جلست قرب نافذة القطار المتهالك شاردة عبر النافذة ، أصوات كثيرةمتداخلة ، لم يستطع صوت منهم أن ينتزعها من شرودها هذا، غير صوترجل خمسيني جلس فوق المقعد الواقع أمامها قائلا لمن جلس بجواره :
-منذ وقوع النكسة وكل شئ أصبح مر ، المحصول لم يعد كما كان وكأنالأرض نفسها تأن لما حدث ، أمسك الرجل بلفافة تبغ يشعلها قبل أن يجيبهقائلا:
-ليست الأرض فقط هى من توقفت عن حصاد ثمارها ، لي ولد واحد تزوجقبل النكسة بعام ومر عامين وحتى الأن لم ينجب ، أشعر أن الجميع أقسمألا يفرح قبل أن تفرح الأرض برجوعها إلينا
تنهدت وهناك صوت يتردد بين جنبات روحها قائلا:
-إذن النكسة لم تلحق بالأرض فقط ، بل لحقت بحالنا جميعا وكأن هناك شئيخفي يربط بيننا وبين بعضنا البعض ، عادت من شرودها على صوت نكاتوتهكمات ونمنمات تسربت إلي أذنيها ،عادت بعينيها من الطريق الذي كانتتتصفح ملامحه طيلة رحلتها ، وجدته يقف مستند بظهره إلي أحدي المقاعديكتم غضبه ، فهمت دون سؤال أن ما سمعته من نكات كانت تقصده ، زيهالذي أنباء أنه أحد جنود الجيش ، أكد لها أنهم أخرجوا ما بداخلهم منغضب حينما رأوه ، ظلت ناظرة بوجهه الخمري اللون وعينيه السوداء وشعرهالبني الناعم وتلك الغمازتين فوق خديه ، شعرت بألمه من خلال صمته ، وقفالقطار فجأة ليهتز الجميع ، نهض من كانوا يجلسون أمامها مغادرين نظرحوله يبحث عن مقاعد شاغرا ليجلس به ، رأها ناظرة إليه ، فهم أنها تودأن تخبره بأن يجلس ، خطى ناحيتها جالسا أمامها وهو صامت ، تحركالقطار مرة أخري يكمل طريقه ، مرت دقائق قبل أن تتحدث إليه قائلة كمنيحاول أن يخفف عمن أمامه لحظة حزن يحياها:
-لا عليك هم فقط يحاولون أن ينفثوا عن حزنهم ، لا تحزن وأترك الأمر جانبا ، رفع وجهه إليها وقد ارتسمت على ملامحه أبتسامة هادئة قائلا:
-لست غاضبا منهم أنا حزين من أجلهم ، كم وددت أن تذهب أنفاسي ولاأحيا ما حدث ..لكنها إرادة الله ، سوف نعود لنحارب من جديد وسننتصر ، أبتسمت له قائلة:
-مؤكد سننتصر ونعود نحيا من جديد فرحين برجوع أرضنا ورجوع أرواحنا ، فقط أبتسم
وضع يديه تحت ذقنه قائلا:
-صدقينى أنت النسمة الهادئة التى قابلتها منذ أن تركت مكانى هناك فىسيناء وجئت أقضي يومين أجازة مع أسرتي ، أخبريني ما أسمك؟
أحتضنت كتب كانت تمسك بها قائلة:
-فاطمة أسمى فاطمة وأنت ما أسمك؟
أتسعت أبتسامته قائلا:
-أسمك هو نفس أسم أمي وكم أحب هذا الأسم ، ألم أقل لك أنك نسمةهادئة ، أما عن أسمي فهو أحمد ، قطع حديثهم أمرآة تحمل طفلها تودالجلوس بجواره ، أفسح لها مكان بجواره لتجلس به ، أردف قائلا:
- أين تسكنين ؟ مدت أناملها ترفع خصلة من شعرها قد سقطت على عينيهاقائلة:
-أسكن حي الحسين وأنت أين تسكن؟ أتسعت عيناه وهو ينظر خارجالنافذة قائلا:
-أسكن حي السيدة زينب ، وكم جئت إلي حي الحسين أصلي بمسجده ، أنني أعشقه كما أعشق السيدة زينب وكل شبرا بمصر ، لاحت نظرة حزنبعينيها قائلة :
-من منا لا يعشقها ..لكن أخبرني هل تؤدى فترة تجنيدك أم أن عملكبالجيش؟ مد يديه يغلق النافذة التى تُسرب البرد إليهما قائلا:
-أنني أؤدي فترة تجنيدى ، أننى أعمل مهندسا مدنيا و أمارس مهنتيداخل الجيش أيضا ، أبتسمت له قائلة:
-يوفقك الله أنت وجميع من معك ، أبتسم لها بحب قائلا:
-وأنت ماذا تصنعين هنا بالأسماعيلية ؟ مدت إليها يديها بما كانت تمسكهمن كتب قائلة:
-أنني أدرس هناك بكلية الآداب قسم تاريخ ، همس بينه وبين نفسه بصوتمنخفض قائلا:
-تاريخ اليوم هو الخامس عشر من شهر يونيو ١٩٧٣ لن أنسي هذا اليوم ، رفعت حاجب عينيها اليسرى مداعبة إياه قائلة:
-فيما أنت شارد هكذا أيها البطل ؟ خرجت من بين شفتيه أبتسامة ساخرةقائلا:
-بطل ؟ لست بطل بعد يصير هذا اللقب صحيح حينما نحارب وننتصر وقتهافقط ستكونين محقة عندما تنادينى بالبطل ، مدت يديها دون إرادة منهاتربت كفه الأسمر قائلة ومازالت أبتسامتها مرسومة فوق شفاهها قائلة:
-سننتصر ، غدا سننتصر طبيعة تلك الأرض يقول هذا أنه مهما مر عليها منانهزامات وسقطات حتما سننتصر ، أكتفي بأن يبتسم لها قائلا:
-متى تعودين إلى الإسماعيلية ؟
أتسعت عينيها كمن سمع للتو شئ كان ينتظره قائلة:
-نهاية الأسبوع تنتهي عطلتي وأعواد وأنت؟ نظر بساعة معصمه قائلا:
-أنا أيضا سأعود فى نفس موعد عودتك ، علت صافرة القطار يعلن نهايةرحلته ووصوله إلي محطة مصر وقف من بالعربة يغادرونها وظلوا هم حتىغادر الجميع ، نهضا مترجلين هم الأخرين وقف يشد على كفها قائلا:
-سأراك نهاية الأسبوع ، قلبي يحدثني أنني سأراك مرة أخري ، تركت يدهابين راحته قائلة:
-أتمني أن يكتب لنا الله لقاء ثاني ، أراك بخير ، تركته مغادرة المحطة وقفيتبعها بعينيه وما وصلت إلي نهاية طريقها حتى وقفت تنظر إليه لوحت لهبيدها مرسلة أبتسامة تصطحبه ، سقط باقى اليوم سريعا وكلا منهم فى بيتهوسط أهله ..لكن هناك شئ ما ينقصهم ما هو لا أحد يعرف كانت تلك هيأطول إجازة شعروا بها ، تمنوا أن تمضي سريعا ويتقابلا ثانية ، هناك شئربط بينهما ، شئ لا يعرفون ما هو وأن كان كلاهما يشعر به ، لملمت"فاطمة" أشيائها ماضية في طريقها إلي جامعتها قبل أن تنتهى فترةإجازتها ، أوقفتها أمها سائلة إياها :
-ماذا حدث بنيتي ؟ لم أنت مغادرة اليوم ، باقي يومين وتنتهى فترة إجازتك ، توقفت واضعة حقيبة ملابسها بجوارها مجيبة أمها:
-لا شئ يا أمي هناك بحث هام يجب أن أنهيه وأسلمه لرئيس القسم بالكليةولا وقت أمامي ، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه ، مالت تقبل رأسهومضت فى طريقها ، وصلت إلي محطة القطار وقفت فوق رصيفه ،فجأةأعلنت السماء سقوط أمطارها ، بحثت عن مكان تحتمى به ، خطت لتجلسعلى أحدى المقاعد شاردة فى قطرات المطر هامسة لنفسها:
-كاذبة يا نفسي ، تلك هى المرة الأولى التى تكذبين فيها على أمك ، هل حقاهناك بحث تودين الأنتهاء منه ؟ أم أنك تبحثين هنا عنه ؟ أم أنك أحسستبوحشة غريبة فى غيابه ، فجأة رأت خيال يقف أمامها عادت من شرودهاتنظر إليه ، لتجده هو بابتسامته الصافية وعينيه الدافئتين يقف أمامها، أبتسمت له دون كلام دون سؤال ، ظل كلاهما يحدق بالأخر ، جلس بجوارهاقائلا:
-لم أتيتِ إلى هنا وقررتِ السفر قبل أنتهاء إجازتك؟ نظرت إليه قائلة:
-وأنت ما الذي جعلك تأتي إلى هنا قبل أنتهاء إجازتك؟ نظر باتجاه شريطالقطار شاردا به قائلا:
-لا أعرف حقا ، شئ ما جعلني آتي إلي هنا ، شيء أقوى منى جعلنيأبحث عنك دون أن أعرف السبب ، تلك هى المرة الأولى التي أقطع بهاإجازتي وأعود ، أخذت تعبث بأناملها بما تحمله من كتب دون كلام ، وصوتبداخلها يقول:
-هل هذا هو الحب الذي قرأت عنه كثيرا فى الروايات ؟ هل من الممكن أننحب دون تمهيد أو سابق أنذار ؟ يا الله ما هذا الذى يخترق روحي دونتمهيد ؟ لم هو بالذات ؟ ما سبب تلك السكينة التي أحسها بجواره ، وصلالقطار الذي سيقلهم إلي وجهتهم ، نهضوا معا ، جلسوا بجوار بعضهماالبعض ، شق القطار طريقه ، حاول أن يبدأ الحديث قائلا:
-فاطمة ، هل لي بسؤال؟ بتردد جاوبته قائلة :
-تفضل ، أخذ نفس عميق قائلا:
-سوف أروي لك شئ وعليك أن تسميه لي بأسم محدد ، منذ أن تركتك وأناأشعر أن هناك شئ ما ينقصني ، شئ أنتزع منى وبدونه تائه ضل طريقعودته ، نعم لا أعرفك عن قرب ولم يدم حديثنا طويلا ولم أراك ألا مرة واحدة .. لكن سبحان مؤلف القلوب ، تلك هى المرة الأولى التي أعرف أن هناك مننقابلهم ساعات ويصيرون كل شئ بالنسبة لنا ، أخبريني ماذا تسمي ماحدث؟ أحمرت وجنتيها خجلا ، حاولت أن تجمع الحروف والكلمات قائلة:
-صدقنى أن قلت لك أنه نفس الشئ بالنسبة لي ، ضحك عائدا برأسه للخلفقائلا:
-إذن هذا هو القدر الذى لا نملك حياله شئ ، قد جمعنا الله دون موعد وكأننانصفين نبحث عن بعضنا البعض ، فاطمة لا أعرف ماذا سيحدث فى عودتىتلك ..لكن أعاهدك والله شاهد عليٓ أن عدت بخير لن أعود إلا وأسمك معقودبأسمي ، نظرت إليه بعينين يفيضان شوق وحب وخوف ، مسح على كفهاقائلا:
-لا تخافى أدعي من جمعنا أن اعود إليك سالم مرة أخرى ، وصل القطارنهاية رحلته ترجلا من القطار ويديهم متشابكتين ، سارا سويا حتى وصلتإلي كليتها وقف يودعها ووجه يفيض بشرا قائلا:
-أنتبهي لحالك جيدا ، أنتظرينى مهما تأخرت سأعود إليك ، شدت على كفهكطفل صغير لا يريد أن يترك أمه قائلة:
-ستعود أعلم أن الله لن يرضيه أن يجرح روحي ، تركها ماضيا فى طريقه ، ظلت واقفة تتبعه بنظرها حتى أختفى ، قربت كفها من أنفها تستنشق ريحههامسة :
