراف، قلعوا عينيه، فما نبس ببنت شفة.. لكنه، وقبل أن يقطعوا لسانه بثوان اعترف لي بأنه يعشق بلاده حتى النخاع )) ص7.
ويستطيع القارئ أن يلاحظ إقبال السهلي على استخدام الجملة الفعلية، لأنه يدرك بفطرته الإبداعية أن هذا النوع من الجمل يصلح حاملاً للحدث السهمي السريع الذي تقدمه القصة القصيرة جداً، وإن كنا في قصصه نلمح ميلاً حاداً لاستخدام الفعل الماضي الذي يهيئ المشهد للنهاية، ويمكن أن نشير إلى قصة { إبصار} التي تحيل على قصة يعقوب عليه السلام، إذ يكون الـ { هناك } / الوطن معادلاً لقميص يوسف عليه السلام :
(( انطفأ النور في عينيه، وظلّ على تلك الحال عقوداً من الزمن.. قادته قدماه إلى هناك.. أحس فجأة أنه يغوص في الماء.. تحسس صفحة الماء.. وضعه على وجهه فارتد بصيراً )) ص51.
وليست الإحالة على التراث الديني هي الشكل الوحيد للتناص في قصص السهلي ، فهو كثيراً ما يفيد من الخرافة والأسطورة والمثل الشعبي، ففي قصة { كان يشبهني } ثمة إشارة واضحة إلى السندباد الذي يصبح فيها معادلاً نفسياً للفلسطيني الذي يعيش حالة الاغتراب، والبحث عن الموطن الأول:
(( سمعت عنه الكثير.. تابعت أخباره.. قلما كان يستقرّ في مكان.. لفظته الموانئ كلها، وحطمت الريحُ أشرعته.
نظرتُ إلى المرآة، فرأيته أمامي وجهاً لوجه.. كان السندباد يشبهني، وكان مثلي يبحث عن وطن )) ص8.
وتظهر في هذه القصة مقدرة السهلي على اللعب في اللغة، فهو مثلاً يستعيض بالضمير بديلاً عن الاسم الظاهر (عنه/ أخباره/ لفظته/ أشرعته/ رأيته…)، ولا يذكر من يعود عليه هذا الضمير إلى في نهاية القصة، وذلك حفاظاً على الإبهار. وأظن اللغة العربية السمحة التي تشترط في الضمير أن يعود على متقدّم في اللفظ والرتبة تسمح بمثل هذا التجاوز لصالح نص أقدر على مفاجأة المتلقي وإدهاشه.
وما يؤكد أن مثل هذا الأمر مقصود تماماً في لعبة السهلي اللغوية تكراره للتقنية ذاتها في قصة { لم تمت }، وإن كنت ـ شخصياً ـ لا أميل إلى تقديم أي نوع من التكرار، سواء في الأسلوب أو الموضوع. يقول في قصة { لم تمت }:
(( قطعت السيوف أوصالها.. بقرت الخناجر بطنها.. التفت القيود حول معصمها.. كتفوها مئات المرات بالسلاسل، ثم ألقوا بها في دياجير الظلمة.. لكن الكلمة لم تمت )) ص21.
كما يحيل السهلي، إضافة إلى التراث الديني والأسطوري على التراث الشعبي مستفيداً من ثقافته الواسعة في هذا المجال، فهو يستخدم سياقات لغوية شعبية، كما في قصة { اللقاطون } ص15، بل يبني قصته في بعض الأحيان على المثل الشعبي كما نقرأ في قصة { إبريق الزيت } ص 38، و{ خيول وفئران } التي يقول فيها:
(( انزلق بين الخيول الأصيلة.. تجول بينها بخيلاء.. حاول أن يقلد صهيلها فلم يفلح.. حل موعد حذاء الخيول، فرفع الفأر رجله! )) ص24.
كما يفيد القاص من القلب الدلالي والفعلي، فيستخدم الألفاظ، عن عمد، في غير موضعها، ليزيد إحساسنا بالدلالة المرجوة، فهو يستخدم السياق التالي : (( ولم يكذبوا عليه" في قصة "القبو" على عكس معناه تماماً، ليعمق إحساسنا بعذاب البطل :
(( أنزلوه في قبو شديد الرطوبة.. قالوا له غداً صباحاً ستخرج.. ولم يكذبوا عليه، فقد أشرقت شمس غده بعد سبع من السنين العجاف )) ص27.
ومثل هذا القلب يجتاز اللغة عند القاص، ليصل إلى الشخصية، إذ ترتدي الشخصية ثوباً جديداً يصدم وعينا بها، ففي قصة "خروف" تلبس الضحية إهاب جلاد، وتختلط الأدوار في هذا العالم الغريب:
(( انتظر حلول العيد بفارغ الصبر.. الخروف صار جاهزاً للذبح بعد أن كبر وصار سميناً.. حلّ العيد الذي لم يكن من قبل حزيناً.. شوهد أبو عُصمان يسبح بدمائه، وقد هُشّم رأسه.. وشوهد إلى جثته الممزقة، خروف يبتسم، وفي يده سكين حادة تقطر دماً ))
باختصار، فإن محمد توفيق السهلي يقدم لنا في قصصه القصيرة جداً عالماً زاخراً بالرؤى النبيلة من خلال لغة حكائية كثيفة تحمل على أجنحتها أرق الانتماء، وحلم العودة الذي لن ينجح الغاصبون في سرقته من الصدور.
