*= يقول المعري : (( أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري , وقال بعضهم : إن البحتري أراد أن يشعر فغنى )) ونعم ما قيل , ذلك لبعده عن التعقيد والتعمق في الفلسفة , ما جعل شعره كالجدول الرقراق سلساً سهلاً ممتنعاً ينحدر إلى الأسماع ...
*= هو الوليد بن عبيد بن بحتر يكني بأبي عبيدة وبأبي الحسن , اشتهر بالبحتري , ولد في خلافة المأمون عام 206هـ في بلدة منبج في الشام بين حلب والفرات وتوفي فيها سنة 284هـ مخلفا شعراً في أغراض مختلفة من مديح وعتاب واعتذار وشيء من فخر وهجاء وللذة شعره وروعة موسيقاه وغنائيته , أستشهد ببعض قصائده , يقول في مدح الفتح بن خاقان :
بلونا ضرائب من قد نرى *** فما وجدنا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثات *** عزماً وشيكاً ورأياً صليبا
تنقل في خلقي سؤدد *** سماحاً مرجى وبأساً مهيبا
فكالسيف إن جئته ضارباً *** وكالبحر إن جئته مستثيبا
فتى كرم الله أخلاقه *** وألبسه الحمد برداً قشيبا
ويقول متغزلاً بغادته الفاتنة :
كم ليلة فيك بت أسهرها *** ولوعة في هواك أضمرها
وحرقة والدموع تطفئها *** ثم يعود الجوى فيسعرها
يا علو عل الزمان يعقبنا *** أيام وصل نظل نشكرها
بيضاء رود الشباب قد غمست *** في خجل ذائب يعصفرها
مجدولة هزها الصبا فشجا *** قلبك مسموعها ومنظرها
ومن روائعه قصيدته التي يعتذر فيها للوزير الفتح بن خاقان ويستعطفه :
أكذب ظني بان قد سخطت *** وما كنت أعهد ظني كذوبا
ولو لم تكن ساخطاً لم أكن *** أذم الزمان وأشكو الخطوبا
ولو كنت أعرف ذنباً لما *** كان خا لجنى الشك في أن أتوبا
سأصبر حتى ألاقي رضاك *** إما بعيدا وإما قريبا
أراقب رأيك حتى يصح *** وأنظر عقلك حتى يثوبا
وله رائعة في وصف الذئب يقول فيها :
وليل كأن الصبح في أخرياته *** حشاشة نصل ضم افرنده غمد
تسربلته والذئب وسنان هاجع *** بعين ابن ليل ما له بالكرى عهد
أثير القطا الكدري عن جثمانه *** وتألفني فيه الثعالب والربد
وأطلس ملء العين يحمل زوره *** وأضلاعه من جانبيه شوى نهد
له ذنب مثل الرشاء يجره *** ومتن كمتن القوس أعوج منأد
طواه الطوى حتى استمر مريره *** فما فيه إلا العظم والروح والجلد
سما لي وبي من شدة الجوع ما به *** ببيداء لم تحسس بها عيشة رغد
كلانا بها ذئب يحدث نفسه *** بصاحبه والجد يتعسه الجد
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته *** فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فأوجزته خرقاء تحسب ريشها *** على كوكب ينقض والليل مسود
فما ازداد إلا جرأة وصرامة *** وأيقنت ان الأمر منه هو الجد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها *** بحيث يكون اللب والرعب والحقد
فخر وقد أوردته منهل الردى *** على ظمأ لو أنه عذب الورد
ونلت خسيساً منه يوم تركته *** وأقلعت عنه وهو منعفر فرد
وأروع منها قصيدته في وصف البركة , يقول :
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها *** نعم ونسألها عن بعض أهليها
يا دمنة جاذبتها الريح بهجتها *** تبيت تنشرها طوراً وتطويها
لا زلت في حلل للغيث ضافية *** ينيرها البرق أحياناً ويسديها
تروح بالوابل الداني روائحها *** على ربوعك أو تغدو غواديها
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها *** والآنسات إذا لاحت مغانيها
بحسبها أنها في فضل رتبتها *** تعد واحدة والبحر ثانيها
ما بال دجلة كالغيرى تنافسها *** في الحسن طوراً وأطواراً تباهيها
*= إنّ أهم حدث مرّ بالبحتري في فترته الأولى من حياته اتصاله بأبي تمام , وكان أبو تمام شاعراً مشهوراً وكان له مجلس في حمص يجلس فيه ويجتمع إليه شباب الشعراء ليستمعوا إلى شعره ويعرضوا عليه أعمالهم الفنية , وفي أغلب الظن أن البحتري التقى بأبي تمام لأول مرة في هذا المجلس وكان قد وفد إليه ليعرض عليه شعره فأنشده قصيدته التي مطلعها :
أأفاق صبٌّ من هوًى فأفيقا *** أم خان عهداً أم أطاع شفيقا
وأعجب أبو تمام بهذه القصيدة , فلما انفض مجلسه دعاه إليه وقال له : أنت أشعر من انشدني . والدارس لحياة البحتري يستطيع تقسيمها إلى ثلاث مراحل : المرحلة الشامية الأولى تبدأ منذ ولادته في منبج وتستمر خمسة عشر عاما وفي هذه المرحلة كان البحتري يتكون شاعراً وأهم حدث مرّ به فيها هو اتصاله بأبي تمام .
ثم المرحلة العراقية التي تبدأ منذ رحيله عن الشام إلى بغداد وتستمر قرابة خمسين سنة حتى غادر العراق عائداً إلى منبج , وقد شهدت هذه المرحلة أشد فترة في حياة البحتري الفنية ازدهارا وخصباً وعطاء ونظم فيها أكبر مجموعة من شعره وتردد في على فارس وعلى الحجاز وعاد في أثنائها عودته الأولى إلى منبج .
ثم المرحلة الشامية الثانية التي شهدت البحتري شيخاً مترفاً غنياً يعود إلى منبج ليقضي بقية حياته فيها .
*= اعترافه لأبي تمام بالأستاذية :
يرى البحتري أن أبا تمام هو الأستاذ والرئيس ولا ينكر أنه هو الذي أخذ بيده في عالم الشعر وقرع له أبواب الخلافة حتى أصبح البحتري شاعر بلاط الدولة العباسية عشرات السنين وقد كانت له المنزلة العالية والمكانة الرفيعة , يقول مجيباً أناساً زعموا انه أشعر من حبيب أبي تمام : ( والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام ووالله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت ان الأمر كما قالوا ولكني والله تابع له آخذ منه لائذ به نسيمي يركد عند هوائه وأرضي تنخفض عند سمائه ) وكان أبو تمام قد أوصاه بوصية ساهمت في قوة شاعريته وعلو مكانته , جاء فيها : ( يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر وذلك أن النفس قد نالت حظها من الراحة وقسطها من النوم . وإن أردت التسبيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق فإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وابن معالمه وشرف مقاصده ونضد المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية ولتكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل شعرك غلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك إلى الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين وجملة الحال ان تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله ) قال البحتري : ( فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة ) لقد كان من نتائج هذه الصلة أن أصبح البحتري تلميذا لأبي تمام الذي تعهده بالوصية والنصيحة حتى تخرج عليه وظل صنيعة لأبي تمام يردد صداه ويترسم خطاه وحبيب يرشده ويعضده لأنه طائي مثله حتى قال له يوماً : ( أنت والله يا بني أمير الشعراء غداً بعدي ) فصدق وأصبح البحتري بعد وفاة أبي تمام سائراً لشعر طائر الذكر إماماً في الأدب والقريض
*= جاء شعره فصيحاً جزلاً سلساً واضح الأسلوب لا غموض فيه ولا تعقيد فقد اختار الشاعر الألفاظ المستعملة وابتعد عن الألفاظ الحوشية المستكرهة واستعمل البديع بحكمة وحسن تصرف فلم يجر الغموض إلى معانيه , ولم يفرط فيه إفراط أبي تمام , ولم يبالغ في استخدامه ولم يتعمق في أغواره , كما أن شعره في أغلبه موجز غير مطول يقول :
والشعر لمح تكفي إشارته *** وليس بالهذر طولت خطبه
ولهذا صار للبحتري طريقة خاصة به في العذوبة والسهولة والفصاحة مع الجزالة فتن بها معاصريه , ولعل من أعظم الميزات أن شعر البحتري يسمى سلاسل الذهب لتناسبه , وعذوبته وجماله , وهذا يدل على أن شعره يمتاز بصفات قل أن توجد عند أغلب الشعراء فهو كما قيل : موسيقى عليم بالنغم عنده لون من ألوان التكرار يحمده له النقاد هو التكرار النغمي الذي يعلن قدرته على التنغيم والترنم والاستمتاع بموسيقى التفعيلات وإظهار الانسجام بينها وبين لفظ البيت وكلماته المؤلفة .
