رن هاتفي الجوال في وقت غير معتاد، وقت قد آويت فيه إلى
فراشي، والفراش عندي خط أحمر.كدت أن أتجاهل الرد لولا شعور خّفي دفع بي لمغادرة السرير إلى حيث الهاتف. منذ أشهر وأنا أتركه بعيدا عني إذا نمت، حتى ولو غفوة قيلولة لا تزيد عن ساعة. فوجئت أن المتصل هو خالي، حبيبي، أقرب القريبين إلى نفسي، وهو رجل قد عبر الستين عاما، ومن يعبر الستين فلن يتصل في وقت مثل هذا الوقت مالم يكن مضطرا للاتصال. خفتكثيرا وتسارعت دقات قلبي ثم رددت بتلعثم بّين: هلا يا خال. جاءني صوته من الطرف المقابل محمولا على حنجرة واهنة ضعيفة ونفس منهك جدا وهو عازف الصرناي، عازف الصرناي الذي منحه الله رئة بعير، الصرناي آلة نفخ شعبية لا يقدر
عليها إلا أولو الحويصلات التنفسية القادرة.
خرجت حروفه منهكة واهنة، قال لي: أصابنيكورونا بشكل مؤكد، وقد استدعيت سيارة الإسعاف وسوف تأخذني إلى المستشفى. قلت له: سآتيك الآن فقال ليكلا، حالتي سيئة جدا ولن يسمحوا بوجودك معي، هاتفتك الآن لتعرف أين أنا فقد لا نلتقي ثانية، أما
59
المستشفى فهذه مهمة رجال الإسعاف المهيأين لذلك. أشفقت عليه من تعب الكلام فقلت له ي ّسر الله أمرك وشافاك، قلتها وفي داخلي حزن بحجم السماوات والأرض، وعندما أغلق الهاتف أخذتني عاصفة من بكاء مرير. لم تعد عندي رغبة في نوم أو حتى مجرد استلقاء على السرير، لذلك جلست على أريكة في صالون البيت، لم أغمض عي ّني
لكني لا أرى بهما شيئا، فقط أحدق في نقطة غير معلومة.
اجتاحني سلطان النوم وأنا على الأريكة، نمت في وضع غير
صحي على الإطلاق، ولذلك انتبهت بعد ساعتين برقبة متيبسة واطراف يسري فيها الخدر. حلمت في تلك الساعتين بأن هناك من يحشرني بقوة داخل صندوق ضيق ولذلك انتبهت، لعلها عناية الله قد أيقظتنيكي أعّدل وضعية نومي. انتقلت إلى سريري غير أن النوم قد طار منيكما يطير طير أفزعه راجم عابر. قلت لنفسي: لا شيء غير السرير، وسوف أبقى عليه بنوم أو بغيره، المهم ألا تعّوج رقبتي فتغدو مثل رقبة بعير. لفتت انتباهي رسالة على شاشة هاتفي المحمول، التقطت الهاتف ثم تذكرت أن نظارتي بجوار الأريكة وأنا من غيرهاكالأعمى أو أضلسبيلا.تحركتنحوالأريكةثانيةووضعتالنظارةفوقأنفيعلى
عجل وطالعت رسالة الهاتف المحمول.
60
كانت رسالة واتس أب من خالي، وما دام قدكتب رسالة
فمعنى ذلك أنه بخير، أو بخير نسبيا على الأقل. يقول خالي: السلام عليكم، فجرك مشرق وسعيد، وصلت المستشفى، وألقوا بجسدي المتهالك فوق سرير أبيض.كنت في حالة موت إلا قليلا، ملتصق بالسرير لا أستطيع حتى تحريك اصبعي، خيل لي أن ثلة من الناس قد رجمتني بالحجارة حتى ُدفِن ُت تحتها، أرقب أنفاسي، أتابعها وهي تذوي شيئا فشيئا، يقترب بي إيقاعها البطيء من موت محتوم. لقد أعطيتهم رقم هاتفك ليهاتفوك إذا مت، ليس لي غيرك ويهمنيكثيرا أن تعرف أنني مت لتترحم علي فقط. أما الغسيل والكفن والدفن فهذا شأنهم ولن يقبلوا منك أي مساعدة، هذه أمور محسومة لديهم تماما فلا تتعب
نفسك ولا تحاول. حفظك الله.