** ويقول د. جميل حمداوي : (( تعد فعلية الجملة من أهم الأركان التي تنبني عليها القصة القصيرة جدا، وتعتبر أيضا من أهم تقنياتها اللسانية والتركيبية والدلالية؛ لأن الجملة الفعلية تتخطى ملفوظها الكلامي نحو رسالتها الإخبارية والفنية والجمالية. ومن ثم نجد كثيرا من كتاب هذا الفن الجديد يستخدمون جملا فعلية متعاقبة، تدل على الحركة والتوتر والاضطراب، سواء أكانت تلك الجمل الفعلية بسيطة أم مركبة، سواء أكانت مبدوءة بالفعل الماضي أم بالفعل المضارع أم مصدرة بفعل الأمر.
وعليه، سنتوقف عند بعض النماذج من القصة القصيرة جدا بالمملكة العربية السعودية، ولا سيما النماذج النسائية منها. وقد برزت، في هذا المجال أصوات متميزة، مثل : أميمة الخميس في مجموعتها (أين يذهب الضوء؟)، وشريفة الشملان في مجموعتها (وغدا يأتي)، وفردوس أبو القاسم في ( لا أحد يشبهني)، وحكيمة الحربي في (قلق المنافي)، وحكيمة لميس منصور الحربي في ( نبتة في حقول الصقيع )، وهيام المفلح في ( كما القلق.. يتكئ الجمر)، و هدى بنت فهد المعجل في ( بقعة حمراء) و(التابو)، وأميمة البدري في ( للشمس شروق)، وسهام العبودي في مجموعتيها ( ظل الفراغ) و ( خيط ضوء يستدق)، ومنيرة الإزيمع في مجموعتها ( الطيور لا تلتفت خلفها)، وشيمة الشمري في أضموماتها الثلاث (ربما غدا) و (أقواس ونوافذ) و(عرافة المساء)، ووفاء خنكار في مجموعتها ( القفص)، ومريم الحسن في مجموعتيها ( آخر المطاف) و(خذلان).
وعلى العموم، فما يهمنا من عملنا هذا هو الإنصات لمجموعة (خذلان) لمريم الحسن، بغية مقاربة الجملة الفعلية في ضوء الرؤية اللسانية والسردية تركيبا ودلالة وسياقا .
** وهذه دراسة تطبيقية لأحد الباحثين لعشرية القاصة د / وفاء خنكار القاصة السعودية :
( 1 ) عطش
(( صيف.. قيظ .. جفاف .. // سحابة عابرة تهطل بالحديقة ..// هرولت تبلل روحها العطشى .. // تركت المكواة تحرق ثوبه .. ))
إذا ما قرأنا النّص بعيداً عن عمق الدّلالة ، و غاية القصد .. سيكون نصاً عادياً، و لربّما يعبر عن موقف امرأة طائشة ، تركت المكواة على ثوب زوجها، و خرجت تستقبل المطر في الحديقة. و لكن النّص غير ذلك ، فهو على قصره، حمّال دلالة قصوى، تُمعن في العمق، و تغوص مع الجذور ..لأنّها نفسية. و الحالات التي تكون كذلك ، يصعب التّعبير عنها بالأسلوب العادي، أو الكتابة التّقريرية الإخبارية. بل أفضل الأساليب و أنجعها الأسلوب الرمزي، أو لغة الرمز، و المجاز metaphor .
يبدأ النّص : بوصف الحالة بكلمات، لا بتعابير و جمل : ( صيف .. قيظ .. جفاف ) و الحالة هنا لا علاقة لها بالمناخ ، و ظروف الجو، و حالات الطقس ...إنّما هو صيف و قيظ و جفاف الروح .. التي تعاني الحرمان ، و نقص المبتغى ، و العيش الصّعب ... و التي تقضي العمر ترقب بارقة أمل تنعشها، أو ومضة حظ تسعفها ..
و تأتي السحابة / الرمز، كالمنقذ غير المنتظر، و المخلص من جفاف عمّ و انتشر . سحابة تهطل بحديقة العمــــر . فكيف لا تهرول إليها ؟ كيف لا تبلل روحها العطشى ؟ كيف لا تستغل سحابة صيف قائظ جاف .. و إن كان نادراً ما تكون سحب الصّيف ممطرة ؟
اختلط في النّص ما هو داخلي يخصّ الروح التي تعاني العطش، و ما هو خارجي تصويراً و تعبيراً بلغة المجاز. Figurative langage و تأتي دهشة القفلة :
( تركت المكواة تحرق ثوبه ) قفلة رمزية ، تشير إلى الآخر، سبب المعاناة ، و عدم الاعتراف بالجميل، و نضوب الحب ، و علامة الشقاء .. لقد تركت بحثاً عن الارتواء، ثيابه تحترق بحرارة المكواة.. كما حرق نضارة شبابها ، و جفّف معين صباها ، و جعلها صيفَ قيظٍ و جفاف
** واستطاعت فنيــــاً أن توظف الجمل القصيرة جداً : سحابة عابرة ـ تهطل بالحديقة ـ هرولت ـ تبلل روحها العطشى ـ تركت المكواة ـ تحرق ثوبه ـ
بل استعاضت عن الجمل بكلمات: صيف .. قيظ .. جفاف . و المجـاز الاستعاري في : تبلل روحها العطشى .
