صمت وهدوء يتراقصان في أرجاء البيت الواسع ذي الحجرات الكبيرة، صمت يرنّ ويدقّ بين جدران المنزل، صمت لم يعتد عليه هذا البيت، لم تألفه صوره وثرياته، ولم يسبق أن ارتاحت أرضيه المنزل من حركة الأرجل وآثار النّعال.
تتلفّت عيناها في أرجاء مخدعها بحثًا عن الحركة، عن صوت، عن همسة، فلا تشعر بها. يشرئب عنقها بحثًا عن الصّوت خارج حدودها... لا جدوى. غريب ، حقًّا إنّه شيء غريب، مالذي حدث، لماذا يرنّ هذا الصّمت؟ لماذا؟؟... فالجميع هنا، لا أحد بعيدًا عن البيت سواه، سواه هو.
-" أين الغداء؟؟ كرّرت دومًا أنّني أحبّ أن أجد طعامي جاهزًا عندما أعود من العمل، لماذا تتكاسلين؟ على من تعتمدين؟ على أمّي المسكينة!! يكفيها تعب السّنين.
- لا تنظري إليّ هذه النّظرة البلهاء! أعرف ما تريدين، وأنا كرّرت دومًا إنّني لا أحبّ أن تجهز الخادمة طعامي، أريد زوجتي أن تعدّه، وأعلم أنّك عدت من عملك متعبة، وأنك تحتاجين إلى الوقت لتعديه، لكنّني لا أحبّ الانتظار".
هكذا كان يعلو صوته دومًا، ويدّوي في أرجاء المنزل، ناسيًّا أنّه ليس وحيدًا فيه. لا بدّ أن تكون طلباته جاهزةـ وإلّا ازداد حدّة وغضبًا، ويبدأ في الصّراخ. حتى ضحكاته مجلجلة، يضحك على أي نكتة. على أي موقف طريف، وكأنّ في ذلك إثباتًا على أنّه موجود، يتنفّس في هذا المنزل، هو موجود طالما أنّه يثير صخبًا وضجيجًا، "هو يضجّ إذا هو موجود" قياسًا على مبدأ ديكارت المشهور.
لكن ما بال الصّمت يخيّم على المكان، ويحوّله إلى مقبرة تنعق فيها البوم والغربان. مازال الجميع هنا، لم يغب أحد سواه، ها هي أمّه تجلس على كرسيها الهزّاز في زاوية الغرفة تتابع التلفاز تغفو حينا، وتصحو حينًا آخر، وها هم أخوته كبارًا وصغارًا يمرحون في البيت، كلّ في شؤونه، لكن لا صوت... صمت تام، هل نسي الصّغار لذة اللّعب، لذّة الصّراخ والشقاوة، هل يكون المرح صامتًا؟!! وهل يكون اللعب هادئًا؟!!
-" ليصمتوا... أريد أن أغفو قليلًا، يكفيني ما نلت من التّعب، لا تنظري إليّ هكذا، كم أكره هذه النّظرات، لا أحبّ لغة النّظرات، كلّميني ولا تحادثيني بعينيك، أعرف ماتعنين، هم أخوتي، وهم صغار، ولن يكون اللّعب إلّا بإثارة الضّجة، ولكنّي لا أحبّ الضّجيج، أحمد الله أنّني لم أرزق بطفل إلى الآن يكفي ما يفعله هؤلاء الحمقى الصغار".
لكنّهم يلعبون الآن كما كانوا يلعبون دائمًا، ولم يتغيّر عليهم شيء، ولم يشعروا بما حدث، لأنّهم لم يفهموا ما حدث، فما زالوا يلعبون ألعابهم التي أعشقها، وكم تمنيت أن أعود طفلة لألعب معهم، ولولا غضبه للعبتُ معهم، فما أجمل أن يعيش الفرد مع مرح الطّفولة، أن يعود مرّة أخرى إلى طفولته، أن يضحك ضحكة حلوة... لكن حذار قد يكون في هذه الضحكة صوت يزعجه، يضايقه، فيعلو صراخه.
حتّى أمّه تتحرّك بصمت، تبكيه وتنعيه بصمت، هل حقًّا هذه دموع تنحدر من عينيها؟ لماذا لا أسمع نحيبها؟ هل جفّت دموعها؟ أم أنّها لا تبكي! لكن ما بال بكاؤها بصمت، هل نسيت كيف يكون البكاء والعويل؟!! لعلها خشيت أن يسمع صوت بكائها، فيغضب، وهي تعرف أنّه يكره الصوت المرتفع.
أجل صمت يقبع في أرجاء المنزل، لكنّه صمت لذيذ، له طعم جميل، إنّه الرّاحة، إنّه الأمان، فلا خوف من صوت يعلو، من صراخ، من أوامر، من طلبات مزعجة.
ما أرق هذا الصمت! ما أنعمه! يا إلهي هل حقًّا أرتاح لهذا الصّمت، لماذا أشعر بوخزة في صدري، وكأنّني اقترف إثمًا لأنّني أحبّ هذا الصّمت، ياترى هل سيحبّه هو؟!!
