أولا : رأس الطبقة الأولى من فحول الجاهلية , وهي عند ابن سلام أربعة شعراء : امرؤ القيس ونابغة بني ذبيان , وزهير بن أبي سلمى , والأعشى ميمون بن قيس . وهو امرؤ القيس بن حُجُر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي , وأمه فاطمة بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين .
*= واسم امرئ القيس حندج , والحندج الرملة الطيبة تنبت نباتاً حسناً , ومعنى { امرؤ القيس } رجل الشدة , ويكنى أبا الحارث , وأبا وهب , ويلقب بالملك الضليل , كما يلقب بذي القروح ؛ لقوله :
وبُدّلتُ قرْحا داميا بعد صحة *** فيا لك نُعّمى قد تَحوّلَ أبؤُسا
*= وهو من قبيلة كندة , وكندة قبيلة يمنية , كانت تسكن قبل الإسلام غربي حضرموت , وكانت على اتصال بالحميرين . ولكنه كان نزاري الدار والمنشأ , فإن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد , ومن ثم كانت له الفصاحة .
*= وذكر ابن سلام بعضاً من مميزات شعر امرئ القيس , وهو بصدد حديثه عن أشعر الناس وقرر أنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنتها العرب , واتبعه فيها الشعراء وهي : استيقاف صحبه , والبكاء في الديار , ورقة النسيب , وقرب المأخذ , وشبه النساء بالظباء والبيض , وشبه الخيل بالعقبان والعصي , وقيد الأوابد , واجاد في التشبيه , وفصل بين النسيب وبين المعنى . وكان أحسن أهل طبقته تشبيهاً .
*= وأما ما ذكر أن النبي – صلى الله عليه وسلم –قال : (( ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها , منسيُّ في الآخرة خامل فيها يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار )) وفي خبر آخر (( هو قائد الشعراء إلى النار )) فحديث باطل كما قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان 3 / 249- 250 , 6 / 449 . وذكره ابن كثير في التاريخ 2/ 228 وقال : " هذا منقطع , وورد من وجه آخر عن أبي هريرة , ولا يصح من غير هذا الوجه ".
*= وقيل في سنده أبو الجهم الإيادي شيخ مجهول لا يعرف له اسم وخبره منكر . وقال ابن عبد البر : لا يصح حديثه . وفي معجم الطبراني قال : هذا حديث إسناده ضعيف جداً مسلسل بالعلل , وقال الألباني : وهذا إسناد واه جداً فيه هشام بن محمد الكلبي متروك متهم بالكذب .
*= وذكره عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال : (( سابقُ الشعراء , خسف لهم عين الشعر . فافتقر عن معان عور أصح بصراً )) أي أنبطها وأغزرها لهم , من قولهم خسف البئر , إذا حفرها في حجارة فنبعت بماء كثير , يريد أنه ذلل لهم الطريق إليه , وبصرهم بمعانيه , وفنن أنواعه وقصده , فاحتذى الشعراء على مثاله , فاستعار العين لذلك .
*= وفضله علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –فقال : " رأيته أحسنهم نادرة , إنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة " . وقال عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى : " إنه أول من فتح الشعر , واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها ... وهو أول من شبه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء والطير , فتبعته الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف " .
*= وتقول الروايات : إن قيصراً أكرم وفادته , بل وجعله مقرباً منه إلى درجة الخاصة من ندمائه , ومواصلاً لابنته , وأنه أرسل معه جيشاً تضمن في عداده بعض أبناء الملوك , حتى يستعيد ملك أبيه , ولكن الطمّاح الأسدي راعه تكريم قيصر له فعمل على الإيقاع به , وقال لقيصر : إن امرأ القيس شتمك في شعره وزعم أنك علج أغلف , وقيل : إنه قال له : إنك أمددت بأبناء الملوك أرضك رجلاً من العرب وهم أهل غدر فإذا استمكن مما أراد وقهر بهم عدوه غزاك . عندئذ فكر قيصر بالأمر وأرسل إلى امرئ القيس حلة مسمومة منسوجة بالذهب وطلب منه أن يلبسها ليعرف فضله وتعظم منزلته وقدره , فما كان من امرئ القيس إلا ان قبل الهدية ولبسها فأسرع السم في جسده وتقطع من جرائه جلده , وأيقن بالموت والهلاك فقال :
ألما على الربع القديم بعسعسا *** كأني أنادي أو أكلم أخرسا
تأوبني دائي القديم فغلّسا *** أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا
لقد طمح الطماح من بُعد أرضه *** ليُلبسني من دائه ما تلبسا
فلو أنها نفس تموت جميعةً *** ولكنها نفس تساقطُ أنفسا
*= ولما صار إلى مدينة بالروم تُدعى أنقرة ثقل , فأقام بها حتى مات , وقبر هناك , وقال قبل موته :
رُبّ خطبة مسْحنفرة *** وطعنةمثعنجره
وجَعْبة متحيِّره *** تُدفن غداًبأنقره
قال ابن الكلبي هذا آخر شيء تكلم به , ثم مات . ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأنقره , ودفنت في سفح جبل يقال له : عسيب , فسأل عنصاحبه فخبِّر بخبرها فقال :
أجارتنا إن المزار قريب *** وإني مقيم ماأقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا *** وكل غريبللغريب نسيب
وكانت وفاته سنة 565م على أرجح الروايات .
*= ثانياً : مصادر دراسة الرائعة (( ديوان امرئ القيس – طبقات فحول الشعراء لابن سلام – العمدة لابن رشيق – الشعر والشعراء لابن قتيبة – الأغاني لأبي فرج – شرح المعلقات للزوزني – شرح القصائد السبع للأنباري – شرح المعلقات للنحاس – شرح المعلقات العشر للتبريزي – الشعر الجاهلي لمحمد أبو موسى – المعلقات العشر لصلاح رزق – تاريخ آداب العرب للرافعي – معلقات العرب لبدوي طبانة – الأصول الفنية للشعر الجاهلي لسعد شلبي تجليات صورة المرأة والأطلال في المعلقة لعبدالرحمن فضل وغيرها ))
*= ثالثاً : معلقة امرئ القيس :
*= أشهر المعلقات وأولها , وأهم ما خلّف امرؤ القيس من الشعر , وأصحه رواية , وفي استطاعة الدارس لشعر امرئ القيس أن يطمئن كل الاطمئنان هذه القصيدة , وأن يعتمد عليها في استخلاص ما يريد من خصائص شعر الشاعر , ودلالته على نفسه وفنه وبيئته .
*= والذي يدعونا إلى الاطمئنان إلى صحة هذه المعلقة هو إجماع الرواة عليها , وإن اختلفوا اختلافاً يسيراً في بعض ألفاظها , أو ترتيب قليل من أبياتها المتعاقبة . ويدعونا كذلك إلى الاطمئنان إلى صحتها كثرة الأبيات التي تمثلت الأجيال بها , واتفاق أرباب الصناعات التي تتصل بهذا الفن على الاستشهاد بها في صناعة النحو والإعراب واللغة والبيان وإعجاز القرآن .
*= ثم ما في المعلقة من صور صادقة للعصر الذي نظمت فيه , والبيئة التي قيلت فيها , وتصويرها للحياة المادية . ثم طبيعة الألفاظ والتراكيب التي تمثل التراكيب الأدبية التي استخدمها أولئك الجاهليون في تعبيراتهم الأدبية في ذلك الزمن البعيد .
*= عرف امرؤ القيس بأنه شاعر وصاف يتقن فن الشعر ورسم اللوحات بجزيئتها مما أهّله للتفوق والتميز على شعراء عصره , فنحن أمام لوحات فنية مكتملة العناصر بألوانها وحركاتها وجزئياتها الدقيقة . ويظهر هذا في وصفه للفرس ورحلات الصيد وأيضاً في وصفه للمرأة ومغامراته الجريئة معها بشكل خاص .
*= رابعاً : موضوعات المعلقة , ( الأطلال )
*= أول ما يطالعنا من الوصف الوقوف على الأطلال الدارسة وتصويرها , فالشاعر في هذا الوصف يستدعي تجاربه الماضية , وهو ههنا يجمع الغزل إلى الطلل , ويبعث من الماضي المنصرم ذكريات تبث الحياة في الرسم الدارس , والطلل الدارس في معلقة الشاعر هو طلل حزين ذو معنى نفسي مشحون , ليس لأنه مندثر إذ يقف الشاعر عليه – وهو بصعوبة يرى معالمه الباقية –بل قد يكون ما حشده الشاعر من أوصاف لا وجود لها في الواقع ؛ فهو أشبه بطلل مثالي لا وجود له إلا في مخيلة الشاعر . ومهما يكن من أمر فالطلل عند امرئ القيس يشكل صلب المعلقة , كما يمثل مقدمتها , يقول :
قِفَـا نَبْـكِ مِـنْ ذِكْـرَى حَبِيـبٍ ومَـنْـزِل بِسِقْـطِ اللِّـوَىبَيْـنَ الدَّخُـولِ فَحَـوْمَـلِ
فَتُوْضِـحَ فَالمِقْـراةِ لَـمْ يَعْـفُ رَسْمُهـا لِمَـا نَسَجَتْـهَـامِــنْ جَـنُـوبٍ وشَـمْـألِ
تَــرَى بَـعَـرَ الأرْآمِ فِـــي عَرَصَـاتِـهَـا وَقِـيْـعَـانِـهَـاكَــأنَّـــهُ حَـــــبُّ فُــلْــفُــلِ
كَـأنِّـي غَــدَاةَ البَـيْـنِ يَـــوْمَ تَحَـمَّـلُـوا لَـدَى سَمُـرَاتِالـحَـيِّ نَـاقِـفُ حَنْـظَـلِ
وُقُـوْفـاً بِـهَـا صَحْـبِـي عَـلَّـي مَطِيَّـهُـمُ يَـقُـوْلُـوْنَ لاَتَـهْـلِـكْ أَسَـــىً وَتَـجَـمَّـلِ
وإِنَّ شِـفَــائِــي عَــبْـــرَةٌ مُــهْــرَاقَــةٌ فَهَـلْ عِنْـدَ رَسْـمٍدَارِسٍ مِــنْ مُـعَـوَّلِ
كَـدَأْبِــكَ مِـــنْ أُمِّ الـحُـوَيْـرِثِ قَبْـلَـهَـا وَجَـارَتِــهَــا أُمِّالــرَّبَـــابِ بِــمَــأْسَــلِ
فَفَاضَـتْ دُمُـوْعُ العَيْـنِ مِنِّـي صَبَـابَـةً عَلَى النَّحْرِحَتَّـى بَـلَّ دَمْعِـي مِحْمَلِـي
*= قالوا إنه لم تفتتح قصيدة بأفضل مما افتتحت به هذه القصيدة , وأن الشطر الأول بلغ الغاية في الإتقان والتجويد , وأنه لم يحاول أحد أن ينازعه بأفضل منه , مع أن الشطر الثاني من الكلام المألوف , وليس فيه صنعة وإنما هو ذكر أمكنة .
*= وقالوا في بيان وجه الجودة في الشطر الأول إنه بكى واستبكى بكلمة واحدة وهي { نبك } ووقف واستوقف بكلمة واحدة وهي { قفا } في شطر بيت , ومعنى هذا قدرته الفائقة على التجويد والإيجاز وشدة الاقتصاد في اللفظ , مع وفرة الاتساع في المعنى .
*= كما كان تصويره لكل اللحظات التي مرّ بها تصويراً دقيقاً وبارعاً , حتى إن من الشعراء من حاكى شعره فمنهم من أخذ معنى قوله { وإن شفائي عبرة مهراقة ... } ونسج على منواله , يقول ذو الرمة :
لعل انحدار الدمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي شجى البلابل
بيد أن امرأ القيس أجود سبكاً , وأقوى معنى , وأمتن نسجاً , ففيه توكيد شفاء الدمع للنفس حيث يقول : { وإن شفائي عبرة مهراقة } , كما أن فيه نفي الاعتماد على الرسم الدارس , يقول : { فهل عند رسم دارس من مُعَوّل } .
*= وقد وقف غير امرئ القيس واستوقف وبكى واستبكى وهذا كثير في المطالع ولكن الفرق بين وقوف امرئ القيس ووقوف غيره أنهم لم يقفوا ليبكوا وإنما وقفوا ليسألوا المنازل كقول الشاعر :
قفا نسأل منازل آل ليلى *** على عوج إليها وانثناء
أو يقف بالديار ليتعرف على آثارهم . " ولم نجد من جعل الوقوف لمحض البكاء وربط بين هذين المعنيين المتواردين في الشعر وقال { قفا نبك } إلا امرأ القيس , في هذه الرائعة , وفي أختها النونية { قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان } , وكذلك لم نجد أحداً من الشعراء جعل البكاء في مطلعه من أجل الذكرى إلا في هذه القصيدة وأختها النونية " .
*= ومعنى هذا أن امرأ القيس أقام روابط جديدة بين معان قديمة , فنفض الوقوف من متعلقاته المألوفة مثل { قفا نسأل } وكذلك انتزع البكاء من علاقاته المألوفة وأحدث هذه الرابطة الجديدة التي جعل الوقوف فيها لمحض البكاء , وجعل البكاء فيها لمحض الذكرى .
*= إن علة الطلب والبكاء تختزل في قول الشاعر { من ذكرى حبيب ومنزل } , ومن هنا تحمل دلالة السببية , فالسبب الداعي إلى التوقف والمراجعة والتأمل المثير للبكاء متمثل في ذكرى حبيب ومنزل , ومن شأن كلمة { ذكرى } أن تطرح مشكلة الزمن القاهر للإنسان , فالزمن هو الماضي الجميل الذي تنعم فيه الشاعر بقرب حبيبه , والحاضر الأليم الذي تجرع فيه مرارة البين .
*= ومهما يكن من أمر فالماضي غالباً يشكل نوعاً من المجاهدة والعناء , فإذا ما تجاوزناه افتقدناه وأدركنا جماله الفائت وتحسرنا عليه . وتزداد هذه الأحاسيس عمقاً في نفوسنا كلما ازداد ضغط الحاضر اللحظي الراهن علينا . أما الزمن الآتي فهو دوماً سيف مسلط يرهبنا بغيبيته , وبما يثيره فينا من توجس ينميه سوء ظن غالب .
*= وإضافة كلمة { ذكرى } إلى كلمة { حبيب } بالإفراد والتنكير والتذكير , وكلها أمور تعمق معنى التعميم وإمكان تجاوز المعنى الحسي القريب إلى معنى أرحب يشمل كل أمل , وكل متعلق به , وكل غاية تأسست في عمق الماضي . ثم يعطف على { ذكرى حبيب } كلمة { منزل } التي تعني عموم المكان ؛ لتجسد لنا علة طلب الوقوف والبكاء .
*= " ولا نكاد نجد في هذه الرائعة بيتاً واحداً ولا صورة واحدة , ولا خاطرة واحدة خارجة أو منحرفة عن هذا المعنى المتسع والمكون من هذه الكلمات { قفا نبك من ذكرى } , وكل القصيدة صور استرجعتها الذكرى , وبكاها الشاعر , حتى الصيد والمطر الذي كان يُرِى برقه صاحبه ويقعد هو له يرقبه . ولا شك في أن التجويد البالغ في هذه القصيدة والتي تفوقت به على الشعر كله إنما كان هذا التجويد من فرط توقه وتحرقه وتعلقه بهذه الذكرى "
*= وسقط اللوى والدّخُول وحومل وتوضح والمقراة كلها أماكن , حفلت بدلالات نفسية عميقة وظفها الشاعر توظيفاً نفسياً مشحوناً لتصعيد تيار الآسى والتوتر الذي انطلقت في ضوئه القصيدة , بمعنى أن هذه المعلقة الرائعة مرآة عاكسة للحالة النفسية للشاعر .
*= وإنك أيها المتذوق لترى ميلاً إلى اللواذ بالمكان , وأملاً في استئناسه والتقوّي به في مواجهة الزمان الذي عجز مثقف العصر الجاهلي عن إدراك مغيباته والحكمة في تغييبها .
*= وتأسرك أيضاً براعة الشاعر في استعمال دلالة الأسماء المتخيرة ففي قوله : { سقط اللوى } نجد معنى السقوط ومعنى الالتواء والتعرج , وفي السقوط معاناة العثرة وصعوبة النهوض , وفي الالتواء تعميق لمعنى المعاناة ثم يجيء التعبير بكلمة { بين الدخول } لنجد معنى الاجتياز والولوج وهو أحد معاني الكشف والخلاص , غير أننا لا نكاد نركن إلى ذلك حتى يعالجنا الطرف الآخر { فحومل } فإذا بالكلمة تؤكد معنى نفي الاستقامة وتستبعد إمكان التوجه المباشر ذلك أن الإيحاء بالدوران أو الحوم حول المكان وما يدل عليه من عدم تبين المدخل الصحيح يبدو المعنى الأجلى الذي يلابس صيغة الاسم .
*= وقبل أن نستسلم لليأس تمارس الفاء الدالة على المولاة والمباشرة دورها في إمدادنا بالأمل حين تقدم لنا { فتوضح } وفيها معنى التبيّن والجلاء والوضوح فنستشعر حيوية التحرك نحو تجاوز حالة السقوط والالتواء والدوران . وتحمل كلمة { المقراة } التحري والتقري وكأننا مع الشاعر نقترب من دائرة التحديد والتثبت التي تعني في ضوء مفهوم الحبيب حصر الغاية .
*= والباء التي في قوله { بسقط اللوى } متعلقة بـ { قفا } أي قفا بهذه الأماكن , ويجوز أن تتعلق بـ { نبك } أي نبك بهذه المنازل . والرسم الأثر , ولم يعف : لم يدرس , قاله الأصمعي.
*= والمعنى أنه لم يعف انمحاء آثار الحبيبة ومعالمها رغم تعاقب السنين عليها لاختلاف هاتين الريحين , ولو دامت عليه واحدة لعفا , لأن الريح الواحدة تدرس الأثر , والريحان لا تدرسانه , لأن الريح الواحدة تسفى على الرسم فيدرُس وإذا اعتورته ريحان فسفت عليه إحداهما فغطته , ثم هبت الأخرى كشفت عن الرسم ما سفت الأولى . وفي هذا التدافع بين الريحين تجسيد للصراع وبقاء لهذا الرسم الخالد في ذاكرته , وهذا ما أفادته الجملة المنفية { لم يعف } .
*= وما ذهب إليه الأصمعي من أن الريح أقبلت وأدبرت على هذه المواضع حتى عفتها وأبقت منها الأثر والرسم غير صواب ؛ لأن قول الشاعر : { لما نسجتها من جنوب وشمأل } لأن هذا بيان لعلة البقاء وليس لعلة العفاء .
*= والحق أن الطلل في الشعر العربي رمزٌ لعواطفٍإنسانيّة وفرديّة عميقة، وبكاء الطلل لا يعْني بكاءالمواد التي يتكوَّن منها لذاتها , وإنَّما ينبغيالبحث عن معنى أعمق وراء المعنى الظاهري، فريحالجنوب ترمز إلى الحياة ؛ لأنّها تنسِفُ التراب عنآثار الديار فتعيدها حيّة شاخصةً ، أمّا ريح الشمالفتدفن الآثار بما تحمله من التراب، وبفعلها هذاتحكم عليها بالاندثار والفناء ، ثُمَّ تأمّل هذا التضادبين الريحين في فعلهما ، فكلّما دفنته هذه بالرملسفرتْ عنه الأًخرى الرمل وأظهرته ، وقد لاحظالشاعر هذه الحركة الدائمة فشبّه فعل الريحين فيتعاقبهما بفعل نسج الثياب .
*= وقوله :
تَــرَى بَـعَـرَ الأرْآمِ فِـــي عَرَصَـاتِـهَـا وَقِـيْـعَـانِـهَـاكَــأنَّـــهُ حَـــــبُّ فُــلْــفُــلِ
من الكلام الفاخر والمتقن عندما جعل هذه الديار الخالية من الإنسان مرتعاً للظباء البيض فنثرت بعرها في ساحات الديار , وأيضاً عندما ذكر بعر الآرام وأنه تقادم عهده حتى يبس وضمُر وصار كحب الفلفل ؛ لأنه أراد بذلك أن يؤكد تقادم عهده , وأنه يجدُ لذع الذكرى مع هذا التقادم .
*= ويستخدم امرؤ القيس ضمير خطاب المفرد { ترى } بعد أن استخدم ضمير جمع المتكلمين { نبك } وضمير المفردة المؤنثة في { رسمها – نسجتها } ثم التفت إلى الإتيان بالفعل المضارع { ترى } لتأكيد رؤية بعر الآرام , وأما البعر فإنه رمز لعموم الأثر الذي تخلفه حركة الإنسان والحيوان في الحياة , وهذه العرصات هي الساحات الممتدة في الديار , والتي غالباً ما تتخذ مسرح حركة اللعب للصغار والسمر للكبار , واللقاء والمتعة واللهو ونادراً ما تكون خالية .
*= وذِكْرُه { وقيعانها } بعد قوله { في عرصاتها } للإشارة إلى أن عينه كانت تدور على كل موضع في هذه المنازل الكثيرة , وكل ذلك لتأكيد معنى التقادم , وأن عهده بالمنزل عهد بعيد وأنه يبكي ذكريات أيام غبرت , وأن نفسه بقيت تحترق وترتمض لها .
*= ولاحظ أن امرأ القيس استمد ألفاظ التشبيه في هذا البيت من الأشياء المحسوسة بصرياً , من مثل { الارام – عرصات – قيعان – حب – فلفل } وربط بين هذه المدلولات بتشكيل لغوي بلاغي هو التشبيه , وقد أجاد بفضل التناسب بين هذه الأشياء ؛ فالصورة الأولى بصرية , وهي المشبه { ترى بعر الآرام } والصورة الثانية بصرية وهي { حب فلفل } وربط بينهما بــ بأداة التشبيه { كأن } .
*= والذي يجمع بين المشبه { بعر الآرام } وبين المشبه به { حب فلفل } , أنهما مستمدان من معطيات الطبيعة , فالبعر معطى من معطيات الحيوان , والفلفل معطى من معطيات النبات وبذلك تتحد عناصر الطبيعة في تشكيل الصورة , ووجه الشبه المحسوس بين التشبيهين المحسوسين اللون والصورة والهيئة واستدارة الشكل وصغر الحجم .
*= وقوله : كَـأنِّـي غَــدَاةَ البَـيْـنِ يَـــوْمَ تَحَـمَّـلُـوا لَـدَى سَمُـرَاتِ الـحَـيِّ نَـاقِـفُ حَنْـظَـلِ
يبادرنا ضمير الذات الشاعرة مفرداً للمرة الأولى بعد أداة تشبيه تؤسس لصورة فنية يرتد الشاعر خلالها إلى لحظة زمنية سابقة , ويصف لنا حالته الكئيبة , فقد ابتدأ البيت بكلمة { كأني } والتي ربطت بين بعر الآرام وحب الفلفل , والحق أن تشبيهات امرئ القيس المتميزة تقوم على الترابط والإلحاق بين المعاني المتباعدة , فما أن يفرغ من إلحاق بعر الآرام بحب الفلفل حتى يشرع في إلحاق نفسه بناقف حنظل , الذي لا يستطيع كف دموعه لحرارته وتجرعه مرارته . قال الأعلم : " وإنما خص ناقف الحنظل لأنه لا يملك سيلان دمعه كما لا يملكه من اشتد شوقه وحزنه " .
*= وقبل أن يذكر خبر { كأني } يهجم على نفسه الوقت الشديد الذي سيخبر عن حاله فيه فيقول { غداة البين } وهي الدائرة الزمنية الأولى الضيقة , وعليك أن تتأمل كلمة البين وما تحمله من معاناة ووحشة , ثم جعل { يوم تحملوا } – الدائرة الزمنية الثانية الأوسع نسبياً – بياناً لغداة البين فصار البين والمبين داخلين في الوحشة التي غرستها كلمة البين في البيت , والتي أعدت لتوقع نوع الخبر , ثم إن فرط إحساسه بهذا الوقت , وما كان عليه حاله فيه دعاه إلى ذكر الدائرة الزمنية الثالثة المكان فقال { سمرات الحي } ثم جاء بالخبر , وفيه ما فيه .
