قصة قصيرة للكاتب هاينريك بول
ترجمة نادية عبدالوهاب خوندنة
كان معظم الناس في المنطقة التي ترجع أصولنا إليها يكسبون قوتهم من العمل في مخازن الكتان الخشبية، وعلى امتداد خمسة أجيال كان أولئك الكادحين يستنشقون الغبار المتصاعد من جذوع الكتان المسحوقة، و كأنهم سمحوا لأنفسهم بموت بطئ. وعلى الرغم من هذه المعاناة الطويلة المدى فقد كانوا أناساً مرحين، تراهم خلال النهار يحملون جذوع الكتان إلى المكائن القديمة وذلك بدون أدنى حماية من الغبار أو من حرارة أفران التجفيف الشديدة التي تلفحهم دون رحمة، بينما يقضون المساء في منازلهم سعداء وهم يغزلون ويحيكون الصوف ويغنون ويشربون الشاي بالنعناع ويتناولون البطاطس والجبن المصنوع من حليب الماعز و من حين لآخر كانوا يأكلون أرنباً.
كان كل مسكن يحتوي على سرير واحد فقط، ملاصق للجدار وهو مخصص للوالدين، بينما كان الأطفال ينامون على نضد موجودة على محيط الحجرة. في الصباح كانت الحجرة تمتلئ برائحة الحساء الخفيف، وفي كل يوم أحد تقدم اليخنة، وفي أيام الاحتفالات كانت وجوه الأطفال تشرق بالبهجة وهم يراقبون قهوة جوزة البلوط السوداء وهي تصبح فاتحة اللون أكثر فأكثر بسبب الحليب الذي كانت أمهم المبتسمة تضيفه إلى أكوابهم.
بينما أعتاد الوالدان على التبكير للذهاب إلى مخازن الكتان الخشبية، فقد كانت الأعمال المنزلية تسند إلى الأطفال فيكنسون الحجرة ويرتبونها ويغسلون الأطباق ويقشرون البطاطس، تلك الفاكهة الأثيرة ذات الصفرة الفاتحة والتي كان عليهم بعد ذلك أن يعرضوا قشورها على الوالدين حتى لا يتركوا أي مجال للشك بالإهمال أو التبذير. وحالما كان الأطفال يخرجون من مدرستهم يتجهون إلى الغابة، وتبعاً للموسم يشرعون في جمع نبات الفطر والأعشاب مثل الجويسئة العطرة والزعتر والكراوية والنعناع والقمعية الأرجوانية، وفي الصيف عندما كانوا يحضرون القش من حقولهم الهزيلة، يجمعون زهور القش التي تبلغ قيمة الكيلو منها قرشاً واحداً ويباع في صيدليات المدينة بعشرين قرشاً للسيدات اللاتي يسهل خداعهن.
أما الفطر فكان ذاد مردود عالٍ فيدفع للكيلو منه عشرون قرشاً، وتصل قيمته في حوانيت المدينة إلى مارك وعشرين قرشاً، ومن أجل جمعه كان الأطفال يزحفون إلى عمق الغابة التي اشتدت خضرتها حتى استحالت إلى ظلام، وفي فصل الخريف عندما تدفع الرطوبة الفطر إلى الخروج من باطن التربة كان لكل أسرة تقريباً أماكنها الخاصة المتوارثة جيلاً بعد جيل، التي تجمع منها هذا النبات.
لقد كانت تلك الغابات مثلها مثل مخازن الكتان الخشبية في قرية جدي تخص آل "باليك" الذين يملكون قصراً كبيراً و كان لزوجة كبير العائلة حجرة مجاورة لمعمل الألبان، يوزن فيها الفطر و الأعشاب و تدفع قيمتها لأصحابها حيث كان ينتصب على الطاولة ميزان آل "باليك" الشهير، و هو ميزان ذو طراز قديم و غريب يزينه طلاء برونزي، و قد أعتاد أجداد جدي من الأسلاف على الوقوف أمامه، متهدجي الأنفاس منذ أن كانوا أطفالاً صغاراً تحمل أيديهم المتسخة سلال الفطر الصغيرة، و أكياس زهور القش الورقية وهم يراقبون عدد الأثقال التي كانت السيدة "باليك" تضعها على الميزان قبل أن يستقر المؤشر المتأرجح على الخط الأسود تماماً، خط العدالة الرفيع الذي يعاد رسمه كل عام، و بعد ذلك كانت السيدة "باليك" تأخذ الكتاب الكبير ذا الغلاف البني فتكتب الوزن ثم تدفع النقود.. بضعة قروش أو عشرة قروش أو بعض قطع من ذات العشرة قروش ونادراً جداً ما كانت تدفع ماركاً كاملاً.