قلت وقد قرأت الرسالة ثلاث مرات:كان الله معك يا خالي،
كان الله في عونك. ردك الله لنا ولآلة الصرناي التي لم يعد يعزفها أحد غيرك، وقاتل اللهكورونا الذي أصابك في مقتل. تقلبت على فراشي طويلا لكني استسلمت في نهاية المطاف، نمت نوما عميقا وطويلا، أدركت ذلك من ساعة الحائط التي تناظرني من عِل، وأدركته من الجوع الذيكان يفري أحشائي مثل مخرز في يد خراز بليد. لذلك غادرت
61
الفراش حاملا جوعي باتجاه المطبخ. شرعت في تجهيز وجبة وقبل أن أقدح الزيت وصلت رسالة واتس أب، أغلقت كل شيء وتوقفت تماما عن الطبيخ وأسرعت نحو الأريكة.كانت الرسالة من خالي، وما دامت هي من خالي فهو بخير إذن. جلست، لبست نظارتي، ثم فتحت
الرسالة.
كتب خالي في رسالته: السلام عليكم ورحمة الله، أكتب لك
وقد أدركت عدة معان لم أدركها جيدا من قبل، كانت تمر علي كمفردات استهلاكية لتزجية الوقت ولا غير. لقد أوصلوني بجهاز التنفس الصناعي فعرفت ما معنى أوكسجين، وتحركت رئتي بحرية أفضل فعرفت معنى الرئة، وعندما أضجعني الممرضون على جنبي للنظافة أدركت معنى التمريض، وعندما أوصلني الطبيب بالجهاز أدركت معنى الطبيب. أشعر بالحياة الآن، أشعر بها فعلا على نحو لم يكن متوفرا مساء أمس وصباح اليوم لكني لم أتفاءل بعد فأوصالي ماتزال مفككة. كن بخير. انتهيت من القراءة فأغلقت الجوال وعدت للطبيخ، عدت وأنا أكثر تفاؤلا من خالي وإنكان هو الذي يعاني لا أنا، لكني أراه
قد تحسن – ولو قليلا- عن ذي قبل.
62
كل المقاطع المصورة لحفلات خالي موجودة عندي، غير أن
أجملها على الإطلاق هي تلك التي لاتزال على أشرطة الفيديو تيب، وهي أشرطة قديمة لأن أنظمة الفيديو قد سادت أعواما ثم بادت، أصبحت الآن دقّة قديمةكما نقولها بالمحكي في جهاتنا. لذلك عقدت العزم على نقلها من على أشرطة الفيديو تيب البائدة إلى ملفات حاسوبية حديثة، فنتمكن من تشغيلها على الحواسيب أو على الهواتف الذكية. هذا المشروع تأخركثيرا،كنت سأقدمه لخالي هدية في عيد ميلاده الثامن والخمسين، ثم عيد ميلاده التاسع والخمسين، وفيكل مرة كان يحول بيني وبين إنجازهكسل في همتي. الآن هو طريحكورونا ولو كتب الله له العمر فسوف أقدمه هدية له في عيد ميلاده الستين. بعد
شهرين من الآن سيحتفل به، وآمل أن يحتفل به فعلا.