-اللهم أحفظه كما حفظت سيدنا موسى لأمه ، مرت الأيام سريعا وعادتإلي محطة القطار تنتظره ..لكنه لم يأتي ، أعتصر قلبها خوف عليه ، جلستعلى رصيف المحطة تنظر بوجوه العابرين تبحث عنه وسطهم لكن دون جدوى، سمعت بعض الأحاديث التي تموج بها المحطة تقول :
- أن هناك طوارئ بالجيش وهناك أحاديث عن قيام حرب ، وضعت كفها فوققلبها كمن يخاف أن يترك ضلوعه ويخرج قائلة بصمت:
-كن معهم يا الله وأكتب لهم النصر ، مرت الشهور ولم يراه ولم تعرف عنه أي شئ ، جاء شهر رمضان الكريم كان هو دعوتها التى لا تنساها كل يوم ، على صوت المذياع فجأة يعلن أن جنودنا عبروا القناة ورفعوا علم مصر ، بكت وضحكت فى آن واحد بكت فرحا وخوفا عليه ، ضحكت فرحة بالنصر ، مرتالأيام والجميع يتابع ويدعوا الله أن تعود الأرض وهي تدعوا معهم أن يعودأليها الغائب بخير ، أنتهت الحرب ومرت الأيام ثقيلة عليها ، لم يعد ولم تعرفعنه شئ ، بحثت عنه فى جميع المستشفيات ، سألت عنه كل من رأته عائدمن الحرب لكن لا جديد ، لا جديد يخبرها أنه بخير ، جاء الشتاء من جديد..لكنه جاء أكثر برودة وصقيع لأنه جاء خاليا منه ، جلست بنفس المكان الذيجلسوا به سويا من قبل ، لم تعد ترغب فى فعل أي شئ ، جلست شاردةبعيد ، فجأة رأت شخص يشبهه من بعيد ، تعلقت عينيها به لكنها سرعان ماعادت بهما إلي الأرض أنه شخص كفيف ، مرت لحظات وسمعت صوت دقات عصاه التي يتكئ عليها تقترب منها ، لم ترفع رأسها إليه لم تنظرباتجاهه ، جلس بجوارها ، مرت دقائق تسرب عطره إليها ، عقدت حاجبيهاأستدارت تنظر إليه ، شهقت فجأة ، نزلت دموعها دفعة واحدة ، فشلت أنتنطق بكلمة أو توقف سيل دموعها ، أنه هو أنه "أحمد " .. لكنه كفيف ، كيفحدث هذا ؟ متى حدث ؟ لهذا غبت عني طيلة هذه الشهور ، أمسكت بكفه ، أنتبه فجأة ، سمع صوتها يئن وهو يناديه ، علم أنها هى ، أنتفض واقفيحاول أن يغادر المكان ، أمسكت بذراعه تستوقفه قائلة:
-أحمد اشتقت إليك كثيرا الآن فقط عادت روحي ، حاول أن يتركها ويمضىلكنها تشبثت به متوسلة إليه آلا يغادر قائلة:
-لم تفعل هذا ؟ ما سبب أبتعادك عنى ؟ انتظرتك وبحثت عنك طويلا ، خرج صوته حزين قائلا:
-ابتعدت عنك لأنك تستحقين من هو أفضل مني ، كيف ستحيين مع إنسانفقد بصره فى حرب، أنا أحبك لهذا فضلت أن أبتعد كى تعيشتي حياتك معمن هو أفضل منى ، ضمته إلي صدرها ، أعتصرته بين ضلوعها ، هو الأخرأطبق ذراعيه عليها ، تنفس بعمق كمن وجد واحة سلام عاش بها ، همست لهقائلة:
-أنا عيناك وبصرك ، أنا عصاك اتكأ علي ولن أدعك ترحل مهما فعلت ، أنامعك مهما حدث ، حينما أحببتك لم احب بك جسد رجل ولا عطر رجل بلأحببت روحك ، أمسكت العصا التى يتكأ عليها ملقية بها بعيد ، واضعة كفهابكفه ممسكة به قائلة:
-هيا نكمل طريقنا معا ، تمسك بيدى جيدا سوف نكمل ما بدأناه سويا أن فقدت كل ما لديك لن تفقدني وسيبقى الحب دوما رأس مالنا .
-تمت بحمد الله-