عندما كان جدي صغيراً، كان يوجد إناء زجاجي مملوء بحلوى الليمون من النوع الذي تبلغ قيمة الكيلو منه ماركاً واحداً، وعندما تكون حجرة الميزان تحت إمرة السيدة "باليك" وهي في مزاج جيد، فإنها تعطي كل طفل حبة حلوى؛ فتشرق وجوه الأطفال بالحبور، بنفس الطريقة التي تضئ بها وجوههم في أيام الأعياد عندما تضيف أمهاتهم الحليب لأكواب القهوة حتى تصبح فاتحة اللون أكثر فأكثر مثل أطراف شعر الفتيات الصغيرات التي تشبه الكتان بلونها الشاحب.
لقد كان من ضمن القوانين التي فرضها آل "باليك" على القرية عدم السماح لأي شخص بإمتلاك ميزان في منزله و هو قانون جد قديم بحيث لم يتساءل أحد و لو لبرهة متى أو كيف أستن هذا القانون الذي فرضت طاعته، فكل من تسول له نفسه بمخالفته كان يطرد من القرية و لا يستطع أن يبيع ما جمعه من الفطر أو الزعتر أو الزهور البرية ولأن نفوذ آل "باليك" كان كبيراً، فإن من يطرد من القرية لن يجد في القرى المجاورة من يعرض عليه عملاً أو يشتري منه أعشابه، و منذ زمن سحيق حين كان أسلافي أطفالاً صغاراً يجمعون الفطر ليشتريه أثرياء مدينة براغ لإضفاء نكهة على أطباقهم من اللحم أو ليخبز مع الفطائر، لم يجرؤ أحد قط على خرق هذا القانون، فالدقيق يمكن وزنه بالأكواب و البيض يمكن عده، و ما يغزل يمكن قياسه بالياردة و فوق هذا كله لم يكن يبدو على ميزان آل "باليك" العتيق أنه قد أصابه خلل يمكن أن يعيقه من أداء مهمته فإن خمسة أجيال متعاقبة قد استأمنت ذلك المؤشر الأسود.
في الواقع، كان هناك بعض الناس الذين يخالفون هذا القانون،ولكن بهدوء، فالصيادون كانوا قادرين على كسب مبلغ من المال في ليلة واحدة مساوٍ لما يمكن كسبه خلال شهر كامل من العمل في مخازن الكتان الخشبية، ولكن حتى هؤلاء الناس لم يفكروا بشراء أو صنع ميزان خاص بهم.
لقد غدا جدي أول إنسان على قدرٍ كافٍ من الجرأة ليختبر عدالة آل"باليك"، تلك العائلة التي تعيش في القصر الكبير وتمتلك عربتين و تحرص دائماً على كفالة غلام من القرية فتنفق عليه ليتمكن من دراسة علوم الدين في معهد التعليم العالي في براغ، و هي ذات العائلة التي اعتاد القسيس أن يلعب مع أفرادها لعبة "التاروك" كل يوم أربعاء، و يزورها رئيس المجلس البلدي يوم رأس السنة الجديدة في عربته و هي في كامل زينتها العسكرية الإمبراطورية، و هي أيضاً نفس الأسرة التي منحها الإمبراطور لقباً مع إطلالة اول يوم من عام 1900.
لقد كان جدي إنساناً ذكياً ومجتهداً يزحف في عمق الغابة أكثر مما كان يقوم به أنداده من أطفال عائلتنا، وقد وصل في إحدى المرات إلى المنطقة التي تكثر بها الأشجار الكثيفة الملتفة، التي تقول إحدى الأساطير أن العملاق "بيلقان" كان يعيش فيها حارساً لكنز مدفون هناك، لكن جدي لم يخف من ذلك العملاق، بل كان يشق طريقه إلى غور المنطقة حتى عندما كان مجرد صبي صغير فقد كان ينجح في جمع كميات كبيرة من الفطر، بل انه أحضر مرة نصف كيلو من الكمأ فدفعت له السيدة "باليك" ثلاثون قرشاً.
اعتاد جدي على كتابة كل ما يأخذه لآل "باليك"، و ذلك على صفحة منزوعة من التقويم: كل رطل من الفطر و كل غرام من الزعتر، و على الجانب الأيمن كان يكتب بخطه الطفولي المبلغ الذي يأخذه لقاء كل شيء، كان يسجل كل قرش منذ أن كان عمره سبع سنوات إلى سن الثانية عشرة وقد تزامنت ذكرى ميلاده الثانية عشرة مع بداية عام 1900، ولأن آل "باليك" قد انضموا إلى الطبقة الأرستقراطية بقرار إمبراطوري فقد قرروا منح كل أسرة في القرية ربع رطل من القهوة البرازيلية الأصلية إلى جانب مشروب مجاني و بعض التبغ للرجال و قد أقيم احتفال ضخم في القصر الكبير و اصطفت العربات في طريق أشجار خشب الحور الممتد من البوابات الأمامية إلى القصر.