ونلحظ القفلة الرمزية في : تركت المكواة تحرق ثوبه . وعموماً النّص جاء منفتحاً على قراءات متعددة، بسبب تكثيفه و رمزيته .
( 2 ) احتراق
(( قطعة من خشب العود الفاخر تحترق فوق الجمر بهدوء .
طيبها يفوح يملأ أرجاء الغرفة ..
يقترب منها بغترته المتصلبة بالنشاء
يبخر غترته ..
يتخلل البخور أنسجته الرقيقة ..
يأخذ نفسا عميقا ثم يزفر الهواء ببطء..
يرفع طرفي الغترة على كتفيه العريضتين ..
يدير ظهره للمبخرة ..
يترك قطعة العود تحترق في صمت حتى الانطفاء .. ))
و مرّة أخرى، تعيدنا القاصّة د وفاء خنكار إلى أجواء الرّمزSymbole . فنص { احتراق } لا يمكن أن يفهم خارج لغة الرّمز، و إلا استحال نصاً وصفياً عادياً . ( قطعة من خشب العود الفاخر تحترق فوق الجمر بهدوء ) قد تبدو العبارة من خلال السّرد عاديـــة وصفية .. و لكن إذا استبدلت ( قطعة خشب العود الفاخر التي تحترق) ، بالمرأة التي تعاني استغلال و إهمال الرجل ..لا شك أنّ الصّورة ستتغير، و تبدو الملامح واضحة بين العود الفاخر المحترق/ المرأة. و صاحب الغترة المستغل الظالم / الرجل. و تتضح الصورتان المتناقضتان :
المــــرأة : ( قطعة من خشب العود الفاخر تحترق فوق الجمر بهدوء . طيبها يفوح يملأ أرجاء الغرفة ..)
الرجـــــل ؛ و قد استبد بالنّص وشكل الاستغلال و الظلم : ( يقترب منها بغترته المتصلبة بالنشاء // يبخر غترته ..// يتخلل البخور أنسجته الرقيقة ..
يأخذ نفسا عميقا ثم يزفر الهواء ببطء..
يرفع طرفي الغترة على كتفيه العريضتين.. يدير ظهره للمبخرة ..
يترك قطعة العود تحترق في صمت حتى الانطفاء..)
وفنيـــاً اعتمد النّص الجمل القصيرة ، في معظمها فعلية، تعتمد أفعال الحركة : تحترق، تفوح، يملأ، يقترب، يبخر، يتخلل، يأخذ، يزفر، يرفع، يدير، يترك، تخترق
واستطاعت توظيف الرمز اللّغوي :
أ ـ (قطعة من خشب العود الفاخر) رمز للمرأة في معاناتها و احتراقها اليومي..
ب ـ ( طيبها يفوح ) إشارة لفعلها الطيب داخل الأسرة .
ج ـ ( يقترب منها ) إشارة لضمير غائب يعود على الرجل المستبد.
د ـ ( الغترة ) رمز للنّخوة الرجولية في الشّرق العربي .
هـ ـ ( يأخذ نفسا عميقا ) عمق الاستغلال .
و ـ ( يدير ظهره للمبخرة ..) إشارة للتّخلي و الاستغناء ..
ز ـ ( يترك قطعة العود تحترق في صمت حتى الانطفاء..) قفلة رمزية تشير إلى الإهمال المطلق إلى درجة الانطفاء و الانتهاء .
3 ـ همسة : يبدو أن كلمة ( النشاء ) هفوة , و المراد بها ( انتشاء ) . و لكن علمت أخيراً أن الإخوة في السعودية عندهم كلمة (نشا) عبارة عن بخاخ للنشا يستعملونه لكيّ الغترة ، لتصبح صلبة وغير مرتخية ولا يقصد بها : الإنتشاء .. و إن كانت هذه الصفة ملائمة أيضاً في سياق الحدث ..
(3) دوائــــر
(( جلست أمام بحيرة زرقاء كعينيها الزرقاوين , تتأمل دوائر شكلها حجر ألقمته البحيرة الساكنة ..
كانت الدوائر تتسع رويدا رويدا ..
تلاقت دوائر البحيرة مع دوائر أخرى بقلبها شكلتها غصة ابتلعتها بمرارة ..))
'' دوائــــــر'' نص يعالج شكلا من أشكال الإسقاط Projection النّفسي، و كما يقول عالم النفس سيجموند فرويد Sigmund Freud مؤسس التّحليل النّفسي: يشير الإسقاط أولا، إلى حيلة لا شعورية، من حيل دفاع الأنا. بمقتضاها ينسب الشّخص إلى غيره ميولاً وأفكاراً مستمدة من خبرته الذاتية ، يرفض الاعتراف بها لما تسببه من ألم وما تثيره من مشاعر الذّنب، فالإسقاط بهذه المثابة، وسيلة للكبت، أي أسلوب لاستبعـاد العناصـــــر النّفسية المؤلمة عن حيز الشّعور .يضيف "فرويد" إنّ العناصر التي يتناولها الإسقــــــاط، يدركها الشّخص ثانية، بوصفها موضوعات خارجية منقطعة الصّلة بالخبرة الذاتية الصادرة عنها أصلاً، فالإدراك الدّاخلي يلغى، ويصل مضمونه إلى الشّعور، عوضاً عنه في شكـــل إدراك صادر عن الخارج، بعد أن يكون قد لحقه بعض التّشويه.
