-النصُّ:-
أنا شاعر!!
--------------
أنـا شـاعرٌ! مـن قـال لك ؟
مـــــن لــلـقـوافـي أهَّــلــكْ
أ لأن قــافــلـةَ (الــخـلـيـلِ) تــذلــلَّـتْ كـــــي تـحـمـلَـكْ
وسـمـعـتَ صــرخـةَ قــائـلٍ
مــن جـهـلهِ: مــا أكـملَكْ!!
فــأفــضْـتَ فـــــي عُــجْــبٍ وقُـفركَ قـد تـعاهدَ حَرمَلكْ
والـشـعـرُ مـسـتعلٍ وأنــتَ
هـــنــا تــســاومُ مِـنـجـلَـكْ
وكـتـبـتَ فـــوق الـمـاءِ ثُــم مــحـاكَ مـــا قـــد أشـغَـلكْ
إذ كــلـمـا عــانـقـتَ بــحــرًا نـــــــالَ مــــنـــك وبـــلّــلــكْ
وجـــــرؤتَ يـــــا مـسـكـيـنُ واسـتـعـملتَهُ فـاسـتعمَلكْ
وأبَــــــانَ عـــثـــرةَ نـــاظـــمٍ
فــي لُـجَّـةِ الـمـعنى هَـلَكْ
قــلْ لــي أعـانقْتَ الـفضاءَ هـــنـــيـــهــةً فــتــخــلــلــكْ؟!
وطــويـتَ أجـــرامَ الـمـجـرةِ
أو أدرْتَ رَحــــــى الــفَــلـكْ!
وقـــــرأتَ وجـــــهَ الــعــالـمِ الـغـيـبيِّ فــي رؤيــا مَـلَـك
أم هـــل نــشـرْتَ الـصـبـحَ
مـرتاحًا عـلى صـدرِ الحَلَكْ؟!
وطـويـتَ أشـرعـةَ الـنـجومِ
إذا ضُـــحــاكَ اسـتـعـجَـلـكْ
قــل لـي أهـلَّ الـقطرُ مـن
بــيـن الــحـروفِ وغَـسَّـلـكْ؟!
وغَـشَـتْ أصـابـعَكَ الـبُروقُ إبــــــانَ وحــــــيٍ جَــلّــلــكْ
فـخـشـيـتَهَا وفـــررتَ مـــن رُبَّـــانـــهــا فــاســتـمـهـلَـكْ
وأدارَ بــوصــلــةَ الــفــصـولِ عــلــيـكَ كــــي يـتـسـلـلكْ
والـمِـرْوَدُ الـمـغموسُ فــي
نـــهــرِ الــنــضـارةِ كَــحّــلـكْ
لــتـرى الـربـيـعَ وقــد أتــى لـيـجـيبَ عــنـك ويـسـألَـكْ!
قـل لي أأشعلْتَ الشموعَ
لأن لــــيــــلَـــكَ زمَّـــــلـــــكْ؟!
والـشـمسُ ذاهـلـةٌ عـلـى الـشّـبـاكِ تـحـرسُ مَـعـزِلَكْ
وتَـــــرصُّ أقـــمــارًا عـــلــى وجــــه الــمــدى لـتـظـلِّلَكْ
أرأيـــــتَ مــحـزونًـا فــعــاثَ الــحــزنُ فــيــك وسَـربَـلَـكْ؟!
وشــفــفـتَ عــــن آلامِــــهِ
حــتــى اعــتـراكَ وضـلَّـلَـكْ!
فـنـسـيتَ أيّـكـمـا الـحـزين وقــــــد حــــــواكَ ومــثَّــلَـكْ؟!
هـــل زاركَ الـمـوتـى ومـــا أعــــــــددْتَ إلا مِـــعـــوَلَــكْ؟!
فـنـبـشْتَ عـــن أرواحــهِـمْ
وأدرْتَ فـــيـــهــا مِـــغــزَلَــكْ!