يقول الآمدي : ( وليس الشعر هند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع اللفاظ في مواضعها وان يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله , وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافاة لمعناه , فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف وتلك طريقة البحتري ) ويقول أيضاً : ( إن شعر البحتري صحيح السبك حسن الديباج وليس فيه سفساف ولا ردئ مطروح ولهذا صار مستويا يشبه بعضه بعضاً ) . ويقول أيضاً : ( البحتري أعرابي الشعر مطبوع على مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر ) فجدد في المعاني وحافظ على الألفاظ والأساليب .
*= انحصرت ثقافة البحتري في الثقافة العربية القديمة ولم يتصل بالثقافات الأجنبية المتعددة التي اتصل بها أبو تمام , وإن تسرب إلى شعره شيء منها لاتصاله الوثيق بأبي تمام , كما نلاحظ ان البحتري أشد تعلقاً بالحضارات من تأثره بالثقافة العقلية وذلك لأن البحتري كان يؤمن بأن الشعر لا يمكن أن يكون صناعة عقلية تقوم على المزاوجة بين العقل والشعور أو الامتزاج بين الفن والثقافة كما كان عند أبي تمام , وإنما كان يؤمن بأن الشعر عملية فنية تعتمد على العاطفة والشعور ولا صلة لها بالمنطق ولا دخل للثقافات فيها , لأن الغاية من الشعر عنده جمالية فحسب , وهو يصرح بمذهبه الفني في هذه الأبيات التي يقول فيها مدافعاً عنه :
كلفتمونا حدود منطقكم *** والشعر يُغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج *** بالمنطق ما نوعه وما سببه
والشعر لمح تكفي إشارته *** وليس بالهذر طولت خطبه
*= والاستعارة عند البحتري تختلف تمام الاختلاف عن الاستعارة عند أبي تمام فهي ليست أكثر من تلك الصورة المألوفة التي نعرفها في الشعر العربي القديم , تلك الصورة التي تعتمد على التشبيه .
والجناس عند البحتري لا ينتشر انتشاره عند أبي تمام ولا يختلط أو يمتزج بعنصر التصوير الذي كان أبو تمام يعتمد عليه اعتماداً كلياً كبيراً في تشخيص معانيه وتجسيم صوره .
أما اللون البديعي الذي أفرط فيه البحتري إفراطاً غير عادي فهو الطباق , فالبحتري مفتون باستخدام الطباق ونشره في شعره فتنة شديدة ليثير في جوه تلك المفارقة الفنية التي تضفي عليه جمال الأضداد حين تجتمع – ولكنه مع ذلك – لم يصل إلى ذلك البدع الرائع الغريب الذي وصلت إليه { نوافر الأضداد } عند أبي تمام وإنما هو طباق ساذج بسيط لا تعقيد فيه ولا تعب ولا عناء ولا مشقة , لا يعدو وضع لفظة في مقابل لفظة . وكأنما كان البحتري يعتمد في صياغته على تداعي المعاني فإذا ذكر الأبيض تداعى الذهن إلى الأسود وإذا ذكر الضحك تداعى إلى الذهن البكاء ولعل هذا هو الذي جعل الدكتور شوقي ضيف يطلق عليه طباق الذاكرة وهو طباق نستطيع ان نرى صورة منه في قوله :
مني وصل ومنك هجر *** وفيّ ذل وفيك كبر
وما سواء إذا التقينا *** سهل على حلة ووعر
قد كنت حراً وأنت عبد *** فصرت عبداً وأنت حر
أنت نعيمي وانت بؤسي *** وقد يسوء الذي يسر
وأما عمق الفكرة وطرافة الصورة وغرابتها فأمور لم يعرفها البحتري ولم يفكر فيها لأن مادتها العقلية لم تتوافر لديه , وأدواتها الفنية ظلت بعيدة عن متناول يديه . والبحتري شديد الحرص على اختيار ألفاظه وانتقائها بحيث تتلاءم مع الموضوع يقول :
وبديع كأنه الزهر الضاحك *** في رونق الربيع الجديد
ومعان لو فصّلتها القوافي *** هجّنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارا *** وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركن *** به غاية المرام البعيد
فهو يعلن في هذه الأبيات أن مذهبه في صياغة شعره اللغوية يعتمد على حسن اختيار اللفظ السهل القريب الذي يشبهه بزهر الربيع الضاحك الجميل والذي يعبر عن المعنى مهما يكن بعيدا من أقرب سبيل . ولذلك نلاحظ في أكثر شعره أن الغرابة اللفظية تختفي تماماً لتحل محلها الناقة والرشاقة والجمال .
*= وهناك شيء آخر يميز أسلوب البحتري سجله له القدماء والمحدثون وهو تلك الموسيقية التي يرتفع رنينها في شعره ارتفاعا ربما لم يعرفه الشعر العربي إلا عند الأعشى صناجة العرب . وتقوم الموسيقى في شعره على أساسين : تنسيق ألفاظه وتوزيعها موسيقيا , ثم مطابقة هذه الألفاظ من الناحية الصوتية للمعاني التي تدل عليها .
يقول ابن الأثير في المثل السائر : ( نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي ) فكأن من يقرأ شعر البحتري يشعر أنه أمام مواكب من العذارى الجميلات تخطر أمامه أو كأنه في معرض من معارض الجمال الفاتن .
*= وإذا كانت قصيدة عمورية لأبي تمام قد اختطت للشعراء من بعده منهجاً جديداً وهو المديح الحربي والزخرف العقلي فإن قصيدة الإيوان للبحتري كانت منهجاً فريداً وفتحاً جديداً في الأدب العربي ذلك هو البكاء على الحضارات والممالك الزائلة .
*= والوصف عنده وسيلة وأداة من أدوات التعبير الشعري عن خلجات وهواجس تضطرب بنفسه , ولم يقف بالوصف عند الطبيعة وإنما تعداه إلى القصور فوصف الكامل ووصف الإيوان ووصف البركة ووصف البرق ووصف الذئب .
وامتاز الشاعر بالوصف الحسي والخيالي , فالحسي هو الذي يتناول المحسوسات فيصورها بصورة رائعة يرسمها كما يراها ويشاهدها , همه اكتشاف التشبيه الذي يشخص بين مشهدين مختلفين وهذا مثل وصف المدن والقصور والحيوانات .
وأما الوصف الخيالي فهو النظر إلى ما وراء المحسوسات فهو لا يقف عند ما يراه بل يتعداه إلى إيجاد أشياء يفتحها خياله أمامه بحيث يجعل المرئيات أساساً لغير المرئيات ويولد من المحسوسات صوراً مجردة يرسمها للناس تأملات وذكريات وهذا النوع لم يهتم به الشعراء القدماء , ونجده بدعاً جديداً ماثلاً عند شاعر الوصف البحتري في وصف إيوان كسرى .
