مرآتي ، یا مرآتي ، من ھي أجمل فتاة في الدنیا ؟ إنھا أن ِت یا صغیرتي ! أرسم على وجھي ابتسامة شاحبة ، محاولةً أن أصدق ما قالتھ المرآة .. في الواقع لم تكن تلك المرآة إلا بروازاً ذھبیاً فارغاً ، اعتادت أمي أن تحملھ بكلتا یدیھا، وتقف خلفھ في لحظات إحباطي ، لتُسمعني تلك الكلمات الكاذبة ! وما إن تراني ابتسم ، ابتسامة أغتصبھا من وجھي القبیح ،حتى تظن أن خدعتھا قد انطلت عل ّي . لجأت أمي إلى ھذه الحیلة بعد أن عدت إلیھا من المدرسة یوماً وأنا أبكي . حكیت لھا ما حدث ،ودموعي تنحدر على خدي. ومن بین شھقاتي المقھورة ، شكوت لھا معلمتي التي أوقفتنا في صف واحد ، لتتأمل وجوھنا، مفتشةً عن فتاة بوجھ جمیل ،لتقوم بدور الأمیرة في مسرحیة ستُقدم في حفل المدرسة . كانت كل واحدة منا تتمنى أن یقع الاختیار علیھا . وكنت الوحیدة المتیقنة أن المعلمة لن تختارني ، فلیس لي وجھ جمیل كبقیة الطالبات !
وبالفعل اختارت المعلمة فتاة تقف بجانبي لتؤدي الدور. كان لھا - بحق - وجھ جمیل . وحین جاء الدور لاختیار الوحش الذي سیختطف الأمیرة الجمیلة ، لم تتردد المعلمة لحظة واحدة في إسناد الدور لي . آلمني الأمر، رغم أني كنت أتوقعھ . ولكن نظرات بقیة الطالبات المستھزئة كان لھا وقع السكاكین في قلبي ! شعرت أمي بالأسى من أجلي . كانت على درایة بقبحي ، ولكنھا كانت - كأي أم - تحب أبناءھا ،وترغب في إسعادھم، وتسعى لمواساتھم . وھكذا بدأت محاولاتھا في إقناعي بإني جمیلة ، ولما شَعرتبأنكلماتھاماكانتلتقنعني،اھتدتإلىحیلةالبرواز الفارغ . بقي ذلك البرواز یطبب جراح قبحي في كل مرة تحملھ أمي فیھا ، لم یغیر البرواز من قناعاتي ، لكنھ بقي یواسیني - على أیة حال - ،الآن وبعد أن توفیت أمي، ما عاد لذلك البرواز قیمة ،وما عدت أقف إلا أمام مرایا حقیقیة یطل عل ّي من داخلھا وجھ الوحش الذي اختارتھ معلمتي یوماً ! قبل أن أغادر البیت صباحاً، أقف لساعات أمام المرآة ، یظل الوحش القبیح في داخلھا یتأملني ھو الآخر ، یسخر مني ، یمد
لسانھ في وجھي . أتجاھلھ وابدأ في تزیین ملامحي. ھل قلت تزیین ؟ لا ، في الواقع إنھ تزییف ! أھیل الكثیر من البودرة ، فأسمعھ یقھقھ : بودرة ، بودرة ضعي أكثر ! أدیر أحمر الشفاة على فمي مرات ومرات ، ووحشي یستمر في ضحكھ . أنتھي ، وأنظر مجدداً للمرآة ، یتأملني وحشي بإعجاب : ھا قد أزدد ِت بشاعةً یا صغیرتي ! أغادر منزعجة . ألقي التحیة مسرعة على جارتنا العمیاء ،الجالسة كعادتھا كل یوم في شرفة منزلھا . ھي الإنسانة الوحیدة التي تستوقفني ، لأني أعرف أنھا لن تنفر یوماً من قبح وجھي .
