فاقرةُ «ابن الخوري»!!
استحكمتْ عليه غاشيةُ الفاقةْ ؛وانتزعتْ منه مُقومات الطاقةْ؛ وضاقتْ الأرض عليه بما رحُبتْ؛وحيل بينه وبين مطالبه؛ فكأنّما دنيا المروءات بأسرها اضطربتْ موازينها في نظره ..
يستعرض ماحوله فلايلمح إلا الذين اصفرَّتْ جلودُهمْ ؛وطالما طاب وُرُودُهم ؛وإنَّهم لمتاعٌ حسنٌ نفيسْ ؛لوعرضهم في مظانِّ البيع نهار أربعاء أوخميسْ !
ستتلقفهم الأيدي لامحالة؛و هي لاشك ثروةٌ لذوي النباهة والأصالة.
حسناً ؛سيضطرٌ للدفع بهم أمام شُواظ ضائقتهْ؛وهم أهلٌ لإخراجه من جحيمِ فاقرتهْ؛وقد أطبقت عليه إطباقاً؛كلما أدركته الشمسُ مائلة عليه غروباً أو طالعة عليه إشراقاً!
كان يمكنه الاستنجاد بأهل قرابتهْ؛ولن يعود صفر اليدينْ ؛ لكنه آثر كتمان شكايتهْ ؛من أنْ يذوقَ الأمرَّينْ.
هو لم يشأ أن يريقَ ماء وجهه استدراراً ؛ولا أنْ يبتذل صفحتها فيما بعد اعتذاراً؛ومامن حلول سوى التضحيةْ.
* القرارالأليم.
وقعتْ عيناه إذنْ على أعزَّ مايملك ؛أقربِ كائنات الوجود إلى قلبه؛ ندماؤه الذين لم يخب فيهم الأمل أبداً ؛في ماضي الزمان وحاضره؛ حصيلة ما أحرزه في البكور والآصال؛وهو يرتاد ميادين الأدب واللغة ..
يرى بعضَها مستكينةً في زوايا حجرته ؛ وأخرى مبعثرة حوله من كلِّ جانب؛وكأنها صفُّ من جنودٍ مأمورين بحراسته من الأخطار ؛وعلى أُهبة الاستعداد لإيقاظه؛ إذا أوشك على السقوط أوالعثار ..
ندماؤه هؤلاء لايتكلمون؛ ولابالغيب يرجمون ؛ولافيما بينهم يختصمون ؛ولا على ما يمنحونه إياه من هِباتٍ يمنون !
وكان عليه -إنقاذاً لنفسه؛ ولأهل بيته -أن يتخذ القرار!
كتبُ القدماء النادرة من أمراء الكلام ؛وأصحاب الفكر هي الكنز الوحيد الذي أحرزه في حياته ؛وسيقدم على إسقاطها من حسبانه مُضطرَّاً ؛ سيقصيها من أجواء مؤانسته ؛وسيعاملها مُكرهاً معاملة رخيصةً لا تليق بها ؛فهي بذلك ستهبط إلى درك السلع النفعية ..
وتمَّ له ذلك على مضضٍ ؛ذاق ماذاق من سعير الرمَضْ ..
عاد بعد تلك البيعة الخاسرة إلى أدراجه كاسف البال؛يندب حظه العاثر؛ويقرع أصابع الندم ؛على سوء تفريطه؛ وأحسَّ وكأنه امتطى صهوة الخذلان بهذا الجحود القبيح الذي تدهدى إليه!! .
أماكن مؤنسيه الذين اعتاد صحبتهم هي الآن خاويةٌ على عروشها ؛بل إنَّ أطيافهم يصطفون أمامه وهم يرمقونه بنظرات حادَّة تفصح عن عتابٍ قاسٍ مرير ؛ومامن إحساس يجوب أقطارنفسه غير "تأنيب الضمير"!
هنالك أدركه الشعر على جناح المواساة ؛وطفق يضمد جراحاته ؛ ويهوّن عليه خساراته؛ فما كان إلا أن جثا أمام مالك الملك؛خالق كلِّ شيء ؛محتمياً بركنه العظيم ؛ يبثه شكواه ؛ويتضرع إليه ؛بهذه الشجون:
يا ربِّ قد بعتُ كُتبي
فحسبيَ الذلُّ حسبي
بعتَ الصَّفِي برخيصٍ
ومثلهُ المُتنبي
وإبنَ هاني وياما
هُنِّئتُ فيهِ وصحبي
كذا القلائدُ لمَّا
غلتْ قلائدُ كسْبي!
عِقيانها يايَنَتني
فبان إفراطُ كرْبي
خريدةُ القصر أضحتْ
عن قصرِ يَدِّي تُنبي
والتَفتزانيُّ أفتى
تصريفُهُ فعلُ خطبي
تعدادُها زادَ وجدي
والعدُّ يوجبُ ثلبي
فالصمتُ عن ذكرِ كنزي
أولى لتخفيفِ مابي
لا درَّ درَّ زمانٍ
يحولُ بيني وكُتبي
وليتني لو تقضَّى
من قبل بيعيَ نحْبي!
وكلُّ هذا لأنِّي
عصيتُ بالإثمِ ربِّي
وفُقتُ أهلَ المعاصي
طُرَّاً بإفراطِ ذنبي
فما ترى عدتُ ألقى
من القَصاصِ المهبِ؟!
أو من يقينيَ منهُ
والإثمُ يوجبُ عتبي!
إلاَّكَ إذْ أنتَ ربِّي
وفي الخَلاص مُحبِّي
إليك وجهتُ وجهي
يا ذا السميعِ المُلبي
فانعمْ بتوبةِ عبدٍ
من الغوايةِ مسْبي
من عبدِ رقٍّ يرجِّي
من فضلها خير قربِ
فأنتَ غايةُ سؤلي
ومنيتي أنتَ حَسْبي!
النص للشاعر:
ابن الخوري توما
واسمه: نعمة الحلبي
نسبة لمدينة حلب السوريّة
حياته:(1695-1770).