هنا، في هذا النّص، المرأة تعاني قلقاً نفسياً سببه غصّة ما، قد تكون اجتماعية أو ذاتيـة ..و كما يرى ( بيتر مارش ) أستاذ علم النفس في جامعة كمبردج أنّ الإنسان محاط بثلاثة دوائر متباعدة تحدد مدى سلوكه الخاص و ردّة فعله .و الدائرة الأولى و هي الأقرب إليه قد تكون حميمية فيخترقها الأحبة و المقربون . و قد تكون عكس ذلك فيقتحمها الغرباء فيحدث الاصطدام و الشنآن كالذي يحدث في المشاجرات و الخصام . و لكن يبدو أننا هنا في هذا النّص أمام دوائر حميمية .
فالمرأة : وجدت في خلوتها وسط الطبيعة ، و جلوسها على ضفة البحيرة الزرقاء بزرقة عينيها ،غارقة في تأملها للدوائر التي تحدثها الحجارة التي كانت ترميها من حين لآخر، هذه الدوائر التي تجاوبت و دوائر في قلبها . فكان هذا النّوع من الإسقاط الذّاتي على دوائر البحيرة ، التي تبدو صغيرة ثمّ تمضي تكبر و تتسع ثم تتلاشى و كأنّها لم تكن. فوقع نوع من التّماهي و الذّوبان الوهمي ،بين دوائر تعدّ، و تشاهد، و دوائر من الهمّ أُعدت لتُعاش و ليشعر بها كإحساس نفسي ، و مشاعر سوداء ..و لطالما كانت ظواهر الطبيعة تمتصّ الكثير من الهمّ، و بخاصة على الشّواطـــــــئ و ضفاف الأنهار و البحيرات ،و المروج و الغابات...
وفنيــاً : تحافظ القاصّة د وفاء خنكار ، على نسق جملها القصيرة جداً.
و اعتمدت الرمز اللّغوي : (تلاقت دوائر البحيرة مع دوائر أخرى بقلبها ) .
والقفلة جاءت إخبارية تقريرية ،تفتقد عنصر المفاجأة و التّأمل ...و لكنّها تنفتح على قراءات متعددة مختلفة ، لأنّها توحي بأنّ النّص لم يكتمل بعد ... بل له امتداد في مخيلة القارئ .. الذي عليه أن يقرأ ما بين السّطور، و تأويل حكمة الدّوائــر .
(4) ابتسامة مذيعة
(( بعد البرنامج التلفزيوني توجهت نحو المغسلة ..
غسلت وجهها بالصابون لتزيل المساحيق عن وجهها ..
فركت وجهها بشدة فتزحلقت ابتسامة كانت قد سمرتها على وجهها إلى حين انتهاء البرنامج ...))
''ابتسامة مذيعة '' نص قصصي قصير، يحيلنا على بعض أدوارنا في الحياة . تلك الأدوار التي يفرضها الوظيف و تبعاته، أو التّمظهر الاجتماعي ، أو أحياناً نوع من النّفاق الذي تمليه حالات، و تصرفات، و أوضاع حياتية .
فالمذيعة على شاشة التّلفزة، مطالبة بالابتسامة ،والوجه الطلق البشوش.. حتّى تحظى بالقبول ، و ترتاح لرؤيتها النّفوس ، و تقبل على سماع ما تقول ..و لكن الناس لا تخلو من ملاحظة و مراقبة، فالابتسامة المصطنعة، و التي أساسها غرض تنتهي بانتهائـه، سرعان ما تنكشف . والابتسامة النّاتجة عن طبع ، و عن وجه بشوش دائم الابتسام سرعان ما تُعرف بصدقها و عمقها ..و لكن الابتسامة نفسها يحكمها العامل النّفسي .
و هنا في هذا النص لا تقف المذيعة أمام الكاميرا إلا بعد الجلوس إلى المزين أو المزينة، للاطمئنان على مظهرها، و رونقها . و بعض المخرجين أحياناً ، يتعمّدون سرد نكتة للمذيعين قبل الظهور، أو المذيعة نفسها تقوم بسرد طرفة لصاحب الكاميــرا و المخرج لتضحك ، و تُضحك الآخرين، و تستقبل جمهورها بوجه مُشرق.. و لكن و قد أنهت مهمتها . تتخلّص على التّو، من مَسحات المساحيق، و قد تتخلص من الابتسامة أيضاً ، و تعود سيرتها الأولى ..عـادية. و كأنّ الابتسامة مهمة وظيفية كالمساحيق .
فنيـاً : النص قصير، و رغم قصره مازجته كلمات زائدة : بعد البرنامج التلفزيوني توجهت نحو المغسلة غسلت وجهها بالصابون لتزيل المساحيق عن وجهها ..
فركت وجهها بشدة فتزحلقت ابتسامة كانت قد سمرتها على وجهها إلى حين انتهاء البرنامج ... فيصبح النّص بدون زوائد ،أكثر تكثيفاً ،و تهذيباً ..كالتّالي :
( بعد البرنامج التلفزيوني، توجهت نحو المغسلة ، غسلت بالصّابون لتزيل المساحيق..