-" عدت مرّة أخرى إلى الحديث بعينيك، عدت تحادثينني من دون لغة، طلبت منك مرارًا ترك العمل والتّفرّغ لي، فما حاجتك إلى العمل، أنت تعرفين أنّني بمقدوري أن أعطيك ضعف راتبك، فلا تعانين من إرهاق العمل، وتوفرين لي الرّاحة التي أريد، لكنّك عنيدة، وهذا ما سيفسد عليك حياتك."
أجل إنّه يكره صمت الحوار، ولا يحبّ التّحاور بلغة تنعدم فيها الحروف والأصوات، فهو لا يعرف إلّا لغة الأوامر والشّروط، لماذا عليّ أن أشعر بالإثم، ألم يضع هو شرطًا يحدّد علاقتنا، ألم يحدّد الوقت، لتقرير مصير هذه الحياة؟ أيعقل أنّه اختار الحلّ؟!! أيعقل أنّه اختار اختفاءه ليترك لي أن أعيش حياتي كما أحبّ؟!!
-" لن أعيد كلامي مرّة أخرى، قلت لك اختاري بين العمل أو أن تعيشي في هذا المنزل، ولا رجعة في قراري، اختاري، إنّني أضع أمامك حرية الاختيارـ فكّري واتّخذي قرارك، أمامك أسبوع واحد فقط، المفروض أن أقول لك أمامك يوم واحد، لكنّني أتسامح معك".
أجل. إنّك متسامح معي، فقد طالت المدّة إلى أسبوعين، ولعلّها ستطول أكثر، يا ترى هل أنت الذي اخترت بعدك؟! أم هي الصدفة؟! أين أنت الآن؟ لماذا تصرّ على أن أعيش في حيرة دائمة؟
أرى في نظرات من حولي شفقة عليّ، على هذه الشّابة التي لم تهنأ في حياتها الزوجيّة، وكلّ منهم يحاول أن يأتيني بخبر عنك، منهم من يختلق الأخبار من خياله كي يزرع الطّمأنينة في نفسي. ومنهم من يحشر نفسه، ويحاول مساعدة الجهات المختصّة في محاولة العثور عليك.
لكن ...أنا ماذا أريد؟ لا بدّ أن أصل إلى قرار قبل عودتك، ألم تطلب هذا؟ أم أخالك نسيت شرطك، أم أنّك لن تعود... لا لا بدّ أن تعود فأمك لن يهنأ لها عيش بغيابك، وأخوتك بحاجة إليك لتعوضهم حاجتهم إلى الأب، وأنا لا أدري لعلّني اعتدت صراخك، هل أفتقد وجودك؟! هل أحنّ إلى حبّك؟!
-" أعلم أنّك كأية فتاة ترغبين في شخص يعيش معك في جنة الحبّ، ولكنّني أقولها لك بصراحة، أنا اخترتك لأنّني وجدت فيك خير رفيق يعينني في حياتي، وبوجودك معي سنخلق أجمل جنة، لن يكون فيها الحبّ فقط، إنّما الودّ والتّفاهم والإخلاص".
ويالها من جنّة زرعتني فيها، لا تعرف هذه الجنه إلّا لغة الأوام
والطلبات، لا تعرف هذه الجنة إلّا تحقيق رغبات صاحب الأمر، صاحب الكلمة الأولى فيها.
-"أمّا العمل أو أن تعيشي في هذا المنزل".
ربما قرّر القدر معاندتك، وسأحقّق الأمرين معًا، أعمل وأعيش في هذا المنزل، فحتّى في طلبك لم تقل أعيش معكَ، اختارك أنتَ...إنّما عليّ أن أختار بين العمل أو أعيش مع جدران هذا المنزل، مع صوره الصّامتة، مع ثرياته الفاخرة.
إذا لن يعود... لن يعود...
ما هذا الصّراخ؟ أين الصّمت؟ ما بال الحركة عادت إلى البيت، " أين الغداء؟ أريد طعامي. ولكن الطّعام جاهز على غير العادة، أما زلت تذهبين إلى العمل، ما بالك صامتة، ها قد عدت، كان هناك خطأ والتباس بين اسمي واسم شخص آخر مطلوب للجهات الأمنية، فتمّ القبض عليّ، والتحقيق معي بشكل سريّ إلى أن تأكدوا من الخطأ، وها أنا عدت الآن وانتهى الأمر، أرجوكم إنّني متعب ومرهق، أريد طعامي ثمّ أغفو قليلًا، ولا أريد أي صوت أثناء نومي".
حقًّا لقد عاد... عاد أخيرًا، وذهب الصّمت الّلذيذ، عاد مرة أخرى ولا بدّ من إجابة، لا بدّ من اتّخاذ قرار.
انتظر! لا بدّ أن أحادثك، ولا أدري هل نطقت بها أم أنّني كعادتي تحدثت من دون لغة، كلّ الذي أعرفه أنّه نظر إليّ وانتظر... وانتظر أن أقول شيئًا، ولا أدري بما تفوهّت به، لكنّ عيناي قالتا اليقين:
" كم عشقت صمت غيابك، عشقت جنتك، أحببتك في غيابك، وما أجمل ألّا تعود! فهل عرفت قراري؟