كم تعبتُ من الركض وراءه، تشققتْ قدماي وأنا ألهث خلف سراب. يمر في الظلمة فيتسلل من شقوق نوافذ الجيران وأبوابهم، وهم في غير انتظارٍ له ويتركني متململًا في انتظاراتي. بكل خفةٍ وشاعريةٍ يطوف بهم، يقلب بعضهم على بطونهم ويمسح على رؤوس آخرين، يتثاءب رهطٌ منهم وينزلق آخرون في موجة نوم. يكرهونه وهو مُحبهم، مُصابحين لليل اختيارًا ويأبى عليهم السهر، ويهيم بعيدًا عني وأنا أطلبه!
في تلك الليلة المظلمة، ظللت مُسهدًا، انتظرته بكل شوقٍ وهو يرحل مبتعدًا، في عتمته وخيالاته المصطخبة؛ وجدته يفترش سكون المكان القريب، قذفتُ نفسي في عمق وحدته، ولجتُ دائرة بصره، حدّق فيّ طويلًا حتى تلوّن وجهه وأضاء، فرشقته بسهري وسهادي:
-أشتاقك فتُولّي عني، ويهربون منك فتعانق لياليهم.
لم يرفع رأسه وظل مطأطئًا، ثم تمدد أمامي وأخذ يشخر حتى دخل في سراديب اللحظة الفاصلة بين الظلمة والضوء؛ انتفخت أوداجي غضبًا وحنقًا عليه وهو يتجاهلني بكل هذه العفوية والبساطة، غدت يداي مطرقة واستطالت حتى ضربت قدمه اليسرى، فقفز مرعوبًا وهو يعرج محاولًا الهرب لكني صرتُ جدارًا من الصدأ في وجهه، رمقني بنظرةٍ حانية:
-يا ولدي، تعلّم أبجدية الخيال والترحال في أوديتي، عندها ستهوّم عيناك في ضجيج الأماكن كلها ويغلبك الكرى.
ذبتُ في مكاني مثل قالب ثلج ناصع البياض حينها انبثق أول الضوء بدرسٍ جديد.