أولاً : القصيدة . انظر : الديوان1/ 190-194
1 صنت نفسي عما يدنس نفسي *** وترفعت عن جدا كل جبس
2 وتماسكت حين زعزعني الدهـ *** ـر التماسا منه لتعسي ونكسي
3 بلغ من صبابة العيش عندي *** طففتها الأيام تطفيف بخس
4 وبعيد ما بين وارد رفه *** علل شربه ووارد خمس
5 وكأن الزمان أصبح محمو *** لا هواه مع الأخس الأخس
6 واشترائي العراق خطة غبن *** بعد بيعي الشآم بيعة وكس
7 لا ترزني مزاولا لاختباري *** بعد هذي البلوى فتنكر مسي
8 وقديما عهدتني ذا هنات *** آبيات على الدنيات شمس
9 ولقد رابني ابن عمي *** بعد لين من جانبيه وأنس
10 وإذا ما جفيت كنت جديرا *** أن أرى غير مصبح حيث أمسي
11 حضرت رحلي الهموم فوجهـ *** ـت إلى أبيض المدائن عنسي
12 أتسلى عن الحظوظ وآسى *** لمحل من آل ساسان درس
13 ذكرتنيهم الخطوب التوالي *** ولقد تذكر الخطوب وتنسي
14 وهم خافضون في ظل عال *** مشرف يحسر العيون ويخسي
15 مغلق بابه على جبل القبـ *** ـق إلى دارتي خلاط ومكس
16 حلل لم تك كأطلال سعدى *** في قفار من البسابس ملس
17 ومساع لولا المحاباة مني *** لم تطقها مسعاة عنس وعبس
18 نقل الدهر عهدهن عن الـ *** ـجدة حتى رجعن أنضاء لبس
19 فكأن الجرماز من عدم الأنـ *** ـس وإخلاله بنية رمس
20 لو تراه علمت أن الليالي *** جعلت فيه مأتما بعد عرس
21 وهو ينبيك عن عجائب قوم *** لا يشاب البيان فيهم بلبس
22 وإذا ما رأيت صورة أنطا *** كية ارتعت بين روم وفرس
23 والمنايا مواثل وأنوشر *** وان يزجى الصفوف تحت الدرفس
24 في اخضرار من اللباس على أصـ *** ـفر يختال في صبيغة ورس
25 وعراك الرجال بين يديه *** في خفوت منهم وإغماض جرس
26 من مشيح يهوى بعامل رمح *** ومليح من السنان بترس
27 تصف العين أنهم جد أحيا *** ء لهم بينهم إشارة خرس
28 يغتلي فيهم ارتابي حتى *** تتقراهم يداي بلمس
29 قد سقاني ولم يصرد أبو الغو *** ث على العسكرين شربة خلس
30 من مدام تظنها وهي نجم *** ضوّأ الليل أو مجاجة شمس
31 وتراها إذا أجدت سرورا *** وارتياحا للشارب المتحسي
32 أفرغت في الزجاج من كل قلب *** فهي محبوبة إلى كل نفس
33 وتوهمت أن كسرى أبرويـ *** ـز معاطي والبلهبذ أنسي
34 حلم مطبق على الشك عيني *** أم أمان غيرن ظني وحدسي
35 وكأن الإيوان من عجب الصنـ *** ـعة جوب في جنب أرعن جلس
36 يتظنى من الكآبة إذ يبـ *** ـدو لعيني مصبح أو ممسي
37 مزعجا بالفراق عن أنس إلف *** عز أو مرهقا بتطليق عرس
38 عكست حظه الليالي وبات الـ *** ـمشتري فيه وهو كوكب نحس
39 فهو يبدي تجلدا وعليه *** كلكل من كلاكل الدهر مرسي
40 لم يعبه أن بز من بسط الديـ *** ـباج واستل من ستور المقس
41 مشمخر تعلو له شرفات *** رفعت في رؤوس رضوى وقدس
42 لابسات من البياض فما تبـ *** ـصر منها إلا غلائل برس
43 ليس يدرى أصنع إنس لجن *** سكنوه أم صنع جن لإنس
44 غير أني أراه يشهد أن لم *** يك بانيه في الملوك بنكس
45 فكأني أرى المراتب والقو *** م إذا ما بلغت آخر حسي
46 وكأن الوفود ضاحين حسرى *** من وقوف خلف الزحام وخنس
47 وكأن القيان وسط المقاصيـ *** ـر يرجعن بين حو ولعس
48 وكأن اللقاء أول من أمـ *** ـس ووشك الفراق أول أمس
49 وكأن الذي يريد اتباعا *** طامع في لحوقهم صبح خمس
50 عمرت للسرور دهرا فصارت *** للتعزي رباعهم والتأسي
51 فلها أن أعينها بدموع *** موقفات على الصبابة حبس
52 ذاك عندي وليست الدار داري *** باقتراب منها ولا الجنس جنسي
53 غير نعمى لأهلها عند أهلي *** غرسوا من زكائها خير غرس
54 أيدوا ملكنا وشدوا قواه *** بكماة تحت السنور حمس
55 وأعانوا على كتائب أريا *** ط بطعن على النحور ودعس
56 وأراني من بعد أكلف بالأشـ *** ـراف طرا من كل سنخ وأس
*= ثانياً : بيان المفردات :
( جدا : عطاء , جبس : لئيم جبان فاسق , تماسكت : تجلدت , النكسة : عودة المرض بعد البرء , البلغ : جمع بلغة وهو ما يتبلغ به من العيش , وارد رفه : الوارد : الذي يرد الماء متى شاء . والرفه من العيش : الطيب اللين , العلل : ورود الماء ثانية . الخمس : من أظماء الإبل , وهي أن ترعى ثلاثة أيام وترد الماء في الرابع وتشرب في الخامس . لا ترزني : رازه جربه . مزاولا : محاولا . الهنات : جمع هناة أي داهية , والمراد صعبة ذات شماس ومراس وآبيات : ممتنعات . شمس : عنيدة . ابن عمي : قيل : الراهب عبدون بن مخلد , وقيل الخليفة المتوكل . القبق : جبل يسمى الآن جبال القوقاز . خلاط ومكس : مدينتان . أبيض المدائن : أحد قصور كسرى , المدائن : اسم لعاصمة الفرس في العراق . عنسي : ناقتي , محل من آل ساسان : مكان باه آل ساسان , وهو ملوك الفرس آخر الملوك بعد دخول الإسلام إلى بلاد فارس .
الجرماز : الإيوان العظيم . أخلاقه : بلاه .لا يشاب : لا يخلط . اللبس : الاختلاط والإشكال وعدم الوضوح . مواثل : قائمات . يزجي : يسوق . الدرفس : راية الفرس . الخفوت : السكوت . الجرس : الصوت أو خفيه . مشيح : المقبل بحذر وجد . عامل الرمح : صدره . المليح : المحاذر خوفاً . السنان : نصل الرمح . يغتلي : يتعاظم . تتقراهم : تتبعهم
أنطاكية : مدينة شمال سوريا انتصر فيها الفرس على الروم عام 540م . ارتعت : خفت , أنوشروان : هو كسرى الأول , ورس : زعفران .
لم يصرد : لم يقلل . أبو الغوث : ابن البحتري يحيي . خلس : اختلاس . مجاجة الشمس : شعاعها . أجدت : أحدثت وجددت . المتحسي : المتجرع جرعة بعد جرعة . كسرى ابرويز : حفيد كسرى انو شروان . معاطى : يعاطيه الشراب يعني يشاربه . البلهبذ : من كبار المغنيين عند الفرس . الحدس : التوهم . الجوب : الخرق . الأرعن : الجبل ذو الرعن . وهو أنف يتقدم الجبل . الجلس : الجبل العالي . الكلكل : الصدر . مرسى : ثابت . مشمخر : طويل عال . رضوى : جبل بالمدينة المنورة . قدس : جبل بنجد . فلائل : جمع فلالة وهي الشعر المجتمع . البرس : القطن . النكس : المقصر عن غاية النجدة والكرم أو الرجل الضعيف . ضاحين : في الضحى . خنس : متأخرين . يرجعن : يرددن الصوت بالغناء . حوء : سمرة الشفه . لعس : جمع لعساء . وهي الجارية التي بها سواد مستحسن في الشفه . السنور : كل سلاح من حديد . حمس : شجعان . أرياط : قائد الجيش الذي غزا اليمن . الدعس : الدوس والطعن . السنخ : الأصل والمنبت . والأس : أصل كل شيء .