*= وتغدو علاقة البصر التشبيهية أكثر تواشجاً عندما يربطها بمشاعره , فصورة الرحيل تبكيه وكأنه أمام الحنظل , والحنظل له حرارة تُدمع العين , فشبه ما جرى من دمعه لفقد أهل الدار بما يسيل من عين ناقف حنظل . وانتصاب وقوفا في قوله :
*= وُقُـوْفـاً بِـهَـا صَحْـبِـي عَـلَّـي مَطِيَّـهُـمُ يَـقُـوْلُـوْنَلاَ تَـهْـلِـكْ أَسَـــىً وَتَـجَـمَّـلِ
على المصدر { لقفا } التي هي أول كلمة في القصيدة , وهذا يعني أن البيت الخامس من تمام معنى البيت الأول , وهذا جيد لأن بناء هذا البيت لا يقع إلا في هذا الموضع الذي هو فيه بعد قوله { كأني غداة البين ... ناقف حنظل } لأنه ذكر فرط بكائه , وأنه لا يستطيع كف سيلان دمعه , وهذا مناسب لقولهم { لا تهلك أسًى وتجمل } . وإن اختلف زمان بكائه يوم تحملوا عن قول أصحابه لا تهلك أسًى ؛ لأن اقتران المعاني في الشعر لا يشترط فيه اقتران الحدث .
*= وتقدّيمه الخبر على المبتدأ ليبين أن أصحابه قد أوقفوا رواحلهم لأجله كي ينهونه عن الجزع وليس طلباً للراحة . ولذا خرجت جملة النهي وما عطف عليها للنصح والوعظ والإرشاد .
*= قال الأنباري شارحاً كلمة { تجمل } : " لا تظهر الجزع ولكن تجمل وتصبر وأظهر للناس خلاف ما في قلبك من الحزن والوجد لئلا يشمت العواذل والعداة بك , ولا يكتئب لك الأودّاء " *= وقوله { لا تهلك أسًى } من الكلمات الموجزة التي ركبها الشاعر تركيباً أوجز فيه اللفظ , وأطال المعنى . لأن كلمة { أسًى } مصدر حذف فعله , وكذا كلمة { تهلك } فعل حذف مصدره وكأنهم قالوا : لا تأس أسًى ولا تهلك هلاكاً , ومجيء المصدر من معنى الفعل المذكور دائما يفيد الإيجاز . وآثر كلمة { شفائي } في قوله :
*= وإِنَّ شِـفَــائِــي عَــبْـــرَةٌ مُــهْــرَاقَــةٌ فَهَـلْ عِنْـدَرَسْـمٍ دَارِسٍ مِــنْ مُـعَـوَّلِ
" ليشير إلى أن كف نفسه عن الأسى المفضي به إلى الهلاك ليس مما يملكه , لأنه غالب عليه كما تغلب العلة والمرض على المريض الذي لا يشفيه النصح , وإنما هو في حاجة إلى شفاء , وإن شفاءه هو البكاء " . ثم يأتي الخبر{ عبرة } ليوحي – من خلال الإفراد والتنكير ودقة الصوت وهدأة الإيقاع – بالتبسيط الشديد للأمر إمعاناً في تأكيد الاقتدار عليه .
*= وإذا كان قوله { وقوفاً بها صحبي } راجعاً إلى قوله { قفا } فإن قوله { وإن شفائي } راجع إلى قوله { نبك } " وهكذا ترى طريق التواصل والتداخل والترابط في نسيج هذه الرائعة , وترى التأكيد الدائم على معنى الوقوف والبكاء "
*= فإذا ضممت إلى هذا البيت قوله : { ففاضت دموع العين } رأيت حظ البكاء أكثر من حظ الوقوف , { ناقف حنظل – شفائي عبرة – ففاضت دموع العين } ثم ارجع إلى قوله : { قفا نبك } تجد أن الوقوف ليس هو المقصود وإنما المقصود البكاء والوقوف سبيل إليه .
*= والاستفهام في الشطر الثاني للإنكار , والمعنى : ليس عند رسم دارس من معوّل , وفضل الإنكار بأداة الاستفهام على الإنكار بأداة النفي هو أنه مع الاستفهام يطلب من القارئ أن يعود إلى نفسه , وأن يراجع هذه الحقيقة التي دخل عليها الاستفهام , وهو لا محالة سيقول : ليس عند رسم دارس من معوّل . وهذه هي قيمة هذا الشطر لأنه يوشك أن يكون رداً لبكائه الذي يراه شفاء له .
*= وتقديم الظرف { عند رسم دارس } لأنه هو الأهم , والشاعر به أعنى لأن البكاء عنده خصوصاً هو محل الإنكار , وزيادة { من } في قوله { من معوّل } للاستغراق , أي استغراق النفي , وتنكير كلمة { معوّل } بمعنى { مبكي } يعني ليس للبكاء عند الرسم الدارس فائدة , ويكون المعنى : وهل عند رسم دارس من بكاء ؟ والمراد بكاء له فائدة . ووصف الرسم بأنه دارس ليؤكد سفاهة البكاء عنده . والدأب في قوله :
*= كَـدَأْبِــكَ مِـــنْ أُمِّ الـحُـوَيْـرِثِ قَبْـلَـهَـا وَجَـارَتِــهَــاأُمِّ الــرَّبَـــابِ بِــمَــأْسَــلِ
العادة والحال , وروى أبو عبيدة { كدينك } وكلاهما بمعنى واحد , والمأسل منزل , وهو في هذا البيت يذكر حبيباً آخر , ومنزلاً آخر , والابتداء بكلمة { كدأبك } للدلالة على الحرقة وغلبة الهم .
*= ومن الملاحظ أن الشاعر امرأ القيس في قوله : { قفا نبك } لم يذكر صاحبة لنعلم أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى لها , وإنما قال : { حبيب } وهذا معنى مفتوح , فهو لم يبك حبيباً بعينه , وإنما يبكي كل حبيب , وقد ذكر دأبه من أم الحويرث لينبه إلى هذا المعنى , وأنه يبكي كل من أحب وما أحب . " ولهذا لا أجد لوعة لا مرئ القيس في شعر كما أجد لوعته في هذه القصيدة " . وهذا البيت هو الذي فتح باب المعنى لقوله :
*= فَفَاضَـتْ دُمُـوْعُ العَيْـنِ مِنِّـي صَبَـابَـةً عَلَىالنَّحْرِ حَتَّـى بَـلَّ دَمْعِـي مِحْمَلِـي
ولم يكن ليصح ويستقيم سبكه أن يقول هذا البيت بعد قوله { فهل عند رسم دارس من مُعوّل } " لأنه سيكون كلاماً متضارباً , وكان لا بد من ذكر خبر أم الحويرث وجارتها لتختفي بها ومضة حديث العقل ويغلب على القلب همُّ ذكر أم الحويرث وأم الرباب وذكرى حبيب , فيفيض دمعه فيقول : ففاضت دموع العين . وبهذه الفاء الرابطة يرد العجز إلى صدره في البيت الأول
*= وإيثار { فاضت } على سالت مثلاً أو انهمرت –وكل ذلك مستعمل في البكاء – لإفادة أن دموعه فاجأته بهذا الفيضان , وهذه الغزارة , ولذلك قال { منّي } لينبه إلى أن زمامها قد خرج من يده " . والصبابة رقة القلب ورقة الشوق , منصوبة على المصدر كما تقول : أقبل محمد ركضاً .
*= وقوله : { عَلَى النَّحْرِ حَتَّـى بَـلَّ دَمْعِـي مِحْمَلِـي } تأكيد لمعنى فاضت دموع العين , وتأمل روعة السبك وجودة النظم في قوله : { على النحر حتى بلّ ...} وكأنه يبين لنا مجارى هذا الفيضان , وأنه تجاوز مجارى الدمع في الوجه إلى النحر إلى المحمل وهو السير الذي يُحمل به السيف . وإذا كان شفاء امرئ القيس عبرة مهراقة ساخنة كما قال فقد فاضت دموعه وانكشف بهذا الفيض همه الذي أشفى به على الهلاك .
*= ( الأيام الصالحات والمتعة واللهو )
*= ثم يبدأ في الحديث عن مرحلة جديدة يحدثنا فيها عن أيامه الصالحات الذي ذهبت بذهابهن , وصارت أيامه الصالحات ذكرى كذكرى حبيب ومنزل , وهذا القسم هو أطول القصيدة , ويشغل وحده نصفها ويزيد على ثلاثين بيتاً من أول قوله { ألا رب يوم لك منهن صالح } إلى أول قوله : { وليل كموج البحر أرخى سدوله } , يقول :
ألاَ رُبَّ يَـــوْمٍ لَـــكَ مِـنْـهُـنَّ صَــالِــحٍ وَلاَ سِـيَّـمَــايَــــوْمٍ بِــــدَارَةِ جُـلْــجُــلِ
ويَـــوْمَ عَـقَــرْتُ لِـلْـعَـذَارَي مَطِـيَّـتِـي فَـيَـا عَجَـبـاًمِــنْ رحلها المُتَـحَـمَّـلِ
فَـظَـلَّ الـعَــذَارَى يَرْتَـمِـيْـنَ بِلَحْـمِـهَـا وشَـحْـمٍكَـهُـدَّابِ الـدِّمَـقْـسِ المُـفَـتَّـلِ
ويَــوْمَ دَخَـلْـتُ الـخِـدْرَ خِــدْرَ عُنَـيْـزَةٍ فَقَالَـتْ لَــكَالـوَيْـلاَتُ إنَّــكَ مُرْجِـلِـي
تَـقُـولُ وقَــدْ مَــالَ الغَبِـيْـطُ بِـنَـا مَـعــاً عَقَرْتَ بَعِيْرِييَا امْرأَ القَيْـسِ فَانْـزِلِ
فَقُلْـتُ لَهَـا سِيْـرِي وأَرْخِــي زِمَـامَـهُ ولاَ تُبْعِـدِيْـنِـيمِـــنْ جَـنَــاكِ المُـعَـلَّـلِ
فَمِثْلِـكِ حُبْلَـى قَــدْ طَـرَقْـتُ ومُـرْضِـعٍ فَأَلْهَيْتُـهَـا عَـــنْذِي تَـمَـائِـمَ مُـحْــوِلِ
إِذَا مَا بَكَى مِـنْ خَلْفِهَـا انْصَرَفَـتْ لَـهُ بِـشَـقٍّوتَـحْـتِـي شِـقُّـهَـا لَـــمْ يُـحَــوَّلِ
ويَوْمـاً عَلَـى ظَهْـرِ الكَثِـيْـبِ تَـعَـذَّرَتْ عَـلَــيَّ وَآلَـــتْحَـلْـفَــةً لــــم تَـحَـلَّــلِ
*= قوله { ألا رب يوم لك منهن صالح } فيه إجمال لكل الأيام الصالحة التي ذكرها في هذه القصيدة الرائعة , وقوله : { ولا سيما يوم بدارة جلجل } فيه إشارة إلى أن هذا اليوم خصوصاً فيه شيء يزيد به عن أيامه الصالحات منهن , له مزيد تخصيص وتفضيل , وهذا ما ينبئ به حرف النفي في { ولا سيما } . وألا استفتاحية , وتشير إلى أن الذي يأتي بعدها كلام له خطر وله بال . وقد تكررت أربع مرات في هذه القصيدة .
*= وأضاف إليها الالتفات في قوله : { لك منهن } وخاطب نفسه , وتقديم الجارين على { صالح } لبيان ما كان له منهن , فهو يذكر الأيام التي له منهن , يعني هن صانعات ما في هذه الأيام له من صالح له , وليس صالح الأيام منه لهن .
*= وفي وقوع كلمة { صالح } وصفاً لليوم صنعة خفية ؛ لأن اليوم لا يوصف بصلاح ولا بغيره , وإنما الذي يوصف بذلك هو ما يكون فيه , ومعنى هذا أن الوصف صار شاملاً لليوم كله ومستغرقاً له استغراقاً لا يترك منه شيئاً .
*= وأفادت { رب} التكثير , فأيامه الصالحات كثير , وآثر اسم الموصول { ما } في قوله : { ولا سيما } على اسم الموصول { الذي } للإبهام , لأن { ما } موغلة في الإبهام , والإبهام هنا يعني يوماً أيّ يوم . ثم إنه حذف صدر الصلة وأبقى خبرها وهو { يوم } والأصل ولا سيما هو يوم . ودارة جلجل موضع يقال له الحمى , ودار ودارة بمعنى واحد , وإنما آثر اللفظ المؤنث لمناسبة ذكر العذارى , وذكر التأنيث في قوله : { منهن } . والواو في قوله :
*= ويَـــوْمَ عَـقَــرْتُ لِـلْـعَـذَارَي مَطِـيَّـتِـي فَـيَـاعَجَـبـاً مِــنْ رحلها المُتَـحَـمَّـلِ
للعطف , عطف يوم على يوم في قوله { ولا سيما يومٌ } , وإنما نصب في اللفظ لأنه مضاف غير محض , قال تعالى : (( وما أدراك ما يومُ الدين , ثم ما أدراك يومُ الدين , يومَ لا تملك نفس لنفس شيئاً )) { الانفطار :17- 19 } , ولا شك أن يوم عقره مطيته هو يوم دارة جلجل والأصل ألا يعطف عليه لأن العطف يقتضي المغايرة , ولا يجوز عطف الشيء على نفسه , وإنما فعل الشاعر ذلك للإشارة إلى أن هذا اليوم تميز بحدث عجيب وهو عقر مطيته , وتحمل مطايا العذارى رحله فصار كأنه يوم آخر .
*= وإنما قال مطيتي ولم يقل ناقتي لأن كلمة مطية تشير إلى أن صاحبها يمتطي مطاها أي ظهرها فهو في أشد الحاجة إليها لأنه هو ورحله عليها , وعقرها هو موضع الأعجوبة , أما عقر الناقة التي لا يركبها فهو أمر مألوف ولا أعجوبة فيه , ويؤكد هذا المعنى أن التعجب في قوله { فَـيَـا عَجَـبـاً مِــنْرحلها المُتَـحَـمَّـلِ } كان من الرحل المتحمل وليس من العقر .
*= فإن قيل كيف نادى العجب وليس مما يعقل ؟ قيل في جوابه : إن المنادى محذوف تقديره : يا هؤلاء أو يا قوم اشهدوا عجبي من رحلها المتحمل , فتعجبوا منه فإنه قد جاوز المدى والغاية . وقيل : بل نادى العجب اتساعاً ومجازاً فكأنه قال : يا عجبي تعال واحضر فإن هذا أوان إتيانك وحضورك .
*= قال أبو بكر الأنباري : " العجب لهن ومنهن كيف أطقن حمل الرحل في هودجهن , فكيف رحلن إبلهن على تنعمهن , ورفاهة عيشهن , ورخص أبدانهن "
*= والفاء التي في قوله : { فيا عجباً } هي الفاء التي ترتب معنى على معنى , وليست التي تعطف جملة على جملة , والياء التي في { فيا } قد تكون للنداء , وكأنه ينادي عجبه , وفيه إشارة إلى أنه يسفّه هذا الفعل من نفسه , قال الأنباري : { فعلت هذا لسفهي في شبابي } ومعنى هذا أن القصيدة قيلت بعد الشباب , وهذا حق لأنها بنيت على الذكرى . وقد تكون الياء التي في { فيا } للتنبيه , وأن الشاعر يوقظ بها من يتلقى شعره , وينبهه إلى فضل عنايته بالمعنى الذي يأتي بعد هذه الياء . ثم أقبل يخبر فقال :
*= فَـظَـلَّ الـعَــذَارَى يَرْتَـمِـيْـنَ بِلَحْـمِـهَـا وشَـحْـمٍكَـهُـدَّابِ الـدِّمَـقْـسِ المُـفَـتَّـلِ
العرب تقول : ظل فلان يفعل كذا وكذا إذا فعله نهاراً , وبات يفعل كذا وكذا إذا فعله ليلاً , والفاء راجعة بما بعدها إلى عقرت , وكرر العذارى – وكان يمكن أن يكتفي بالضمير الراجع إليهن لقرب ذكرهن – أي : { فظللن يرتمين } , ولكنه وضع المظهر موضع المضمر لأن الاسم الظاهر يعمل في النفس ما لا يعمله الضمير . فالشاعر ههنا يؤكد بتكرار الاسم الظاهر على الحضور الطاغي للعذارى في وجدانه وعقله باعتبارهن رمزاً لبكارة الفعل المنشود تحققه .
*= وقوله : { يرتمين بلحمها .... } صورة حية سخية بالمرح واللهو والمسرة والغبطة , وهذا الفعل وهذه الصورة هي اليوم الصالح الذي له منهن , لأنه لم يذكر شيئاً بعد عقر المطية لهن إلا هذا .
*= والفعل المضارع { يرتمين } يرسم صورة التهادي والتناول , وصيغة الافتعال { ارتمى } دالة على الاحتشاد للفعل والتوفر له والإقبال عليه بموفور النشاط , ثم إن الشاعر قال : { بلحمها وشحم كهداب الدمقس } وكان يمكن أن يقول : { بلحمها وشحمها } ولكنه أفرد الشحم بالوصف .
*= ومعنى ذلك أن اللحم وهو خير ما يؤخذ من الذبيحة للأكل لا يؤكل , وإنما يستخدم مادة لممارسة حيوية اللهو والمتعة , الأمر الذي يؤكد فكرة القربان الذي يُرجى من ورائه الرضا الذي تبين دلائله من خلال فعل حيوي يجسد الموقف النفسي الراضي هو فعل الترامي .
*= أما الشحم بالتنكير إشارة إلى أنه الرصيد المخزون في الجسم , ويعتمد عليه عند الحاجة فيمنح القوة والطاقة الحيوية .
*= وقال الأصمعي : " الهُدّاب : الهدب , والدمقس : الحرير , كانوا يتخذون قطفاً من حرير ؛ يركبون عليها , وكانت حواشيها مما يلي الهداب منها بيضاً . فشبه بياض اللحم ولينه ونعومته بذلك " وهذا يعني أنه أفرد الشحم لأنه أكثر دلالة على طيب اللحم , وإنما اراد أنه نحر لهن ناقة مكتنزة اللحم , موفورة العافية , طيبة الغذاء , وأنهن كن يتهادين اللحم والشحم , أو يلقم بعضهن بعضاً منه مرحاً وغبطة وتلهياً وشهوة . ويروعك تشبيهه شرائحالشحم بحواشي ثوب حرير أبيض وذلك من جهةشكلها ولمعانها وبياضها . والواو التي في قوله :
*= ويَــوْمَ دَخَـلْـتُ الـخِـدْرَ خِــدْرَ عُنَـيْـزَةٍ فَقَالَـتْلَــكَ الـوَيْـلاَتُ إنَّــكَ مُرجلي -
والشاعر هو الذي يقول على لسانها وكان يمكن أن تنكر عليه ذلك أو تقول له إنك فاضحي , لكن عبارة عنيزة التي أجراها على لسانها ليس فيها أي إنكار لدخوله عليها من جهة أن هذا خارج عن المألوف , وعن الآداب والأخلاق وأنه يفضحها , وإنما فقط خافت على بعيرها , ولهذا أعاد كلامها وإنكارها وأنها أرادت نزوله لأنه عقر بعيرها فقال :
تَـقُـولُ وقَــدْ مَــالَ الغَبِـيْـطُ بِـنَـا مَـعــاً عَقَرْتَ بَعِيْرِييَا امْرأَ القَيْـسِ فَانْـزِلِ
*= ولاحظ صنعة الشاعر جاء قوله { فقالت لك الويلات } معطوفاً بالفاء للإشارة إلى أنها قالت ذلك فور دخوله , ثم جاء { تقول } بدون فاء وبصيغة المضارع للإشارة إلى أن ذلك القول كان يتكرر منها , ويتجدد , وأنه كلما مال الغبيط الذي هو الرحل قالت له هذا .
*= ثم لاحظ الجملة الحالية المؤكدة بقد والداخلة عليها واو الحال , ولها شأن في الكلام وذلك لأنها تؤمى إلى أن هذا الخبر الملحق الذي هو الحال , والذي هو هنا ميل الرحل بهما يوشك أن يكون خبراً وحده , غير ملحق بالخبر الأول الذي أصله كلمة { تقول } .
*= وأفادت كلمة { معاً } تلك الصحبة الغريبة والشاذة بينه وبين حرة كريمة نبيلة عالية القدر شريفة النسب , وما اختياره خدرها من بين خدور العذارى إلا دليل على تميزها بينهن . وقولها { عقرت بعيري يا امرأ القيس } بيان لقوله { إنك مرجلي } , وكلمة { عقرت } تعبير بالفعل عن مشارفة الفعل للدلالة على أن ذلك كائن لا محالة , وكلمة { يا امرأ القيس } وقد سبق أن خاطبته بقولها " { إنك مرجلي } فيها وضع الظاهر موضع المضمر للتنويه بهذا الاسم , ولنشوة الشاعر بإجراء اسمه في هذا المقام على لسانها , وأنه لا يجرؤ أحد أن يركب في هودج عنيزة إلا امرأ القيس . ورغم تواجدهما معاً على ظهر البعير إلا أن عنيزة استعملت حرف النداء { يا } إغراءً له , وإشارة منه إلى علّو مرتبته عندها , فجعل بُعْدَ منزلته كأنه بُعْدٌ في المكان .
*= وكرر كلمة { عقرت } عند نشوته وغبطته بهن , وعقر الناقة لهن , وذكر العقر هنا عند غبطته بصحبة عنيزة , ومعنى هذا أن كل لذة عند هذا الشاعر هي لحظة عقر , وهذا مزج عجيب بين اللذة والألم في شعر هذا الشاعر الرائع . قال أبو عبيدة : " إنما قال { عقرت بعيري } ولم يقل ناقتي لأنهم يحملون النساء على الذكور ؛ لأنها أقوى وأضبط " .
*= وقوله :
فَقُلْـتُ لَهَـا سِيْـرِي وأَرْخِــي زِمَـامَـهُ ولاَ تُبْعِـدِيْـنِـيمِـــنْ جَـنَــاكِ المُـعَـلَّـلِ
جواب لقولها { عقرت بعيري فانزل } , وقوله : { سيري وأرخي زمامه } معناه : لا تشغلي نفسك بأمر البعير , وهوني عليك ولا تبالي بأمره أعقر أم سلم , وارخي له زمامه , أي اتركيه , وكأن ترك الزمام وإسقاط كل قيد وكل محظور هو المطلوب في هذا الوقت . وانتقلي إلى أمر آخر وامنحيني من حسنك المرة بعد المرة , فأسلوب الطلب في قوله : { سيري– وارخي – ولا تبعديني } جاء ليؤكد استعطافالحبيبة كي تترك المطية تسير وأن لا تبعده مما ينال منها والمعلل الشرب بعد الشرب , والجنى الثمر , جعلها نخلة ريّان ذات ثمر , اجتنى منها القبل والمتعة .
*= ولعل اقتران المرأة بالشجرة يحمل دلالات وإيحاءات , فتغدو المرأة رمزاً للخصوبة مليئة بالإخصاب والنماء والخير والنتاج ؛ لأن نتاج المرأة وثمارها ولدها , وولد الإنسان يسمى جنى . والفاء في قوله :
*= فَمِثْلِـكِ حُبْلَـى قَــدْ طَـرَقْـتُ ومُـرْضِـعٍ فَأَلْهَيْتُـهَـاعَـــنْ ذِي تَـمَـائِـمَ مُـحْــوِلِ
راجعة إلى قوله : { لا تبعديني } وليست كالفاء التي في قوله : { فقلت لها } لأن الأولى عطفت قولاً على قول , وهذه عطفت علة على معلول , لأن ما بعدها علة لقوله { لا تبعديني } وهذا تعليل غريب " لأنني لم أعرف رجلاً تودّد إلى امرأة بمثل قوله لقد فعلت كذا وكذا , ومعنى الكلام لا تبعديني لأنني لا أبْعد ولا أدْفع وإنما إذا أردت شيئاً حزته .
