لم يكن أمامي خيار آخر , فظروف البلد منعتني من شراء الأدوية لأبي , وسد احتياجات تكملة أختي لدراستها .
رميت (جزمتي) في (بغداد) وتسللت إلى (عمّان) , وحصلت فيها على عقد للعمل مراسلاً في (غزة) , لمحطة تلفزيونية قصفت بصاروخ موجه ، ومات كل من كان يعمل فيها .
قرأت عقد العمل وأغراني بالتوقيع عليه الأجر المذكور في بنوده , وبند آخر يشدد بحصول أسرتي على مبلغ كبير تعويضاً عن حياتي : مما تدفعه المحطات الإعلامية لشركات التأمين على حياة المراسلين في المناطق الملتهبة ....
وصلت (غزة) وهي تغلي على مدى خمسة أيام متواصلة من النيران , وتنقلت فيها : أرصد الأحداث المتتابعة لتبثها المحطة الفضائية في تقاريرها اليومية المسجلة والمباشرة عن القتلى والجرحى ، والجثث الممزقة والجماجم المتناثرة والبيوت المهدمة ، والأجساد العامرة بالأنين .
شاهدت ونقلت بكل أمانة للعالم الدمار والموت والخوف والهلع واليتم في وجوه الأطفال والنساء والشيوخ ، والبؤس المحيط بكل شيء حولي .
مضت على وجودي في (غزة) عشرة أيام . وضمير العالم نائم وغير مبالي بما أرسله , ويرسله غيري من تقارير وصور دامية يومية من قلب الحدث .
وأنا منهمك في العمل المتواصل بالليل والنهار لتغطية الأحداث المشتعلة , لم أنسَ خلالها أبي وأختي في بغداد .
كان الهدوء النسبي الذي عم (غزة) في مساء اليوم الحادي عشر من دخولي إليها , يحرضني لأكتب رسالة إلى أبي وأختي .
قمت أكتب الرسالة وكلما وصلت إلى السطر الخامس فيها أمزقها . استمريتُ أمزق الرسالة بعد الرسالة عاجزاً عن إكمالها حتى دخل زميلي المصور ونهرني بعدم الاطمئنان لما نحس به من هدوء .
استجبت لطلبه وأجلت أمر الرسالة , وتوجهت معه إلى مدرسة أوى إليها العديد من العجزة والنساء والرضع , لنحتمي معهم في داخلها . ما إن دخلناها حتى وسمعنا انفجارات قوية للحظات تنهال فوقنا ، وبعدها لم أعد أسمع شيئا .
من المجموعة القصصية الأولى زامر الحي.