أذرع الرصیف المزدحم شاردة الذھن ، تتلقفني إعلانات الشارع وھي تزدحم بصور الجمیلات . ھو عصر الجمال الصارخ - دون شك - ، لا مكان فیھ للقبیحین أمثالي ، ولا حتى لأصحاب الجمال العادي ، أشیح بنظري ، وأخفض رأسي إلى الأرض ، متفادیةً أن ینظر المارة إلى وجھي . أعلم أن أعینھم تترصدني .
أسدل شعري على جانبي وجھي ، متلافیةً رؤیة انعكاسي على زجاج المحال التجاریة ! یستوقفني مشھد أحدھم وھو یوجھ عدسة كامیرتھ نحو وجھ ابنتھ الجمیلة . یطلب منھا أن تبتسم ، فترتسم على وجھھا الجمیل إبتسامة عذبة . أشعر أنا الأخرى بابتسامة بسیطة تتسلل إلى وجھى البشع ، لكن ذكرى موجعة ما ، تخرج من داخلي فجأة ، فتمنعني من الابتسام ، فأحجم عن ذلك . ثمة ذكریات موجعة ،لا یحلو لھا أن تشاغبني إلا في لحظات سعادتي ، كذكرى صورة قمت بتمزیقھا بعد أن قامت أمي بتعلیقھا على حائط غرفتي . كان أبي قد التقط لي ھذه الصورة وأنا في العاشرة من عمري، رغماً عني . بقیت أبكي ،وأتوسلھ ألا یلتقط لي أیة صورة ،ولكنھ أجبرني على الوقوف لالتقاطھا . ظھر وجھي في الصورة قبیحاً أكثر مما ھو حالھ ، بسبب غضبي وبكائي . منذ تلك الحادثة لم أقف یوماً لالتقاط أیة صورة أخرى، إلا صورة شخصیة یتیمة، أستخدمھا للأغراض الرسمیة . أواصل السیر وروحي مملؤة بخواء یأكلھا من الداخل ،یبعثرھا ، كما لو كانت كرة زجاجیة سقطت من ید طفل،فتناثرت شظایاھا في كل إتجاه .
أتوقف أمام مقھى قدیم ،فأقرر الدخول ھرباً من الناس. وما إن أفتح بابھ ،حتى تتجھ عیون مرتادیھ نحوي . بخلاف ما توقعت ، كان المكان مزدحماً . أخفض رأسي من جدید ،وأسرع بالجلوس
على أقرب كرسي . أتكور على نفسي ،وأتأكد من أن شعري ینسدل بشكل كا ٍف على وجھي ،لیخفیھ قدر المستطاع عن العیون المتلصصة . أبدأ في إشغال نفسي بتصرفات بائسة قد تعینني على الھروب من النظرات المصوبة نحوي . أرغم نفسي على شرب قدح من القھوة ،على الرغم من طعمھا المر الذي لا أطیقھ . أواصل ھروبي بقطعة شوكولا، ألتھمھا بسرعة، ثم أبدأ بتأنیب نفسي على بضع كیلوات قد تضیفھا لجسدي ، فیزداد قبحاً ! أفتح كتاباً أحملھ ، أتنقل بین سطوره ،فتبدو لي كحروف ھیروغلیفیة أعجز عن تفسیرھا !
كم ھي غریبة تلك الأمور التي نحاول بھا أن نملأ فراغ أرواحنا
!
البارحة مثلاً ، أشتریت حذاء لم یعجبني لونھ ، قد لا ألبسھ یوماً ، لكن ھاجساً بداخلي ظل یلح عل ّي أن أشتریھ !
أفكار كثیرة تتزاحم في داخلي، فتثیر الفوضى . یوجعني سؤال یطرق بالي دائماً، دون أن أجد لھ جواباً . لماذا أنا ؟ وفیما یتوه عقلي مفتشاً عن إجابة ، أسمع صوتاً یقترب مني : ألس ِت...؟ وقبل أن أسمع أسمي ، أرفع رأسي فأجد معلمتي تنظر إل ّي ... -إنھاأن ِتبالفعل،لقدعرفت ِك! طبعاً ستعرفیني ، وھل تنسین وحش ِك البشع الذي اخترتھ یوماً لأداء مسرحیت ِك ؟ - أحدث نفسي - -كیفحال ِك؟لقدكبر ِت،وازددتجمالاً! إنھا تھزأ بي مجدداً ! أظل صامتھ ، أحاول رسم إبتسامة مصطنعة على وجھي. ھ ل ت ز و ج ِت ؟ أجیبھا بعصبیة : لا ، لم أتزوج ، ولن أتزوج حتى لا أنجب المزید من الوحوش !
