تزامن مرض أمي مع انتقالنا من منزلنا.. سقطت وهي تصفّف الأواني والتحف في الصناديق. كنا نظن أنّ سقوطها راجعٌ إلى آلام المفاصل التي تنتابها بين فينة وأخرى؛ لكنّ تشخيص حالتها كذّب ظنوننا.. وأفجعنا!
"سرطان" أو كما ينطقه الأطباء بقالب ثلج "كانسر" !
"منتشر في مناطق متفرقة من جسدها.. ولا سبيل إلى علاجه.. عمره من سنوات كما يبدو، فكيف لم تراجع طبيبًا؟!".
لم نستطع الإجابة على تلك التعليقات والأسئلة. كيف لنا أن نشرح لهم بغض أمي الشديد للمستشفيات والأدوية، وغضبها منا إذا اقترحنا عليها إجراء التحاليل لمجرد الاطمئنان!
لم ترَ أمي بيتها الجديد، وصار بيتها الحقيقي فيما تبقى من سنوات عمرها: غرفة في مستشفى الملك خالد .. سكنتها ثلاث سنوات لم تغادرها إلا لغرف الأشعة أو المختبرات، وفي أحسن الأحوال إلى باحة المشفى أو ممراتها عندما يخنقها الملل!
لن أتكلم عن تحوّل أمي من امرأة تكاد تتفجّر الحياة من وجنتيها إلى عود خيزران ذاوٍ!
ولن أتكلم عن تساقط شعرها الغزير الأسود قطعًا كاملة فوق وسادتها.
ولن أتكلم عن خرائط وخز الإبر من رسغها حتى أول عضدها!
ولن أتكلم عن وصفها لنار جرعة الكيماوي عندما تحقن به شراينها!
لن أتكلم عن تنهداتها وهي ترى الكعبة الشريفة وقد اعتادت على زيارتها!
ولا عن دموعها عندما توصيني أن أصلي التراويح بدلاً عنها في مسجد حيّنا القديم!
ولا عن رغبتها في أن أحنّي كفيها ورأسها المليء بالفراغات ليلة العيد!
لن أتكلم عن فشلنا في إدخال البهجة إلى قلبها عندما علّقنا فوانيس رمضان في سقف غرفتها، ولا عندما اشترينا لها أثواب الأعياد الستة، ولا عندما أقمنا حفل عرس مصغر لشقيقي الذي حضر بمشلحه وعروسه بطرحتها.
كانت تبتسم برضا وتشكرنا طويلا، لكن التماعة عينيها التي أعرفها لحظة بهجتها انطفأت تماما!
لن أتكلم عن نظرة الأسى المنكسرة عندما أنظف فضلاتها، ولن أتكلم عن العبرة المتحشرجة في حلقها عندما أحمّمها!
لن أتكلم عن تصاعد الخلايا السرطانية إلى رأسها لتغزو ذاكرتها، فتنسى اسمي!
لن أتكلم عن خوفي من كل لحظة أغفو فيها لأستيقظ على توقف نفسها!
سأتكلم عن ألم واحد فحسب .. ألم خلوّ الدار التي نسكنها من ذكريات تربطنا بأمي!
قبل شهر وفي أيام العزاء تحديدًا كانت تسلية الناس لي: أن احمدي الله أنها لم تدخل هذا البيت فتعذبكم ذكرياتها فيه!
وكان ثمة دعاء قاسٍ سمعته كثيرًا وقت العزاء "الله ينزع مودتها من قلوبكم"!
من قال إننا نود أن تخفّ مودتها من قلوبنا؛ فضلاً عن أن تُنزع ؟!
ومن قال إننا نرتاح لعدم مسّ كفّها لأثاث هذا المنزل، ولعدم وجود غرفة خاصة لها ندخلها فتستكين أرواحنا لو شممنا رائحتها أو تمرغنا فوق سجادتها؟!
للحنين حرقة لا يطفئها شيء!
ثلاث وعشرون يومًا أفتّش عن شيء مسّ جلدها قريبًا .. و لا أجد .. يتردّد صوت عمتي في أذني: "خيرة يابنيتي مالها غرفة تدخلينها بعدها وتستاحشين" .
أستاحش ؟!
لم تدرِ أن الوحشة ألا أجد ما أطفئ به النار المضطرمة في كبدي شوقًا لرائحتها.. أن أتلذذ بطعم قهوة صنعتها.. أن أنصت إلى (سواليفها) !
هذا الصباح .. كانت كلّ خلية فيّ معقودة بحبال غليظة جرّتني إلى المشفى .. كانت قدماي تطآن على جمرٍ من شوق، ومن خوف، ومن لهفة، ومن خيبة!
دلفت إلى جناح 14 .. عرفتني الممرضة .. تكفّلت دموعي بأن جعلتها تفتح باب الغرفة.. هرعت إلى سريرها.. لثمت مخدتها .. قبّلت موضع كفيها وقدميها .. ثم تمددت مكانها.. كنت أنصت إلى أنفاسها المتقطعة في أذني .. كنت أشتم رائحة رأسها المنهك من جرعات الكيماوي.. كنت أشعر بنبضها..
نبض قلبها، لا نبض الجهاز اللعين الذي أذكر الثانية التي فيها سكت.