وجـمـعـتَـهـا فـــــي بــــرزخٍ فــأتــى الـيـقـيـنُ فـجـفَّـلَكْ!
ورجــعــتَ نــصــفَ مـبـشِّـر والـحـبرُ يـهـذي هـيـتَ لـكْ!
أم هــل رأيــتَ الـبحرَ يـومًا وهــــــو يـــدهــمُ مــنــزِلَـكْ؟!
فـعطفْتَ مـجدافَ الـحروفِ لـــمـــوجِــهِ فــاســتــنـزَلَـكْ
ثـــــم انــســرَبْـتَ لــقـاعِـهِ مــتــطـفـلًا فـاسـتـرسَـلَـكْ
حــتـى إذا انـكـشفَتْ لــك
الأســـرارُ مـنـه اسـتـغفَلَكْ
فــطـفـوْتَ ظــمـآنًـا فــصــارَ مـعـيـنُ طــرسِـكَ مَـنـهَـلَكْ!
هــل نـمـتَ يـقـظانًا فـهـبَّ الــحـلْـمُ كــــي يـتـوسَّـلَـكْ؟!
حـتـى إذا صَـحَتِ الـحروفُ وهـــمــهَــمَــتْ لــتُــرَّتِــلــكْ!
أولّـتـهـا فـــي بـيـتِ شـعـرٍ عــــــاثَ فـــيـــكَ وزلـــزَلَــكْ
أشـمَـمْـتَ رائـحـةَ الـهـوى
بـــيــن الــقـلـوبِ فـأثْـمَـلَـكْ؟!
ســامـرْتَ عـشـاقًـا وقـلـتَ لـلـيـلِـهمْ : مــــا أطــولَــكْ!
فـخـلقْتَ طـيـفًا مـن خـيالٍ هــــــامَ فـــيــكَ وأذهـــلَــكْ
جـسّـدتَـهُ بــشـرًا وصُـغـتَ
لــــــه تــفـاصـيـلَ الــمَــلَـكْ
وجــعــلـتَ مـــنــه مُــتـيَّـمًـا رُمـــــتَ الــوصــالَ فــنـوَّلـكْ
إن لــم يـكـنْ فـاعـلمْ بــأنَّ الــشــعـرَ مَـــــرَّ وأهــمَـلَـكْ
فــلـه انـتـمـاءٌ فــي الــورى
إن صـــــادَ عــرقَــكَ أثَّــلَــكْ
فــحــمــلــتَــهُ كـــــأرومـــــةٍ وانـــدسَّ فــيـك لـيـنـسِلَكْ
وإذا تـــنـــاكَــرَكَ انــــــــزوى ومـضـيـتَ تـحـمـلُ مِـعـوَلَكْ
وتــــــدقُّ أوتـــــادًا عـــلــى
صُــمِّ الـحـصى لـتـعودَ لــكْ
فـــإذا رأيــتَ عـنـاءَ حـرفِـكَ وهـــــو يــحــمـلُ كــلـكَـلَـكْ
ووقفْتَ والشعرَ المسجَّى
فـــيــكَ تــنــعـى هَــيـكَـلَـكْ
وغـــــدوت طـــبــلًا فــارغًــا ســتــثـورُ فــيـمـن طــبَّـلَـكْ!
فــاتـركْـهُ وامـــضِ لـصـنـعةٍ أســبـابُـهـا لــــن تــخـذلَـكْ
واســمـعْ نـصـيـحةَ عـــارفٍ
لا تَــفْـنَ فـيـما لـيـس لَــكْ!
**********
تقديم:-
«ومتى رأيتَ الشاعر يحمل في أبياته حرارةً تتأجج في تضاعيف معانيه؛ وشعرت بشَبَّةٍ كهربائية تجري في مبانيه وقوافيه؛فاعلم أن تلك الأبيات؛ليست سوى قطعٍ مغناطيسية؛تنفذ في كل عاطفة؛ وتتسرب إلى كل قلب...الخ»
تلك السطور اللامعة للشاعر اللبناني الناهض :حليم دموس؛وهي تحمل رؤيته للشعر المؤثر؛ وتأثيره في الناس؛وهي رؤيةٌ متفق عليها لدى النقاد الموضوعيين على مرِّ العصور..