*= والمرأة الحبلى أزهد النساء في الرجال وكذلك المرضع , والحبلى والمرضع معاً أكثر زهداً , وهو هنا يقول الحبلى قد طرقتها والمرضع قد طرقتها , والحبلى والمرضع معاً طرقتها " لأنهن يرغبون فيّ لجمالي , وروي { مغيل } بدلاً من { محول } , والمغيل الطفل الذي تؤتى أمه وهي ترضعه . ثم قال :
*= إِذَا مَا بَكَى مِـنْ خَلْفِهَـا انْصَرَفَـتْ لَـهُ بِـشَـقٍّوتَـحْـتِـي شِـقُّـهَـا لَـــمْ يُـحَــوَّلِ
والمعنى : أنها كانت تحته فإذا بكى الصبي انصرفت له بشق ؛ ترضعه , وهي تحتي بعدُ , وإنما تفعل هذا ؛ لأن هواها معي , ولم تنصرف إلى ذي التمائم الذي يبكى كما تنصرف كل أم إلى ولدها .
*= ولذا أفاد تقديم الخبر { تحتي } على { المبتدأ { شقها } ليوضح مكان شقها الثاني وليكون دليلاً على غاية ميلها إليه حيث لم يشغلها عن مرامه ما يشغل الأمهات عن كل شيء . فشطراها متساويان . لم تترك ولدها , ولم تتخل عن حبيبها , وهذا أيضاً ما تؤكده الجملة المنفية { لم يحول } .
*= وقال النحاس : " معنى البيت أنه لما قبّلها أقبلت تنظر إليه وإلى ولدها , وإنما يريد بقوله : { انصرفت له بشق } يعني أنها أمالت طرفها إليه , وليس يريد أن هذا من الفاحشة ؛ لأنها لا تقدر أن تميل بشقها إلى ولدها في وقت يكون منه إليها ما يكون , وإنما يريد أن يقبلها وخدها تحته .
*= وكل هذا التصوير الرائع مبني على ضرب من الإحساس بالتميز والاقتدار والسيطرة وغطرسة الملك فلا يمتنع عنه شيئاً أراده , فقد أخذ من الأصناف الثلاثة كل ما يريد فلا يمكنك أن تبعديني عنك أبداً . وقوله :
*= ويَوْمـاً عَلَـى ظَهْـرِ الكَثِـيْـبِ تَـعَـذَّرَتْ عَـلَــيَّوَآلَـــتْ حَـلْـفَــةً لــــم تَـحَـلَّــلِ
بيت واقع موقعه في مفصل القصيدة , لأنه يختم الحديث عن عنيزة , ويبدأ الحديث بعده عن فاطمة , واليوم منصوب بتعذرت , والكثيب رمل مجتمعمرتفع على غيره , وتعذرت عليّ تعسرت وتشددت وامتنعت , وآلت حلفت , وقوله : { لم تحلل } , قالالأنباري : لم تقل إن شاء الله فترجع إليّ , وهيالتحلة .
*= ومعناه لم تستثن فيه أنها تصارمه وتهجره وكأني به يستعطفها ألاّ تفعل ؛ لأن بُعْدها عنه يعني له الزوال والفناء , متمنياً أن يكون هجرها مجرد دلال ليس إلاّ , وهذا ما نكتشفه في البيت الموالي له في قوله : { أفاطم مهلاّ بعض هذا التدلل } .
*= وليس في حديثه عن عنيزة ما يشير إلى أنه أصاب منها شيئاً , والبيت يهيئ لحديث فاطمة لأن خطابه لفاطمة خطاب مختلف وفيه تصوّن شديد , وفيه تودد لفاطمة , وتبرّى من كل ما يخدش الحياء , وكان هذا البيت توطئة لهذا الجزء لأنه فيه كفّ نفسه عن الذي أراده لما تعذر عليه , وآلت حلفة وليس هذا من عادته وإنما عادته أن يصل إلى ما يريد , ولو كان الذي يريده وراء الستر في خدر حرّة نضّت عنها ثيابها .
ومن أظهر مظاهر براعة هذا الشاعر العريق " هو إصابته التي لم أعرفها لغيره في استخدام أدوات الربط , ثم راجع في هذا البيت كلمة { تأمري القلب } وهذه كلمة نادراً ما تقع في خطاب امرئ القيس لصواحباته ؛ لأنه دائماً هو الآمر حتى في لحظات ذروة تمتعه بالصاحبة , يقول لها { هات نوّليني } فتنقاد لأمره وتتمايل عليه , وهذا البيت تودد وتحبب وإكرام لفاطمة , وإقرار منه بأن حبها قاتله , وإقرار منه بشدة تصاغره وانقياده لها , واستجابته لداعيها , وأنها تملك عليه الأمر فهي ملكة هذا الملك "
*=وهل يمكن أن تسمع محبوبة يتعبد المحب في محرابها أكثر من ذلك مما يرضي غرورها , ويمنحها لذة الإحساس بالذات ؟ هذا هو ما استشعرته المخاطبة بالفعل ؛ فراحت تمعن في دفع المحب إلى مزيد من الخضوع والدوران في فلكها فذرفت دموعاً كان المحب أعرف الناس بما وراءها . ولذا صاغ حقيقتها في بيت يسجل خاتمة هذه اللحظة الخاصة , ويواجه نفسه بحقيقة موقفه وموقف المخاطبة , فيقول :
*= وَمَــا ذَرَفَـــتْ عَـيْـنَـاكِ إلاَّ لِتَـضْـرِبِـي بِسَهْمَيْـكِفِــي أعْـشَـارِ قَـلْـبٍ مُقَـتَّـلِ
ذرفت : دمعت عيناه , وإعشار القلب كسره , ومقتل : مذلل ومنقاد , والمعنى : بكيت لتجعلي قلبي مقطعاً مخرقاً فاسداً , كما يخرق الجابر أعشار البرمة , والبرمة تنجبر , والقلب لا ينجبر
*= ويلاحظ أنه قال { ذرفت عيناك } ووضع ذلك موضع البكاء , وأسند الذرفان الذي هو السيلان إلى العينيين , وفي هذا الإسناد أمران :
أحدهما : أنه جعل هذا الذرفان ليس لوجد تجده , وإنما هو لتضربي بسهميك في قلب مذلل , ومعنى هذا القصر أنها لم تبك لحرقة حب وإنما بكت فقط لتقدح ببكائها في قلبه .
والثاني : هو أن ذكر العينيين في الأول فتح المجاز لكلمة سهميك والمراد العينان , وإنما جعلهما سهمين ليشير إلى نفاذهما في قلبه .
*= وإذا كان الشاعر امرؤ القيس قد بلغ الغاية في وصف خُلُقه في قوله : { وإن تك قد ساءتك مني خليقة } فقد بلغ الغاية هنا في وصف وَجْدَه , حتى إنهم قالوا إن هذا البيت أشعر بيت قالته العرب في الصبوة .
*= وتعمد الشاعر حذف مفعول { ذرفت } ليقول إن ما جرى من العينين ليس دمعاً حقيقياً , وإنما هو مجرد مادة إيقاد نار النظرات الفاعلة في أجزاء القلب القتيل بهواه جميعاً .
*= وذَكْر دموعِها في آخر الأبيات التي يخاطبها بها راجع إلى قوله : { وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي } وإلى قوله : { فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلي } وأن هذه الدموع تعني أنها لن تصرمه ولن تسل ثيابها من ثيابه , وأنها لم تسؤها منه خليقة وهذه هي قيمة هذا البيت , وأنه إجابة عن كل ما قاله , وأنها حدثته بأبلغ مما حدثها به , ووصفت له توقاً أبلغ من توقه ثم إنها هي المرأة الوحيدة في القصيدة التي لم ينطق الشاعر على لسانها بكلمة واحدة , وإنما سمعت منه , ثم أجابته بدموعها , وهذا من أبلغ الوجد .
*= " ولا أجد في الشعر العذري أبياتاً أبلغ من هذه الأبيات , ولا أجد في شعر النسيب أبياتاً أصفى ولا أطهر ولا أنقى من هذه الأبيات " .
*= ( حديثه عن بيضة الخدر ودخوله عليها ووصفه لها وبيان محاسنها ) , يقول :
وبَـيْـضَـةِ خِـــدْرٍ لاَ يُــــرَامُ خِـبَـاؤُهَــا تَمَتَّعْـتُ مِـنْلَهْـوٍ بِـهَـا غَـيْـرَ مُعْـجَـلِ
تَجَـاوَزْتُ أحْـرَاسـاً إِلَيْـهَـا وَمَعْـشَـراً عَلَّـي حِرَاصـاًلَــوْ يُـسِـرُّوْنَ مَقْتَـلِـي
إِذَا مَـا الثُّرَيَّـا فِـي السَّمَـاءِ تَعَرَّضَـتْ تَـعَـرُّضَأَثْـنَـاءَ الـوِشَـاحِ المُـفَـصَّـلِ
فَجِـئْـتُ وَقَـــدْ نَـضَّــتْ لِـنَــوْمٍ ثِيَـابَـهَـا لَــدَى السِّـتْـرِإلاَّ لِـبْـسَـةَ المُتَـفَـضِّـلِ
فَقَـالَـتْ : يَمِـيْـنَ اللهِ مَــا لَــكَ حِـيْـلَـةٌ وَمَـا إِنْ أَرَىعَنْـكَ الغَوَايَـةَ تَنْجَـلِـي
خَرَجْـتُ بِـهَـا أَمْـشِـي تَـجُـرُّ وَرَاءَنَــا عَـلَـى أَثَـرَيْـنـاذَيْـــلَ مِـــرْطٍ مُـرَحَّــلِ
فَلَمَّـا أجَزْنَـا سَاحَـةَ الـحَـيِّ وانْتَـحَـى بِنَـا بَـطْـنُحِقْف ذي رُكَام عَقَنْـقَـلِ
هَـصَـرْتُ بِـفَـوْدَي رَأْسِـهَـا فَتَمَايَـلَـتْ عَلـيَّ هَضِيْـمَالكَشْـحِ رَيَّـا المُخَلْـخَـلِ
*= الواو واو ربّ , والمعنى : ربّ بيضة خدر ؛ أي ربّ امرأة كأنها بيضة في خدرها , شببها بها لصفائها وبياضها ورقتها وملاستها . و { بيضة خدر } كلمة جامعة تشدّك بجدتها وطرافتها وإصابتها وجودتها . ثم وصفها بأنه { لا يرام خباؤها } لعزة قومها ومنعتهم وبأسهم وشدة تصوّنهم في حماية أعراضهم فلا يتعرض لها ولا لخبائها , والخباء ما كان على عمودين أو ثلاثة , فهي مخدرة مصونة مكنونة لا تبرز للشمس ولا تظهر للناس , ورغم هذا كله فقد تَمَتَّعْـتُ مِـنْ لَهْـوٍ بِـهَـا غَـيْـرَ مُعْـجَـلِ , أي : وصلت إليها وتمتعت على تمهل وتمكْث لم أعجل ولم أذعر . ولا يخفى عليك أيها المتذوق ما في هذا الكلام من إيحاءات جنسية نستشفها من التمتع بها واللهو معها .
*= ويوشك أن يكون أهم ما يريد الشاعر في ذكر بيضة الخدر , وحديث الصبوة يمكن أن يكون حديثاً عن حسنها الذي أجمله في قوله : { بيضة خدر } , ويمكن أن يكون عن عزة قومها , ومنعتهم الذي أجمله في قوله : { لا يرام خباؤها } ويمكن أن يكون حديثاً عن تمتعه بها .
*= ولكن الكلمة الداخلة على هذا السياق هي قوله { غير معجل } بعد قوله لا يرام خباؤها , ولا معنى لهذا إلا حديثه عن عزه , وشرفه , واقتداره , وأنه لا يخاف وأن التي لا يرام خباؤها تراه عندها متمتعاً بها وهو رابط الجأش , ساكن القلب , غير خائف ولا فزع , وهذا شيء ليس من الصبوة في شيء , وإنما هو حديث ملك عن قدرته وتمكنه وبأسه , وأنه ينال الممنوع المصون , ولا يناله أحد والبيت الذي يلي هذا تأكيد لمعنى لا يرام خباؤها وهو قوله:
تَجَـاوَزْتُ أحْـرَاسـاً إِلَيْـهَـا وَمَعْـشَـراً عَلَّـي حِرَاصـاًلَــوْ يُـسِـرُّوْنَ مَقْتَـلِـي
الأحراس جمع الحرس , ومعشراً يريد قومها , والمعنى : تجاوزت إليها أعداء يتمنون قتلي لو وصلوا إليه . ولذا كان تقديم { عليّ } على الصفة { حراصاً } ليؤكد أن القوم حراص على قتله هو , خفية لما أصابهم منه إذ لا يقدرون على قتله جهاراً كونه ملكاً . ثم يتم المعنى بقوله :
إِذَا مَـا الثُّرَيَّـا فِـي السَّمَـاءِ تَعَرَّضَـتْ تَـعَـرُّضَأَثْـنَـاءَ الـوِشَـاحِ المُـفَـصَّـلِ
*= لأن قوله : { إذا ما الثريا } ظرف لقوله : { تجاوزت أحراساً } , والمعنى : تجاوزت أحراساً إليها ليلاً عند تعرض الثريا في السماء في وقت غفلة رقبائها . وقوله : { تعرضت } معناه أن الثريا تستقبلك بأنفها أول ما تطلع , فإذا أرادتْ أن تسقط تعرضت , كما أن الوشاح إذا طُرح تلقاك بناحية . والوشاح خرز يعمل من كل لون . والمفصل : الذي قد فصّل بالزبرجد , وأثناء الوشاح : نواحيه ومنقطعه . والمعنى : أنه شبه اجتماع الكواكب في الثريا , ودنوّ بعضها من بعض بالوشاح المنظم بالودع المفصل بينه .
*= ولا يفوتك جمال هذا التشبيه وروعته تشبيه الثريا بنواحي الوشاح المفصل ليس هذا فحسب , وإنما يتعجب المتذوق كيف يربط هذا الشاعر المبدع بين أمرين متباعدين هذا التباعد , وكيف يستخرج الشبه للشيء من غير واديه , وكيف يريك المتباعدات وهي تتعانق
*= والفاء في قوله :
فَجِـئْـتُ وَقَـــدْ نَـضَّــتْ لِـنَــوْمٍ ثِيَـابَـهَـا لَــدَى السِّـتْـرِإلاَّ لِـبْـسَـةَ المُتَـفَـضِّـلِ
مترتبة على قوله : { تجاوزت } وكذلك الفاء التي في أول قوله التالي { فقالت يمين الله } وهذه روابط قوية محكمة , وكلمة { فجئت } هي الجملة الأم التي في هذا البيت , وبقيته جملة حالية , وفيها الغرض المقصود , والواو واو الحال . ونضّت : سلخت ثيابها عنها وألقتها , وإثارها على { نزعت أو خلعت } للإشارة إلى أنها نزعتها لأنها في مأمن من عيون الغرباء .
*= ولبسة المتفضل : ثوبها الذي يلي جسدها وهو الشعار , تقوم وتقعد فيه وتنام . وهذا يعني أنها آلت إلى فراشها الخاص بها , وأنه لا يمكن أن تتصور أن أحداً يقتحم عليها فراشها كيف وهي مع ذلك عليها أحراس ومعشر , وكل هذا مقصود لا مرئ القيس , ولذلك جاء به لأن الأصل هو بيان وصوله إلى ما لم يصل إليه أحد , وليست المسألة امرأة عارية وراء الستر , وإنما هو أنه ليس هناك حواجز بينه وبين ما يريد . وقوله :
*= فَقَـالَـتْ : يَمِـيْـنَ اللهِ مَــا لَــكَ حِـيْـلَـةٌ وَمَـا إِنْ أَرَىعَنْـكَ الغَوَايَـةَ تَنْجَـلِـي
يروعك توظيف النفي في هذا البيت { ما } مرتين , ففي الأول نفي للاسم { حيلة } المؤخر مع تقديم الخبر { لك } , وفي هذا تخصيص وتأكيد على عدم وجود عذر في زيارتها أما في الثانية { وما إن أرى عنك الغواية تنجلي } فهو نفي للفعل { أرى } , لأن { إن } زائدة وهي تزاد مع { ما } النافية , فما رأت من تشبث بها دليل على عدم نزوعه عن غيّه .
*= وإنك لتعجب من امرأة في عز قومها , بيضة خدر مصونة ومحمية لا تراها الشمس ولا تراها العيون ثم يدخل عليها رجل وهي في سترها , وليس عليها ما يستر جسدها ثم لا تنكر عليه اقتحامه , وإنما تقول له : { يمين الله ما لك حيلة } , والشاعر أراد من خلال قولها أن يدلك على أن هذا مما يتكرر منه , لأنها لا تقول له : ما لك حيلة , إلا وقد تكرر منه هذا , ثم إنها لم تنكر عليه إلا أنه تجاوز الحيلة في اقتحام مخدعها , وجاء معتداً بقوته ومجده وعزه , وأيضاً قولها له : { ما إن أرى عنك – الغواية أو العماية – تنجلي } أظهر في الدلالة على أنها اعتادت ذلك منه , وهذا هو جوهر ما أراده الشاعر وهو أن هذه الكريمة المصونة والمحروسة قد اعتاد أن يجتاز كل هذه الموانع وأن يصل إليها , وقد ألفت ذلك منه , وهي تعجب لجسارته وإصراره على كل ما هو محفوف بالمكاره والمهالك , وهو لا يسمع هذا ولا يرد عليه وإنما يخرج بها تمشي , قال :
*= خَرَجْـتُ بِـهَـا أَمْـشِـي تَـجُـرُّ وَرَاءَنَــا عَـلَـىأَثَـرَيْـنـا ذَيْـــلَ مِـــرْطٍ مُـرَحَّــلِ
*= ولهذا فقوله : { خرجت بها أمشي } تأكيد لقولها { وما إن أرى عنك الغواية تنجلي } , والمرط : إزار من خز , ومرحل : ضرب من البرود الموشى بالصور , والمعنى : خرجت بها متجاوزا أحراسها ومعشرها لنخلو تجر وترفع أذيالها لتعفي أثرنا لئلا يقتفى أثرنا فيستدل علينا ويعرف موضعنا .
*= والباء في قوله : { خرجت بها } نص في أنه خرج بها , ولم يخرج معها , وكأنه لم يأت ليلهو بها , وإنما ليخرج بها , وكأنها سبية , تسحب بذيلها على أثره من ورائه مستشعرة الخطر , ولم يستشعره هو , فهو ههنا يجسد لحظة النصر وما يقترن بها من مشاعر الزهو *= ثم أومأ بقوله : { مرط مرحل } إلى مكانتها ونعمتها وعزها في قومها , ولا شك ان الكلام من قوله : { وبيضة خدر } إلى هنا ليس متجهاً إلى اللهو ولا إلى الصبوة , وإنما هو تصوير مخاطر وطرح الحيل وسلوك طريق المقتدر الذي يقتحم بجسارة وثقة وغرور وغطرسة .
*= والفاء في قوله :
فَلَمَّـا أجَزْنَـا سَاحَـةَ الـحَـيِّ وانْتَـحَـى بِنَـا بَـطْـنُحِقْف ذي رُكَام عَقَنْـقَـلِ
راجعة على تلك العائلة من الفاءات التي تربط أحداث القصة من أول { تجاوزت أحراساً .. فجئت 00 ثم قال خرجت بها فلما أجزن } , وأجزنا قطعنا , وساحة الحي فناؤه وعرصاته وانتحى : اعترض , والحقف : رمل منعرج منثني , وركام : متراكم بعضه فوق بعض , والعقنقل : المتعقد الداخل بعضه في بعض . ولمّا هي الحينية الوقتية , وجوابها محذوف لعلم السامع به قاله أبو عبيدة , والمعنى : فلما أجزنا ساحة الحي الذي عليه الأحراس وانتهينا إلى مكان غير مسلوك خبت قفر كان ما كان . وتقديم { بنا } على فاعل انتحى { بطن } لإفادة الخبر والتأكيد على انفراده بها . وقوله :
*= إِذَا التفتتْ نَحْوِي تَـضَـوَّعَ ريحُها نَسِيْـمَالصَّبَـا جَـاءَتْ بِـرَيَّـا القَرَنْـفُـلِ
*= إذا قلت هاتي نَوّليني تَمَايَـلَـتْ عَلـيَّ هَضِيْـمَالكَشْـحِ رَيَّـا المُخَلْـخَـلِ
*= تضّوع ريحها : انتشر وفاح , وتضوع على { تفعّل } , وجيء به بدل { فعل } للدلالة على قوة تحركه وانتشاره , ونسيم الصبا : تنسمها , وهوهبوبها بضعف ولين , والمراد هنا التشبيه , والرَّيافعلى من الرّي , ولا يكون ريّا القرنفل إلا ريحاً طيبة. والتنويل : إما العطية من النوال , وإما التقبيل , وكلاهما وارد . وتمايلت : أصغت إليّ رأسها , أي أمالته , ويروى { هصرت بفودي رأسها } بمعنى :جذبت وثنيت , والفودان : جانبا الرأس . وهضيم : حال , بمعنى مهضومة والكشح : ما بين منقطع الأضلاع إلى الورك , أي : الخصر . والمخلخل : موضع الخلخال , يصف دقة خصرها , وعَبَالة ساقيها .
*= وامرؤ القيس هنا يتحدث في هذين البيتين عن لهوه المتواضع ببيضة الخدر وتمتعه بها – بخلاف لهوه مع بيضاء العوارض التي سما إليها بعد ما نام أهلها – وأما ما سبقهما فكان حديثاً عن مخاطراته وعدم مبالاته .
*= وثمة مقابلة بين النصف الأعلى والنصف السفل , وثمة مقابلة بين اللفظ الموصوف به الكشح { هضيم } واللفظ الموصوف به أسفل الساق { ريا } , وثمة إثبات جمال الموصوف في الحالين , ومعنى هذا أن ما يجمل حين يكون هضيماً جاء كذلك , وما يجمل حين يكون رياناً جاء كذلك .
