كثيرًا ما يتعثر القارئ بالاستطرادات التي تواجهه عند القراءة، وربما استحسنها لاشتمالها على فوائد وفرائد أو تعليقات وشروحات مصاحبة للنص الأصلي، وتكون من اهتماماته، وربما كرهها فهي تصرفه إلى موضوع آخر، وقد تشتته لا سيما إذا كانت القراءة موضوعية أو بحثية في مجال معين.
الاستطراد هو أسلوب كتابي يغلب طابعه على التنقل من موضوع لآخر؛ أحيانا له علاقة وثيقة بمضمون النص وأحيانا لا. كمن يتحدث عن الاقتصاد، وفجأة تجده يتحدث عن عادات أو ممارسات يقوم بها مجتمع ما أضرت بالاقتصاد، لكن بصورة غير مباشرة ويتعمق فيها ويطرح تساؤلات عنها وكيف أن المجتمع توجه لهذه الممارسة التي أشبه ما تكون بالظاهرة، ناسيًا للموضوع الذي كان يتحدث فيه، ثم تذكر وعاد يكمل حديثه أو موضوعه السابق الذي كان من المفترض ألا يغادره!
بعض الأدباء نشأ على هذا الأسلوب، وتجده حاضرا في كتاباته، بل أن بعضهم يعترف بذلك ويعتذر عنه؛ كالشيخ علي الطنطاوي القاضي السوري -يرحمه الله-حيث يقول في ذكرياته: "...لقد خرجت عن الخط، ولكن لا كما يخرج القطار عن القضبان، فينهار ويسبب الهلاك والدمار، ولكن كما يميل المسافر إلى الواحة فيها الظل والماء، فيجد فيها الراحة والري. فعفوكم إن جرتني المناسبة إلى سرد قصة ليست من صلب الموضوع ولكن أرجو أن يكون من سردها متعة أو منفعة. أعود إلى موضوعي... "
الاستطراد ينقسم لعدة أقسام، منه البعيد والقريب، وبعضه موصول بالموضوع، واستطراد يجعل الكاتب يصرف الكلام أو الحديث إلى وجهة أخرى كمناسبة أو موقف أحاله إلى هذا السياق!
من لذة الاستطراد عند الكاتب والمتحدث بأنه يعطيه أفضلية ليصبغ على كلامه صبغة الصديق الذي يناجي صديقه دون تكلف، أو الطالب الذي يتدارس مع زميله، في حين أن هذا الأسلوب قد يميزه عن غيره بكثرة الاستطرادات.
القارئ لا يخلو أيضا من اللذة التي يقتنصها أحيانًا من بين السطور، مثل اسم مدينة أو اسم شخص وطريقة ضبط النطق الصحيح لهما، وغالبًا لن تجد التشكيل المناسب والمقبول لعدم المعرفة؛ إلا في حال بحثت عمن يُلمَّ إلمامًا شاملًا بهذه المدينة أو هذا الاسم ولديه معرفة مسبقة!
قرأت مرة لعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- أن
«بقيق» مدينة شرق السعودية تكتب وتنطق خطأ بزيادة ألف في أولها (ابقيق)؛ لأن الاسم كتب في أول الأمر من قبل راسمي الخرائط -وهم أعاجم- كما تنطقه العامة وغالبا ما يسكنون أول الاسم مثل (محمد) و (سليمان) فيقولون ( امحمد) و (اسليمان) وهكذا، وهذا خطأ.
لا يمكن إغفال هذا الأسلوب من طلبة العلم وغيرهم ممن يحضرون الحلقات والدروس العلمية إذ تراهم يطربون لسماع فائدة عظيمة إما في التاريخ أو الأدب...إلخ؛ بسبب الاستطرادات التي يمتاز المدرس فيها بالبديهة الحاضرة والحافظة القوية.
كثير الاستطراد مجالسته لا تمل، فهو يطرق أبواب كل فن، وتظل ترتقب لقاءه بفرحة فائقة.
احذر: أن تبتكر المتاهة فتتورط بحافظتك (اللافظة) نحو منحنيات النص الهائل، ويصبح استطرادك كالخيوط المتشابكة في بكرة واحدة لا تعود سليمة إلا إذا تخلصت من نصفها، ويأخذك الإطراء إلى فضاءات واسعة تفقد معها مسار العودة!