مضت ليلتي هذه ولم استلم رسالة من خالي، لا رسائل ومع ذلك سوف أنام فأنا مرهق، مرهق نفسيا على الأقل. سأنام وأحتفظ بهاتفي المحمول على مقربة مني، لو وصلت رسالة من خالي فسوف أنتبه لها. نمت عند العاشرة ليلا وصحوت عند العاشرة صباحا وتساءلت: ما هذا الحظ الرديء؟ لوكنت بحاجة إلى مثل هذا النوم الطويل لما تيسر لي، واليوم يحدث هذا وأنا بأمس الحاجة لمزيد من
63
الوقت؟ تذكرت رسائل خالي فألقيت نظرة فاحصة على هاتفي المحمول فلم أجد،كّدرني ذلككثيرا، خشيت أن تكون حالته قد ساءت. تساءلت – في محاولة للتفاؤل- ولم لا يكون قد فعلها هو بدوره ونام نوما طويلا؟ صبرت نفسي بتلك الفكرة ثم جهزت لقمة آكلها فأنا
خ ا ٍو تم ا م ا .
قمت بتجميع أشرطة الفيديو، تلك التي توثق حفلات خالي،
بعضها في مكتبتي وبعضها في مخزن للمواد السريعة التلف. جمعتها من هنا وهناك والقيت بها فوق طاولةكبيرة، تكومت الأشرطة فوقها فكانت مثل تل صغير. قمت بتنظيف رأس الفيديو فهو مهجور من سنوات، ولم نعد نجد مواد التنظيف المخصصة له، مات الفيديو وماتتكل توابعه معه. جهزت التوصيلات المناسبة وبدأت عملية الرقمنة، بدأ التحويل من أشرطة الفيديو التماثلية إلى ملفات الحاسوب الرقمية. مضت الساعات وأنا مكب على الأشرطة مثل ن ّساج هندي، تذكرت خالي فانتفضت. يا إلهي، لا رسائل من خالي أبدا، لقد أصابه مكروه ما، حتما قد أصابه مكروه ما إذ ليس من المعقول أن ينام هذه المدةكلها. تركت الرقمنة جانبا وشرعت أذرع الصالون جيئة وذهابا، ما الذي يجب
علي أن أفعله؟كيف اطمئن على خالي؟ بمن اتصل؟ من يفيدني عنه؟
64
بلغ القلق ح ّده وقررت الذهاب للمستشفى، حملت هاتفي المحمول وفي لحظة نور لاحظت أمرا مضحكا. ضحكت وارتميت على الأريكة ذاتها رغم ما أنا عليه من القلق والتوتر. ضحكت حتى اغرورقت عيناي بالدمع، وسخرت من نفسي حيث لم يكن هاتفي موصولا بالشبكة، يا لسخرية الأقدار ويا لعمق تأثير القلق! فتحت الواي فاي وما هي إلا أقل من ثانية حتى انهمرت الرسائل مثل المطر،كان عداد الرسائل يتسارع وكأنه عداد محطة وقود. وجدت لخالي رسالتين، يفصل بينهما ثلاث ساعات. قال في الرسالة الأقدم: نم هانئا هادئا ولا تهمل طعامك فأنا بخير، أتنفس بارتياح مادام جهاز التنفس موصولا وهذا في حد ذاته كرم من الله. ما تزال حاستي الشم والتذوق مفقودتان عندي، ولكنها
ستعود تدريجياكما أخبرني الطبيب.
أما الرسالة الأحدث فقدكانت مؤلمة جدا، إنه يشتكي فيها
من الوحدة القاتلة. ثلاثة أيام أمضاها على سرير مفرد يحيط به البرد والصمت، حتى الأطباء الذين يتناوبون خدمته لا يتكلمون معه إلا قليلا. هو يدرك صعوبة الموقف، ويدرك معنى الحجر، لكنها تظل أشياء مزعجة جدا رغم الحاجة الضرورية إليها. لهذا فقد توسعت في ردودي على رسائله،كنت أكتب له ردودا مقتضبة مراعاة لحاله أما الآن فلا
65
مناص من التوسع والإسهاب والتفصيل.كتبت له عن مشروع الرقمنة، وصفت له خطوات العمل، من تجميع الأفلام حتى تحويلها إلى ملفات رقمية. وحتى أحرك عنده نوازع الأمل قلت له: سأجهز فيلما عن إبداعاتك مع آلة الصرناي، وعندما نحتفل بعيد ميلادك الستين سيكون
الفيلم عمود ذلك الاحتفال.