*= ( ثم يبدأ في وصف محاسنها عضواً عضواً وصورها التي تجسد رؤية الراضي عن الذات الموصوفة , ويبرز من بينها المعنى الذي يتوازى فيه الحسي والمعنوي بثلاثة عشر بيتاً آية في الروعة والسبك والحسن والتفوق والبراعة ) , يقول :
مُهَفْـهَـفَـةٌ بَـيْـضَـاءُ غَـيْــرُ مُـفَـاضَــةٍ تَـرَائِـبُـهَـامَـصْـقُـولَـةٌ كَالـسَّـجَـنْـجَـلِ
كَبِـكْـرِ المُـقَـانَـاةِ الـبَـيَـاضَ بِـصُـفْـرَةٍ غَذَاهَـا نَمِـيْـرُالـمَـاءِ غَـيْـرُ المُحَـلَّـلِ
تَـصُـدُّ وتُـبْـدِي عَــنْ أسِـيْــلٍ وَتَـتَّـقِـي بِنَاظِـرَةٍ مِــنْوَحْــشِ وَجْــرَةَ مُطْـفِـلِ
وجِـيْـدٍ كَجِـيْـدِ الـرِّئْـمِ لَـيْـسَ بِفَـاحِـشٍ إِذَا هِــــــيَنَــصَّــتْــهُ وَلاَ بِـمُـعَــطَّــلِ
وفَــرْعٍ يَـزِيْـنُ المَـتْـنَ أسْــوَدَ فَـاحِـمٍ أثِـيْــثٍ كَـقِـنْــوِالـنَّـخْـلَـةِ المُتَـعَـثْـكِـلِ
غَـدَائِـرُهُ مُسْتَـشْـزِرَاتٌ إلَـــى الـعُــلاَ تَضِـلُّ العِقَـاصُفِـي مُثَـنَّـى وَمُـرْسَـلِ
وكَـشْـحٍ لَطِـيـفٍ كَالـجَـدِيْـلِ مُـخَـصَّـرٍ وسَــاقٍكَـأُنْـبُـوبِ الـسَّـقِـيِّ الـمُـذَلَّـلِ
ويُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَـا نَئُوْمُالضَّحَى لَـمْ تَنْتَطِـقْ عَـنْ تَفَضُّـلِ
وتَعْطُـو بِـرَخْـصٍ غَـيْـرَ شَـثْـنٍ كَـأَنَّـهُ أَسَارِيْـعُ ظَـبْـيٍأَوْ مَسَـاويْـكُ إِسْـحِـلِ
تُـضِـيءُ الـظَّــلامَ بِالـعِـشَـاءِ كَـأَنَّـهَـا مَــنَــارَةُمُـمْـسَــى رَاهِــــبٍ مُـتَـبَـتِّـلِ
إِلَــى مِثْلِـهَـا يَـرْنُـو الحَلِـيْـمُ صَـبَـابَـةً إِذَا مَـااسْبَكَـرَّتْ بَيْـنَ دِرْعٍ ومِـجْـوَلِ
تَسَلَّتْ عَمَايَـاتُ الرِّجَـالِ عَـنْ الصِّبَـا ولَيْـسَ فُـؤَادِيعَـنْ هَــوَاكِ بِمُنْـسَـلِ
ألاَّ رُبَّ خَـصْـمٍ فِـيْـكِ أَلْـــوَى رَدَدْتُـــهُ نَصِـيْـحٍ عَـلَـىتَعْـذَالِـهِ غَـيْـرِ مُـؤْتَــلِ
*= المهفهفة : الخفيفة اللحم التي ليست برهلة ولا ضخمة البطن , فهي رشيقة , وكلمة { مهفهفة } كلمة واصفة ببنائها , وخفة جريانها على اللسان , ولهذا نراها واقعة موقعاً حسناً جدا , وخصوصاً بعد قوله : { تمايلت عليّ } . والمفاضة : الممتلئة البطن , ونراه يؤكد معنى رشاقتها بكلمات تترادف , فهي هضيم الكشح ومهفهفة وغير مفاضة . والترائب جمع تريبة وهو : موضع القلادة من الصدر . والسجنجل : المرآة , وهذا تشبيه واقع , لأن المرآة ليس شيء بعدها في صقلها ونعومتها وملاستها وصفائها ووضاءتها وإشراقها .
*= وإنما تكون مصقولة ناعمة مستوية إذا كانت في صحة وعافية ونعمة , وكأنه لما ردّد الكلام في خفتها وضمور كشحها استدرك بنفي ما يتوهم من يبسها , وفرط ضمورها , فذكر الترائب المصقولة , وهي من المواطن الدالة على تمام الجسم وصحته وسلامته وامتلاء ما يحسن أن يُمتلأ منه . وقوله :
*= كَبِـكْـرِ المُـقَـانَـاةِ الـبَـيَـاضَ بِـصُـفْـرَةٍ غَذَاهَـانَمِـيْـرُ الـمَـاءِ غَـيْـرُ المُحَـلَّـلِ
البكر : أول بيضة تبيضها النعامة , قال الأعلم : " وخصها لأنه لا يخلص بياضها خلوص سائرها " , ومقاناة البياض بصفرة : أي قُوني بياضها بصفرة , والمقاناة المخالطة , ومخالطة بياض المرأة بصفرة كان يستحسنه العرب , لأن المراد بالصفرة صفرة طيب الجسد ولذلك يشبهون بياض المرأة المشوب بالصفرة بالفضة قد مسها ذهب .
*= وقوله : { غذّاها نمير الماء غير المحلل } , النمير : الماء العذب الذي ينجع في البدن , وقالوا إنه رجع في هذا الشطر إلى المرأة , وذكر أنها رُبْيت في نعمة . والماء المحلل : الذي نزلت عليه النازلة فكدرته , وغير المحلل : هو الذي لم ينزل عليه أحد .
*= وقالوا أيضاً : إن التي غذاها نمير الماء هي الدرة وصرفوا كلمة { بِكْر مقاناة البياض } إلى الدرّة , وليست إلى البيضة , والبكر بكسر الباء الدرة التي لم تثقب , وهذا يعني تشبيه المرأة بالدرة . وقالوا : إن غذاها نمير الماء راجع إلى بيضة النعامة , والمراد غذاء النعامة , وأن النعامة التي باضتها تعيش في نعمة ورَفَه , وذلك أصفى لبيضها , وأنقى له مع أن قوله : غير المحلل يرشح ذلك لأن معناه أنها تعيش في مكان لا ينزله أحد .
*= ومن يتأمل هذه الأبيات يجد أن كلمة { مهفهفة } ترجع إلى { هضيم الكشح } , وقوله : { كبكر مقاناة البياض } ترجع إلى قوله : { وبيضة خدر لا يرام خباؤها } , وهكذا ترى متعجباً أن المعاني تترادف في تواصل وتغاير , يصنعها هذا الشاعر الموهوب الذي كان ولا يزال على عرش الشعر وحده . وقوله :
*= تَـصُـدُّ وتُـبْـدِي عَــنْ أسِـيْــلٍ وَتَـتَّـقِـي بِنَاظِـرَةٍمِــنْ وَحْــشِ وَجْــرَةَ مُطْـفِـلِ
تصد : تعرض عنا , وتبدي عن خد أسيل ناعم ليس بكز أي قبيح . والفعلان المضارعان { تصد وتبدي } يحضر لنا الصورة , وكأنه يقول ها هي تصدوتبدي , وهذا من أحسن مواقع الفعل المضارع .
*= وآثر استعمال { عن } بدلاً من الباء ؛ لأن هذه الكلمة جعلت المرأة تصد وتبدي عن أسيل , وليس تصد وتبدي بأسيل , وكأنها حين تصد وتبدي تكشف عن أسيل يعني عن جماله وحسنه مع أنها تصد وتبدي به , وفيه شيء من معنى التجريد كأنه جرد من خدها الأسيل أسيلاً لوفرة صفة السهولة والنعومة .
*= وتتقي بناظرة : أي تلقانا بناظرة , يعني عينها , ووجرة : موضع مفازة متسعة , ومطفل : ذات طفل , وهو الغزال , والمطفل أحسن نظراً من غيرها , لسعة عينيها , ولحسن نظرها إلى طفلها من الرقة والشفقة .
*= ومعنى البيت : أنها تعرض عنا استحياء , وتبسم فيبدو لنا ثغرها , وتتقي أي تلقانا بعد الإعراض عنا بملاحظتها كما تلاحظ الظبية طفلها , وذلك أحسن من غنج المرأة . وقوله :
*= وجِـيْـدٍ كَجِـيْـدِ الـرِّئْـمِ لَـيْـسَ بِفَـاحِـشٍ إِذَاهِــــــيَ نَــصَّــتْــهُ وَلاَ بِـمُـعَــطَّــلِ
الجيد : العنق , والريم : الظبي الأبيض الشديد البياض , شبه عنقها بعنق الظبية , ونصته : نصبته ورفعته , والمعطل : العطل الي لا حَلْيَ عليه بمعنى الخالي من الزينة . وقوله : ليس بفاحش : أي ليس بكريه المنظر . يريد نفي خروجه عن الطول المألوف .
*= وهذا من التشبيهات التي أصابت وحسنت وكثرت وترددت عنده وعند غيره ؛ لأنه أصاب حسناً كثيراً بهذا الاقتران بين جيدها وجيد الريم , وكلمة الريم أخف من كلمة الظبي , وأدل على النعومة والطراوة والطفولة , ولا تجد أرشق ولا أجمل من جيده عند انتصابه .
*= وقوله :
وفَــرْعٍ يَـزِيْـنُ المَـتْـنَ أسْــوَدَ فَـاحِـمٍ أثِـيْــثٍ كَـقِـنْــوِالـنَّـخْـلَـةِ المُتَـعَـثْـكِـلِ
غَـدَائِـرُهُ مُسْتَـشْـزِرَاتٌ إلَـــى الـعُــلاَ تَضِـلُّ العِقَـاصُفِـي مُثَـنَّـى وَمُـرْسَـلِ
الفرع : الشعر التام طولاً وحسناً , والمتن و المتنة : ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم . والفاحم : الشديد السواد . وأثيث : كثير وكثيف . والقِنو و القُنو : العذق . و المتعثكل : الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته . وقيل : المتدلي . والغدائر : الذوائب . و مستشزرات : مرتفعات . والمراد أنها مفتولة على غير الجهة من كثرتها . والعقاص : ما جمع من الشعر كهيئة الكُبة, وفتل تحت الذوائب . وهي مشطة معروفة يرسلون فيها بعض الشعر ويثنون بعضه , فالذي فتل بعضه على بعض هو المثنى , والمرسل : المسرح غير مفتول .
*= وامرؤ القيس لا يكتفي بوصف شعرها بوصف مكرور , بل يستقصي هذا الجمال , فمنه ما يغشي المتن , ومنه ما هو كقنو النخلة , ومنه ما هو ذوائب مرتفعة , ومنه ما هو مفتول ومثنى , ومنه ما هو مرسل , وأن الأمشاط الممسكة بشكله وهيأته تضل فيه . وكأنه يريد أن يقول لنا إنها مخدومة وكأنها من بنات الملوك . وقوله :
*= وكَـشْـحٍ لَطِـيـفٍ كَالـجَـدِيْـلِ مُـخَـصَّـرٍ وسَــاقٍكَـأُنْـبُـوبِ الـسَّـقِـيِّ الـمُـذَلَّـلِ
الكشح : الخصر , واللطيف : أراد به الصغير الحسن , والجديل : زمام يتخذ منه السيور فيجيء حسناً ليناً يتثنى . ومخصر : الدقيق الضامر . والأنبوب : البردي الذي ينبت وسط النخل . والسقي : النخل الذي يسقى . والمذلل : الذي قد قطف ثمره ليُجتنى منه , وفيه دلالة على أن أهله يكرمونه ويتعهدونه .
*= وكرر الكشح ههنا ليضيف لها وصفاً آخر وهو أن كشحها يتثنى , وراجع عدة الأوصاف التي تلتقي عند هذا الكشح من مهفهفة وغير مفاضة وكالجديل ومخصر , والإلحاح على هذا المعنى والتأكيد عليه من حيث هو قيمة من قيم جمال الصاحبة .
*= وكرر ذكر الساق واكتفى هناك بقوله : { رَيّا المخلخل } أي ممتلئة موضع الخلخال , وهنا يقول { ساق كأنبوب السقي المذلل } والأنبوب هو البردي النابت بين النخل وهو أبيض ممتلئ طري يشبهون به أسوق النساء . قال التبريزي : " شبه ساقها ببرديّ قد نبت تحت نخل فالنخل يظله من الشمس , وذلك أحسن ما يكون منه " .
*= وذكر امرؤ القيس النخل السقي لأن السقىّ ليست وصفاً للأنبوب وإنما هي وصف للنخل لأن الأنبوب لا يغرس وحده فيسقى وإنما ينبت بين النخل , فإذا سقي النخل سقي . وهو في هذه الحالة يكون موضع عناية اصحابه فيكثرون من سقيه , وهذا هو المعنى الزائد الذي أضافه امرؤ القيس لما كرر الساق , اكتفى هناك ببيان أنه ممتلئ , وذكر هنا نعمته وخصبه وأنه في كِنّ , فاستوفى هنا ما لم يستوفه هناك في الكشح والساق . وقوله :
*= ويُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَـا نَئُوْمُالضَّحَى لَـمْ تَنْتَطِـقْ عَـنْ تَفَضُّـلِ
قوله : { ويضحي فتيت المسك } معناه : يبقى إلى الضحى , وفتيت المسك : ما يفت منه على فراشها . أي تحات عن جلدها في فراشها , وهذا غاية الرفه , وكأنها من بنات الملوك والمعنى : كأن فراشها فيه المسك ؛ من طيب جسدها , لا أن أحداً فتّ لها فيه مسكاً وقوله : { نؤوم الضحى } معناه أنها مكرمة , لها من يكفيها من الخدم , فهي تنام ولا تهتم بشيء . وقوله : { لم تنتطق عن تفضل } أي لم تنتطق فتشد ثوبها على وسطها فتعمل وتطوف , ولكنها تتفضل ولا تنتطق . وقوله :
*= وتَعْطُـو بِـرَخْـصٍ غَـيْـرَ شَـثْـنٍ كَـأَنَّـهُ أَسَارِيْـعُظَـبْـيٍ أَوْ مَسَـاويْـكُ إِسْـحِـلِ
تعطو : تتناول , وقوله : { برخص } معناه : ببنان رخص , والبنان : الأصابع , وغير شثن : غير كز غليظ , وظبي : اسم كثيب , وليس الظبي المعروف , والكثيب : جبل من الرمل , وأساريعه : دواب تكون فيه مثل شحمة الأرض , وهي دودة بيضاء تكون في الرمل , ظهورها ملس وتسمى بنات النقا . والإسحل شجر له أغصان ناعمة ملساء .
*= وتلحظ أن سياق بناء الكلام اختلف ورجع { تعطو } إلى قوله : { تصد } لأن كل الذي مضى متعلقات { وتتقي بناظرة } , والمعنى : وتتقي بناظرة وجيد وفرع وكشح , وهذا وجه من بناء الكلام لا يتقنه إلا امرؤ القيس أو من كان في طبقته .
*= ولم يقل { وبنان رخص } , وإنما قال : { تعطو } , وذكر الفعل والحركة , وشبه بنانها بالأساريع في اللين والبياض والنعومة والرقة , وشبهها بمساويك إسحل في دقتها ونقائها واستوائها . وقوله :
*= تُـضِـيءُ الـظَّــلامَ بِالـعِـشَـاءِ كَـأَنَّـهَـا مَــنَــارَةُمُـمْـسَــى رَاهِــــبٍ مُـتَـبَـتِّـلِ
المنارة : السراج ,. وخص الراهب لأنه لا يطفئ سراجه , وممسي راهب : إمساء راهب والمتبتلالمجتهد في العبادة , المنقطع عن الناس في العبادة. ومعنى البيت : أنها وضيئة الوجه , زهراء , مشرقة الوجه , إذا تبسمت بالليل رأيت لثناياها بريقاً وضوءا , وإذا برزت في الظلام استنار وجهها وظهر جمالها , حتى يغلب الظلمة .
*= " لكن الغامض هنا ذكر الراهب , وإذا كان المقصود تشبيه إشراقها بمنارة الراهب فحسب فإن البدر أقرب إلى ذلك وأبين لأنه يجمع مع الإشراق البهاء والجمال والرفعة , ثم ما معنى وصف الراهب بأنه متبتل , ومعلوم أن الراهب منقطع للعبادة , وإذا كان كذلك فلماذا أكد امرؤ القيس هذه الصفة , ولفت إليها ... ( ولعل الشاعر أراد أن ينقطع ويتأمل مواطن جمالها المبهر والنفيس والسامي , وينقطع في طلبها كما ينقطع الراهب المتبتل إلى صومعته ) "
*= وقوله :
إِلَــى مِثْلِـهَـا يَـرْنُـو الحَلِـيْـمُ صَـبَـابَـةً إِذَا مَـااسْبَكَـرَّتْ بَيْـنَ دِرْعٍ ومِـجْـوَلِ
*= يرنو: يديم النظر , وإيثارها على كلمة ينظر ؛ لأن الرنو يعني إدامة النظر والتطلع , وهذا هو المطلوب , والصبابة : رقة الشوق , وهي أقوى كلمات هذا الشطر لأنها حولت إدامة النظر من أن يكون إعجاباً أو استحساناً إلى أن يكون صبوة وحباً وعشقاً , ولا يمكن أن تقتنع نفس بأن كل ذلك إنما هو من جمال امرأة , وإنما الصبوة هنا عشق كل ما تصبو إليه نفس الحر الكريم .
*= وامرؤ القيس ههنا لا يقول { إليها } ؛ لأنوجودها منتف في عالم الحقيقة والواقع الفعلي , وإنما { إلى مثلها } حين نعي الدلالة وندرك النتيجة, ومن ثم كان المراد هو التأكيد على أن مثل هذهالمسيرة الموفقة , ومثل هذه النتيجة المرضية هي ماتشغل اهتمام الحليم .
*= واسبكرّت معناه امتدت والمراد تمام شأنها , والدرع قميص المرأة الكبيرة , والمجول للصغيرة أي أنها بين من يلبس الدرع وبين من يلبس المجول , أي ليست بصغيرة ولا بكبيرة هي بينهما . و{ ما } التي في قوله : { اذا ما اسبكرّت } هي ما التي يؤتى بها لتأكيد المعنى واللفت إليه . وقوله :
*= تَسَلَّتْ عَمَايَـاتُ الرِّجَـالِ عَـنْ الصِّبَـا ولَيْـسَفُـؤَادِي عَـنْ هَــوَاكِ بِمُنْـسَـلِ
تسلت : ذهبت , يقال : سلوت عن كذا وكذا , وسليت إذ طابت نفسي بتركه , والعمايات جمع عماية وهي الجهالة والغي وما يعلو العقول , ويعميها من فرط الصبوة . وتسلية العمايات أبلغ من سلو المحب . والصبا : اللعب . والشاعر يقول : { تسلت عمايات الرجال عن الصبا } فالسلو هنا ليس سلواً عن صاحبه , وإنما هو سلو عن الصبا نفسه وكأنه أراد بالرجال من تجاوزوا أيام الشباب والصبوة .
*= وجملة { ولَيْـسَ فُـؤَادِي عَـنْ هَــوَاكِ بِمُنْـسَـلِ } جملة حالية , وهي المقصود في هذا البيت والشطر الأول مقدمة لها . ومنسلي اسم مفعول من انسلي , والمعنى : أنه يحاول أن يسلو فلا يطاوعه صباه .
*= " ثم إنك ترى قوله : { ولَيْـسَ فُـؤَادِي عَـنْ هَــوَاكِبِمُنْـسَـلِ } راجعاً في المعنى رجوعاً ظاهراً إلى قولها : { ما إن أرى عنك الغواية – العماية – تنجلي } , وتلاحظ أيضاً أن النفي في البيتين أكدّ بحرف زائد , أن في قولها { وما إن أرى } والأصل وما أرى , والباء في قوله { بمنسلي } وبهذا بدأ آخر الكلام يتوجه إلى أوله " . وقوله :
*= ألاَّ رُبَّ خَـصْـمٍ فِـيْـكِ أَلْـــوَى رَدَدْتُـــهُ نَصِـيْـحٍعَـلَـى تَعْـذَالِـهِ غَـيْـرِ مُـؤْتَــلِ
الخصم يكون واحداً وجمعاً ومؤنثاً ومذكراً , والألوى : الشديد الخصومة , كأنه يلتوي على خصمه , والتعذال والعذْل والعَذَل واحد . ومؤتل : من ائتلى أي قصر أو أبطأ . ومعنى : رددته أي لم أقبل من نصحه . ومعنى غير مؤتل : أي غير تارك نصحي بجهده .
*= وقوله : { ألاَّ رُبَّ خَـصْـمٍ فِـيْـكِ أَلْـــوَى رَدَدْتُـــهُ } راجع إلى قوله : { ألاَ رُبَّ يَـــوْمٍ لَـــكَ مِـنْـهُـنَّ صَــالِــحٍ} وهو هنا يختم الحديث عن أيامه الصالحات منهن , وهناك يفتح الحديث عن أيامه الصالحات منهن , وبذلك يلتقي مقطعه بمطلعه .
*= ( الحديث عن همه ) في خمسة أبيات تجسد –كماً وكيفاً – ما يعانيه امرؤ القيس من هموم جعلتهيعيش زمناً ليس زمن الناس , وإنما زمن نفسي خاص , يكتسب الليل فيه حضوراً طاغياً . ولأن الأمر أمرُ همِّ ومعاناة نفسية يواجها الشاعر فإن هدوء الإيقاع والافتتان في التصوير يشكلان السمة البارزة عبر هذه الأبيات , يقول :
ولَيْـلٍ كَمَـوْجِ البَحْـرِ أَرْخَــى سُـدُوْلَـهُ عَـلَــيَّبِــأَنْــوَاعِ الـهُـمُــوْمِ لِيَـبْـتَـلِـي
فَـقُـلْـتُ لَـــهُ لَـمَّــا تَـمَـطَّــى بِـصُـلْـبِـهِ وأَرْدَفَأَعْــجَــازاً وَنَـــــاءَ بِـكَـلْـكَــلِ
ألاَ أَيُّـهَـا اللَّـيْـلُ الطَّـوِيْـلُ ألاَ انْـجَـلِـي بِصُبْـحٍ وَمَـاالإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْـثَـلِ
فَـيَـا لَــكَ مَــنْ لَـيْــلٍ كَـــأنَّ نُـجُـومَـهُ بكلِّ مُــغَار الفَتْل شُـدّتْ بيــذْبل
كأن الثريا عُلّقتْ في مصامها بِـأَمْـرَاسِ كَـتَّـانٍإِلَــى صُـــمِّ جَـنْــدَلِ
*= قوله :
ولَيْـلٍ كَمَـوْجِ البَحْـرِ أَرْخَــى سُـدُوْلَـهُ عَـلَــيَّبِــأَنْــوَاعِ الـهُـمُــوْمِ لِيَـبْـتَـلِـي
*= الواو واو رُبّ , كالتي في قوله { وبيضة خدر } وبهذا يرتبط هذا الجزء بالكلام قبله , مع التباين الشديد بين المعنيين فذاك حديث عن الصبوة , وهذا حديث عن الليل , وهذا الهم الذي لا تجد له نظيراً في شعر العربية كله .
*= وافتتاح الشاعر حديثه عن الليل بواو { رب } الذي يعبر عن الندرة والتميز , وتعميق الإحساس بالتفرد , إذ أن الليل الموصوف في هذه اللوحة ليس ليلاً مكرراً في الذاكرة يعيش لحظاته الشاعر بتعاقب , وإنما هو ليل استثنائي يتجلى في مخيلته , إن الزمن الليلي الذي يقصده الشاعر هو الزمن المنتج على مستوى المخيلة .
*= والشاعر امرؤ القيس في هذه اللوحة يحاول أن يدمج حالته المتوترة والحزينة مع الليل البطيء الذي لا يريد أن ينجلي , فالليل بطوله وامتداده كهموم الشاعر التي لم يجد لها حلاً , وانجلاء الليل وظهور الصبح كأنما تلك الهموم المثقلة على كاهل امرئ القيس تختفي لتحل محلها السعادة والاستقرار , وأن ذلك التوتر والقلق ستمحيهما الأيام بتعاقبهما .
*= وأكثر من شرح هذا البيت يقولون إنه شبه الليل بموج البحر في تراكمه وتتابعه وشدة ظلمته , ولم يذهب إلى غير هذا إلا الشيخ محمود شاكر فقد ذهب إلى أن الموج هنا مصدر , لا اسم , وأصل سياق البيت { وليل يموج بأنواع الهموم ليبتلي موجاً كموج البحر أرخى سدوله , فظلمة الليل في قوله { أرخى سدوله عليّ } , أما التوحش والهول فهو توحش الهموم الطاغية المتضرمة عليه في ظلام الليل , وهذا أحق بامرئ القيس ونبالة معانيه .
*= والأنباري وغيره من الشراح يجعلون قوله : { بأنواع الهموم } متعلقاً بقوله : { أرخى سدوله } يعني الليل , والشيخ محمود شاكر يجعله متعلقاً بالفعل المحذوف يموج , والمعنى يموج بأنواع الهموم , ولا شك أن قوله { أرخى سدوله } راجع إلى الليل , لأن الموج لا سدول له – أي أستار – وأن تعلْق قوله { بأنواع الهموم } بقوله { أرخى سدوله } يجعل لقوله { أرخى سدوله } قيمة أرفع وأمكن , وهذا لا يمنع القول بان موج البحر مصدر لفعل محذوف , والمعنى وليل يموج بالظلمة والوحشة موجاً كموج البحر .
