تخرج بكامل جسدك، من بوابة علق على جانبها الأيمن، لوحة صفراء كبيرة، كتب عليها بالخط الأسود العريض "إصلاحية الحائر". تحاول عد الزمن الذي مر، منذ دخولك منها قبل عشرين عاماً، لا ربما اثنين وعشرين عاماً، ينفرط منك عقد الأيام، بقدر مقاومة عينيك للضوء الساطع، في رحابة الشارع أمامك، يشدك منظر المرأة التي تحتضن الرجل، الذي خرج بمعيتك، وهي تجهش بالبكاء، خرجت من عينك دمعة، وأنت تشيح بوجهك للاتجاه الآخر، في داخلك صوت يقول إنها أمه، تتذكر أمك التي توقفت عن زيارتك، منذ عشر سنوات وثلاثة أشهر وسبعة أيام، كانت الوحيدة التي تتجشم عناء زيارتك عقد من الزمان، أخبروك أنها ماتت، ولحقت بأبيك، الذي سبقها بعد إصابته بجلطة عندما قبض عليك
.
في زيارتها الأولى، بعد سجنك بثلاثة أشهر، أخبرتك أن أخاك توظف، وبدأ يصرف على المنزل بسخاء، حتى أنه غير أثاث المنزل، وأعاد دهانه في فترة وجيزة، وأنه يستعد للخطبة والزواج، كانت سعيدة وهي تحدثك، رغم ألمها لفراقك .
استغربت !
في زيارتها العاشرة، أخبرتك أن أخاك خطب ابنة خالتك التي تحبها أنت! تمزقت في روحك كل رسائل الحب والعهود، وأيام تلظت بحرارة الأشواق، احتبس البكاء في داخلك؛ فهو يعرف العلاقة بينكما! وهي كيف وافقت؟ انقطع أول خيط لك مع الحياة .
في آخر زيارة لها، أخبرتك أنهما رزقا مولودهما الثالث، وأنها طلبت تسميته على اسمك!
تدور عيناك في فراغ الطريق أمامك، حيث ينتهي كل شيء بالصمت، إلا من ضجيج داخلك، وأنت تنتصب في وسطه بحقيبة ملابس عتيقة، وورقة مستطيلة، تبللت بعرق يديك، وأنت تقرأها في كل مرة، لتتأكد من الرقم المكتوب، "مليون ريال"، لا يصرف إلا للمستفيد الأول الذي هو أنت، تعيدها إلى جيبك، تتوقف بجوارك سيارة أجرة، يشير لك صاحبها بالركوب، تفتح الباب الخلفي وتلقي بجسدك المنهك على المقعد، وبكلمات مبتورة تخبر السائق عن وجهتك وعيناك تودع اللوحة، وتتساءل ماذا أصلحت في داخلك المهشم؟ تظهر صورتك في المرآة الأمامية، تذهلك تجاعيد وجهك الذي استطال من شدة النحافة، تتأمل أصابعك التي فقدت بعض الأظافر كل شيء متيبس فيك حتى المشاعر .
تراقب الطريق عبر النافذة، تمر الأشياء سريعة أمام ناظريك، تعطيك ملخصًا موجزًا لما حدث، وأنت خلف الأسوار، تعيش في لحظة بين الحقيقة والخيال لائذًا بصمتك، لم تخبر أمك عن اليوم الذي أخذ فيها أخوك العاطل سيارتك كالعادة، ولم تخبرها عن بقع دم على ملابسه، وجزء من يديه، لمحتها وهو يعيد لك المفتاح، ولم يمهلك لسؤاله، لم تخبرها عن حالة الفزع التي أصابتك، ورجال الشرطة يحملون أدلة جريمة لم ترتكبها من شنطة السيارة الخلفية، لم تعترف لأنك لا تعرف شيئاً. ولم تخبرها حتى لا تثلم فرحتها بوظيفة أخيك، وقراره بالزواج، وكان هذا كافيًا لإسعادك .
قبل أسبوع أُشعرت أنه سيفرج عنك، لأنهم قبضوا على المجرم الحقيقي، بعد أن أفشى سره شريكه المصاب بالسرطان وهو يحتضر، اليوم أعطوك شيكًا تعويضيًا و أمرًا بالإفراج .
ها أنت تقف أمام باب منزلكم تغيرت ملامحه، والجوع ينهش أمعاءك وروحك، يصلك صخب أطفال يلعبون في الداخل، وأمهم تحدثهم بصوت تعرفه جيدا، استندت على الجدار، وجلست وأنت تخرج الشيك من جيبك، تطالعه للمرة الأخيرة، ترتخي يدك ويسقط، تحمله هبوب خفيفة في طريقها، وروحك تحلق خلفه بهدوء!
.