فركت بشدة، فتزحلقت ابتسامة كانت قد سمّرتها على وجهها . ) والقفلة جاءت مفاجئة و معبرة .( فتزحلقت ابتسامة كانت قد سمرتها على وجهها .)
(5) ظلم
تسربلت في ردائها الأبيض ..
وجثت على سجادتها الشيرازية ..
تتلو في همس " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة "
يصفق الباب من خلفها ..
صوت أجش يهزأ بها في الظلام : " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم "
'' ظلم '' قصة رائقة استوقفتني طويلا، من حيث نسيجها السّردي، و تقنية الأسلوب.. في هذا النّص البديع ،نحسّ بروح التّشكيل الأدبي، و حساسية التّعبير الفنّي . و هـذا الهاجس المعارض لرغبة الآخر في السّيطرة و الاستبداد ، أو نقول هذا الموقف البيّن الصّريح ،الذي بات يسكن نصوص القاصّة، اتّجاه الآخر.
هــــــي : و بكلّ خشوع، و طهر ،وصفاء (تسربلت في ردائها الأبيض ..وجثت على سجادتها الشيرازية.. تتلو في همس "رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ) و في هذا إشعار بما تعانيه بطلة القصّة من بطش و ظلم و في ذلك "اقتباس من الآية الكريمة : (وَ ضرَب اللّهُ مَثَلاً لِّلّذِينَ آمنوا امْرَأَة فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَت رَب ابْنِ لي عِندَك بَيْتاً فى الْجَنّةِ وَ نجِّنى مِن فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نجِّنى مِنَ الْقَوْمِ الظالمين ) سورة التّحريم/11 و المقصود من المرأة في الآية ؛هي أسيا بنت مزاحم، زوجة فرعون مصر، والتي أصابها عذاب شديد من ظلم و استبداد فرعون بعد أن علم أنّها تعبد الله ،إلى أن توفت، رحمها الله.
أمّا هـــو: فكان فظاً غليظ القلب و الطّبع ، لا يوافقها في شيء ، و يعارضها في كلّ الأشياء . و يسعى و يتمادى في السّخرية منها، و الحط من قيمتها و أفكارها : (يصفق الباب من خلفها .. صوت أجش يهزأ بها في الظلام:" قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ) اقتباس من قول أولاد يعقوب عليه السّلام ، لما أخبرهم أنّه يجد ريح يوسف: { إنّي لأجدُ ريح يوسف لولا أن تفندون، قالوا تالله إنّك لفي ضلالك القديم} سورة يوسف /95
قيل مرادهم بالضّلال؛ حبك فهي كلمة الأبناء نفسها: "إن أبانا لفي ضلال مبين"، وقيل: شقاؤك، كما قيل في قوله: " إنا إذاً لفي ضلال وسعر"، وقيل المعنى في ذهابك عن الصّواب في شأن يوسف، وقيل غير ذلك، وأياً ما كان مرادهم فإنّ العبارة فيها غلظة وخشونة ما كان لهم أن يوجهوها لأبيهم فضلاً عن نبي، وذلك من جملة بلاء يعقوب عليه السلام الذي قضاه الله له ليرفع به درجته، فإن ظلم وجهل القرابة وقعه في النّفس شديد:
و ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة **** على المرء من وقع الحسام المهند
و هكذا يتضح أنّ القاصّة و عن طريق الاقتباس، استطاعت أن تقدّم الوجه المشرق لبعض النّساء و اختارت أسيا زوجة فرعون ، و أرادت أن تبدي وجه الظلم في الرجال و اختارت إخوة يوســــــف.
فنيـــــاً : استمرار لغة الإيجاز و نسقية الحذف و الإضمار . والكتابة وفق أسلوب التناقض المفاهيمي : (( رب ابن لي عندك بيتاً في الجنّة )) و (( قالوا تالله إنّك لفي ضَلالك القديم )) والاستفادة من القرآن الكريم . والقفلة في صورة آية من الذكر الحكيم .
(6) بـــــــرود
(( أطالا الجلوس على طاولة التفاهم دون أن ينبسا ببنت شفة ..
وعندما أرادا أن يكسرا برودة اللقاء طلبا شايا مثلجا ...))
'' برود '' نص قصير جداً ، يشير إلى حالة و وضعية التّفاهم ، التي أصبحت صمتاً رهيباً . لا أحد يتكلم و لا يناقش، لا لأنّ ليس هناك ما يقبل النّقاش ، و لا لأنّ كلّ القضايا أشبعت نقاشاً... و لا لأنّ لغة الكلام تعطلت، و لكن لأنّ كلّ ذلك أصبح غير مجد في غياب الفعل لهذا جلسا ليتفاهما (دون أن ينبسا ببنت شفة..) و كأنّي بلسان حال كلّ واحد يردد : ( أقول إيه ؟! و لا إيه ..؟! ) كثرت الأشجان و تعاظمت، و تشابكت القضايا و تعاضلت، و ادلهمت النّوائب و تفاقمت ...من أين البداية ؟ و إلى أين النّهاية ؟ فعمّ الصّمت و كأنّ الكلّ ينتظر معجزة ، في زمن لم تعد فيه معجزات. و لهذا لكسر حوبة الصّمت ، واكتسـاح صقيع اللّقاء ( طلبا شايا مثلجاً..) مزيداً في البرودة والصّقيع و كأنّ ما هو كائن لا يكفي.