*= مناسبة القصيدة :
لم يذكر الرواة سبباً واضحاً لنظم هذه القصيدة ولكن الشاعر ضمن قصيدته علتين لذلك : الأولى : في أول القصيدة وهي هروبه وفراره من الهموم والأحزان لاستبداله العراق بالشام , ولنبو ابن عمه وجفاه إياه مما جعله يلجأ إلى بقايا الإيوان يتناسى الهموم ونلاحظ هذه العلة في البيات الأربعة الأولى .
والثانية : يذكرها في نهاية القصيدة حيث بكى الإيوان وليست الدار داره ولا الجنس جنسه , وما ذلك إلا لأن لأهله نعمى عند أهله حين أيدوا أهل بلاده عندما أغار الأحباش على اليمن حيث انتصر كسرى لها , فهو يرثي دولة الفرس ومجدها الزائل وهذا في أبياته الستة الأخيرة وأما من ذهب إلى أن القصيدة نظمت في مدح المتوكل ووزيره الفتح فبعيد لأننا لا نجد أي إشارة أو تلميح إلى ذلك . ولا صحة أنها نظمت عقب مقتل المتوكل مباشرة , فالمحققون على أنها نظمت بعد هذا الحادث بثلاث وعشرين سنة أي سنة 270هـ .
*= قال أبو هلال العسكري في كتابه المعاني إن الصولي قال : سمعت عبد الله بن المعتز يقول : لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى فليس للعرب سينية مثلها وقصيدته في البركة { ميلوا إلى الدار من ليلي نحييها } واعتذاراته في قصائده إلى الفتح بن خاقان التي ليس للعرب بعد اعتذارات النابغة إلى النعمان مثلها , وقصيدته في مدح أحمد بن دينار التي وصف فيها ما لم يصفه أحد قبله أولها { ألم تر تغليس الربيع المبكر } ووصف حرب المراكب في البحر لكان أشعر الناس في زمانه فكيف إذا أضيف إلى هذا صفاء مدحه ورقة تشبيهه .
*= شرح الأبيات من ( 1- 10 )
هذه المقدمة غير التقليدية طراز جديد من الشعر لم تألفه القصيدة العربية من قبل ترابطت عناصرها ودارت أبياتها حول محور ذات الشاعر العميقة ونفسه المأزومة من خلال التركيز على النفس في البيت الأول من خلال الترديد والتكرار , فهو يفخر ويشكو ويتحدث عن نفسه المترفعة . ولتوضيح هذا التصاون والترفع قدم لوصفه هذا الإيوان بمقدمة بدأها بالتبرم والشكوى وقرنها بالاعتزاز ومقاومة الدهر وحوادثه التي عدت عليه تطوح به يمنة ويسرة وتضربه بعنف لتكسر عزيمته وتلين عريكته لكنه ظل متماسكا صامدا متجلداً أمام هذه المصائب التي انقلبت عندها المقاييس فارتفع اللئيم وانخفض الكريم , لا يتزعزع ولا يترنح ولا يقبل الوضاعة يعيش عيشة الكفاف مهما اشتدت عليه أزمات المحن وبلايا الزمن فلا يحاولنّ أحد أن يختبرني بعد هذه المصيبة فأنا لا زلت على قديم عهدي ذا هنات آبيات على الدنيات شُمس .
والشاعر يشكو جفاء ابن عمه له بعد أن كان لين الجانب , ويتحدث عن همومه وأحزانه التي عصرت فؤاده ذلك لأنه استبدل وبغباء وخسارة العراق والتي كنّى عنها بالشراء بالشام وطنه والتي كنّى عنها بالبيع فجاء سفره إلى طلول الإيوان تفريجا لكربته وتسلية لفرط حزنه وترفيها عن نفسه , وعساه - أعني الإيوان - أن يتجاوب معه نظراً لما أحسه من تشابه بين واقعه النفسي وواقع الإيوان , لذلك نراه يسقط ما يدور في نفسه على ما وجده من آثار بالية بقيت من الإيوان .
بروز الفعلين صنت وترفعت في مفتتح مصراعي مطلع القصيدة إيذان بالرفض واستعلاء على الفعل تفسيري بالإذلال , ولعل متسائلاً يجد في المصراع الثاني تكراراً للأول والتكرار توكيدي لكنه هنا يؤدي وظائف أخرى أهمها أنه يفسر الأول , ويفصله ويزيده عمقاً ذلك لأن صيانة النفس دالة على إحاطتها بما يعزل عنها ما يسيء إليها .
وفي هذا إشارة إيمائية إلى التعزل والانقباض والتراجع والانحسار والضعف فهي حركة ارتكاسية أفقية , أما الترفع فدال على حركة أمامية استعلائية فوقية .
والمتأمل في ما صانت الذات الشاعرة عنه نفسها سيجدها تصوّنت عما يدنسها , أي إنها كانت سيصيبها الدنس لولا تصونها , أي إنها كانت سيصيبها الدنس لولا تصونها , فهي في موقع المفعولية . أما الترفع فكانت فيه الذات الشاعرة في موقع المفعولية .
وفي كلتا الحالين المفعولية والفاعلية ارتدت الذات إلى داخلها واستمدت قوتها للتصون من رفض الاستجداء فكلاهما ارتقاء .
*= الأبيات من ( 11 – 17)
يفتتح رحلته إلى الإيوان { المعادل الموضوعي } بعد أن قدّم بالأزمة والموقف الشعوري بهذين البيتين وهما الرباط بين المقدمة والموضوع :
حضرت رحلي الهموم فوجهـ *** ـت إلى أبيض المدائن عنسي
أتسلى عن الحظوظ وآسى *** لمحل من آل ساسان درس
فيرى أنه لما حضرته الهموم تاقت نفسه إلى التنفيس عن كُربها فتوجه إلى أبيض المدائن ممتطياً ظهر ناقته القوية ليتسلى وينسى همومه ويعزيها بما أصاب ذلك الصرح الشامخ ما يخفف عنه وطأة الحزن .
حقاً إنها رحلة تفارق الرحلة المعهودة في الشعر العربي فالشاعر العربي العاشق القديم يقف على أطلال محبوبته فيبكي ثم يرحل على ظهر ناقته يعبر بها الفلوات واصفاً إياها , متوسلاً بها لإظهار معاناته .
هذا حاله , أما حال البحتري فلم تستغرق الرحلة عنده بيتاً واحداً , فهو يحضر راحلته ويمضي إلى الإيوان دون أن يذكر لنا شيئاً عن راحلته , وكأنه يريد أن يحتفظ بمادة الوصف للإيوان لا أن يفرغها في الراحلة والطريق .
ويقف أمام هذا الإيوان الضخم المرتفع وكانه لم يبن بناء بل هو جبل نُقب من إحدى جهاته حزيناً حين يتذكر بناته وساكنيه وينظر إلى ارتفاعه فيراه لارتفاعه يضعف العيون إذا نظرت إليه وهو لاتساعه وكثرة ما فيه من جوار وخدم وحاشية خال موحش مقفر تلفه الكآبة بعد أن كانت تميس في حللها متمتعة بعيشة ناعمة نقل الدهر عهدهن عن الجدة حتى رجعن أنضاء لبس .
ثم يتحدث عن الأطلال والمنازل العربية , فلولا انحيازه لقومه العرب لأقر بعجزهم أن يصنعوا مثل هذا الأثر الباقي , إنه مفتون ومغرم بحضارة الفرس وهو مع هذا لا يريد إثارة الأحقاد حينما يلمح إلى الفوارق بين العرب والفرس ولكنه يُظهر أثر الإيوان في نفسه :
حلل لم تكن كأطلال سعدى *** في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني *** لم تطقها مسعاة عنس وعبس
*= الأبيات ( 18- 50 )
يتابع البحتري وصف القصر وما فيه وما حوله فيذكر الجرماز وهو بناء كان عند أبيض المدائن , تهدم وزال أثره وبات موحشاً قفراً لا أنيس ولا ونيس , قد تصدع بنيانه وصيرته الليالي مأتماً قاتماً بعد أن كان سكن الملوك وبعد أن كان يحيا فرحة أعراس دائمة , والشاعر يرى أن ما بقي من آثار الجرماز حقيق بأن ينبئنا عن عجائب القوم وما كانوا عليه من قوة ومجد .