ومن أراد التماس هذه المغناطيسية النافذة؛سيجدها لدى فئةٍ قليلة من شعراء الوطن العربي ؛تأتي في مصافِّهم وبلاريب الشاعرة القديرة هند النزاري؛ذلك لأنها اختطّّت لنفسها نهجاً شعريا مُستقلاً؛واستطاعتْ أن تلمس بأوتارها الشعرية المرنانةقضايا جوهريةشديدة الصلة بالهموم الإنسانية المُلحَّة ؛وهي لاتلمس تلك القضايا ممثلة في تجاربها الشعورية بقفَّاز حريري ناعم؛ بل إنها تنصهر معها انصهاراً بيَّنا لاافتعال فيه ؛فتخرجها لنا في لوحات فنية موحية رصينة؛صافية صفاء الماء الرقراق ؛على حدِّ تعبير الشاعر القصيبي- طيَّب الله ثراه- في قوله:
الشعر قفزُ لحظةٍ
من الحياة في نغمْ
لقد باتت محاولاتها الدؤوبة -في قصائد سابقة ؛وفي نصها الذي بين يديَّ الآن؛معلماً بارزاً دالَّاً على مسعاها الطامح لتنقية سماء الشعر من الشوائب المُلصقة بكائنها الأثير ؛وإخراجه من الدوائر القاتمة التي سِيق إليهازوراً وبهتانا ؛ومن المُغالطات التي زجَّ به فيها خلال الممارسات البيانية الفجَّة؛ ومثل هذا الولاء المنصرف باتجاه الشعر الخالص المؤثث بالجماليات؛ واللغة المكتنزة بالفنيَّات؛ شاهد عيان على عُلوِّ كعبها؛وحسن تقديرها؛و إجلالها للغة البيان العربي؛و الشعرالعربي الأصيل المنتمي إلى دوحتها الفينانة..
وإنَّ لها في أساطين البيان العربي من قدامى ومحدثين أسوةً حسنةً؛وسأعرض لبعض الرؤى التي تساوقتْ مع نصها الدرامي الذي بين يديَّ ؛في ختام القراءة بإذن الله ..
**********
-وقفة:
قد تتراءى القصيدة للقارئ منذ الوهلة الأولى -بالنظر إلى اتكائها على روح الخطاب "ضمير الكاف" في القافية التي اعتمدتها -أنَّها موجَّهةٌ للردِّ على دعيٍّ بعينِه من أدعياء الشعر في عالم اليوم ؛وهم من الكثرة والنفوذ بمكان لايخفى على ذي بصر؛وما إن يعيد المتلقي تكرار النظر الفاحص ثانيةً إلى النص؛حتى يتمثل له الشأن العام من وراء ذلك واضحاً وجليَّاً؛وبذلك لاتعارض بين نمطها الفني المتسم بخصوصية القضية المستوجب حضورها الذاتي ؛و بين النظرة الموضوعية الجمعيَّة ومتطلباتها القائمة على ضرورة وضع الأمور في نصابها الطبيعي؛والوقوف ضد الخزعبلات؛والمقاييس العشوائية الواهنة ..
على أنَّ مقياس :(إطلاق الخاص على العام)أوالعكس يعدُّ من المقاييس البلاغية المُعترف بها في معايشة الأعمال الفنيَّة..
ولنا أن نتساءل:
من منا لايحلم بجوٍّ أدبي صحي ويتطلع إليه ؟!
من منَّا لايودُّ أن يرى لغة الشعر وهي تتهادى في حُلل الأناقة والجمال ؛بمنأى عن الألاعيب والشطحات والأضاليل وما إلى ذلك؟!