*= وإذا كانت القصيدة قد بنيت على الذكرى واسترجاع أيام خلت , وإذا كان قد فرغ من ذكر أيامه الصالحات فإنه من تمام حديثه عن أيامه أن يذكر ما كان منها غير صالح , وقد أومأ إلى أن غير الصالح من أيامه قليل , ولذلك قابل الأيام الصالحة بليل واحد , ثم إنه مع قلته متفرد بتوحش وتضرم وهموم لا يطيقها إلا من كان من طبقة الشاعر .
= وقوله : { أَرْخَــى سُـدُوْلَـهُ عَـلَــيَّ بِــأَنْــوَاعِالـهُـمُــوْمِ لِيَـبْـتَـلِـي } كلام غاية في التركيز وغاية في الصنعة وغاية في اللمح للمعاني , وبيان ذلك " أنه جعل ظلمة الليل سدولاً , يعني أستاراً , فأومأ إليها أنها ظلمة فوق ظلمة , وأن ظلمة الليل الذي يصف ليست كظلمة الليالي التي نعهد , وإنما هي ظلمات يركب بعضها فوق بعض بيد الليل , يرخيها الليل على من يشاء ممن يريد غمهم وهمهم , وكأنه ليل موكل بابتلاء قدرات من يعيشون في جوفه , وفي ثبج أمواج غمه , وكربه , ثم إن هذا الليل القيم على الناس والقادر على أن يبتليهم بما شاء قصد إلى الشاعر وجمع سدوله وأرخاها عليه , ولذلك نجد لكلمة { عليّ } هنا وقعاً مختلفاً " إذ تشي بمعنى الهيمنة والإحاطة المضروبة من أعلى من قبل هذه السدول المرخاة على الذات الشاعرة في حالة إفرادها الذي يوهم بالاستضعاف .
*= وكلمة { أنواع الهموم } رجعت إلى السدول , وأعطتها دلالة أخرى فلم تعد الستور ظلمات بعضها فوق بعض , وإنما عادت الظلمات هذه هموماً يركب بعضها بعضاً فوق بعض , وقوله : { ليبتلي } صوّرت همه ؛ لأنه رأى الليل جمع همومه وظلماته وأستاره , حشد ذلك واحتشد بكل جبروته لغمز قناة هذا الملك لينظر ما عنده من الصبر والجزع , وليختبر قوة نفسه , واقتدارها , على أن تطيق أهولاً من الهموم , وكأن الليل لا يريد قهره ولا كسر عظامه , وإنما فقط يختبر بذلك احتماله وقوة نفسه .
*= ثم إن من دقة صنعة الشاعر أنه جعل كلمة { ليبتلي } آخر هذا البيت ليتبعها بما يدل على فرط الاقتدار , وفرط الاحتمال وهو قوله :
*= فَـقُـلْـتُ لَـــهُ لَـمَّــا تَـمَـطَّــى بِـصُـلْـبِـهِ وأَرْدَفَأَعْــجَــازاً وَنَـــــاءَ بِـكَـلْـكَــلِ
*= ألاَ أَيُّـهَـا اللَّـيْـلُ الطَّـوِيْـلُ ألاَ انْـجَـلِـي بِصُبْـحٍوَمَـا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْـثَـلِ
وتمطى بصلبه : تمدد بوسطه . أردف أعجازاً : أي رجع . وناء بكلكل : نهض بصدره . ويكون المعنى : ناء بكلكل وتمطى بصلبه وأردف أعجازاً فقدم وأخر .
*= والفاء في قوله : { فقلت له } راجعة إلى قوله : { أرخى سدوله عليّ ليبتلي } وفي هذا التعقيب بلا مهلة دلالة على مزيد من معنى الاقتدار والصلابة والجلادة , وقوة النفس , ورباطة الجأش .
*= والجملة الاعتراضية بين القول ومقوله { لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل } تزيدنا بياناً ومعرفة بهذا الليل وأهواله " وكأن البيت الأول وذكر الموج فيه وإرخاء السدول عليه , وأنها سدول بأنواع الهموم كل هذا ليس كفاء لما وجد الليل عليه في نفسه , فنقل لك الحديث إلى صورة مجسمة تراها عينك لهذا الليل , وصوّره في صورة كائن حي غريب له مطا يمطوه , وله مع هذا الصلب الذي يمطوه أعجاز تتتابع .
*= وتأمل الجمع والتنكير في قوله { أعجاز } ثم له كلكل ينوء به أي ينهض , بعدما صنع هذا وأبدع وبرع في ثقافة صنعته كما قال الخطابي جاء بمقول القول " .
*= " وتأمل افتتاح خطاب هذا الليل المتوحش بهمومه , وأسداله وصلبه وأعجازه وكلكله بكلمة { ألا } التي وراءها كثير من الغضب والرفض والتوتر والتوحش , إنها تنهيدة نستطيع من صوتها وجرسها تلمس نفسيته المفجوعة والمصحوبة بالأسى والحزن والهموم , ثم هذا النداء الذي حذف منه فيه حرف النداء , حيثه وظفه لمناداة الليل ,وهذا من باب المحال فكان الغرض منه التحيّروالتضجر متمنياً انجلاء الليل لما حمله من هموموأحزان . ثم كلمة أي بإبهامها , ثم الهاء التي للتنبيه , ثم كلمة الليل المبينة للإبهام الذي في أي , كل هذا للتنبيه إلى خطر الخطاب وعظمته وأهميته "
*= " ثم راجع تكرار كلمة { ألا } في قوله { ألا انجلي } وراجع الصورة من أولها لتتبين حال هذا الذي يصدر منه هذا الأمر لليل بأن ينكشف وينقشع ويسحب ذيوله وهمومه ويرحل تجد صاحب هذا الأمر في وسط أمواج من الظلمات والأهوال والضراوة والتوحش وتحت أسدال من أنواع الهموم , وتحت كلكل ليل يتمطى بصلبه يخرج من تحت هذا كله ليخاطب الليل بلهجة الآمر المستعلي أن يرحل كله وأن ينجلي عن الصبح وينسلخ عنه " ولكن { وَمَـا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْـثَـلِ } فهمه ملازم له في النهار كما هو ملازم له بالليل , وأن نهاره أيضاً يموج بالهم . ونشير إلى أن المقصود بالليل ههنا ليس مطلق الزمن , وإنما هو الليل / الزمن النفسي للشاعر , ومن هنا لا يعني تحول الليل والنهار بالنسبة له تغيراً يذكر ما دامت الهموم جاثمة على صدره , مؤرقة للنفس , مؤكدة فعل الزمن القاهر في الإنسان .
*= إذاً أنت ترى أنه يوجد توتر نفسي كان يطبق على الشاعر وهو توتر حمله أن يتمنى زوال هذا الليل ليترقب ظهور النهار , وما يحمله هذا الأخير من أمل , لكننا نراه يشكك في هذا الصبح – الصبح المتفرد لا كالصبح المكرر المألوف الذي يتلقاه كل الناس – الذي يتمناه , قد يغير من حياته , ويزيل توتره , ويحمل له جديداً . و قوله :
*= فَـيَـا لَــكَ مَــنْ لَـيْــلٍ كَـــأنَّ نُـجُـومَـهُ بكلِّمُــغَار الفَتْل شُـدّتْ بيــذْبل
*= كأن الثريا عُلّقتْ في مصامها بِـأَمْـرَاسِكَـتَّـانٍ إِلَــى صُـــمِّ جَـنْــدَلِ
مغار الفتل : الحبل الشديد المحكم الفتل . ويذبل : جبل بنجد . ومن ليل معناه : التفسير للتعجب .ومصامها : مواضعها . والأمراس : الحبال . والجندل : جبال صمّ .
*= ينتقل امرؤ القيس من الحديث عن الهم الذي تخلق فيه الليل في صورة غريبة إلى النظر في الليل الذي يألفه الناس , فرأى فيه شيئاً عجيباً دعاه إلى أن يبدأ الكلام عنه بقوله : { فيا لك من ليل } وهي جملة تعجبية من هذه النجوم التي هي مصابيح الليل وزينة السماء . والثريا التي سبق له ذكرها لما اقتحم خباء بيضة الخدر التي لا يرام خباؤها ... ثم دلّ على طول الليل بصورة غير الصورة التي مضت في تمطي الصلب وترادف الأعجاز , وذلك لأنه رأى النجوم لا تتحرك ولا تريم مكانها , والثريا كذلك , كأن الليل سرمدياً لا يأتي بعده ضياء
*= " وتأمل كيف دلّ على ثبات النجوم وأنها شدت إلى يذبل وشدت إليه بكل مغار الفتل , ثم تأمل تركيب مغار الفتل وتقديم الصفة على الموصوف ثم إضافة كلمة { كل } ثم كلمة { شدت } وكل هذا لتأكيد إحساسه بأنه ليل لا يبرح . وقال عن الثريا : { علقت } ولم يقل { شدت } كما قال في النجوم , وكأنه أراد أنها باقية تتدلى بلألائها " . ويا بعد ما بين الثريا هنا والثريا في قوله :
*= إِذَا مَـا الثُّرَيَّـا فِـي السَّمَـاءِ تَعَرَّضَـتْ تَـعَـرُّضَأَثْـنَـاءَ الـوِشَـاحِ المُـفَـصَّـلِ
وتأمل كيف رأى الثريا لما كان منتشياً باقتداره واقتحامه الأهوال , ووصوله إلى بيضة الخدر , وكيف رآها والهموم تموج به موجاً , وكأنه هناك لما ذكر المفصل بالزبرجد أراد أن يدلنا على نشوته في تلك اللحظة , وكان بها هنا رفيقاً لما أبقاها معلقة بأمراس كتان , وليست مشدودة بكل مغار الفتل ؛ ليدلنا على بقية نشوة بقيت في نفسه لما ذكرها , وإن كان في ليل كموج البحر أرخى سدوله عليه , وكأن الأنوثة في الثريا أغرته بهذا الرفق والذكورةفي النجوم أغرته بهذه القسوة .
*= وعلى كل حال فإن تجربة الليل التي ينقلها امرؤ القيس ليست صورة مطابقة للواقع , أي أننا من الممكن أن نجد ليلاً بمثل مواصفات ليل امرئ القيس , لكن ليل الشاعر هو ليل خاص قد جاء تعبيراً عن فكرة خاصة عند الشاعر عن الليل , لأن الصورة الفنية التركيبية عقلية تنتمي في جوهرها إلى علم الفكرة أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع .
*= وهنا يأتي خطاب الليل ليعكس بعداً نفسياً مأساوياً كان الشاعر يعاني منه , وقد جاء التعبير عن هذا البعد النفسي بأسلوب قادر على حمله وآدائه على أحسن وجه .
*= ( وصف الفرس ) , يستهل الشاعر تشكيله الشعري فنياً لهذه المرحلة بقوله :
وَقَـدْ أغْـتَـدِي والطَّـيْـرُ فِــي وُكُنَاتِـهَـا بِـمُـنْـجَـرِدٍقَــيْـــدِ الأَوَابِـــــدِ هَـيْــكَــلِ
مِـكَــرٍّ مِــفَــرٍّ مُـقْـبِــلٍ مُــدْبِــرٍ مَــعــاً كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍحَطَّهُ السَّيْلُ مِـنْ عَـلِ
كَمَيْـتٍ يَـزِلُّ اللَّـبْـدُ عَــنْ حَــالِ مَتْـنِـهِ كَـمَــا زَلَّـــتِالـصَّـفْـوَاءُ بِالـمُـتَـنَـزَّلِ
مَسْحٍ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَـى الوَنَـى أَثَـــرْنَالـغُـبَـارَ بِـالـكَـدِيْـدِ الـمُـرَكَّــلِ
عَلَـى العَقْب جَـيَّـاشٍ كــأنَّ اهْتِـزَامَـهُ إِذَا جَـاشَ فِيْـهِحَمْـيُـهُ غَـلْـيُ مِـرْجَـلِ
يطيرُ الغُـلاَمُ الـخِـفَّ عَــنْ صَهَـوَاتِـهِ وَيُـلْـوِيبِـأَثْــوَابِ العَـنِـيْـفِ المُـثَـقَّـلِ
دَرِيْـــرٍ كَــخُــذْرُوفِ الـوَلِـيْــدِ أمَــــرَّهُ تَـتَــابُــعُ كَـفَّــيْــهِبِـخَــيْــطٍ مُــوَصَّـــلِ
لَـــهُ أيْـطَــلا ظَـبْــيٍ وَسَـاقَــا نَـعَـامَـةٍ وإِرْخَــاءُسَـرْحَـانٍ وَتَـقْـرِيْـبُ تَـتْـفُـلِ
كَـأَنَّ عَلَـى المَتْنَيْـنِ مِنْـهُ إِذَا انْتَـحَـى مَــدَاكَ عَــرُوسٍأَوْ صَـلايَـةَ حَـنْـظَـلِ
فَــبَــاتَ عَـلَـيْــهِ سَــرْجُــهُ ولِـجَـامُــهُ وَبَــاتَ بِعَيْـنِـيقَائِـمـاً غَـيْـرَ مُـرْسَــلِ
*= قوله :
وَقَـدْ أغْـتَـدِي والطَّـيْـرُ فِــي وُكُنَاتِـهَـا بِـمُـنْـجَـرِدٍقَــيْـــدِ الأَوَابِـــــدِ هَـيْــكَــلِ
*= أغتدي , معناه : أغدوا , ولو قال { أغدوا } لتغير المعنى , وذهب كثير منه لأن الافتعال أي { الاغتداء} فيه معنى المبادرة الاحتفال والاحتشاد , وأنه يغدو وهو موفور النشاط , وهذا المعنى الزائد هو أهم ما في الكلمة , لأنه يحدث عن نفسه وعن احتفاله .
*= والواو في { والطير } واو الحال , يقول : وقد اغتدي في هذه الحال بفرس منجرد . والوكنات : المواضع التي تبيت فيها , وخاصة ما تكون في قمم الجبال وروي : وُكُراتها . والجملة الحالية هي معقد المعنى , وهي كناية عن التبكير والتحليق ؛ لأن الطير تخرج من أكنانها مبكرة جداً , فإذا كان يغتدي وهي لا تزال في وكناتها فمعنى هذا أنه يسبقها في التبكير
والمنجرد : القصير الشعرة , وذلك من العتق أي كريم العرق . وقيد الأوابد : الوحوش , ومعناه إذا أرسل على الأوابد قيدها , أي: صار لها قيداً . والمراد : وصف السرعة الشديدة لأن الأوابد من أشد الحيوانات عدواً وأسرعها , وأن الفرس مع ذلك إذا طاردها وطلبها أدركها وكأنه قيدها بل كأن هذا الفرس نفسه قيدٌ لها يشدها فلا تراوغ ولا تريم مكانها . والهيكل : العظيم من الخيل .
*= وإنك لتعجب لصنعة امرئ القيس التصويرية فهاتان الكلمتان { القيد والأوابد } اختصرت هذه الصورة زمانياً ومكانياً في هذه اللحظة التي استسلمت فيها الأوابد لصائدها , وهذا الاختصار لم يؤثر في الصورة من الناحية الفنية إنما أثراها لأنه يسلم قارئ هذا الشعر إلى ملاحظة هذا التناقض بين القيد والسرعة , وإلى تفسيره , أو قل إلى محاولة فهمه عن طريق إثراء الصورة باستحضار جوانبها المختلفة الي لم يذكرها الشاعر , وإنما أوحت بها طبيعة هذا التناقض بين القيد والأوابد .
*= والكلام موصول بالكلام السابق من مثل : { وبيضة خدر} و { ليل كموج البحر } لأنه من تمام كلامه في الذكرى , والقصيدة كلها كأنه حكاية نفس , وقصة شاعر . وقوله :
*= مِـكَــرٍّ مِــفَــرٍّ مُـقْـبِــلٍ مُــدْبِــرٍ مَــعــاً كَجُلْمُوْدِصَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِـنْ عَـلِ
*= مكر : يصلح للكر حين يريد منه فارسه أن يكُر , أو لا يسبق في الكر , ومفر : يفر حين يريد منه فارسه أن يفر , أو لا يسبق في الفرار . ومقبل مدبر : إذا استقبلته حسنٌ , وإذا استدبرته حسن .
*= والشاعر ههنا يرسم لوحة خاصة تؤكد ملامح قدرة فرسه على فعل الشيء ونقيضه في اللحظة الزمنية الواحدة , إنه يصف سرعة فرسه في كل هذه الأحوال في لوحة لم يسبق لشاعر أن وصفها , وكأن هذه الأفعال المتقابلة تتداخل في سرعة عجيبة وانفتال بالغ حتى لا يتبينه الطرف في فرّه إلا رأى كرّه , ولا يتبين إقباله إلا رأى إدباره . وكلمة { معاً } هنا هي التي صنعت هذا التداخل المذهل بين المتناقضات وهذه صورة من أعجب الصور .
*= " كيف اهتدى إليها الشاعر , وكيف قامت في خياله , وكيف عبر عنها بهذا التلاحق الشديد بين الصفات المتناقضة , وكيف أكد هذه الحركة الغريبة بكلمة { معاً } , ثم كيف وقع على كلمات متصاقبة في مبانيها ليؤكد هذا التداخل , فالذي بين مفر ومكر جناس لاحق , وكذلك بين مقبل ومدبر , يعني الكلمات الدالة على معان متناقضة تكاد تكون كلمات واحدة لولا اختلاف حرف ليؤكد لك هذا التداخل الذي يمحو به التعارض والتناقض بين المعاني , واستطاع بفائقة فنية رائعة أن يرد هذه الصفات إلى الصفة الرئيسة { قيد الأوابد } "
*= والجلمود : الصخرة إذا كانت في أعلى الجبل كان أصلب لها . وكأنه لم يكتف بأنه صخر , وإنما ذكر منه الجلمود الذي هو أصلبه , ثم قدم الصفة على الموصوف وأضافها إليه .
*= ومعنى قوله : { حَطَّهُ السَّيْلُ مِـنْ عَـلِ } حدره , ومن عل : يعني من أعلى الجبل , أراد في سرعته . " والمراد بهذا التشبيه ليس صلابة الفرس وقوته واندماجه واكتنازه فحسب , وإنما هو أيضاً بيان للصورة المتداخلة في الشطر الأول والتي تداخلت فيها المتناقضات وأنك لا تتبينه على حال إلا رأيته على غيرها , وكذلك جلمود الصخر إذا حطه السيل وتدهدى على صفحة الجبل لا يكاد الطرف يتبين جانباً منه إلا رأى الجانب الآخر , وكأنه يداخل الجانب الأول وذلك لسرعة انحداره وقوة دفعه وهذه ملاءمات عجيبة " . وقوله :
*= كَمَيْـتٍ يَـزِلُّ اللَّـبْـدُ عَــنْ حَــالِ مَتْـنِـهِ كَـمَــا زَلَّـــتِالـصَّـفْـوَاءُ بِالـمُـتَـنَـزَّلِ
*= الكميت : الذي في لونه كمتة أي : سمرة , قال يعقوب : أصلب الخيل جلوداً وحوافر الكُمْتُ الحُمّ . ذوات اللون الذي يشبه الرماد . والكمتة لا تحمد في الخيل من حيث هي كمتة وإنما تحمد من حيث هي دالة على الصلابة والقوة كما قال يعقوب . وحال متنه : وسطه شبه ملاسة ظهر الفرس لاكتناز اللحم عليه وامتلائه بالصفاة الملساء . والصفاة والصفواء : الصخرة الملساء التي لا ينبت فيها شيء . والمتنزل : الطائر الذي يتنزل على الصخرة , وقيل : المتنزل السيل , وقيل : المطر .
*= ومعنى البيت أن هذا الفرس الكميت ذو ظهر ناعم مصقول لا يكاد يثبت عليه شيء , وهو تشبيه بحجارة الصفا التي لا ينبت عليها شيء فلا يستقر عليها شيء حتى المطر , أو أن هذه الأشياء سريعة الانزلاق على ظهر الفرس . ولذلك آثر استعمل { يزل } على { ينزلق } لأن فيها معنى أن حال متن الفرس ينبو كما أن الصفواء تنبو بالمتنزل فيزل عنها .
وقوله :
*= مَسْحٍ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَـى الوَنَـى أَثَـــرْنَالـغُـبَـارَ بِـالـكَـدِيْـدِ الـمُـرَكَّــلِ
مسح وصف لمنجرد مثل كميت , ومعناه : يصب الجري صباً . تقول العرب : مطر ساحٌ وسحّاح إذا انصب انصبابا. والسابحات : اللواتي عدْوهنّ سِباحة ؛ والسباحة في الجري : أن تدحو بأيديها دحْواً , أي : تبسطها ولا تلفقها . والونى : الجهد والفتور . والكديد : الموضع الغليظ . والمركل : تركله بحوافرها . والمعنى : أن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس المتميز عليها جرياً سهلاً كما يسح السحاب المطر . إنه يواصل العطاء في تدفق وامتداد وتواصل كتواصل المطر وامتداده في الوقت الذي تجهد فيه الخيول المعروفة بتميز انطلاقها ونعومة سرعتها , وكأنها تسبح مادّة يديها إلى الأمام , مخلفة ساقيها , مباعدة ما بينهما في غمار ما يعلو من الغبار الذي تفجره ضربات حوافرها المتواصلة فيما صلب من الأرض . وقوله :
*= عَلَـى العَقْب جَـيَّـاشٍ كــأنَّ اهْتِـزَامَـهُ إِذَا جَـاشَفِيْـهِ حَمْـيُـهُ غَـلْـيُ مِـرْجَـلِ
العقب : جري بعد جري , وروي : على الذبل أي الضمور . وهذا هو رأس معنى البيت ولهذا قدّم على جياش . والجياش : الذي يجيش في عدوه كما تجيش القدر في غليانها . واهتزامه : صوت جوفه . وحميه : غَليه . ومعنى البيت : أن هذا الفرس إذا جرى الجري بعد الجري لا يفتر كما تفتر العتاق الجياد السابحات , وإنما ترى حميه يزيد , ونشاطه يجيش , وكأن جوفه يغلي بموفور نشاطه , وأن هذا الفرس آخر عدوه على هذه الحال , فكيف أوله ؟
*= ولا شك أن مجيء هذا البيت بعد ذكر السابحات اللائي وجدن الوني يشير إلى مقابلة خفية بين فرسه وبين العتاق الجياد اللائي يثرن الغبار في الكديد المركل . وقوله :
*= يطير الغُـلاَمُ الـخِـفَّ عَــنْ صَهَـوَاتِـهِ وَيُـلْـوِيبِـأَثْــوَابِ العَـنِـيْـفِ المُـثَـقَّـلِ
يطير : يرمي به , وروي : { يُـزِلُّ الغلام الخف } ومعناه : ينزلق به ؛ من خفته ونشاطه وسرعته . والخف : الخفيف . وصهواته : جمع صهوة وهي موضع اللبد . ومعنى { وَيُـلْـوِي بِـأَثْــوَابِ العَـنِـيْـفِالمُـثَـقَّـلِ } أي يذهبه ويبعدها , والعنيف : الذي ليس برفيق . والمثقل : الثقيل .
*= قال بعضهم : إذا كان راكب الفرس خفيفاً رمى به , وإذا كان ثقيلاً رمى بثيابه . وقال ابن حبيب : إذا ركب الخيل غير الحاذق بركوبها رمت به . وهذا المعنى الجليل هو أن هذا الفرس المتميز في أوصافه تميزاً لا نجده في غير هذه القصيدة لا يكون فارسه إلا متميزاً من بين الفرسان كتميزه في الخيل الجياد .
*= وعدل عن المفرد في مثل { مسح وكميت وجياش } إلى الجملة الفعلية { يطير ويلوي } لأن هذا حدث يتجدد , وليس كمثل جياش وما قبله لأنها أوصاف ثابتة ودائمة . ثم أن الفعل المضارع يصوّر لك الحدث وكأنك تراه وهو يرمي بالغلام الخف , وكأنك تراه وهو ينزع ثياب العنيف ويلقي بها .