ذات الحذاء الأحمر
على وقع طرقات كعب حذاء معلمتھا وھي تجوب الفصل ، یظل قلبھا یتراقص طرباً.. تنتشي كلما تراءى لھا في أحلام یقظتھا بلونھ الأحمر الناري الذي ینضح بالشھوة والأنوثة .. كان حلمھا الغالي أن تحصل علیھ .. تستمعإلىأحلامفتیاتیُقا ِرْبنھافيالعمر،إحداھنتحلمبفارس یخطفھا على حصانھ الأبیض ، والأخرى تحلم بسف ٍر طویل لبلاد لم یُسمع عنھا من قبل .. وما أن یحین دورھا وبمجرد إن تفصح عن حلمھا، تنطلق الضحكات والكلمات من أفواه الفتیات متھكمةً علیھا ! لم تكن تكترث لضحكاتھن الساخرة من حلمھا) الساذج (-كما وصفتھ إحداھن - وما كانت كلماتھا المتلعثمة بقادر ٍة على تفسیرسبب تشبثھا بھ كحلم عزیز تتمنى یوماً تحقیقھ ! وبمرور الوقت آثرت أن تحتفظ بحلمھا حبیساً في داخلھا كي تجنب نفسھا السخریة والتھكم من قبل الجمیع ..
حذاء أحمر بكعب عالي ھو كل ما تمنتھ منذ طفولتھا !
وفي یوم دخلت أختھا الكبرى المنزل تحمل في یدھا علبة ، وبفضول طفولي تبعت أختھا لترى ما الذي أحضرتھ ..
لوھلة شعرت أن قلبھا سیتوقف من فیض سعادة غمرتھا وھي ترى أختھا تفتح تلك العلبة مخرجة حلم حیاتھا من بین تلك القراطیس البیضاء التي احاطت بھ .
لم تستطع إخفاء لھفتھا لارتداءه وتوسلت لإختھا أن تمنحھا دقائق معدودة ترتدیھ فیھا ، لكن أختھا رفضت ذلك وحذرتھا من مجرد التفكیر في تجربتھ مخبرةً أیاھا بأنھا سترتدیھ في حفل زواج صدیقتھا بعد یومین ، واسترسلت قائلة : علیك بحذاءك الأسود ،ذو الكعب المنخفض فمثل ھذا الحذاء لا یلیق بفتا ٍة صغیرة مثلك !
نامت تلك اللیلة حزینة وھي تفكر كیف أن حلمھا على بعد خطوات قلیلة منھا ولا تستطیع تحقیقھ .
في الیوم التالي عقدت العزم على أن تحقق حلم حیاتھا انتظرت مغادرة أختھا المنزل لتلحق بمحاضرتھا المسائیة التي تأخرت عن موعدھا.
وبتصمیم اتجھت مسرعةً نحوغرفة أختھا لتجد العلبة كما تركتھا بالأمس موضوعة أسفل السریر ، وبلھفة فتحت العلبة مخرجةً الحذاء .
شعرت برعشة خفیفة تطرق قلبھا وھي تضع فردتي الحذاء في قدمیھا .. وبدأت تختال بھ داخل الغرفة كسندریلا .. استمدت من صوت طرقاتھ الشجاعة ،فخرجت تتبختر بین ممرات الغرف ، وفي لحظة طیش مجنونة قررت النزول إلى الطابق السفلي .. وما أن وضعت قدمھا على أول عتبة من السلم حتى ترنحت وفقدت السیطرة متدحرجةً ، لتسقط أسفل السلم جامدةً .. وقد تكسر معھا حلمھا !!!