ومَنْ مِن محبي الحياة الأدبية الوارفة الظلال وقد رأى مارأى من هبوط وتردٍ ومسخ وتشويه وإسفاف لم يصرخ من أعماقه ذات يوم قائلاً:أما لهذا الليل من آخر؟!
ألامن يعيد للنهر صفاءه؛وللعطر أريجه؛ وللأنغام سوناتاتها التي انتزعتْ منها انتزاعاً ؟!
ولهذا المتسلق الذي رسمت الشاعرة ملامحه الباطنة والخفية رسماً دلالياً كاريكاتيرياً- إنَّ صحَّ التعبير-؛أشباه وأمثال من المتسلقين الذين سوَّلتْ لهم أنفسهم المتصحرة؛اقتحام مدائن الشعر ؛وقصوره الشامخة؛ بدون دراية ووعي؛ ومُكنةٍ؛ولاأدنى علمٍ يشفع لهم ؛فكانت النتيجة أنْ سقطوا في قيعان الابتذال؛ومستنقعات الإسفاف المقيت ..
لزاماً إذن على رُواد التنوير؛ والغيارى على قداسة لغة الضاد؛ التصدي لمثل هذه الحماقات!
وإنَّها لشجاعةٌ أدبية تسلحتْ بها الشاعرة؛مهتديةً بمصباح الوعي الذي ضوَّأ لها طريقها ؛وبحصانة اليقين الذي ترسخ لديها؛طِبْقاً لمشوارها الشعري الطويل ؛وصحبتها الوفيَّة لسيادة بنت عدنان ..
ولما اقترنت هذه الشجاعة بالغَيرة على الذوق الرفيع؛آتت ثمارها؛وطاب جناها؛وامتدَّ تأثيرها إلى ذوي الألباب والفكر المستنير..
وتانك الصفتان المشار إليهما أهَّلا الشاعرة لمواجهة الأدعياء والجُهَّال ؛ولأنَّ في يديهاالبراهين الساطعة؛والحجج الدامغة؛وعلى هدى وبصيرة من الأمر في أن تخوض معركة كهذه؛
فلا غرابة إذن أن تذود العاديات عن قداسة اللغة وحماها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛وآية ذلك أنها
منذ مطلع النص لم تدَّخر الشاعرة جهداً في أن تقرع سمع ذلك الجاهل العنيد ؛وأن تحاصره متلبِّساً بضحالته كما لو أنَّها بصدد إفاقته من غيبوبته التي استسلم لها؛بقولها:من قال لك؟! أيها الجاني وتقذفه على الفور وبقولها:
مـــــن لــلـقـوافـي أهَّــلــكْ؟!
فهي بهذا التساؤل المحاصِر تنفي عنه تماماً حيازة لقب (شاعر) وما خُلع عليه إلاَّ زوراً وبهتاناً ومحاباة؛وتمضي في طريقها كاشفةً عن تطفله على بحور الشعر العربي ومبتكرها العظيم الفراهيدي ..
و بعدستها المتقدة ترمق جذور هذا الإفلاس الأدبي المهيمن عليه ؛ذلك أنَّه استقلَّ قافلة الخليل على حين غفلة؛ ؛استقلَّها -كيفما اتفق- ؛ومن ثمَّ بدأت الرواسب الداخلية القميئة تطفو على السطح المرئي المكشوف يوماً بعد يوم ؛إذ وقع -متوهماً-في دوَّامة فكرية هشَّة؛مبعثها أنَّ بحور الشعر العربي ؛ تحت إمرته؛يتصرف كيف يشاء ؛كمطيةٍ ذلولٍ تحمل جثمانه المتهالك إلى غاياته المُسطَّحة؛ومركباً سهلاً يعبر به لجج البحار المترعة بخيالاته السقيمة..