والبحتري عندما يصور الجرماز لا يكتفي بنقل الظاهرة التي أمام عينيه بل يحاول أن يستقرئ المعني الذي يختبئ وراءها , فالجرماز لم يعد كما كان بل تغيرت أحواله وأصبح رمزاً أو معنى فرآه منهدماً فأدرك معناه وغشيه بالشعور الإنساني فتراءى له أن ثمة مأتماً غير مشاهد , ينوح من بين تلك الأعمدة ويصور لنا مشهداً شاخصاً على جدران الجرماز ذلك هو مشهد معركة انطاكية الذي هو جزء من الجرماز كما أن الجرماز جزء من قصر المدائن وهنا نلحظ الربط والتسلسل في هذا الوصف .
*= ثم يرسم لوحة كلية ناطقة مرسومة على جدار القصر إنها صورة أنطاكية تحكي وقائع قصة حرب بين ملك الفرس أنوشروان وملك الروم , وهي صورة رائعة دقيقة يحسبها الرائي حقيقية وأنها في ساحة القتال وقلّ أن يخطر بباله أنه أمام صورة جدارية مرسومة على حائط رسمها الخيال . وهو يقدمها بجزئياتها فيصف هيئة الجنود المقاتلين ولباسهم العسكري الأخضر والأصفر بينما قائدهم أنو شروان يسوق الصفوف وينظمها تحت رايته قد لبس ثوباً أخضر واعتلى صهوة جواده الأصفر تملؤه العظمة والزهو والقوة .
وما تركيزه على هذا الدرفس – العلم المقدس – إلا دلالة تتجاوب مع نفسية الشاعر الذي يستجلي عظمة الفرس بالذات .
ولم يفت البحتري أن يصور لنا حالة الجنود المتعاركين وما هم عليه من صمت وأصوات خافتة منهم من يهاجم عدوه برمحه فيطعنه , ومنهم من يقي صدره من الأسنة بالترس .
وهو يراهم جد أحياء وإن لم يسمع لهم صوت وعراك لأن في وضعهم ما يدل على اكتفائهم بالإشارة كالخرس لا ينطقون , ولكنه لا يلبث أن يعود إلى نفسه فيتذكر أنه أمام صورة مرسومة على حائط ثم يغلب على حسه فيرتاب فيما يشاهد فيمد يده ليتحسس هذه الصورة للتأكد أهي حقيقة أم هي ضرب من الخيال .
وينتقل الشاعر من وصف المعركة إلى الحديث عن تلك الكأس التي ناولها إياه ابنه أبو الغوث فاصطبح بها في الإيوان وهو ينظر إلى العسكريين , وتلك الخمر فريدة تشبه النجم أو مجاجة الشمس , وعندما دارت الخمر برأس البحتري توهم أن كسرى نديمه والبلهبذ أنيسه .
البنية الجوهرية في هذه القصيدة ممثولة في قوله :
حلم مطبق على الشك عيني *** أم أمان غيّرن ظني وحدسي
فالبيت عاج ضاج بكل ما في القصيدة من تحولات إذ تكثفت فيه اللحظات الثلاث : الطرفيتان ؛ ما كانت الذات عليه , وما آلت إليه مع كل ما تختزنه من هواجس ومخاوف , والظرفية الآنية الممثلة للحظة الحرجة .
والبيت إلى ذلك يختزن الانقلاب في كل شيء في واقع الذات التي آلت من القصر إلى الفقر ومن الترف إلى الشظف ومن الأمن إلى الدعة والرعب والفاقة ومن الإقامة المطمئنة إلى الترحال . وفي التقلب في اللحظة نفسها : هل يكون ما حدث صحيحاً واقعاً أو أنه مجرد وهم ستنجلي عنه العينان برهة ؟ إنه الحلم المطبق فالعينان لا تريان شيئاً سواه لكن الشك لا يترك مجالاً لطمأنينة . وتسير الذات الشاعرة من الحلم إلى الأماني ومن الشك إلى الظن والحدس اللذين يتغيران فلا يثبت بهما شيء ولا يثبتان هما على شيء .
الذات الشاعرة في القصيدة واقعة تحت وطأة ثلاث حالات تتناهبها وتملك عليها أمرها , هي :
ما كانت عليه قبل انقلاب الحال { القبلية }
ما آلت إليه بعد الانقلاب { البعدية }
ردُّ فعلها على الانقلاب { الظرفية الآنية }
ويعود إلى وصف الإيوان بعد أن شرب الخمر فيخلع عليه الصفات الإنسانية فيصوره شخصاً حياً تمزقه الكآبة وكأنما هو أليف غاب عنه أنس أليفه فالتاع لمفارقته وغيابه , أو زوج محزون لفراق عروسه فانعكست أيامه ولياليه , بل لقد انعكست ليالي هذا الإيوان فغربت عنه كواكب السعد وأطلت عليه كواكب النحس ولكنه ظل شامخاً قائماً يبدي الصبر والتجلد رغم ما فعله الدهر به إذ أناخ بكلكله عليه وجثم فوقه فرأى الذل بعد العز حين استلت منه ستور الدمقس وبسط الديباج فهو كالغانية الحسناء التي لم يزدها العري إلا بهاء وجمالاً .
وتتماهى الذات الشاعرة مع الإيوان يقول :
وكأن الإيوان من عجب الصنـ *** ـعة جوب في جنب أرعن جلس
يتظنى من الكآبة إذ يبـ *** ـدو لعيني مصبح أو ممسي
مزعجا بالفراق عن أنس إلف *** عز أو مرهقا بتطليق عرس
عكست حظه الليالي وبات الـ *** ـمشتري فيه وهو كوكب نحس
فالإيوان تجسيد رمزي للذات الشاعرة وكونه كالجوب في جنب أرعن جلس تمثيل رمزي آخر لكون البحتري مستنداً في وجوده – قبل انقلاب الحال – إلى مركز الخلافة والسلطة وتظني الكآبة في الديوان هو عينه تظني الكآبة في الذات الشاعرة لكل من يراهما { الإيوان والبحتري } وكون الإيوان مزعجاً بفراق إلف كان يؤنسه هو نفسه كون الذات الشاعرة مزعجة بفراق إلاّفها الذين عزّ أنسهم , والرهق الذي يبدو على الإيوان هو الرهق الذي بدت عليه الذات الشاعرة بتطليق عرس { حياة } تحبها وتتشهاها .
والليالي التي عكست حظ الإيوان فبات المشتري – وهو كوكب سعد – كوكب نحس هي نفسها الليالي التي عكست حظ البحتري من سعد إلى نحس . إن سريان البنية الجوهرية في الوحدات التركيبية يدل على عمق إحساس الذات الشاعرة بمأساتها ورغبتها الملحة في تجاوز تشظياتها وانكساراتها .
ويتراءى القصر للشاعر مشمخراً عالي البناء تعلوه الشرفات كأنها رؤوس جبال رضوى وقدس يكسوها البياض وكأنها فلائل من القطن مجتمعاً بعضها إلى بعض وينال هذا المنظر إعجاب البحتري إلى درجة أنه لا يدري أو من صنع الإنس للجن أم من صنع الجن للإنس .
ويستمر البحتري في وصفه للإيوان فينطلق به خياله إلى عالم إلى غير منظور فإذا الرسوم الهامدة في التراب تنفض التراب عنها فتتحرك وتنبعث وتضج حولها الحياة وينقله خياله إلى ماضي هذا الإيوان فإذا بمجالس اللهو تعقد وإذا بالوفود مزدحمة بالأبواب متلهفة للمثول أمام صاحب التاج والجواري من كل صنف تغص بهن الغرف والمقاصير وكأنما فارقه ساكنوه أمس أو أمس كان اللقاء والفراق .