مضى يوم دون رسائل، أربع وعشرون ساعة دون رسائل من خالي. تفقدت جهازي فوجدته على خير ما يرام، مشحون بالكهرباء موصول بالشبكة. ومع بداية التوتر والشعور بالقلق وصلتني منه رسالة، وصلت فكانت كأنها الماء على الظمأ. قرأتها فانزعجت أولا، ثم أتممت القراءة فسررت مما جاء في بقيتها. انزعجت لأنه يقول هذه آخر رسائلي لك، يقول أنهم قد طلبوا منه إيداع هاتفه في أمانات المستشفى فهو ممنوع على المرضى. لكني فرحت لأنه ب ّشر باقتراب مغادرته للمستشفى، وسيقضي عدة أيام في حجر منزلي.كتبت له ردا أرحب به في بيتي، وتمنيت عليه أن يقبل بذلك، وأن يطلب أن يكون الحجر في غرفة من
غرف منزلي الذي لا يسكنه سواي.
في ساعات الصباح الأولى رن هاتفي فأسرعت للرد، جاءني من الطرف الآخر من يقول معك طبيب المستشفى. ما إن سمعتكلمة
66
المستشفى حتى تراخت قوائمي، قلت بأسى: خالي مات؟ سمعت قهقهة الدكتور تجلل في هاتفي المحمول، قال لي: و ّحد الله يا رجل، خالك بخير وعافية. تواضعتكقطرة ماء أفلتت من غصن أخضر وجْلس ُت على الأريكة، قلت: لا إله إلا الله ثم اعتذرت من الطبيب لسوء فهمي. قال لي : اتصلت بك لأمرين: الأول منها أن تأذن لفريق المستشفى بزيارتك وترتيب غرفة الحجر المنزلي لخالك فقد أبدى رغبته أن يكون الحجر في دارك، والثاني أن تأتي لنا بآلة الصرناي. أدهشني طلب الصرناي فكررت
للتحقق: الصرناي؟ قال نعم.
في دقائق معدودة تحولت دهشتي إلى ذهول، أذهلني هذا
الطبيب الفذ بقدرته والفريق الذي معه على اكتشاف مجاهل خالي. قال لي خالك قوي بحبه للحياة، لقد هزمكورونا وكان هو الأقوى.كان قويا حتى في أشد لحظاته ضعفا، مبتسما حتى في أشد اللحظات عبوسا. واصل الطبيب حديثه فقال: عندما رأينا في خالك مريضا مختلفا - يختلف عنكل مرضانا - بحثنا فيكوامنه فأدركنا أنه عازف فنان، فنان متعلق بآلته الفريدة الصرناي. استمعت إلىكلام الطبيب وعجبت لهذه الروح العظيمة التي يتحلى بها، أضفت علىكلامه أن آلة الصرناي تحتاج إلى رئة قوية ومن مفارقات القدر أن تكون إصابة خالي في رئتيه.
67
فاتحني الطبيب برغبته في الاحتفاء بعازف الصرناي، خالي
الموقر. قال لي: لا بد من ليلة مشهودة ننتصر فيها علىكورونا بقيادة عازف الصرناي الأنيق. اقترح أن يعزف خالي على الصرناي وقد تعافى صدره الآن، وأن تشاركه فرقة الفنون، كل فرد في بيته. اقترح أيضا أن يتم الربط بينهم جميعا بالهواتف النقالة، العازف في غرفته بالمستشفى والراقصون المغنونكل واحد في بيته. ثم قال بحماس عجيب: نريدها
حفلة صرناي على البعد!
في الحفلة السايبرانية المشهودة عزف خالي، عزف خالي على
الصرنايكما لم يعزف من قبل، بدا لنا وكأنه في أوج عافيته. عزف خالي ورقص الراقصون وغنى المغنون،كانوا صوتا واحد يقول للناس: الجائحة ليست أقوى، وكورونا حتى وإن اعتدى على الرئتين فإنه لن
يمنع عازف الصرناي ولن يمنعنا.