ومما عمَّق هذا الغرور الشائه؛صوتُ جاهل آخرٍ داعم له؛ومجارٍ لانتهازيته؛فهو يجري معه في مضمار واحد ؛يؤازره في رحلته القاحلة هذه ؛ويمطره بوابل من الثناء والهتاف الرخيص بقوله الزاعق :(مــا أكـملَكْ)
ولمَّا اهتدى -زاعماً- إلى فعل الكتابة؛ وأراد تمكينها من احتواءِ تجربته الصفيقة ؛طامعاً في نشرها على رؤوس الأشهاد؛وقتذاك (أُسقط في يده)؛و(كذَّبته شواهدُ الامتحان)؛على رأي شاعر قديم ؛فإذا هو مجرَّد (راقم فوق الماء)؛أوعلى حدِّ تعبير الشاعرة:-(وكـتـبـتَ فـــوق الـمـاءِ)
ويذكرني هذا التعبير بقول الشاعر البردوني من قصيدةٍ له:
جاء من يسبحون في غيرِ ماءٍ وعلى الماء يزرعون الكتابَهْ!
ينمحي الفرق بين عكسٍ وعكسٍ حين ينسى وجهُ الصواب الإصابَهْ!
ولأنَّ هذا الانتهازي أجوف من الداخل؛ فقير إلى معرفة أدنى مهارات العوم وإجادة مفاهيم السباحة الصحيحة؛فإنَّ كثيراً ما يتلقفه الغرق ويهوي به ؛لكنَّه ؛وعلى الرغم من وقوفه على معايبه"نقاط ضعفه"؛ إلا أنه يزداد إصراراً واستكباراً على استمرار محاولاته العقيمة المتتابعة؛غير عابئٍ بسوء مايصنع ؛ولسان حاله:
مالجُرحٍ بميِّتٍ إيلام !
وتحاول الشاعرة تقريب صورته إلى الأذهان بنعتها إياه:( مسكينٌ) ؛استولت عليه الذلَّةُ والمسكنة فاستعذبهما ؛فلذلك تنعكس عليه جرأته؛ضِعَةً وهواناً كما في قولها:(وجرؤت)..
وتجيء نهاية هذا الاستجداء الكتابي الذي امتهنه في مرآة العثرات المنضوية تحت (هشاشة النظم) السقيم الذي ارتضاه ؛وسار في رِكابه ؛وظلَّ يفاخر به في غمرة الغيبوبة المشار إليها آنفاً..
ولنرهف السمع لصوت الشاعرة في هذا المقطع المفصلي الكاشف ضحالة التجربة الإبداعية لديه ؛وعُقمها المُزمن :-
وكـتـبـتَ فـــوق الـمـاءِ ثُــم مــحـاكَ مـــا قـــد أشـغَـلكْ
إذ كــلـمـا عــانـقـتَ بــحــرًا نـــــــالَ مــــنـــك وبـــلّــلــكْ
وجـــــرؤتَ يـــــا مـسـكـيـنُ واسـتـعـملتَهُ فـاسـتعمَلكْ
وأبَــــــانَ عـــثـــرةَ نـــاظـــمٍ
فــي لُـجَّـةِ الـمـعنى هَـلَكْ
**********
نظرة إجمالية لبعض سمات القصيدة والظواهر الفنية:
-عنوان النص قائم على التعبير بالجملة الاسمية (أنا شاعر)؛وهو تركيب له مغزاه وإيحاؤه؛إذ يجسد لنا روح الأنانية المتضخمة والاستعلاء المتمركز في قاع ذات(المخاطَب)؛
-ولأنَّ الشاعرة وجدت نفسها أمام طبل أجوف لايفقه في الشعر شيئاً ؛ارتأتْ أن تكون انطلاقة غضبتها المُضرية ؛تبعاً لخاصيةِ الأسلوب الإنشائي الاستفهامي القائم على التعجب والإنكار؛الذي استأثر بالمساحة الأكبر من النص ؛مع التماع الأسلوب الخبري معه في العديد من الأبيات.
-تتميز ألفاظ الشاعرة المستخدمة ؛والمعاني التي اقتنصتها؛ بالمتانة والقوة والجزالة.