فنيـاً : يطالعنا الإيجاز والجمل القصيرة. ووقعت الكتابة عبر نسقية التناقض :
(أطالا الجلوس على طاولة التفاهم) ، (دون أن ينبسا ببنت شفة .. )
و السؤال : كيف يجتمعان من أجل التّفاهم و لا يتكلمان ؟ والكتابة وفق نسقية اللا معقول : ( وعندما أرادا أن يكسرا برودة اللّقاء) ، ( طلبا شايا مثلجاً ...)
(7) رحيــل
(( عندما قرّر الرحيل جمع كلّ أثاث ذكرياتهما لم يهن عليه حتّى ترك المشجب الذي كانت تعلق عليه معطف الانتظار )) .
" الرحيل " نص قصير جداً، يفيد الفراق و الطلاق ( لم يهن عليه حتى ترك المشجب ..) الزوج في ثورة الغضب و الانفعال. جمع كلّ الأثاث ، حتّى ما يتضمن ذكريات حميمية بينه و بين طليقته، ليعلنها مفاصلة و إلى الأبد. ناسياً أو متجاهلا أنّ ما أخذه معه، أجزاء ثمينة أصبحت من طليقته و إليها، بحكم أنّها كانت وإلى وقت قريب، سيّدة البيت. بل لربما، ما يربطها بها من ذكريات، أكثر وأعمق مما يربطه بها. و لكنّه(منطق الرجل): بحكم السّائد، و التّقاليد و الأعراف .. لا منطق الرجل الذي حدّده الشّرع : (( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً )) [النساء: 19] و قوله صلى الله عليه و سلم:{ إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً، وخياركم خياركم لنسائكم }[رواه أحمد].
فنيــاً : الإمعان في الاختصار و الإيجاز . وتوظيف مجاز الكناية ( عندما قرّر الرحيل ..) ، ( أثاث ذكرياتهما ..)
الرّمز اللّغوي : ( المشجب )، ( معطف الانتظار) والقفلة جاءت رمزية (ترك المشجب الذي كانت تعلق عليه معطف الانتظار .)
(8) حداثـــــة
(( نزف بغزارة فعالجوا جرحه بالبن .. // فاحت رائحة القهوة العربية ..
ضمد جرح الحداثة )).
'' حداثة '' و مضة تخصّ ما أحدثته الحداثة الغربية في العقل العربي ،الذي استجاب لها في لحظة انبهار، و رغبة في التّغيير و التّجديد .. ناسٍ أنّ المجتمعات الغربية ما وصلت إلى رحاب الحداثة، إلا عبر مراحل تطورية، انبثقت من رحم الثّورة الفرنسية فركزت على العقل و التّعقل و العقلانية و اللوغوس، و حرية الفرد، و حرية المرأة ، وفصل الدين عن الدّولة ( العلمانية) ..مما جعل الإنسان مقياساً لكلّ شيء و استبدل الدّور الإلهي بالدور الإنساني .إذ أصبحت الحداثة إديولوجيا تدعو إلى التّجديد في الأدب ، و الفكر، و الدّين و الثّقافة ... أمّا عندنا فقد تلقف المثقف العربي نتائج الحداثة الغربية و سعى إلى المناداة بها نثراً، و شعراً، و نقداً ،و تنظيراً، و فناً ..و كأنّ ما صلح هناك يصلح عندنا. و الأمور ذات الطابع الإنساني الخاص، لا تكون بالنّقل أو الاستنساخ المباشر، و لكن بالتّجربة الحياتية، و المعايشة الآنية .. و الاستمرار في الزّمن. لهذا كان النّزيف و كان الجرح غائراً .. حين مسّت الحداثة المستنسخة ،جوهر الإنسان العربي . فلم يسعف ، و لم يعالج بضماد غربي، أو وصفة حداثية أخرى، إنّما توقف نزيفه، و ضُمّد جرحه، بالبن الذي فاحت رائحته ، و انتشر صيته ، كأحسن بُــــنّ عربي. رمز للأصالة و التُراث .. و الجذور التي حاولت الحداثة المتوحشة ، قلعها ،و خلعها ،و بترهـا ..
فنيـــاً: '' حداثة '' نص متناهي في القصر و التّكثيف . وتوظيف لغة الرمز ( الجرح) : مخلفات و آثار الحداثة المستوردة . و( البـــنّ ) رمز الأصالة و التراث العربي. ( القهوة العربية ) .
(9) شتــــاء
(( رسمت منظراً للربيع بفرشاتها ..
وتحت معطفها الأبيض أرتال من ثلج الشتاء..))
'' شتاء" ومضة ممعنة في القصر، و كغيرها من ومضات القاصّة وفاء خنكار تحمل من المعاني و الدلالات ما يفوق كلمات النّص، و ما ينبغي أن يفرد له كتاب في التّحليل و النّقاش.. و تلك مزية هذه القاصّة، التي انبثق إشراق إبداعها من عمق الجزيرة العربية.