*= وهذا البيت فيه شبه بينه وبين { يزل اللبد عن حال متنه } وإن كان زلُّ اللبد هناك لملاسته واندماجه واكتنازه وإلقاء الغلام هنا لشدة سرعته .
*= وأهم ما في هذا البيت كلمة { يطير } ولذلك جعلها أنف البيت , لأنه لم يقل : يسقط ولا يطرح ولا يلقي ولا يقذف وإنما قال { يطير } وكأن الغلام الساقط عنه كان يطير حال سقوطه وهذا لا يكون إلا إذا كان الفرس نفسه يطير , وهذه هي ذروة الوصف بالسرعة , وأنه لا يحسن ركوبه إلا فارس متميز كتميز هذا الفرس .
*= وقوله :
دَرِيْـــرٍ كَــخُــذْرُوفِ الـوَلِـيْــدِ أمَــــرَّهُ تَـتَــابُــعُ كَـفَّــيْــهِبِـخَــيْــطٍ مُــوَصَّـــلِ
*= درير : مستدرّ في العدو ؛ يصف سرعة جريه . والخذروف أو فلكة المغزل : الخرّارة التي يلعب بها الصبيان ؛ تسمع لها صوتاً : خرّخرّ . وأمرّه : أحكم فتله . وقوله : { بخيط موصل } معناه : قد لعب به حتى خفّ وأخلق وملُس فتقطع خيطه فوصل فهو أسرع لدورانه . ومعنى البيت أن هذا الفرس سرعته كسرعة الخذروف وخفته كخفته . وهذا التشبيه من أغرب التشبيهات لأنه جمع بين طرفين متباعدين أشد التباعد { الفرس وخذروف الوليد } وجعلهما في ربقة واحدة . وقوله :
*= لَـــهُ أيْـطَــلا ظَـبْــيٍ وَسَـاقَــا نَـعَـامَـةٍ وإِرْخَــاءُسَـرْحَـانٍ وَتَـقْـرِيْـبُ تَـتْـفُـلِ
أيطلا ظبي : كشحاه , وهو : ما بين آخر الضلوع إلى الورك ؛ وإنما شبهه بأيطل الظبي لأنه طاو وليس بمنفضخ أي عريض متسع . وساقا نعامة : النعامة قصيرة الساقين , صُلبَتهما , وهي غليظة ظمياء ليست برهلة . ويستحب من الفرس قِصَر الساق لأنه أشد لرميها بوظيفها , ويستحب منه –مع قصر الساق – طولُ وظيف الرجل وطول الذراع ؛ لأنه أشد لدحوه , أي : لرميه بها . والإرخاء " جري ليس بالشديد . والسرحان : الذئب , والتقريب : أن يرفع يديه معاً , ويضعهما معاً . والتتفل : ولد الثعلب .
*= وهذا البيت أقرب إلى قوله : { كميت يزل اللبد عن حال متنه } من جهة أنه وصف لأعضاء الفرس , وليس وصفاً لجريه . وشاع هذا التشبيه في كتب النقد لأن فيه اختصاراً شديداً , قالوا شبه أربعة بأربعة في بيت واحد , وقد أراد وصف الأيطل والساق والإرخاء والتقريب فلم يحدث عنها , وإنما ألحق كل واحد منها بما هو النموذج الأعلى في المعنى الذي أراده , فليس فوق الظبي في ضمور الخاصرتين , وليس فوق ساق النعامة في صلابتها , وليس فوق الذئب في إرخائه , وليس فوق التتفل في تقريبه , فأصاب الشاعر معناه بأقصر لفظ .
*= وإنك لتعجب كيف توافت عليه هذه المشبهات بهذه الأربع التي أصاب بها حاق معناه , ثم كيف صاغها هذه الصياغة البارعة حين أضاف كل مشبه إلى مشبه به , فلم يقل له أيطلان كأيطلي الظبي , وساقان كساقي النعامة , وله إرخاء كإرخاء الذئب إلى آخره .
*= وأفاد تقديم الجار والمجرور في قوله : { له أيطلا ظبي } الاختصاص , اختصاص الفرس بهذه الأوصاف العالية , وكأنه قال له لا لغيره , ثم لاحظ التقارب والتشارب بين الشطرين فضمور الكشح وصلابة الساق خير ما يعين على الإرخاء والتقريب . وقوله :
*= كَـأَنَّ عَلَـى المَتْنَيْـنِ مِنْـهُ إِذَا انْتَـحَـى مَــدَاكَعَــرُوسٍ أَوْ صَرايَة حَـنْـظَـلِ
الكتفين : الحارك وهو من منبت العُرف إلى الظهر , وانتحى : اعترض , ومداك العروس : الحجر الذي تسحق عليه طيبها , والصَرايَة : الحنظلة إذا اصفرت لأنها قبل أن تصفر مغبرّة فإذا اصفرت صارت تبرق . ومعنى البيت : كأن على ظهره حجراً أملس يسحق عليه العطار المسك , أراد به ملاسة ظهره واستواءه واكتناز اللحم عليه .
*= وإنك لتعجب أيضاً من دقة الشاعر في اختيار مواضع الجار والمجرور والقيود التي يكثر منها زيادة في تدقيق المعنى , فقد قدّم قوله : { على الكتفين } على اسم كأن وهو مداك , ثم قدّم الظرف أيضاً { إذا انتحى } حتى يأتي بالمشبه وقد نصب بين عينيك ما يريد تشبيهه من حيث المكان وهو الكتفين , ومن حيث الحال , وهو إذ انتحى حتى تقع عينك على ما يريد بيانه بالتشبيه .
*= ثم قيد المداك بأنه مداك عروس ليفيد أنها حديثة عهد بسحق الطيب فيه , ثم قيد الحنظل بأنه صراية . وسلك في التشبيه طريقاً غير طريق الكاف وغير طريق الإضافة , وجاء بنوع آخر وطريق آخر فدل على سعته في تنويع بيانه . وقوله :
*= فَــبَــاتَ عَـلَـيْــهِ سَــرْجُــهُ ولِـجَـامُــهُ وَبَــاتَبِعَيْـنِـي قَائِـمـاً غَـيْـرَ مُـرْسَــلِ
يقول : بات متهيئاً ؛ ليرسل في وجه الصبح . وبات بعيني : معناه : بحيث أرعاه . وغير مرسل , معناه : يُعلف وهو غير مهمل . وقال : بات عليه سرجه ؛ لأنهم مسافرون , لا ينزعونه عنه . فكأنه مُعَدّ لذلك .
*= فهذا البيت راجع إلى أول بيت ذكر فيه وصف الفرس وهو قوله : { وقد اغتدي والطير في وكناتها } وبهذا رجع آخر الكلام في هذا الجزء إلى أوله .
*= ويلاحظ أن حدث هذا البيت وزمنه سابق لقوله { وقد اغتدي } لأن تهيئة الفرس للخروج مبكراً هي بالقطع قبل الخروج , فالشاعر لما فرغ من وصف فرسه وضع عليه سرجه ولجامه وبات بعينه يرعاه .
*= وتكرار كلمة { بات } للتأكيد بأنه قبل أن يغتدي ؛ لأن البيات قبل الغدو , ثم إنه لما كرر كلمة { وبات } في الشطر الثاني أفاد معنى جليلاً وهو أن ما دخلت عليه بات الثانية في أهمية ما دخلت عليه بات الأولى , ولو أسقط الثانية وجعل قوله : { بِعَيْـنِـي قَائِـمـاً غَـيْـرَ مُـرْسَــلِ } معطوفاً على قوله : { عَـلَـيْــهِ سَــرْجُــهُ ولِـجَـامُــهُ } لأوهم هذا أن المعطوف وهو التابع أقل من المعطوف عليه . ثم إنك تجد الشاعر شاكل بين حذو بناء الجملتين فأدخل فعل { بات } على الجار والمجرور فيهما .
*= ( رحلة الصيد )
فَـعَــنَّ لَـنَــا سِـــرْبٌ كَــــأَنَّ نِـعَـاجَــهُ عَـــذَارَى دَوَارٍفِـــي مُـــلاءٍ مُــذَبَّــلِ
فَـأَدْبَـرْنَ كَـالـجِـزْعِ المُـفَـصَّـلِ بَـيْـنَـهُ بِجِـيْـدٍ مُـعَـمٍّفِــي العَـشِـيْـرَةِ مُـخْــوَلِ
فَـأَلْـحَـقَـنَــا بِـالـهَــادِيَــاتِ ودُوْنَـــــــهُ جَوَاحِـرُهَـا فِـــيصَـــرَّةٍ لَـــمْ تُـزَيَّــلِ
فَـعَـادَى عِــدَاءً بَـيْـنَ ثَـــوْرٍ ونَـعْـجَـةٍ دِرَاكــاً وَلَــمْيَنْـضَـحْ بِـمَـاءٍ فَيُـغْـسَـلِ
فَظَـلَّ طُهَـاةُ اللَّحْـمِ مِـن بَيْـنِ مُنْـضِـجٍ صَـفِـيـفَشِـــوَاءٍ أَوْ قَـدِيْــرٍ مُـعَـجَّـلِ
ورُحْنَـا وراح الـطَّـرْفُ ينفض رأسه مَـتَــى ما تَـــرَقَّالـعَـيْـنُ فِـيْــهِ تَـسَـهــلِ
كَــــأَنَّ دِمَــــاءَ الـهَـادِيَــاتِ بِـنَــحْــرِهِ عُـصَــارَةُحِــنَّــاءٍ بِـشَـيْــبٍ مُــرَجَّــلِ
ضَلِـيْـعٍ إِذَا اسْتَدْبَـرْتَـهُ سَـــدَّ فَـرْجَــهُ بِضَـافٍ فُوَيْـقَالأَرْضِ لَيْـسَ بِأَعْـزَلِ
*= قوله :
فَـعَــنَّ لَـنَــا سِـــرْبٌ كَــــأَنَّ نِـعَـاجَــهُ عَـــذَارَى دَوَارٍفِـــي مُـــلاءٍ مُــذَبَّــلِ
عنّ : اعترض وظهر . والسرب : القطيع من البقر والقطا والظباء والنساء . وآثر كلمة { سرب } على قطيع ليهيئ بها لكلمة { عذارى } . ودوار : صنم كانوا في الجاهلية يدورون حوله . والملاء : الملاحف , واحدتها مُلاءة . والمذيل : السابغ الطويل المهذب .
*= والأربعة الأبيات الأولى المتصدرة بالفاء تشيرإلى مدى الترابط وحيوية الحركة المتتابعة منذ ظهور سرب البقر الوحشي حتى تم بلوغ المرام من صيد ونحوه , والفاء في { فعن } وما دخلت عليه معطوفة على قوله : { وقد اغتدي } ؛ لأن الفاء ههنا لا تلتئم مع شيء قيل في وصف الفرس , وإنما هو عطف معنى على معنى , أو غرض على غرض , أو قصة على قصة .
*= وقوله : { كَــــأَنَّ نِـعَـاجَــهُ عَـــذَارَى دَوَارٍ } أفرد النعاج وأبعد الثيران , والسرب يشمل النعاج والثيران لأنه بدأ في تحسين وتجميل ما يقتنص من الصيد , وأنه لما كان يصبو بعذارى هن أجمل وأملح وأنبل ما ترى العين هو كذلك هنا لا يقتنص ولا يصيد من الوحوش إلا ما كان على شاكلة من يتمتع بهن .
*= ولهذا حوّل النعاج إلى عذارى ولم يكتف بذلك بل ذكر زينتهن ودلالهن وتبخترهن في دورانهن حول دوار وهن في الملاء المذيل الذي يشبه ذيل مرط بيضة الخدر المرحل أي الموشى .
*= ويربط بين عذارى دوار والعذارى اللائي نحر لهن مطيته , فلا يمكنك إغفال هذه المقابلة بين عذارى هناك نحر لهن مطيته , وعذارى هنا هن هدف لرمحه . و قوله :
*= فَـأَدْبَـرْنَ كَـالـجِـزْعِ المُـفَـصَّـلِ بَـيْـنَـهُ بِجِـيْـدٍمُـعَـمٍّ فِــي العَـشِـيْـرَةِ مُـخْــوَلِ
أدبرن : قال يعقوب : يبرقن ؛ كما يبرق الجزع الذي جعل بينه ما يُفصّله , أي : إنهن متفرقات . لأنهن أحسسن بالخطر , واستيقن أنهن صرن هدفاً للصيد . والجزع : الخرز , وهو الخرز الذي فيه سواد وبياض . بجيد : أي في جيد وهو العنق . ومعنى معم مخول : أي له أعمام وأخوال , وهم في عشيرة واحدة , كأنه قال : كريم الأبوين . وإذا كان كذلك كان خرزه أصفى وأحسن . يصف أن هذه البقر من الوحش تفرقت كالجزع .
*= وعين الشاعر في هذه اللحظة تدرك لحظة إدبارهن وتفرقهن وذعرهن صورة من الحسن والبهاء والانتشاء فيراهن جزعاً مفصلاً , وهو الخرز المفصول بينه باللؤلؤ , وهذه صورة قريبة من صورة الثريا التي رآها وشاحاً مفصلاً باللؤلؤ لما اقتحم الأهوال ودخل على بيضة الخدر .
*= وكأن النشوة التي اعترته هناك ودل عليها بصورة الوشاح المفصل هي من جنس النشوة التي اعترته هنا , ودل عليها بالجزع المفصل . ثم إن إحساسه بما رأت عينه لم يستوفه حديث الجزع المفصل وإنما أضاف انه في جيد كريم العم والخال , لأن الجمال في عين كريم العرق لا يكمل الإحساس به ولا يكمل التمتع به إلا إذا كان جمال العلية . وقوله :
*= فَـأَلْـحَـقَـنَــا بِـالـهَــادِيَــاتِ ودُوْنَـــــــهُ جَوَاحِـرُهَـافِـــي صَـــرَّةٍ لَـــمْ تُـزَيَّــلِ
الهاديات : أوائل الوحوش السابقات المتقدمات . وجواحرها : متخلفاتها المتأخرات . والصرة : الجماعة . وقوله : { لم تزيل } لم تفرّق .
*= فهذه ثلاث صور من غير تشبيه ولا مجاز . الصورة الأولى : ألحقهم بالهاديات , والصورة الثانية أن جواحرها صارت دونه وأنه تجاوزها . والصورة الثالثة : أن هذه الجواحر في صرة لم تتزيل .
*= وهذا الإتقان الشديد لصورة إحاطة الفرس بالصيد سبقه تصوير بارع لنفاسة هذا الصيد نفسه , فصير النعاج عذارى , وصير بريقهن لما ذعرن فأدبرن جزعاً مفصلاً باللؤلؤ في عنق كريم معم مخول , يعني أن أنفاسه ما يروم صيده خرجت به من جنسه فلم يعد السرب سرباً ولا البقر بقراً , وإنما استحال إلى هذه الصورة الزاخرة بالحسن والجمال , وتبختر الظباء في الملاء المذيل , وكل هذا لا معنى له إلا معنى واحد وهو أنه لا يروم إلا الأنفس الأكرم , وأن وسائله إلى ما يرومه وهي هذا الفرس هي أيضاً من الأنفس الأكرم . وقوله :
*= فَـعَـادَى عِــدَاءً بَـيْـنَ ثَـــوْرٍ ونَـعْـجَـةٍ دِرَاكــاً وَلَــمْيَنْـضَـحْ بِـمَـاءٍ فَيُـغْـسَـلِ
قوله : { عادى } معناه : والى بين اثنين في طَلَق , قتلهما ولم يَعرق , أدرك صيده قبل أن يعرق . قيل : إنه أول من قال : { فعادى عداء } فاتبعه الناس . وقوله : { فيغسل } معناه : لم يعرق ؛ فيصير كأنه قد غسل بالماء . والدراك : المداركة . يقول : صاد ثوراً ونعجة , ولم يجهد نفسه حتى يعرق .
*= والشاعر ههنا لم ينف عن فرسه العرق , وهذا ليس عيباً , وإنما نفى العرق الذي يصير به كأنه يغسل بهذا العرق , وهذا معنى قوله : { لم ينضح بماء فيغسل } ولو أراد نفي العرق لاكتفى بقوله : لم ينضح بماء .
*= ونلاحظ أنه لم يذكر الثور في السرب , وإنما خص نعاجه لما شبههن بالعذارى وهذا أليق وأنسب بالمقام , وإنما ذكره هنا وسوى بينه وبين النعجة , وهذه براعة نادرة لأنه أراد أن الثور والنعجة سواء ما دام قد طلبهن بفرسه , واختار كلمة النعجة في مقابلة الثور , ولم يقل البقرة لأنها هي التي تقابل الثور ليبين أنه حين يطلب الشيء لا تمنعه عنه قوته . وقوله :
*= فَظَـلَّ طُهَـاةُ اللَّحْـمِ مِـن بَيْـنِ مُنْـضِـجٍ صَـفِـيـفَشِـــوَاءٍ أَوْ قَـدِيْــرٍ مُـعَـجَّـلِ
طهاة اللحم : الطباخون , واحدهم طاه , وفي ذلك دلالة على أنه كان في صحبته طهاة كثير , وفيه إشارة إلى سلطانه وعزه . وصفيف الشواء : هو اللحم المرقق المشوي على الجمر . والقدير : المطبوخ في القدور .
*= ويلاحظ أنه ذكر هنا الطبخ ولم يذكر الأكل , ولما عقر للعذارى مطيته في أول أيامه الصالحات ذكر الأكل في قوله : { وظل العذارى يرتمين بلحمها } ولم يذكر الطبخ .
*= وقوله :
ورُحْنَـا وراح الـطَّـرْفُ ينفض رأسه مَـتَــى ما تَـــرَقَّالـعَـيْـنُ فِـيْــهِ تَـسَـهــلِ
الطرف : كل شيء كريم , من الرجال والخيل والآباء والأمهات . وقوله : { ينفض رأسه } معناه : من المرح والنشاط . وقوله : { مَـتَــى تَـــرَقَّ الـعَـيْـنُ فِـيْــهِتَـسَـفَّــلِ } من أرفع جمل هذه القصيدة وأسخاها وأعجبها . والمعنى : أي متى ما نظر إلى أعلاه نظر إلى أسفله لحسنه ولكماله ليستتم النظر إلى جميع جسده .
والرواح ضد الصباح وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل , وراح يروح ضد غدا يغدو , وتكرار الفعل هنا لا معنى له إلا اللفت إلى هذا الوقت والذي لابد أن ترجع به إلى قوله : { وقد أغتدي والطير في وكناتها } , وأيضاً إلى قوله : { وبات عليه سرجه } و { بات بعيني } والتكرار هنا كالتكرار هناك , وبات عليه وبات بعيني هو الوقت قبل الصيد , ورحنا وراح هو الوقت بعد الصيد , وإذا كان الرواح من الزوال إلى الليل فكأنه موصول ببات , وإذا كان يبدأ بعد الغدو فهو موصول بأغتدي وبذلك يكون الفعل راح كأنه به تلتقي طرفا الحلقة وتتم به الدائرة .
*= وأن هذا الطرف الذي ينفض رأسه لفضل نشاطه وحميه يفعل ذلك بعد ما قطع الليل مبتدئاً من طرفه لما بات عليه سرجه ومنتهياً برواحه . وقوله :
*= كَــــأَنَّ دِمَــــاءَ الـهَـادِيَــاتِ بِـنَــحْــرِهِ عُـصَــارَةُحِــنَّــاءٍ بِـشَـيْــبٍ مُــرَجَّــلِ
الهاديات : المتقدمات . ويريد { بعصارة حناء } ما بقي من الأثر . وقوله : { بشيب مرجل } معناه : بشيب قد غسل عنه الحناء , فرُجّل أي : سُرّح . ومعنى البيت : أن هذا الفرس يلحق أول الوحش , فإذا لحق أولها علم أنه قد أحرز آخرها , وإذا لحقها طعنها فتصيب دماؤها نحره .
*= قال الأعلم : إنما أراد أن حمرة الدم بصدره كحمرة الخضاب في الشيب , ولا يريد أن أشهب لأنه قد وصفه بالكمتة .
*= قال الشيخ محمود شاكر : " هذا البيت مما حيّر الشراح فدلسوا معناه , ذكر امرؤ القيس طول جري فرسه حتى لحق أوائل الصيد الشارد فنضح عرقه وخالطه دم الصيد . وعرق الفرس يبيض إذا يبس , فلما درّ عرقه ثانية شابت حمرة الدم ببياض يبيس العرق وتحدر على نحره , فهو كشيب يُخضّب بعصارة الحناء ويرجل وهي تقطر حمراء , ولولا ما أراد من ابيضاض العرق لم يكن للبيت ولا للتشبيه معنى , وإنما غرّر بهم ادماج امرئ القيس لما يريد من ذكر تحدر العرق المخالط للدم في قوله : { عصارة حناء } فلما أغفل ذكر العرق ظنوا التشبيه واقعاً على الدماء في نحره , وهو خطأ لأن الفرس الذي وصفه كميت " وليس أبيض الصدر .
*= " ومراد قول الشيخ محمود " ادماج امرئالقيس لما يريد من ذكر تحدر العرق المخالط للدم فيقوله : عصارة حناء " أن امرأ القيس لما قال : { كأن دماء الهاديات بنحره عصارة حناء بشيب مرجل } شبه شيئين جمع بينهما وربط أحدهما بالآخر بشيئين جمع بينهما وربط أحدهما بالآخر , المشبه مكون من دماء الهاديات بنحره , والمشبه به عصارة حناء بشيب , وحين تقابل دماء الهاديات بعصارة الحناء تصح المقابلة , وحين تقابل نحره وهو كميت بالشيب لا تصح المقابلة لأن نحره لا بياض فيه , والشيب أبيض , ولا بد أن يكون في النحر شيء أبيض حتى يصح التشبيه , ولا يكون هذا الشيء الأبيض إلا يبيس عرقه . الذي الشأن فيه أن يبيض بتيبيسه , وهذا معنى الإدماج والذي لا يصح التشبيه إلا به " . وقوله :
*= ضَلِـيْـعٍ إِذَا اسْتَدْبَـرْتَـهُ سَـــدَّ فَـرْجَــهُ بِضَـافٍفُوَيْـقَ الأَرْضِ لَيْـسَ بِأَعْـزَلِ
يقال : فرس ضليع وبعير ضليع , إذا كانا قويين منتفجي الجنبين وهي الضلاعة . والفرج : ما بين الرجلين , وفويق الأرض هو ما يسد به فرجه وهو الذنب , وفويق الأرض هو الوصف المستحسن , والقصير عيب , والمفرط في الطول عيب . والأعزل : هو الذي يكون ذنبه في ناحية , وهو عيب .
*= والشاعر في قوله : { متى ما ترق العين فيه تسهل } نظر فيه إلى جملة الفرس . وفي قوله : { كأن دماء الهاديات بنحره } نظر إليه من أمامه . وفي هذا البيت نظر إليه من خلفه , فصار معقد إعجاب النفوس , وصارت العيون تتأمله من كل جهاته .
*= ثم إن قوله : { سدّ فرجه } ليس جواباً لإذا لأنه غير مترتب على الشرط , وهذا من دقائق صنعة امرئ القيس ؛ وذلك لأنه جعل { سدّ فرجه } دليلاً على جواب الشرط المحذوف , وكأنه يقول : إذا استدبرته رأيت من عتقه وكرم عرقه واستواء خلقه وبعده عن كل ما يعاب ويدلك على هذا وعلى أكثر منه ما تراه من أنه ساد فرجه بضاف فويق الأرض ليس بأعزل .