-النص مشحون بالانفعالات المتوترة؛ومخضلٌّ بالدلالات العميقة ؛مما يعدُّ أساسيات البناء اللغوي للتجربة التي أملت على الشاعرة احتشادها الملتهب هذا؛وتأهبها المستعد لمواجهة باسلةٍ كهذه.
-روافد الشاعرة :عديدة ومن أبرزها :-دقة الشعور الصادق بالقضية؛والبصيرة النفاذة تجاه محاربة القُبح؛وهي في معرض رصد التفنيدات الدقيقة التي ساقتها بانسيابية وبلماحية عالية أوفتْ على الغاية ..
-احتشدتْ القصيدةُ بكثافة عالية من الأفعال الماضية الموحية ؛مقترنةً بتاء خطاب المُذكر؛واتسمتْ بالتقريرية؛ مراعاةً لمقتضيات المواجهة الحامية القائمة في أساسها على عنصر المكاشفة؛واستقصاء مواطن الداء العُضال لهذا الكائن الفارغ ؛ويمكن النظر إليها بمثابة البراهين على مصداقية دعوى الشاعرة؛تجاه ما آلت إليه الأمور ؛على هذا النحو:-
سمعتَ/أفضتَ/كتبتَ/عانقتَ/جرؤت/
عانقتَ/طويتَ/أدرتَ/قرأتَ/نشرتَ/خشيتَ/أشعلتَ/شففتَ/نسيتَ/نبشتَ/جمعتَ/رجعتَ/رأيتَ/عطفتَ/انسربتَ/طفوتَ/نمتَ/أوَّلتَ/شممتَ/سامرتَ/خلقتَ/جسدتَ/جعلتَ/حملتَ/مضيتَ/وقفتَ/غدوتَ..
-كماترددت(إذا) الظرفية غير مرَّة في النص؛وغايتها تسليط الضوء على رداءة مسالكه والتواءاتها..
-النص غني جداً بالصور الفنية والاستعارات القائمة على عنصري(التشخيص والتجسيم) وبثِّ الحياة في الكائنات الجامدة ؛ومنها على سبيل المثال لا الحصر:-
(هـبَّ الــحـلْـمُ كــــي يـتـوسَّـلَـكْ)
(الـصـبـحَ مرتاحاً على صدر الحلك)
(الـبحرَ يـــدهــمُ مــنــزِلَـكْ)
(والـحـبرُ يـهـذي هـيـتَ لـكْ)!
-استثمرتْ الشاعرة عنصر( السخرية اللاذعة)بمقدرة عالية؛وبراعة مدهشة ؛وجاء الهجاء دامياً متغلغلاً إلى درجة الإطاحة ؛ولاأدل على ذلك من قولها:-
(وغـــــدوتَ (طـــبــلًا فــارغًــا ســتــثـورُ فــيـمـن طــبَّـلَـكْ)!
(إن لــم يـكـنْ فـاعـلمْ بــأنَّ الــشــعـرَ مَـــــرَّ وأهــمَـلَـكْ)
-وهناك عناصر فنية لاعداد لها ؛وظفتها الشاعرة توظيفاً محكماً ..
**********
الخاتمة:
إنَّ صرخة الشاعرة هنا ؛وثورتها المشتعلة على هذا الدعيِّ وأمثاله من الطفيليين؛ لمما يثلج الصدر؛وهي بهذه المواجهة تؤكد بما لايدع مجالاً للشكِّ أن بصائر النابهين والنابهات من أمراء الكلام في أرقى حالات اليقظة ؛فهي ترصد مظاهر الزيف والخداع والافتعالات والتجاوزات النابية؛وتعيد أصحابها -مهما اشتدَّ بأسهم- إلى سواء السبيل؛ وهي وأمثالها لهذا الغُثاء بالمرصاد مادامت الحياة الأدبية ..