''شتاء'' نص في إثارة المتناقض في نفسية وسلوك الإنسان: رسّامة ترسم، و لا ترسم إلا منظراً طبيعياً في فصل الربيع : اخضرار و أزهار، و أغصان و ثمار ، و فراشات بألوان زاهية، و عصافير هنا و هناك متطايرة ...و شمس ضاحكة، و سماء زرقاء صافية ..و لكن تحت معطف الرسامة الأبيض (البزة )، كانت الروح يجتاحها صقيع ثلج الشتاء ، تفتقد دفء الحنان و المودة، و الرقّة و الوداعة ، و تهيم في متاهات شتاء الحرمان الطّويل...
النّص بهذه الصّورة ، يشكّل شخصية المبدع الذي يعطي العطاء الجميل، و هو في أمس الحاجة إليه. و يبسط الأمل و الرجاء مروجاً خضراء ، و يعيش ذروة الحرمان و الضياع ، و يمنح الدّفء ربيعاً مبشوراً، و يعيش شتـــاء مقروراً. إنّه التناقض في حياة المبدع، و كأنّي به يعطي، ما يرغب فيه لنفسه .
فنيــــاً : إمعان في الإيجاز و التّكثيف اللّغوي استجابة لمتطلبات الومضة .
واللّغة الرمزية : ( منظر للربيع ) رمز للمفتقد في حياة شخصية (الرسّامة) .
( أرتال من ثلج الشتاء ) رمز للمعاناة ..و الصّقيع الذي يشبه الموت .
وتوظيف نسقية التناقض في إبراز حدّة الوضع المردود، و التّطلع إلى القصد المنشود:
( وتحت معطفها الأبيض أرتال من ثلج الشتاء..) مقابل (رسمتْ منظراً للربيع ) .
(10) شجاعة
(( سار في الطريق وحيدا يتأبط ظله ..
ظله يهمس له كلما سمع نباح الكلاب من خلفهما : " لا تلتفت إليهم إنهم يخشونني أكثر منك ! )) .
''شجاعة'' نص قصير أيضاً، يحافظ على نسقية الومضة في الكتابة و الاختزال و الإضمار. و ما يلفت الانتباه في هذا النّص يعود إلى أمرين :
1ــــ الكتابة بنسق غرائبي Exotique. 2ـــــ توظيف الظل Shadow.
أتى النّص ملفوفاً بالإبهام ، مستعصياً على الفهم ، في حاجة إلى مؤشر دلالي . و لكن السّارد أصرّ أن يُبقي الأبواب موصدة .
وعلى القارئ أن يلتمس طريقة وسط عتمة الظل .جاء في كتب التفسير أن الظّل هو عتمة الفجر حتى طلوع الشّمس ، أمّا الظّل بمعناه العام فهو يشمل الخيال الناتج عن الشخص أو الشّاخص في اتجاه سقوط أشعة الشّمس ..... يختلف طول الظّل تبعاً لزاوية سقوط الشّمس ، فإذا كانت الشّمس عمودية على رأس الشّخص فإنّ الظّل يلبس الجسم ولا يظهر له أي ظل ، أما ظلّ الظهيرة يكون له قيمة ولننتبه إلى ما جاء في سورة الفرقان في الآيتين 45 و46 إذ قال الله عز وجل : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا )) (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا)) (46) .
و لكن الظلّ المقصود في النّص : ظل يتأبّط ، و يهمس و ينصح صاحبه ، إذاً هو ظل مختلف . يقول الرسام رينوار الانطباعي : ( ليس هناك ظل أسود ، الظل دائماً له ألوان ) و إحدى ألوانه ما يثبتها هذا النّص في تقمصه لدور غير معتاد : هو وصاحبه تستفزهما كلاب من خلفهما . و يدعو صاحبه ألا يهتم أو يبالي بنباحها، و لا يلتفت إليها فيزيد من سعارهـــــا و نباحها ، و يطمئنه بأنّهم يخشونه هو لأنّه (الظل ) و لا يبالون بصاحبـــه .
فنيـــــاً : فضلا عن الإيجاز و الاقتضاب هناك طريقة غرائبية في انزياح Ecart هــــــذا النّص : ( يتأبط ظله )؛ ( ظله يهمس له )؛ الظل يقول:( إنّهم يخشونني أكثر منك) .
توظيف الرمز اللّغوي : (الظل) قد يكون النّفس ، الضّمير، الشّخصية، التّميز الذّاتي، التّفوق العلمي، الإبداع الفنّي ...( الكلاب ): المناوئون، الأعداء، الحاسدون، النّاقمون...
والقفلة المفاجئة التي تبعث على الدّهشة و الغرابة :( إنّهم يخشونني أكثر منك !)
ونخلص إلى إنّ هذه العشرية جاءت نوعاً ما مختلفة، من حيث الكتابة السّردية، و أسلوب تمريـر الخطاب ، بطريقة غاية في الاقتصاد، و الإيجاز، و التّكثيف و الإضمار عملا بالقولة المأثورة: خير الكلام ما قلّ ودلّ Brevity is the soul of wit بمعنى ( أوجز فأوفى ) .
و نجمل الملاحظات على اختلافها في التّالي :
1 ــــــ في النّصوص توظيف للجمل القصيرة المعبرة. و الإيجاز الفنّي ؛Prolipse
2 ـــــ اعتماد اللّغة المجازية Figurative langage لتمرير الخطاب .