*= ( وصف المطر والبرق ) هناك علاقة وثيقة بين ذكر الصيد وذكر المطر , لأن امرأ القيس نفسه بينها لنا لما ذكر أنه يغتدي والطير في وكناتها لغيث من الوسمي , وهذا معناه أنه جعل الغيث والصيد شيئاً واحداً فالذي يغتدي للصيد هو ذاته الذي يغتدي للغيث , وبهذا صار الحديث عن البرق والمطر كأنه من تمام الحديث عن الصيد , يقول :
أصَـاحِ تَــرَى بَـرْقـاً أُرِيْــكَ وَمِيْـضَـهُ كَـلَـمْـعِالـيَـدَيْـنِ فِـــي حَـبِــيٍّ مُـكَـلَّـلِ
يُـضِـيءُ سَـنَـاهُ أَوْ مَصَابِـيْـحُ رَاهِــبٍ أَمَـــالَالـسَّـلِـيْـطَ بِـالـذُّبَــالِ الـمُـفَـتَّـلِ
قَـعَـدْتُ لَــهُ وصُحْبَـتِـي بَـيْـنَ حامز وبَــيْــنَ إكامبُـعْـدَ مَــا مُـتَــأَمَّــلِ
عَـلا قَـطَـنًا بِالشَّـيْـمِ أَيْـمَـنُ صَـوْبِـهِ وَأَيْـسَــرُهُعَــلَــى الـسِّـتَــارِ فَـيَـذْبُــلِ
فَأَضْحَـى يَسُـحُّ الـمَـاءَ من كلّ فِيقة يَـكُـبُّ عَـلَـىالأذْقَــانِ دَوْحَ الكَنَهْـبَـلِ
وتَيْمَـاءَ لَـمْ يَتْـرُكْ بِـهَـا جِــذْعَ نَخْـلَـةٍ وَلاَ أُطُــمـــاً إِلاَّمَــشِــيْــداً بِــجِــنْــدَلِ
كَـــأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَـيْـمِـرِ غُـــدْوَةً مِـنَ السَّيْـلِوالغثاء فَلْـكَـةُ مِـغْـزَلِ
كَـــأَنَّ ثَـبِـيْـراً فِـــي عَـرَانِـيْـنِ وَبْـلِــهِ كَـبِـيْـرُ أُنَـــاسٍفِـــي بِـجَــادٍ مُــزَمَّــلِ
وأَلْـقَـى بِصَـحْـرَاءِ الغَـبـيْـطِ بَـعَـاعَـهُ نُـزُوْلَاليَمَانِـي ذِي العِيَـابِ المُحَـمَّـلِ
كَــــأَنَّ مَـكَـاكِــيَّ الــجِــوَاءِ غُــدَّبَـــةً صُبِحْـنَ سُلافـاًمِــنْ رَحـيـقٍ مُفَلْـفَـلِ
كَــأَنَّ السِّـبَـاعَ فِـيْـهِ غَـرْقَـى عَشِـيَّـةً بِأَرْجَائِـهِالقُصْـوَى أَنَابِـيْـشُ عُنْـصُـلِ
ومَــرَّ عَـلَــى الـقَـنَـانِ مِـــنْ نَفَـيَـانِـهِ فَأَنْـزَلَ مِنْـهُالعُصْـمَ مِـنْ كُــلِّ مَـنْـزِلِ
*= قوله :
أصَـاحِ تَــرَى بَـرْقـاً أُرِيْــكَ وَمِيْـضَـهُ كَـلَـمْـعِالـيَـدَيْـنِ فِـــي حَـبِــيٍّ مُـكَـلَّـلِ
ويروى { أحار ترى برقاً } ومعناه : يا صاحب . وكثيراً ما يبدؤون حديث البرق بالنداء والترخيم , وهذا لشدة حفاوتهم بذكر البرق والمطر . وميضه : خطراته وبريقه . كلمع اليدين : كحركة اليدين , والمراد سرعة ظهوره واختفائه . في حبّي : وهو ما حبا لك من السحاب أي : ارتفع . وسمي حبياً لأنه كأنه يحبو على الأرض , وأن بعضه فوق بعض كأنه إكليل . والمكلل : الذي بعضه على بعض , المتبسم بالبرق .
*= بدأ هذا الجزء الأخير من رائعته بخطاب صاحبه كما بدأ القصيدة بخطاب صاحبيه , وكأنه إيذان بالنهاية , وأن أواخر الكلام تعيد إليك شيئاً من ملامح أوله . يقول :
*= يُـضِـيءُ سَـنَـاهُ أَوْ مَصَابِـيْـحُ رَاهِــبٍ أَمَـــالَالـسَّـلِـيْـطَ بِـالـذُّبَــالِ الـمُـفَـتَّـلِ
*والسنا : الضوء , مقصور يكتب بالألف , ويقال في تثنيته : سنوان . والسليط : الزيت . والذبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة . قال الأعلم : قوله : { يضيء سناه } رده على البرق , وقوله : { مصابيح راهب } مردود على قوله : { كلمع اليدين } " وهذا كلام جيد لأن معناه أن قوله { يضيء سناه } مؤخر عن تقديم , وأن الأصل أن يكون قبل التشبيه الذي في قوله {كلمع اليدين } لأنه من تمام وصف المشبه , وكأن أصل الكلام : { ترى برقاً يضيء سناه في حبي مكلل كلمع اليدين , أو مصابيح راهب } وبهذا يلتئم المعطوف { مصابيح راهب } على المعطوف عليه { كلمع اليدين } وتلتئم الصفة { يضيء سناه } مع الموصوف { برقاً } "
*= " وإذا قلت إنه أخر { يضيء سناه } ليلتئم مع قوله { مصابيح راهب } وقدم لمع اليدين ليلتئم مع قوله { أريك وميضه } فيضم في الكلام الشبيه إلى الشبيه , تكون قد أصبت "
*= وقوله :
قَـعَـدْتُ لَــهُ وصُحْبَـتِـي بَـيْـنَ حامز وبَــيْــنَ إكامبُـعْـدَ مَــا مُـتَــأَمَّــلِ
صحبتي : بمعنى أصحابي . حامز وإكام : موضعان من بلاد غطفان . ويروى { بين ضارج وبين العذيب } , وهما موضعان . والضمير في { له } عائد على البرق , بمعنى : قعدت أنظر من أين يجيء بالمطر . ومعنى قوله { بُعد ما متأمل } ما أبعد ما تأملت . يشير إلى أنه تأمل بين حامز وبين إكام المطر من بعيد , والمقصود هو سعة المطر .
*= وفي حدث القعود ترقب وتسليم , وفي تحديد المكان إشارة إلى تحري الموضع الأنسب للتتبع والترقب . وترى الشاعر يذكر هنا صحبته , ينعطف مرة ثانية نحو المطلع فيذكر الأصحاب الذين ذكرهم في قوله : { وقوفاً بها صحبي } . ويذكر أيضاً الأمكنة , ويقابل وقوفاً بها صحبي بـ قعدت له صحبتي . وكما انتقل هناك من خطاب الاثنين في قوله { قفا } إلى ذكر الجمع في قوله { وقوفاً بها صحبي } انتقل هنا من خطاب الواحد في قوله { أصاح ترى برقا} إلى ذكر الجماعة في قوله { قعدت له وصحبتي } . وقوله :
*= علا قَـطَـنًا بِالشَّـيْـمِ أَيْـمَـنُ صَـوْبِـهِ وَأَيْـسَــرُهُعَــلَــى الـسِّـتَــارِ فَـيَـذْبُــلِ
علا من العلو . وقطن : جبل في أرض بني أسد . والشيم : النظر إلى البرق , أين هو ؟ . و{ علا قطناً } مقدمان على تأخير لدلالتهما على بعد المسافة . وأيمن : هو فاعل { علا } ومعناه : ما كان من جهة اليَمَن . وأيسره : ما كان من جهة الشام . والصوب : نزول المطر . والستار ويذبل : جبلان مما يلي البحرين . وفي عرض هذه الأماكن تصوير ظاهر لاتساع المطر وإطباقه على كل هذه المسافات من ديار بني أسد إلى البحرين .
*= والشاعر يشيم البرق في هذه المسافات كلها , وأن الحبيّ المكلل غطّاها كلها , وأن سنا البرق أضاءها كلها , وأن السحاب يضرب بالبرق في هذه المسافات الشاسعة , من هنا وهنا كأنه مصابيح رهبان توزعت في هذه المسافات الشاسعة . وقوله :
*= فَأَضْحَـى يَسُـحُّ الـمَـاءَ عن كلّ فِيقة يَـكُـبُّ عَـلَـىالأذْقَــانِ دَوْحَ الكَنَهْـبَـل
يسح الماء : يصبه . والفيقة ما بين الحلبتين , كأنه يحلب حَلبة ويسكن ساعة , ثم يحلب أخرى . يعني السحاب . وعن ههنا بمعنى : بعد . نحو قوله : { لم تنتطق عن تفضل } يريد : بعد تفضل . ورى { فأضحى يسح الماء حول كتيفة } وكتيفة : موضع . وقوله : { يكب على الأذقان } معناه : يقلع الشجر , والأذقان : الشجر . والدوح : العظام من الشجر , واحدته دوحة . يقال : شجرة دوحة إذا كانت عظيمة كثيرة الورق والأغصان . والكنهبل : شجر هو من أعظم العضاة , تتخذ منه السهام والقسي .
*= وهذا البيت أول حديثه عن انصباب المطر , فبعد تهيئة الأماكن ووصفها وشيم البرق , بدأ المطر يصب , وبدأ البيت بقوله : { فأضحى } فالفاء تعقيبية وآثر { الضحى } لأن المطر لا يتغازر في الضحى , وإنما يتغازر في العشي , فإذا كان على ما وصف في الضحى فكيف يكون في العشي ؟ وجاءت صيغة الفعل المضارع { يسح } لتخبرنا عنمعناها بالصورة وكأنك تراهيسح .
*= وتأمل قوله : { يكب على الأذقان دوح الكنهبل } تجد أن صيغة الفعل المضارع أعطتك معنى من معاني الصراع والمقاومة والشراسة وكأنك تستحضر صورة اقتلاع أشجار الدوح ومقاومتها للمصارع الشرس المطر الذي اكتسح هذه الدوح وكبها على أذقانها . وقوله :
*= وتَيْمَـاءَ لَـمْ يَتْـرُكْ بِـهَـا جِــذْعَ نَخْـلَـةٍ وَلاَ أُطُــمـــاًإِلاَّ مَــشِــيْــداً بِــجِــنْــدَلِ
تيماء : من أمهات القرى العربية . والأطم : هي البيوت المسقوفة . والمشيد بجندل : هو المبني بالصخر .
*= ولم يقل : واقتلع نخل تيماء وهدم بيوتها , لأن هذا يصدق لو اقتلع أكثر النخل , وهدم أكثر البيوت , وليس هذا بمراد , لكنه لم يترك جذع نخلة وهذا شيء غير اقتلع النخل أو دمره وكذلك لم يترك أطماً . ثم يستدرك إلا المشيد بجندل استعصى عليه . وقوله :
*= كَـــأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَـيْـمِـرِ غُـــدْوَةً مِـنَ السَّيْـلِوالغثاء فَلْـكَـةُ مِـغْـزَلِ
وروي { كأن طميّة المجيمر } والمجيمر : أرض لبني فزارة . وطمّية : جبل في بلادهم يقول : قد امتلأ المجيمر فكأن الجبل في الماء فُلكة مغزل لما جمع السيل حوله من الغثاء .
*= ومجيء كلمة { غدوة } ههنا للإخبار بأن المطر استمر من الضحى حتى بكرة اليوم الثاني وأنه أغرق الجبل وغطاه حتى ذروته , ولم ير من الذروة شيء وإنما علاها الغثاء كفلكة المغزل . وقوله :
*= كَـــأَنَّ ثَـبِـيْـراً فِـــي عَـرَانِـيْـنِ وَبْـلِــهِ كَـبِـيْـرُأُنَـــاسٍ فِـــي بِـجَــادٍ مُــزَمَّــلِ
ورواه الأصمعي { كأن أباناً في أفانين ودقه } . عرانينه : أوائله . وثبيراً جبل بمكة . وأباناً : قال الأصمعي هما أبانان : جبل أبيض وجبل أسود وهما لبني عبد مناف . وأفانين : ضروب والوبل والودق : المطر . والبجاد : كساء من أكسية الأعراب من وبر الإبل وصوف الغنم , مخططة , والجمع بُجُد . ومزمل : ملتف . ولم يكتف بهذا بل قال : { كبيرأناس } تكريماً وإجلالاً لحكمته وسداد رأيه وامتدادتجربته , هذا إذا علمت أن كلمة { مزمل } وصف لكبير , والأصل فيها الرفع , ولكن جارتها منحتها حركة إعرابها الجر .
*= قال أبو بكر الأنباري : قد ألبس الوبل أباناً فكأنه مما ألبسه من المطر وغشاه كبير أناس مزمل ؛ لأن الكبير أبداً متدثر . وقال أبو نصر : إنما شبه الجبل وقد غطّاه الماء والغثاء الذي أحاط به إلا رأسه بشيخ في كساء مخطط , وذلك أن رأس الجبل يضرب إلى السواد والماء حوله أبيض . وقوله :
*= وأَلْـقَـى بِصَـحْـرَاءِ الغَـبـيْـطِ بَـعَـاعَـهُ نُـزُوْلَاليَمَانِـي ذِي العِيَـابِ المُحَـمَّـلِ
صحراء الغبيط : الحزْن من الأرض , وهي أرض بني يربوع . والغبيط : نجفة يرتفع طرفها ويطمئن وسطها . والمراد الدلالة على كثرة المطر ودوامه لأنه لا ينبت العشب في الأرض الحزنة إلا مطر غزير . وبعاعه : ثقله وما معه من المتاع , فضربه مثلاً للسحاب , وكأن السحاب حيٌّ ثقل عليه حمله فطرحه وألقاه . ومعنى البيت : أنه أرسل ماءه وثقله كهذا التاجر اليماني حين ألقى عيابه أي متاعه في الأرض , ونشر ثيابه , فكان بعضها أحمر , وبعضها أصفر , وبعضها أخضر . يقول : كذلك ما أخرج المطر من النبات والزهر وألوانه مختلفة كاختلاف ألوان الثياب اليمانية . وقوله :
*= كَــــأَنَّ مَـكَـاكِــيَّ الــجِــوَاءِ غُــدَّبَـــةً صُبِحْـنَسُلافـاً مِــنْ رَحـيـقٍ مُفَلْـفَـلِ
المَكاكي : جمع مُكّاء وهو طائر كثير الصفير . والجواء : البطن – من الأرض – العظيم . وصبحن من الصبوح وهو شرب الغداة . والسرف : أول ما يعصر من الخمر . والرحيق : الخمر , أو صفوته . والمفلفل : الذي ألقيت فيه توابله . فأراد أن المكاكي لما رأت الخصب والمطر فرحت وصوتت ؛ كأنها شارب مغن , سكارى من الخمر .
وذكر الجواء لأنه أشبه بالغبيط , وذكر غدية التي كررها في هذه القصيدة , وأرفع ما في هذا البيت هو كلمة { كأن } وتوابعها لأنها تعني أن هذا المكاء كان نشواناً نشوة عارمة , وكان غناؤه صادراً عن هذه النشوة العارمة , وأن ما رآه من مطر وخصب بلغ به ذروة النشوة فكان كأنه شرب سلافاً من رحيق , ليس فحسب بل من رحيق حار فبلغ به ما بلغ , فغنى غناء في سماء الجواء لم يسمع مثله . وقوله :
*= كَــأَنَّ السِّـبَـاعَ فِـيْـهِ غَـرْقَـى غدَيّةً بِأَرْجَائِـهِالقُصْـوَى أَنَابِـيْـشُ عُنْـصُـلِ
قوله : { بأرجائه القصوى } جوانبه القاصية البعيدة . والأنابيش العروق , سميت أنابيش لأنها تُنبش أي تخرج من تحت الأرض . والعنصل : البصل البري .
*= شبه السباع الغرقى بأنابيش البصل , قال الأعلم : وإنما شبهها بالعنصل لأن الصبيان يجمعونه للّعب ثم يرمون به . والبيت يصف قوة فيضان السيل فكما أغرق طمية المجيمر غدوة , كذا أغرق أشرس الأحياء السباع غدوة . وقوله :
*= ومَــرَّ عَـلَــى الـقَـنَـانِ مِـــنْ نَفَـيَـانِـهِ فَأَنْـزَلَ مِنْـهُالعُصْـمَ مِـنْ كُــلِّ مَـنْـزِلِ
*= وروى الأصمعي { وألقى ببسيان مع الليل بركه } والقنان : جبل بني أسد . وأصل النفيان : ما تطاير عن الرشاء عند الاستقاء , وهو ههنا ما شذ عن معظمه . وبسيان : جبل ؛ وبركه : صدره . والعصم : الوعول , والمعنى : أن المطر عمّ الجبل حتى انزل الوعول التي تعتصم بأعلاه .
*= " وشعر امرئ القيس يشبه بعضه بعضاً راجع الشبه الذي بين هذا البيت وقوله : { وألقى بصحراء الغبيط } وكأن الشاعر أراد أن يلفتك إلى هذا التقارب فافتتح البيت بما افتتح به صاحبه وهي كلمة { ألقى } ثم بالباء الجارة , وإذا كان أدخلها هناك على المكان , وهو صحراء الغبيط فقد أدخلها هنا على المكان أيضاً وهو بُسيان . وقابل بين الغبيط وهو المطمئن من الأرض ببسيان الذي هو الجبل , ثم لما قال هنا { الليل } وهو وقت شدة المطر جعل مفعول ألقى كلمة { بركه } ولما قال هناك { نزول اليماني } ناسب أن يكون مفعول ألقى كلمة { بعاعه } "
*= " والشطر الثاني في البيتين مختلف في المعنى مع ترتبه على الشطر الأول المتشابه في المعنى لأنه هناك نحا نحو الخصب المفهوم من المطر , فذكر نزول اليماني , والمعنى هنا مختلف لأنه لما ذكر الليل وذكر كلكل السحاب ناسب أن يقول إنه عم الجبل فأنزل وعوله , وقد أراد أن يقارب مع هذا التباعد فاستعمل كلمة { أنزل منه العصم } ليلامح قوله { نزول اليماني } "
*= " ثم أكّد هذا الفعل فلم يقل أنزل منه العصم من كل جانب , وإنما قال { من كل منزل } فأعاد مادة النزول , ثم إنك من جهة أخرى تجد قوله { فأنزلمنه العصم من كل منزل } تقترب من قوله { كجلمود صخر حطه السيل من عل } ؛ لأن أصل الصورة في البيتين متشابه جداً فالسيل هو الذي يحط وينزل وإن كان هناك أنزل جلمود صخر , وهو هنا أنزل العصم التي تألف منازلها في جلاميد الصخور " . ولاحظ أنه قال هناك { حطه السيل } لأن هذا المناسب لتدهده جلمود الصخر , وقال هنا { أنزل } لأنه هو المناسب لاجتياز الأحياء من الوعول ونزولها " .
*= خامساً : الإيقاع الموسيقي
*= جاء وزن القصيدة منتشياً رقاصاً على بحر الطويل , وهو الوزن الذي كان الشعراء القدماءيؤثرونه على سواه , وليس بين بحور الشعر ما يضارعه في نسبة شيوعه , ولذلك نظم عليه ما يقربمن ثلث الشعر العربي القديم .
*= والملاحظ أنه يعطي إمكانيات للسرد والبسط القصصي والعرض الدرامي , وهو يعكس قوة الإيقاع ورصانة الأداء وفخامته , وله رنة موسيقية تناسب معاني التغني بجلالة الحدث وفداحة الرحيل .
*= وأمرؤ القيس وجد لانفعالاته ما يوافقها من الإيقاع , والمتأمل لمعلقته الرائعة يجد أن النص يبدأ بنقطة الحزن والأسى ؛ فيأتي الإيقاع هيناً ليناً رتيباً ثم تسارع فيها النغم حتى وصل إلى قمة الإحساس بالفرح والسرور فتتراسل معه التفعيلات التي تدل على الخفة , ويتسارع فيها النغم , فإذا ما مضى الشاعر في ذكرياته وأحلامه :
ويوم عقرت للعذارى مطيتي *** فيا عجباً من كورها المتحمل
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة *** فقالت لك الويلات إنك مرجلي
هبط الإيقاع إلى النقطة التي نبع منها , ثم يمتد النغم مناسباً إلى آخر القصيدة , وتتوزع تفعيلات بحر الطويل في هذه المعلقة كالآتي :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن *** فعولن مفاعيلن فعول مفاعلن
وهذا التوزيع يكشف لنا أموراً كثيرة :
*= تظهر التفعيلات { مفاعيلن } و { مفاعلن } ظهوراً منتظماً في القصيدة , وهذا أمر يمنح القصيدة وزناً مشتركاً , ويحقق له استقراراً إيقاعياً , وإذا كان هذا الاستقرار يجعل الإيقاع رتيباً فإنه يلائم حالة الحزن والانكسار اللذين يشيعان في النص .
*= نلاحظ عدولاً عن هذا الاستقرار ويتمثل في { فعولن – فعول } تنوع هذا الإيقاع يتناسب مع حالة الشاعر النفسية المترددة بين الحزن والسرور أحياناً .
*= وإذا قارنا بين إيقاع البيت الأول { قفا نبك } نجد الشاعر ختم اللوحة بالسلسلة نفسها في البيت التاسع :
ففاضت دموع العين مني صبابة *** على النحر حتى بلّ دمعي محملي
مما يؤكد نزعة الشاعر في بناء قصيدته على شكل دائري غير أن حالته النفسية تمكنه من ذلك .
*= إذن العلاقة التي جمعت البحر بالقصيدة هي تجاوبه مع الحالة النفسية للشاعر حيث توافق البحر الطويل مع حالة امرئ القيس التي كان يعيشها من حالة الحزن والانكسار إلى حالة النشوة والسرور .
*= القافية ودلالتها :
*= يرى الخليل بن أحمد أن القافية تبدأ من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن , وهكذا تكون القافية كلمة أو أقل او أكثر , وهي بنية مهمة وضرورية في القصيدة لأنها مظهر دال على نفسية الشاعر .
*= والقافية في معلقة امرئ القيس إما بعض كلمة في قوله : { ويلوي بأثواب العنيف المثقل } فالقافية هي { ثق قلي } وهي جماع متحرك وساكن ثم متحركين فساكنين . وتأتي أحياناً كلمة في قوله : { إذا جاش فيه حميه غلي مرجل } حيث القافية كلمة { مرجل } وهي مكونة من متحرك فساكن فمتحركين فساكن .
*= وتأتي أيضاً كلمتين كقوله : { كجلمود صخر حطه السيل من عل } فهي مكونة من الكلمتين { من عل } حيث تكون جماع { متحرك فساكن فمتحركين فساكن } , ورغم الاختلاف في معلقة امرئ القيس بين حد الكلمات فإن الحسية الإيقاعية وهي { متحرك فساكن فمتحركين فساكن } أضحت ملتزمة حسب منظور الخليل , بل حسب إيقاع البحر .
*= كذلك في قوله : { بسقط اللوى بين الدخول فحومل } فالقافية هنا هي { حوملي } متحرك فساكن فمتحركين فساكن , وهي قافية مطلقة وليست مقيدة , ذلك أنه يندر تقييد القافية في الشعر الجاهلي , فحروف رويها حروف متحركة .
*= ويبدو أن الشاعر يختار لقصيدته ما يناسب حالته النفسية أو مضمونها لذا اختار امرؤ القيس { اللام المكسورة } وذلك أن اللام في العربية صوت مجهور ذلق – ينعش النفس عند نطق الحرف –وصوته متوسط بين الشدة والرخاوة , ولذلك يعكس حالة الشاعر النفسية ( ضعفه – انكساره – تجلده –شدة انفعالاته – بهجته – سروره ) زد على هذا أن جعل اللام مكسورة , ولعل الصوت المنخفض المكسور يدل على الانهيار والحزن والحرقة فجاءت القافية مناسبة لمضمون القصيدة , ومنحتها إيقاعاً ملائماً .