وهي صرخة قديمة متجددة عالية النبرة؛ولطالما حشد الشعراء طاقاتهم الإبداعية للحدِّ من تفاقم الحملات المعادية لأصالة الفن من خلال خطط بعض الأبواق الهوجاء ؛وتهافتها على استباحة حمى اللغة الشاعرة ما أمكن ذلك؛والنماذج في هذا الشأن اكثر من أن تحصى..
من ذلك قول شاعر قديم:-
لا تَحْسَبَنْ أنَّ بالشعر مِثْلَنا
سَتَصِيرُ
فَلِلـدَّجَاجَةِ ريـشٌ
لَـكنَّها لا تطـير
ُ*******
ولإيليا أبوماضي مُصححاً بعض مفاهيم الأدعياء من قصيدة له ؛قوله في مقام الخطاب:
لَستَ مِنّي إِن حَسِبتَ
الشِعرَ أَلفاظاً وَوَزنا
********
وللشاعر نزار قباني في مثل ذلك:
الشعرُ ليس حماماتٍ نُطيّرها
نحو السماء، ولا ناياً ولا ريح صَبا
لكنّهُ غضبٌ طالت أظافرهُ
ما أجبن الشعر، إن لم يركب الغضبا!
********
وللشاعر القروي موقفٌ ناريٌّ صريح تجاه الأدعياء ومن سلك مسلكم ؛كما في قوله:-
سكت الطيورُ عن الغناء فقام في
ذهن الدجى أن النقيقَ غناء. !
والله لستُ أكف عن قرع العصا
حتى تكف رياءها الشعراء. !
شكوى ولاألمٌ وتشبيبٌ ولا
حب، وتأليهٌ ولا عظماء.
يتبجحون بكل مجدٍ غابرٍ
والظلم يشهد أنهم جبناء
********
وللشاعر الراحل محمد البزم؛قصيدة في هذا الشأن؛يقول في مطلعها:
رُويداً غَويَّ الشعرِ،فالأمرُ أظهرُ
وبعضَ الأسى،فالخطبُ أدنى وأيسرُ
فكم في بني الآدابِ من لو بلوتهم
وجدتَ قواريراً على المَسِّ تُكسرُ
ورُبَّ يدٍ تُجري اليراعَ بِمُهرقٍ
وساعدُها والكفُّ بالقطعِ أجدرُ
********
وللشاعرة الراحلة ملك حفني ناصف؛ إيماءات لمثل هؤلاء الفارغين ؛وفيها تقول:-
أعملتُ أقلامى وحيناً منطقى
فى النصح والمأمول لم يتحققِ!
أكبرتُ نفسى أن يقال تملقتْ
لا كان عيشٌ يُرتجى بتملق!
وإذا تسلَّق بالخديعةِ كاتبٌ
يبغى بها العلياءَ لم أتملق!
تَخذوا مناطيدَ الدَّهاءِ ذرائعاً
للمجد لكني بجدي أرتقي!
سيّانَ بعد رضى ضميرى من غدا
لي مادحاً أو قادحاً لم أفرَق!
إنَّ الحقيقةَ كيف يخفي ضوءَها
مدحُ المحب وتُرَّهات المحنق؟!
أيردنى عما رأيتُ معاندٌ
ومقالُ حاسدةٍ وكذبُ ملفق؟!
لعدمتُ آدابى وحسنَ تجلدى
إن صدَّنى قولُ البغيض الأحمق!
وهناك المزيد من الرؤى الشعرية اليانعة؛تسير في فلك الشاعرة جنباً إلى جنب؛وفيما أوردت الكفاية ..
-كلمةٌ أخيرة:
لاأزعم أبداً أنني في رحلتي التأملية مع نص الشاعرة القديرة الأستاذة هند أحطتُ علماًبجوانبها وأبعادها الفنية كافة؛بل إنَّ النص مازال دفَّاقاً بالعديد من العناصر الفنية الأخَّاذة ؛وذلك جهد المقل بطبيعة الحال؛راجياً أن أكون قد بلغتُ الوجهة المقصودة ؛والكمال لله؛
والله تعالى من وراء القصد .