3 ـ الاحتفاء بالرمز اللّغوي، و التّرميز Encoding .
4 ــ الكتابة و فق نسقية التناقض المفاهيمي .
5 ـ القفلة Résolution : رمزية، أو مفاجئة، أو إخبارية ،أو آية من القرآن الكريم
6 ـ الاهتمام بالعوامل النفسية المؤثرة Psychodynamics
في غير هذا يمكن أن نلاحظ :
6 ـ إهمال لعلامات التّرقيم، و بخاصّة الفواصل .
7 ـ إجهاد النّص و تعتيمه أحياناَ لدرجة الإبهام، من شدّة الحذف والإضمار و الإيجاز.
8 ـ ينبغي التّنويع في وضعية ، و وظيفة السّــارد .
و أخيراً، من خلال هذه العشرية للقصة القصيرة جداً نلاحظ أنّه ، يتمازج فنّان عريقان؛ فنّ الرّسم، و فنّ القصّ ، بل أحياناً كثيرة كان ذلك التّداخل العجيب بين تشكيل اللّوحة برموزها و ألوانها و خطوطها، و بين الكلمات في نسقها الرّمزي، و بنائها الشّاعري ، و تركيبها الموجز المشبع بعمق الدلالات، و وميض المعاني و الإيحاءات . الشيء الذي يبشر بعطاء و فير و متميز، للقاصة المكية ، د وفاء خنكار، التي تملك دواعي القصّ المحبوك ، و وسائل التّنوع الأسلوبي المَسبوك ، و تقبل على الفن القصصي إقبالها على الشّعر و الرّسم .. ما جعل قصتّها القصيرة جداً ، مسحة ألوان ، و نأمة أوزان ، وقضايا إنسان ...
س : هل من وصية توصي بها كتاب القصة القصيرة جدا ؟
ج : لا نريد أن نجني على الرواية والقصة القصيرة كما جنينا على الشعر العمودي ولا أريد أن أضع أما القاصين والقاصات عوائق , أو أدعوهم إلى الإقلاع عن الكتابة في هذا الفن , ولست لهم محبطاً , إلا أنني أقول لهم إن رواد الكتاب الكبار أمثال طه حسين ونجيب محفوظ وغيرهما لا يتهافتون على الكتابة في هذا الفن , وهم هم , فلو استسهل الكاتب الكتابة في هذا الفن قد يقع في العبثية السردية فيتحول فنه إلى خطاب سطحي فج , وقد لا يتقن التقنية فتختلط القصة القصيرة جدا بالشعر , أو تختلط القصة القصيرة جدا بالرواية والقصة القصيرة فيكتب في ضوء النفس الروائي أو القصصي فنفاجئ بالتطويل والتمطيط والتفصيل .
كما أنه يجب عليه الابتعاد عن التكرار فهو مناقض لبلاغة الإيجاز والاختزال والتكثيف , وكذا القول في تجنب الإسهاب التصويري أو الحدثي , وحذار أن تتحول قصته إلى ثوب من المواعظ والحكم والنصائح فيسقط في الإنشائية والتقريرية , وينبغي أن يدرك أن غياب الوحدة طامة كبرى .
هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن فن القصة ق ق ج وكل هذا يستوجب قارئا ضمنيا متميزا ومتلقيا حقيقيا متمكنا من فن السرد وتقنيات الكتابة القصصية. كما ينبغي أن تكون القراءة عمودية وأفقية متأنية عالمة ومتمكنة من شروط هذا المولود الجديد، وألا يتسرع القارئ في قراءته وكتابته النقدية على الرغم من كون القصة القصيرة جدا هي كتابة سريعة أفرزتها ظروف العولمة وسرعة إيقاع العصر المعروف بالإنتاجية السريعة والتنافس في الإبداع وسرعة نقل المعلومات والخبرات والمعارف والفنون والآداب.
ونسجل ناصحين وموجهين أنه آن الأوان لتوسيع شبكة الأجناس الأدبية و تمديد رقعة نظرية الأدب بفنون جديدة تفرزها ظروف العصر وسرعة إيقاع الحياة المعاصرة التي تفرض علينا شروطها ومتطلباتها التي لا يمكن الانسلاخ عنها أو تجنبها، فلا بد إذاً من التكيف والتأقلم مع مستجدات السياق الزمني الآني خاصة الفنية والأدبية منها، ولابد للمؤسسات التربوية الجامعية والثانوية والإعدادية والابتدائية والمؤسسات الثقافية الخاصة والعامة أن تعترف بكل المنتجات الجديدة في عالم الإبداع سواء أكان ذلك مستوردا من الحقل الغربي أم مستنبتا في الحقل العربي ، وذلك بالتعريف والدراسة والتشجيع وإقرارها في الكتب المدرسية والمناهج والبرامج البيداغوجية والديداكتيكية.
ومن هذه الأشكال الأدبية التي نرى أنه من الضروري الاعتراف بها اهتماما وإنصاتا أدب الخواطر وأدب اليوميات وأدب المذكرات وفن التراسل والأدب الرقمي وفن القصة القصيرة جدا وفن الرحلة وفن الزجل والقصيدة النثرية والنقد التفاعلي الذي يرد في شكل تعليقات هامشية على النصوص المنشورة في المواقع الرقمية.