*= ويلاحظ أن القافية في المعلقة أنتجت مقطعاً طويلاً هو { لِ : ليِ } وهذا المقطع أصبح يعبر عن الحزن والاستغاثة والاستعطاف في محور الضعف , من ذلك : ( تجمل – معول – فأنزل – فأجملي –تنسل – مقتلي – تنجلي – يهزل ...) , أو يعبر عن التملك والاستحقاق في محور القوة , وذلك لأن الصوت المنخفض يتلاءم مع ياء المتكلم الدالة على الامتلاك , وليس بغريب فقد حاز في القصيدة النساء والفرس والوحوش .
*= إذاً فالقافية التي اختارها امرؤ القيس أدت دورها في البنية الإيقاعية للمعلقة , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى فقد عبرت عما يختلج الشاعر من قهر وضعف ومن فرح وتحقيق لأحلام , كما عكست حدة معاناته وهمومه الشديدة .
*= الروي , أضحى في الحس الإيقاعي صلب القافية وركيزتها , والروي هو ذلك الحرف الذي يتكرر في آخر كل بيت من أبيات القصيدة , وبه تسمى القصيدة كلامية الشنفرى وسينية البحتري وبائية أبي تمام ونونية ابن زيدون , وأهميته كون القصيدة تبنى عليه .
*= ولقد اعتمد امرؤ القيس في معلقته على الروي المكسور { اللام المكسورة } وحافظ عليه في كامل المعلقة , واللام المكسورة تعبر عن حالة الشاعر التي كان يعانيها من ضعف وانكسار .
*= إن هذا الصوت الذي تكرر في المعلقة حوالي { 87} مرة منها { 82 } كرّوي يلقي بظلاله على الخطاب , قد ظل عالقاً بذهن الشاعر يتردد على لسانه , ولعل هذا يؤثر في المتلقي وكأن هذا الحرف يبين للقارئ مدى حجم الحالة التي يعيشها الشاعر في النص .
*= كما أن علامة الكسرة التي لازمت حرف الروي من بداية القصيدة إلى نهايتها تصور لنا امتداد الحزن واتساع هوة الأسى والإحساس بفقد الأحبة , وتبين أيضاً انكسار الشاعر في عدم تحقيق آماله ورغباته في الثأر لأبيه .
*= ويعتبر صوت اللام صوتاً منخفضاً , وهو ملائم لحالة الشاعر ؛ لأنه يدل على الانهيار والحزن والحرقة فهو مهيمن على النص يعمل على تبين الوضع المتدني لمعنويات نفس الشاعر .
*= والتصريع في البيت الأول يضفي قيمة فنية وكثافة موسيقا جمالية مؤثرة لما له من موقع من النفس لأنه يجذب انتباه السامع , ويحرك إحساسهبالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها .
*= سادساً : الثراء الأسلوبي
المعلقة زاخرة بالتركيب الرصينة العالية , والظواهر الأسلوبية البارزة التي تميزها عن غيرها من النصوص الأخرى , وإن أول ما يلفت انتباهنا هو :
*= الحذف , ومنه حذف المبتدأ لدلالة السياق عليه , كأن يتحدث الشاعر عن شيء ثم يستغني عن تسميته بعد ذكره ويبقى يعدد صفاته ومثال ذلك قوله :
{ مهفهفة بيضاء غير مفاضة } , أي : هي . وقوله : { مكر مفر مقبل مدبر معاً } و { كميت يزل اللبد } و { مسح إذا ما السابحات } و { درير كخذروف الوليد } و { ضليع إذا استدبرته } أي : هذا الفرس . وقوله : { كدأبك من أم الحويرث } أي : دأبك في حب هذه كدأبك من تينك . وقوله { كبكر المقاناة البياض بصفرة } أي : هي , و { ونؤوم الضحى } أي : هي . *= ومنه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه , وذلك في قوله :
{ إذا ما اسبكرّت بين درع ومجول } والتقدير : بين لابسة درع ولابسة مجول . وقوله : { بناظرة من وحش وجرة مطفل } أي : بناظرة من نواظر وحش وجرة مطفل .
*= ومنه حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه , كقوله : { ألا رب يوم لك منهن صالح } والتقدير : ألا رب يوم لك منهن بعيش صالح . وفي قوله : { تصد وتبدي عن أسيل وتتقي } أي : عن خدّ أسيل . وقوله : { بمنجرد قيد الأوابد هيكل } أي بفرس منجرد . وقوله : { كما زلت الصفواء بالمتنزل } أي بالمطر المتنزل . وقوله : { بضاف فويق الأرض ليس بأعزل } أي : بذنب ضاف . وقوله : { نزول اليماني ذي العياب المحمل } أي : نزول التاجر اليماني .
*= ومنه حذف الفعل لدلالة الكلام على حذفه , وذلك في قوله : { بأمراس كتان } أي : ربطت بأمراس كتان .
*= ومنه إضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه , وذلك في قوله : { لما نسجتها من جنوب وشمأل } أي : نسجتها الريح من جنوب وشمأل .
*= حذف { ربّ } ونجد ذلك في : { وبيضة – وجيد –وفرع – وكشح – وليل ... }
*= النفي , وظف الشاعر أدوات النفي في وحداته الدلالية ( الطلل – الغزل – الليل – الصيد – الفرس –السيل ) فقد ورد النفي في القصيدة بلم ( 8 مرات ) وبغير ( 5 مرات } وبما ( 4 مرات ) وبلا ( 4 مرات ) وبليس ( 3 مرات ) , يقول : { لم يعف رسمها } و { لم يحول } و { لم تحلل } { لم تزيل } و { لم ينضح بماء فيغسل } و { لم يترك } , وقوله { غير معجل } و { غير مفاضة } و { غير المحلل } و { غير شثن } و { مرسل } .
*= وقوله : { وما ذرفت } و { ما لك حيلة } و { ما إن أرى } و { وما الإصباح } . وقوله : { ولا سيما يوم } و { لا يرام خباؤها } و { ولا أطماً } و { ولا بمعطل } . وقوله : { وجيد كجيد الريم ليس بفاحش } وقوله : { وليس فؤادي عن هواك بمنسل } وقوله : { بضاف فويق الأرض ليس بأعزل } وظف النفي بليس ههنا إما لإزالة اللبس في وصف { الجيد } أو للتأكيد على تمسكه بحبيبته أو لإبراز الجمال الجسدي لفرسه إذ يمتاز بسبوغ ذنبه دلالة على عتقه وكرمه .
*= جملة الأمر والنهي , وردت في المعلقة إحدى عشرة مرة { تسع مرات أمراً , ومرتين نهياً } ومن ذلك : ( قفا – فانزل – سيري وأرخي – تجمل – فأجملي – انجلي – فسُلّي ..) و ( لا تهلك أسى – لا تبعديني )
*= جملة النداء , وردت في المعلقة ست مرات , كقوله : ( أفاطم , يا امرأ القيس فأنزل – فيا عجباً , ألا أيها الليل – فيا لك من ليل – أصاح ترى )
*= جملة الاستفهام , كقوله : ( أغرك مني – فهل عند رسم دارس ) ( أصاح ترى ) بمعنى هل ترى ؟
*= الجملة الشرطية , تواترت الجملة الشرطية الرابطة بين الجزءين عشرين مرة , نذكر منها :
*= (( إذا )) وتستعمل للمستقبل , وتتضمن معنى الشرط غالباً , ويقول أهل المعاني إنها تستعمل مع المتوقع وقوعه , إذا فهي شرط للزمن المستقبل ولذلك يحسن أن يأتي بعدها ما هو متحقق الوقوع , وقد وردت في المعلقة عشر مرات منها , أغلبها في وحدتي الغزل والصيد بأربع مرات لكل منهما , وقد جاءت في صورتين :
*= الصورة الأولى ( إذا + الشرط + جواب الشرط ) , ومن ذلك قوله : { إذا قامتا تضوع المسك منهما } وقوله { إذا ما بكى من خلفها انصرفت له } وقوله : { إذا استدبرته سد فرجه } وقوله : { كأن على المتنين منه إذا انتحى مداك عروس أو صلاية حنظل } الجملة الشرطية في هذه الأبيات ركناها متفقان في الزمن ( ماضويان ) باستثناء البيت الأخير الذي نلحظ فيه تقديماً وتأخيراً , فكانت عبارة الجواب جملة اسمية مسبوقة بأداة التشبيه { كأن } التي تقدمت مع المشبه , وتأخر المشبه به ليكون جواباً للشرط , ومضمون الشرط جاء لتأكيد صفات قد ذكرها من قبل حتى تتراءى حقائق لا تقبل الشك .
*= الصورة الثانية ( عبارة الجواب + إذا + عبارة الشرط ) , ومن ذلك قوله :
إذا ما الثريا في السماء تعرضت *** تعرض أثناء الوشاح المفصل ,
وقوله : على الذبل جياش كأن اهتزامه *** إذا جاش فيه حميُه غليُ مرجل
وقوله : مسح إذا ما السابحات على الونى *** أثرن الغبار بالكديد المركل
وقوله : إلى مثلها يرنو الحليم صبابة *** إذا ما اسبكرت بين درع ومجول
وقوله : وجيد كجيد الريم ليس بفاحش *** إذا هي نصته ولا بمعطل
الجملة الشرطية مرتبة ترتيباً عكسياً لأن عبارة الجواب متقدمة على الأداة وعبارة الشرط , فجاء مضمون معنى الشرط دالاً على القطع والجزم إذا كانت العبارة المتقدمة أسماء . وعلى الاستمرار إذا كانت فعلاً , كما في قوله : { إلى مثلها يرنو الحليم صبابة }
*= الجملة الشرطية التي تعتمد على الأداة (( إن ))
*= (( إن )) قالوا إنها تستعمل مع المشكوك وقوعه أي أن فعله قد يتحقق وقد لا يتحقق وقد وردت على صورة واحدة : { إن + عبارة الشرط + عبارة الجواب } , كقوله :
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل *** وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي . وقوله :
وإن تك قد ساءتك مني خليقة *** فسُلّي ثيابي من ثيابك تنسُل
الجملة الشرطية حافظت على ترتيبها الأصلي وشقاها مختلفان في الزمن { ماضوي وأمر دال على المستقبل } مع توظيف الناسخ { كان } مرة في الزمن الماضي , وأخرى في الزمن المضارع , إلاّ أن الأداة { قد } كانت حاضرة لتأكيد فعل الشرط الذي يستفاد منه الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب , والأمر في باطن النص مشكوك فيه , فقد لا يحصل وهو ما يتمناه .
*= الجملة الشرطية التي تعتمد على الأداة { لمّا }
*= (( لمّا )) وهي وجود لوجود , أو ظرف بمعنى { حين } تفيد وقوع الأمرين { الشرط والجواب } , وقد وردت في المعلقة على صورتين :
*= الصورة الأولى : ( عبارة الجواب + الأداة + عبارة الشرط ) , كقوله :
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه *** وأردف أعجازاً وناء بكلكل .
*= الصورة الثانية : ( الأداة + عبارة الشرط + عبارة الجواب ) , كقوله :
فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى *** بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل .
*= الجملة الشرطية التي تعتمد على { متى } وقد وردت مرة واحدة , يقول :
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه *** متى ما ترق العين فيه تسهّل
وجاءت الجملة الشرطية مؤتلفة كلتاهما بصيغة المضارع دليلاً على الاستمرار الزمني لكمال حسن فرسه الأسطوري والذي تكاد العيون تقصر عن كنه صورته الرائعة .
*= الجملة الشرطية التي تعتمد على الأداة ( مهما ) , كقوله :
أغرّك مني أن حبك قاتلي *** وانك مهما تأمري القلب يفعل
*= ركنا الشرط متفقان في الزمن { مضارعان } وفي ذلك دلالة على الاستمرار في الزمن وإجابة للاستفهام , ودليلا على شدة ولهه بها , فمهما أمرته بشيء فعله باستثناء الابتعاد عنها , فهذا ما لا يطيقه .
*= الجملة الخبرية , وهي كل جملة سواء أكانت فعلية أم اسمية , وجاءت بعد المبتدأ وخبّرت عنه , أو بعد الأحرف المشبهة بالفعل واسمها , ومحلها الرفع , أو بعد الأفعال الناقصة واسمها ومحلها النصب , أو هي الجمل التي تعرب خبراً , وقد وردت في المعلقة ثلاثاً وعشرين مرة على شكل أنماط وصور :
*= الخبر جملة ماضوية ( تمتعت من لهو بها – ألا رب خصم فيك ألوى رددته – وقربة أقوام جعلت عصامها – قد أزمعت صرمي – قد ساءتك مني خليقة – صبحن سلافاً )
*= الخبر جملة مضارعيّة ( وتيماء لم يترك بها –فظل العذاري يرتمين بلحمها – فأضحى يسح الماء حول كتيفة }
*= الخبر شبه جملة ( وقوفاً بها صخبي علي مطيهم – ألا رب يوم لك منهن صالح – انصرفت له بشق وتحتي شقها – له أيطلا ظبي – فظل طهاة اللحم من بين منضج – فبات عليه سرجه ولجامه وبات بعيني – كأن على المتنين منه إذا انتحى –وتضحي فتيت المسك فوق فراشها ) .
*= جملة المفعول به أو مقول القول , ومحلها النصب , وقد وردت في المعلقة سبع مرات , يقول : ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة *** فقالت لك الويلات إنك مرجلي
*= وقد أفادت جملة مقول القول الاسمية { لك الويلات إنك مرجلي } التأكيد . تأكيد ما نا له منها بعد أن عقر بعيرها وصيرها راجلة .
*= وقوله : { فقالت يمين الله ما لك حيلة } . أفادت جملة مقول القول الاسمية { يمين الله ما لك حيلة } لتأكيد صدها له في بداية الأمر , إذ لا توجد له حجة في زيارتها وطروقها ليلاً .
*= وقوله : تقول وقد مال الغبيط بنا معاً *** عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
*= أفادت جملة مقول القول الماضوية الدلالة على الحركة والمزاولة . وقوله : { يقولون لا تهلك أسى وتجمل } أفادت جملة مقول القول النهي عن الجزع . وقوله : { فقلت لها سيري وأرخي زمامه *** ولا تبعديني .. } أفادت الجمل الثلاث الاستمرار في الزمن والمزاولة .
*= الجملة النعتية ومن ذلك قوله : { فمثلك حبلى قد طرقت } { كجلمود صخر حطه السيل من عل } { غذّاها نمير الماء } { وبيضة خدر لا يرام خباؤها } { وفرع يزين المتن } { كميت يزل اللبد } { وتعطو برخص غير شثن كأنه أساريع ظبي ..} { على الذبل جياش كأن اهتزامه إذا جاش ..} { فعن لنا سرب كأن نعاجه عذارى دوار } { بضاف فويق الأرض ليس بأعزل } وقوله : { فيا لك من ليل كأن نجومه }
*= الجملة الحالية , ومن ذلك قوله { تقول وقد مال الغبيط بنا معاً } , { وقد أغتدي والطير في وكناتها } , { درير كخذروف الوليد أمرّه تتابع كفيه } { خرجت بها أمشي تجر وراءنا } وقوله : { غدائره مستشزرات إلى العلا تضل العقاص } { فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها } { وتحتي شقها لم يحول } { لم تنتطق عن نفضل }
= التشبيه :
*= على الرغم من ارتباط الشاعر بالحدث والواقع ارتباطاً وثيقاً إلا أن الشاعر لم يهمل الاعتماد على التشبيه ولم يتخل عن التصوير بوصفه وسيلة مهمة من وسائل التعبير عن التجارب الشعورية .
*= لقد ولع الشاعر بأداتي التشبيه كأن والكاف واعتمده امرؤ القيس وسيلة من أبرز وسائله في الإبانة عن معانيه , فمن ذلك قوله : { كهداب الدمقس – كالسجنجل – كبكر مقاناة البياض –كجيد الريم – كالجديل – كأنبوب السقي – كموج البحر – كجلمود صخر – كما زلت الصفواء –كخذروف الوليد – كالجزع المفصل – كلمع اليدين } وتأمل ما بعد هذه الكاف من عناصر ثم ضعه بإزاء ما قبلها , وأسأل كيف جمع الشاعر بين هذه الصور المتباعدة ؟
*= راجع كأن في مثل قوله { كأنه حب فلفل – كأني غداة البين – كأنه أساريع ظبي – كأنها منارة ممسي – كأن نجومه – كأن الثريا علقت – كأن اهتزامه – كأن على الكتفين – كأن نعاجه – كأن دماء الهاديات – كأن طمية المجيمر – كأن أباناً في أفانين ودقه – كأن مكاكي الجواء – كأن السباع فيه غرقى } وتأمل كيف جمع طرفي الجملة بعدها .
*= الحقول الدلالية
تزخر المعلقة وتزهو بألفاظ متنوعة قد حملت هموم الشاعر وكشفت عنها وعن عصره , وأحالتنا على زخم عارم من المعاني , جعلت الشاعر يتقلب بين أحضان المفردات الشعرية فكانت وثيقة الصلة به وقادرة على تجسيد نفسية الشاعر وتفجير ما يتصل بها من حالات وجدانية , نتلمسها ونميزها في حقلين كبيرين يمثلان الموضوع العام للمعلقة , وهما : الإنسان والطبيعة .
*= الإنسان وكل ما يتعلق به من أسماء وصفات وأطوار وأعضاء ولباس وأدوات يحتاجها , وذلك من مثل { أم الحويرث – أم الرباب – عنيزة – فاطمة –امرؤ القيس – عذارى – حبلى – مرضع – بيضة خدر – مطفل – أحراس – طهاة اللحم – اليماني –راهب – الوليد – الغلام – كبير أناس – الشقين –العقاص – الكشح – الرخص – العينين – الفرع –الرأس – الجيد – الأسيل – القلب – الغدائر – الكاهل – كفيه – اليدين – الأذقان – هداب الدمقس –الوشاح – لبسة المتفضل – ذيل مرط – درع – مجول – ملاء مذيل – بجاد – العياب – الثوب – المسك –السجنجل – الغبيط – الخدر – عصارة حناء – مداك عروس – منارة – مصابيح – السليط – الذبال – فلكة مغزل – أمراس كتان – مرجل – قدير – صفيف شواء ...}
*= حقل الحيوان ويشمل الألفاظ التالية { الآرام –ظبي – نعاج – ثور – نعامة – سرحان – تتفل = الطير – مكاكي – البعير – المطية – أساريع – صفات الفرس : منجرد – هيكل – كميت – مسح – درير –ضليع – جياش }
*= حقل النبات وهو العنصر الذي كثيراً ما يرتبط بالخصب والنماء , من ذلك { حنظل – إسحل – دوح الكنهبل – جناك المعلل – النخلة – أنبوب السقي –جذع نخلة }
*= حقل الماء { نمير – جديل – دارة جلجل – واد –سيطرة ألفاظ المطر كالسيل – المتنزل – برقاً – سناه – وميض – الحبي – الماء – غرقى }
*= حقل المكان والزمان من مثل { حومل – توضح –المقراة – الحي – تيماء – مأسل – ظبي – ضارج –الصحراء – العذيب – قطن – يذبل – القنان – ثبير –طمية – المجيمر – الليل – اغتدي ..}
*= سابعاً : الروح القصصية
*= المعلقة تنطوي على روح قصصية تسري فيأوصالها , وإنك لتلمح هذه الروح والعناصرالأساسية للقصة الفنية فالبطل هو الذات الشاعرةإنه الشخصية الأساسية التي افتتحت القصةوظلت حية إلى آخرها , وكادت تقاسمه البطولةفاطمة التي تشكى إليها وتودد وأخذ يسرد علىمسامعها مغامرات لعلها تستثير غيرتها , أو تحركأشجانها .
*= وهناك شخصيات ثانوية أدت دورها المحدد , فصاحباه اللذان استوقفهما واستبكاهما ووقفمعهما على الطلل وبكى , ذكرهما الشاعر ليسردعلى لسانهما ذكرياته السالفة في الحب ولوعةالفراق , وليكشف عن مشاعره نحو النساء جميعاً .
*= والنساء اللاتي ذكرهن لفاطمة أدّين أدوارهنالتي كشفت عن كرمه ومخاطراته وعلو منزلته , وقدقامت كل شخصية بما يناسبها من أحداث فأتتنامية نمواً طبيعياً من الداخل : فصاحباه اللذاناستوقفهما هما اللذان وقفا وأشفقا عليه وقالا له : لاتهلك أسى وتجمل .
*= وهؤلاء العذارى اللاتي التقى بهن وعقر لهنمطيته , فتجاوز حدّ الاعتدال في الكرم , وتلك التيقبلت أن يقتحم عليها خدرها في هودجها تصبحمتعة للبطل , وبيضة الخدر التي تجاوز إليهاالمعاشر والأحراس .
*= وبالقصة / المعلقة حوار أكسبها حيوية , وجعلها تموج بالنشاط , حيث أثار الانفعال , ودلّعلى اندماج مؤلفها بها وتصوره لأحداثها وتخيلهللأشخاص الذين قاموا بها , وكأنهم يتحاورون أمامسمعه وبصره , فهو يقول لصاحبه :
قفا نبك . ويردان عليه : لا تهلك أسىً وتجمل – وعنيزة تقول له : لك الويلات , وتقول أيضاً : عقرتبعيري , ويرد عليها : سيري وأرخي زمامه . وبيضةالخدر تقول له : يمين الله ما لك حيلة . ويخاطبالليل فيقول : فقلت له , ألا أيها الليل الطويل .
*= وأما المكان فقد اهتم به الشاعر فحدده تحديداًدقيقاً بجهاته الأربع فهو بين : الدخول وحوملوتوضح والمقراة , ثم امتد إلى الصحراء يعقر فيهاناقته , ويعقد مجلس اللهو , فإذا غشي المنازل عادبسرعة إلى حبيبته التي تجر وراءها ذيل مرطمرحل يغطي آثار الأقدام فلا يهتدي إليهما أحد منالمعاشر والأحراس ... وتلمس المكان أيضاً في أبياتهالتي يصف فيها السيل والبرق والمطر ...
*= وامتد الزمان فشمل أياماً خمسة بعضها مرّسريعاً , وبعضها الآخر كان متأنياً بطيئاً كما شملليلتين كان في إحداهما الفتى المغامر , وكاد الآخرأن يصرعه لما تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناءبكلكل .
*= وفي القصة حبكة وتماسك فالوقوف على الطللفي أولها مقدمة تسلم إلى الحديث عن النساء ثمعن فاطمة , خيوط مشدودة إلى هذه المحبوبةباعتبارها الأمل الأسمى والهدف المنشود , إنه يذكرمواقفه مع غيرها توسلاً إليها وترقيقاً لقلبها .
*= القصة تموج بالحركة التي أكسبتها نبضاًوحيوية فهذا الالتماس من صاحبيه { قفا } يوحيبأنه وصاحبيه كانوا سائرين , والتحمل الذي رآهيوم البين حركة ثانية , ووقوف أصحابه عليهمطيهم يشير إلى حركة سابقة لهذا الوقوف , هذاإلى حركة الدموع والريح والنسيم والارتماء باللحموالشحم ودخول الأحراس وخلع الثوب للنوموخروجه بها وحركة الليل وحركة الموج وحركة السيل...
*= نحن أمام قصة طويلة أتحفنا بكثرة أحداثها , ومما لا شك فيه أن هذه الروح قد أضفت على المعلقةالرائعة طابع التشويق والتسلسل المنطقي ومدتهبعنصر الوحدة الموضوعية والفنية .
*= ذلكم امرؤ القيس أغلى جوهرة عربية تركتبريقها الساطع في ساحة الشعر العربي , حامللواء الشعر وأمير الشعراء , إنه الشاعر الذي افتُتح به ديوان التاريخ الأدبي , وما زال فيه كأنه قطعة من الزمن , لا يغيره الموت ولا يُغيّبه الكفن , فهل يستطيع أحد بما أوتي من قوة وبيان أن يتربع على عرش إمارة الشعر العربي بعده ....!!!!