ثم يفصح بعد هذا عما ألم بهذه الديار من سرور دائم وفرح مستمر ولكن الدهر ما لبث أن انقلب فأصبحت منازلهم وديارهم كأن لم تكن ويرى أن من واجبه أن يعينها بسفح الدموع عليها .
*= ختام القصيدة ( 51- 56 )
قد أفرغ البحتري همومه بهذه الدموع التي انهلت على عظماء التاريخ فيذكر لنا السبب الثاني الذي دفعه إلى البكاء على مملكة الفرس وتاريخهم , وعلى الرغم من أن الدار ليست داره والأهل ليسوا أهله والجنس ليس بجنسه إلا أنها وقفة وفاء لأناس سبقوا الفضل ووقفوا مع قومه في شدتهم حينما استنجد ملك اليمن سيف بن ذي يزن بكسرى أنو شروان لطرد الأحباش الذين غزوا اليمن فأسرع إلى تلبية رغبته . ثم ما كان من عون في قيام الدولة العباسية وتشييدها , وما رافقها من ازدهار الحضارة العربية .
*= الصورة والحواس :
تكشف القصيدة في مجملها واللوحة في تفاصيلها عن سيطرة الموقف على وجدان الشاعر بكل أبعاده خاصة حين يستوقفه المشهد الحربي الذي تحكيه لوحة انطاكية ( نحس بالحركة الحافلة بالحياة في قوله : المنايا ماثلة على أهبة الاستعداد للانقضاض والاختطاف , يزجي الصفوف , يختال , عراك الرجال , مشيح , يهوي , مليح بترس , جد أحياء ) . فإذا بالعنصر اللوني يغلب عليه انطلاقا من حاسة البصر والتركيز على العناصر المرئية في الصورة من خلال الزي العسكري لكسرى فارس . ثم الانتقال إلى الملمح السمعي منها من خلال أصوات الأنين والاستسلام لدى جند الروم ثم زحام ذلك المشهد الحركي الذي تحكيه الصورة بين مدافع ومهاجم من الجند مع التركيز على سلاح كل فريق وطريقة أدائه .
ثم عودة إلى المشهدين البصري والسمعي واصطناع اللقاء المفزع بينهما من خلال إشارة الخرس . ثم استجماع لكافة الحواس التي يتوجها بحاسة اللمس حين يتتبع بيديه معالم الصورة وكأنه يريد أن يفصل في المسألة هل هي واقع أم مجرد خيال .
وخروجاً من أزمته وحيرته وساحة قلقه يحاول تجاوز الموقف عن طريق المشهد الخمري الذي يميت من خلاله كل تلك الحواس لعله يعيش واقعا آخر تهيئه له الخمر في نشوة سكر تنجيه من أهوال ما يرى ويسمع ويحس وعندئذ تتعدد صور الحوار وصيغه بين جمع المثلين في الحلم والأمنية ثم الظن والحدس مع محاولة دائبة لاستيعاب الزمن مهما تعددت جوانبه وتباعدت فتراته فهي محاولة لاختصاره أو تغييب الذات عن الحقيقة المؤلمة ومن ثم يأتي حديث الخمر بمثابة ترجمة فعلية لموقف نفسي مضطرب عاشه الشاعر حائراً ممزقاً بين الشك واليقين او الحقيقة والخيال أو الوهم والواقع فلعله من خلال الخمرية ينجح في تجاوز المحنة الأليمة التي ساقها إليه قدره .
*= الشاعر يتوقف عند الزمن عبر مصطلحات مختلفة لا يكاد يبين منها سوى خوفه وفزعه من مواجهته تتوحد دلالتها النفسية ويتشابه إيقاعها إلى مدى بعيد , ابتداء من حوار الشاعر المتكرر حول لوحات الماضي ومشاهد الحاضر , وهو تكرار ينهض به بناء على اختيار المدقق للصور , ذلك أن الموقف يستدعي هذا الاختيار المحدد لشرائح التجربة حتى تسير في نسق واحد متقارب يكشفه توقف الشاعر عند الزمن عبر مصطلحات مختلفة لا يبين منها سوى خوفه وفزعه من مواجهته سواء ما تحدث عنه تحت مصطلح { الدهر } أو ما أشبهه من بقية مصطلحاته ( الأيام والزمان – البلوى – الخطوب – الهموم – الليالي ) والتي تحكي تعلقا بموقف الشاعر بين التخاذل والتزعزع والتعاسة والانتكاسة وما أصابه من المس ودوافعه إلى محاولة التسلي والتعزي إضافة إلى حيرته إزاء ما تعكسه حواسه المختلفة من صور هذا الواقع المرير ومشاهد الماضي الكئيب الذي لم يتبين منه على مستوى الصورة سوى الخفوت وإغماض الجرس وإشارات الخرس حتى بدا صريع الضياع بين عزاء النفس من خلال أي من الزمنين الماضي والحاضر على السواء .
وتبقى المساحة التاريخية للنص مرهونة في جانب منها بالواقع العنصري الذي لم يجد الشاعر بدا من التعرض له وكأنه يحاول تبرئة نفسه من أن يتهم في عروبته فراح يعرض لدوافعه ويحكي أسرار اندفاعه إلى الإيوان بالذات من منطلق نفسي خالص لا يعرف موازاة ولا مخادعة مما ينفي عنه تهمة التورط في الشعوبية وتبرئة نفسه من شبهة الاتهام .
*= ثنائية الطباق والمقابلة :
يمثل أول الثنائيتين الحال التي آلت إليها الذات الشاعرة , والآخر يجسد ما كانت عليه , وتتراءى هذه الثنائية في القصيدة عبر لوحات فنية متباينة , يقول :
وبعيد ما بين وارد رفه *** علل شربه ووارد خمس
الثنائية الجوهرية هنا تتجلى بين { وارد الرفه – وارد الخمس } فالإبل التي يخلّى بينها وبين الماء لترده متى شاءت وكيف شاءت تمثيل رمزي للذات الشاعرة في حالها القبلية إذ كانت قريبة من المركز { السلطة – الخلافة } تعيش رغد الحياة . والإبل التي تُلْحى عن ورود الماء مقيدة بأن يأذن لها الولي في الورود بعد أربعة أيام من ورودها السابق لترد في الخامس تمثيل رمزي لحال الذات الشاعرة بعد أن انقلبت أمورها وأصبحت شريدة طريدة تلحى عن الورود خائفة ناجية بنفسها ؛ أي للذات التي فقدت كل شيء بعد أن ملكت كل شيء .
وغير خاف أن الصفة المشبهة { بعيد } دالة على عمق الهوة بين الحالين رغد العيش والأمن وشظفه والرعب . كما أن التركيب { علل شربه } اللصيق بوارد الرفه دال على عمق إحساس الذات الشاعرة بالفقد وألمها بانقلاب الحال .
وتمتد الثنائية الجوهرية التي جسدت انقلاب حال الذات واردة الرفه إلى واردة الحمس لتنطلي على المنازل والديار ذلك المكان اللصيق بالشاعر إذ هو مصدر هواجسه وإحساسه العميق بالتغير والدثور يقول :
حلل لم تكن كأطلال سعدى *** في قفار من البسابس مُلس
ومساع لولا المحاباة مني *** لم تطقها مسعاة عنس وعبس
نقل الدهر عهدهن عن الجدة *** حتى رجعن أنضاء لبس
ومع التماثل الصوتي الجمالي في { عنس وعبس } وما فيها من جمال فإنهما تمثلان ثنائية الجنوب والشمال فأولاهما قبيلة قحطانية يمانية وأخراهما قيسية عدنانية شمالية عرفتا بالعزيمة والشدة والبأس وهي ثنائية تبدو استكمالية .
والثنائية المهمة هي التي يبرزها البيت الأول بما تمثل من حال تلك الديار المقفرة وما فعله الدهر بها حين قلب حالها عن الجدة إلى البلى تلك الحال في عهدها الأول تتماهى معها الذات الشاعرة في حالها الأولى وما انقلاب الدهر عليها ونقله لعهدها عن الجدة لتعود أنضاء لبس سوى تمثيل رمزي في العمق لانقلاب الدهر على الذات الشاعرة كذلك .
ولا يختلف الأمر مع الجرماز عنه مع الحلل تتماهى الذات الشاعر مع الجرماز تماهياً يشي باستمدادها العظمة منه . واستشعارها هيبة الموقف إذ عبرت به قبل ولوجها الإيوان . غير أن امتداد الثنائية يزداد عمقاً وتجلياً كلما تحركت الذات الشاعرة في المكان أفقياً وصولاً إلى الإيوان وكلما تراكم البناء الشعري امتداداً صوب الغاية الكبرى من تشكيل اللوحان النظمية النوعية المنبنية على الثنائية الجوهرية .
إن مراكمة الطباقات والمقابلات ينبغي أن يسير أفقياً وفق الامتداد في المكان وعلوياً رأسياً في العمق من حيث الكثافة والإبلاغ والبلاغة , وهكذا تتدرج الطباقات والمقابلات في الوضوح والعمق لتصبح أجلى وأقرب إلى تجسيد الحالة التي تعيشها الذات الشاعرة نتيجة انقلاب حالها ويتدافع ههنا بلغ صبابة العيش وورد الرفه والحلل ذوات الجدة ليبلغ هذا التدافع أوجه في العرس والأنس الذي كان كما يتدفق تطفيف الأيام البخس وورد الخمس وأطلال سعدى وأنضاء اللبس ليبلغ التدفق كتلته الصلبة في المأتم وبنية الرمس { القبر } إنه الامتداد الأفقي الذي يراكم عمودياً ليبلغ مداه وذروته والإخلال الرامز لإحساس الذات الشاعرة بالوحشة والانقطاع والعزلة دليل انقلاب الحال :
فكأن الجرماز من عدم الأنس **** وإخلاله بنية رمس
لو تراه علمت أن الليالي **** جعلت فيه مأتماً بعد عرس
وتتصاعد البنية الجوهرية بالحال الطباقية وبالتركيبة المقابلية لتنكشف في الغاية عن تفصيل عظيم الأهمية في الانقلاب إنه التنويع الأخير للثنائية الجوهرية وهو في هذه المرة جاء مكثفاً تكثيفاً مدهشاً يجمع ثنائيات عديدة فضلاً عن أنه هُيّئ له بما جعله ذا أثر عميق في الذات الشاعرة بما يسرّي عنها . لكنه يؤثر في المتلقي أيضاً بما يكشف الذات أمامه عارية من كل سبيل تُخي بها شكواها الجليلة من تقلب الدهر واصطبارها الذي اضطرتها عليه الأيام .
وإذا كانت الأيام تصيب الخلق جميعهم بتطفيف بُلغ صبابات العيش عندهم وتجود أحياناً وتحرم أخرى كما يُرى من حال الإبل حين تجود السماء أو تصيب السنة بورود الرفه أو ورود الخمس , وإذا كانت الديار تتقلب الرياح بها وتُبلي جدتها الأحوال وكذلك الثياب والحلل التي تزول جدتها وتخلق وتبلى وإذا كان البناء المحكم المشهود بحسن صنعته يُهجر ويصبح موحشاً بعد أن كان عامراً , إذا كان هذا كله أمراً مقبولاً يعهده البشر جميعاً في حلهم وترحالهم , وتقلب الأحوال بهم من غنى إلى فقر ومن خصب إلى جدب ومن فرح إلى حزن فإن العبرة التي تنال من هذا استشفافا ولمحاً قد تنال يقيناً واعتباراً حقاً حينما ينظر في أحوال من كان لا يظن به انقلاب الحال . ولعل إيوان كسرى الذي ضرب به المثل والذي عرفه العرب جيداً يكون غاية في تجسيد الثنائية التي تعيش الذات الشاعرة غمارها وتسعى حثيثاً للخروج من ربقتها لتتخلص من أزمتها .
*= روافد ساهمت في نضج التجربة :
*- الألفاظ : شاعت في القصيدة ألفاظ الكآبة والحزن والمعاناة فجاءت مكثفة متزاحمة معبرة كاشفة عن معاناته الكامنة في نفسه من مثل : (( التعاسة والدنس والنكس والنحس والأخس والغبن والوكس والبلوى والمس والهموم والأسى والدرس والخطوب والرمس والمأتم والمنايا والخفوت والجرس , وإشارة الخرس والفراق والليالي والدهر وكوكب النحس والأيام وشك الفراق ومحاولة التعزي والتأسي )) . كذلك نرصد ألفاظا حكت أحداث الماضي وكشفت لنا عن صدق تجربته ونضوجها , كالأنس واللين والعرس والعجائب والعمران والصبابة .
*- وساهمت كذلك التلاوين البلاغية في إبراز كآبة الشاعر ومعاناته النفسية يطالعنا :
= التشبيه في قوله : { رجعن أنضاء لبس – كأن الجرماز بنية رمس – ومدام نجم أو مجاجة شمس – كأن الإيوان جوب – يتظنىّ مزعجاً بالفراق أو مرهقاً بتطليق عرس , وصورة الإيوان كائنا حيا وأنه بعد ما استلت منه ستور الدمقس والحرير غدا كالغادة الحسناء بعدما نزع عنها البؤس ما كانت ترتدي من ثياب وحلي فصارت متجردة لا يزيدها تجردها إلا جمالا وحسنا } .
= والاستعارة في قوله : { بُلغ من صبابة العيش – كلاكل الدهر , تطفيف الأيام , وهوى الزمان , وحضرت رحلي الهموم , والإيوان يتظنى , ويزعج ويرهق , واشترائي العراق – بيعي الشام } والكناية في قوله : { بات المشتري ..كوكب نحس } , والمجاز المرسل وعلاقته المحلية حضرت رحلي الهموم .
= والمحسنات البديعية كالطباق { صنت ويدنس وتماسكت وزعزعني وتذكر وتنسي و خافضون وعال مشرف ومأتم وعرس وروم وفرس ومصبح وممسي وأنس وجن }
= والمقابلة : { الصيانة والدنس , والترفع والذل , والتماسك والزعزعة والعيش المرفه وحياة الضنك , والبيع والشراء والجديد والبالي , والإصباح والإمساء , والذكر والنسيان والمأتم والعرس }
= ولجأ البحتري إلى التصريع في مطلع سينيته فجاء إيقاعا متوازنا جميلا يجعل النفس في مواجهة اللئام وكونها في مطلع القصيدة دليل على حب المواجهة والتأسي .
= ويشدنا التجانس الصوتي في قوله : ( نفسي في البيت الاول , وتماسكت والتماسا وتعسي ونكسي في البيت الثاني , وأتسلى وآسى في البيت الثاني عشر , وذكرتنيهم وتذكر في البيت الثالث عشر , والأنس ورمس في البيت التاسع عشر ) .
= وأعطى التكرار القصيدة تلك النغمة الرتيبة الهادئة سواء أكان عن طريق المجانسة كقوله : { طففتها وتطفيف , وبيعي وبيعه , وعنس وعبس , ومشيح ومليح , وجوب وجنب وكلكل وكلاكل } أو في تكرار اللفظة نفسها كقوله : { نفسي نفسي والأخس الأخس , الخطوب الخطوب , إنس لجن , وأول من أمس وأول أمس , والدار داري والجنس جنسي } أو تكرار حرف التشبيه { كأن } الذي ورد ثماني مرات .
= وجاءت كثرة صيغ الجموع كالأيام وآبيات والدنيات والهموم والمدائن والحظوظ والخطوب والعيون وحلل وأطلال والليالي والمنايا مواثل وكلاكل ... لتنبئ عن تزاحم وتكاثر واحتشاد واختلاط الأشياء والمشاعر في عمق الشاعر .
= وكذلك صيغ الأفعال جاءت لتفيد التحول والتغير : نقل الدهر عهدهن , غدون , وجعلت , فهناك انتقال من حال إلى آخر وكذا حال الذات الشاعرة قد انتقلت من حال إلى حال ..
*- واعتمد البحتري على الصيغ الصرفية كالأفعال المزيدة وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على المبالغة في الجهد والفعل من مثل : ( صنت على فعلت , وترفعت على تفعلت , أتسلى أتفعل , وتماسكت على تفاعلت , فوجهت : فعللت , وأذكرتنهم : أفعلتنهم , وتتقراهم : تتفعلهم , وتوهمت تفعلت ...)
*- وسر التقديم في قوله : { حضرت رحلي الهموم } حيث قدم المفعول به على الفاعل وأخر المفعول به في الشطر الثاني لأنه أراد أن يخص كلمتي الهموم وأبيض المدائن بالاهتمام والعناية والتنبيه فالهموم هي التي قادته إلى أبيض المدائن .
*= ولعبت الموسيقى دوراً رائعاً في كشف تجربته حيث تراقصت أنغامه الحزينة على البحر الخفيف ذي الموسيقى الخافتة الهادئة والذي يناسب جو الأطلال الموحشة في فضاء مدينة مهجورة لا تُسمع فيها الأصوات لكنها تُرى , كذلك يناسب حالة الكآبة والحزن والخشوع ..
وقد اعتمد الشاعر أيضاً في هذا الخفوت على أمور عدة , منها : قافية السين والتي تكررت مائة مرة في القصيدة , فجاءت مهموسة هادئة رقيقة لأن الشاعر وإن كان حزينا مهموما فهو مستسلم هادئ , وجاء السين مكسورا معبرا عن انكسار نفسية الشاعر وما يتخلجها من هموم وضعف فجاء الصوت موحيا بالمعنى خادما له .
وسبب تكراره ليس لأنه حرف الروي بل تكرر لأنه المفتاح الصوتي في القصيدة كلها ففي مطلع القصيدة يتكرر خمس مرات فهو المكون الإيقاعي الأول والصوت المنتظم الفاضح لصيرورة المعنى . ونجده عبر الأبيات وفي آخر الأبيات وفي هذا دليل على أن الإيقاع لا يتوقف عند المستوى العمودي بل جمع بين المستوى العمودي والأفقي .
لقد حضر حرف الصفير في البيت الأول بالسين أربع مرات وبالصاد مرة واحدة وقد تجمعت أصواته في الصدر ولم يظهر منه في العجز إلا صفير الروي . وصدر الطالع أول مصراع يفتح في وجه القارئ وفيه أولى لبنات البناء والأداء التي تحقق اللقيا بينه وبين الشاعر فينعقد بينهما رباط محكم سيحرص الشاعر على تواصله بتكثيف الصفير وتصوير التأزم في أواخر أبيات القصيدة بالروي . والصفير أول صوت وآخر صوت سمعناه من الطالع وهو أيضاً آخر بيت سمعناه من الصدر فمنه كان البدء وإليه كان الانتهاء وقد سمعناه في حشو الصدر أيضاً .
ثم الحروف الموافقة لهذا الخفوت كالشين والصاد والزاي . كذلك تجاور اللفظتين المتوائمتين إما ترادفاً تجنيساً وإما طباقاً كما في قوله : { تعسي ونكسي , عنسي وعبس , والأخس الأخس والجنس جنسي , وسنخ وأس , وظني وحدسي , وجن لإنس , وحو ولعس } .
*- العاطفة :
وهذه القصيدة التي صدرت عن قلب مكلوم وهمس حزين تتسم بعاطفة إنسانية صادقة , فالشاعر حين راودته هذه الأفكار وتمثلت لمخيلته هذه المناظر لم يملك إلا أن يشارك الأطلال البكاء على مجدها الزائل ونجمها الآفل وإن كان عربي لا تربطه بالفرس صلة فليست الدار داره ولا الجنس جنسه ولكنه جبل على حب كل عظيم والإعجاب بكل شريف . ولذا نقول إن العاطفة فوارة وصادقة وعميقة وسامية وثابتة فالعربي يتمثل بغير العربي والحي يعطي من حياته للجماد والجماد يمنح من صلابته للإنسان والشاعر يضفي على موصوفاته من وجدانه فتغدو مرآة صادقة لحالته النفسية .
*= وسينية البحتري الرائعة تتشابه أفكارها وصورها وبعض المعاني والسياقات اللفظية مع رائعة أخرى تلك هي قصيدة الأسود بن يعفر النهشلي التي مطلعها :
نام الخلي وما أحس رقادي *** والهم محتضر لدي وسادي
من غير ما سقم ولكن شفني *** همٌّ أراه قد أصاب فؤادي
حتى يقول : فإذا وذلك لا مهاة لذكره *** والدهر يُعقب صالحاً بفساد
إذ لا يخفى ما بين الواقع النفسي لكلا الشاعرين من أوجه التشابه وملامح الالتقاء حيث تكاد المحاور التصويرية تلتقي وتتفق تبعاً لاتفاق طبيعة التجربة التي دارت حول ماض يكثر كل منهما البكاء عليه وبين حاضر يضيق به إذا قورن بنعيم الماضي وسعادة الحياة فيه .
وتكاد المعادلات الموضوعية تتشابه ذلك أن إيوان كسرى الذي اتخذ منه البحتري ( معادله ) يعد أثرا فارسيا عريقا جار عليه الزمن ( الدهر – المعادل ) حتى حطمه وهدّمه مما يجعله شبيهاً بآثار آل محرق وإياد , وما صوره الأسود من معالم قصورهم أو ما تبقى منها في الخورنق والسدير ذلك أن مشهد الخراب يظل مسيطرا على كل من الشاعرين متسقا مع الحالة النفسية له .
الشاعران اتخذا من المقدمة مشجباً يعلق عليه همومه وآلامه وراح يصب من خلاله غضبه على الزمن . وتبقى لوحة تصوير الخمر مسلك هروبي يتمنى كلاهما أن يتجاوز به حاضره وأن يعود عبر حواجز الزمن إلى الماضي بما شهده من حيوية الشباب ورونقه .
وكلاهما يستوقفه مشهد الرحيل حتى راح يصور في قصيدته من منطق الحزن والكآبة فما كان الرحيل عند كل منهما إلا إيذاناً بمزيد من الاكتئاب والتشاؤم وهو رحيل لا يجد فيه الشاعر رفقة إلا همومه التي تكاد تزاحمه على ناقته .
*= وختاماً يتضح من هذا العرض أن القصيدة تشكل وحدة مترابطة العناصر متصلة الأجزاء فقد وفق البحتري في وصف إعجابه بالإيوان وبعثه من جديد ورسم شعوره وهو امام أطلاله الدارسة كما أدهش الشاعر معاصريه بهذا الوصف الخيالي الرائع الذي لم يعهدوه من قبل وهو البكاء على الممالك الزائلة لأن عواطف الشعراء كانت عواطف فردية فكان الشاعر يبكي وجده ويندب الرسوم ويتوجع للأطلال إذ لم يهتم العرب ببكاء الممالك والتفجع لما يحل بالشعوب على أنهم لم يغفلوا عن ذكر ما طوى الدهر من حضارتهم كما تغنوا بما كان لأسلافهم من مدنية وإن خلطوا ذلك بالتحسر على ما درس من معالم اللهو والتحزن لما عفا من ملاعب الشباب كالسود بن يعفر النهشلي ومتمم بن نويرة ولكنها لا تمثل الوقفات الفنية التي تشد إليها الرحال كوقفة البحتري عند رسوم الإيوان فأتى بما لم يأت به غيره من الشعراء مما جعل النقاد يشهدون ويشيدون بعبقريته التي قامت على قوة الخيال ودقة التصوير وبراعة الوصف .
والقصيدة تمزج بين القديم والجديد حيث تختلط مظاهر البداوة بمظاهر الحضارة الجديدة فمن ذكر الأطلال والبسابس والناقة والرحل إلى ذكر القصور والشرفات والدمقس والديباج والحرير .