وزعت القهوة في اليوم الذي سبق الإحتفال الكبير وذلك في الحجرة الصغيرة التي تحتوي على ميزان آل "باليك" الذين أصبح لقبهم رسمياً " "باليك فون بيلقان" لأنه وفقاً للأسطورة السابق ذكرها فإن العملاق "بيلقان" كان يملك قلعة عظيمة في نفس الموقع الذي توجد عليه أملاكهم الحالية.
كان من عادة جدي أن يحكي لي كيف أنه بعد خروجه من المدرسة ذهب ليحضر القهوة لأربع عائلات: "البروتشيرز" وهي أسرته و "تشيكس" و"فايدلرز" و "فولاس" حيث أنه كان عصر يوم عيد السنة الميلادية الجديدة والعمل جارٍ على قدم وساق من تزيينلغرف استقبال الضيوف إلى خبز للحلوى والكعك، ولأن هذه العائلات لم تكن لتستغني عن أربعة صبية ليذهبوا إلى القصر لإحضار ربع رطل من القهوة.
مكث جدي ينتظر وهو جالس على المقعد الخشن في الحجرة الصغيرة بينما كانت " جيرترود" تعد أربعة من أكياس القهوة المغلفة، نظر جدي إلى الميزان فوجد أن ثقل الرطل لايزال موجوداً على الكفة اليسرى، ولأن السيدة "باليك فون بيلقان" كانت مشغولة بالتجهيزات للاحتفال، فعندما كانت "جيرترود" تهم بإدخال يدها في إناء حلوى الليمون لتعطي جدي واحدة منها، اكتشفت أنه كان خالياً إذ إنه يعبأ مرة واحدة في السنة بكيلو واحد ثمنه مارك واحد، ضحكت الفتاة قائلة: "انتظر هنا بينما أحضربعض الحلوى".
كان جدي يقف أمام الميزان الذي يوجد عليه ثقل الرطل، فأخذ أكياس القهوة الأربعة التي عبئت و ختمت في المصنع ووضعها على الكفة الخالية، و تسارعت دقات قلبه و هو يراقب إصبع العدالة ذا اللون السود وهو يستقر على جهة اليسار، فإذا بالكفة ذات الرطل تنزل إلى الأسفل ويظل رطل القهوة مرتفعاً في الهواء، و تسارعت دقات قلبه أكثر مما لو كان مختبئاً خلف شجيرة في الغابة خوفاً من العملاق وأخذ يتحسس الحجارة الصغيرة الموجودة في جيبه التي اعتاد على حملها ليستعملها في إطلاق النبل على العصافير التي تنقر ما تزرعه والدته من خضروات الملفوف، فوضع منها ثلاثة، أربعة، خمسة بجانب الأكياس إلى أن رجحت الكفتان و انطبق المؤشر أخيراً على الخط الأسود.
أخذ جدي القهوة ووضع الحجارة الخمس في منديله وإذا "بجيرترود" تعود بمؤونة سنة كاملة من حلوى الليمون من أجل أن تشرق وجوه الأطفال بالسعادة، وشرعت تجعل حبات الحلوى تجلجل في الوعاء الزجاجي بينما كان الطفل الصغير الشاحب اللون لايزال واقفاً في مكانه ولا يبدو أن أي شيء قد تغير.
أخذ جدي ثلاثة فقط من الأكياس فنظرت الفتاة إليه بدهشة وقد رمى حبة الحلوى على الأرض وسحقها تحت قدمه قائلاً: "أريد رؤية السيدة باليك".
- "السيدة باليك فون بيلقان من فضلك".
- " حسناً، السيدة باليك فون بيلقان".
ولكن "جيرترود" ضحكت فقط، فعاد جدي إلى القرية وأعطى القهوة لعائلات "تشيكس" و"فايدلرز" و "فولاس" وحمل حجارته الصغيرة في منديله وأخذ يغذ السير في الظلام واضطر أن يمشي مسافة طويلة قبل أن يجد شخصاً يملك ميزاناً-أو على الأصح- سُمح له بامتلاكه. ولأنه كان يعلم ألاّ أحد في قريتي "بلاوقاو" و "بيرناو" يملك ما يطلبه، فقد سار خلالهما مباشرة، حتى وصل بعد ساعتين إلى "ديلهايم" المدينة الصغيرة، التي يعيش فيها الصيدلاني "هونيش" الذي كانت تنبعث من بيته رائحة الفطائر الطازجة حتى أنه حينما فتح "هونيش" الباب للصبي الذي كاد البرد أن يجمده كانت رائحة الطعام تخرج مع أنفاسه وهو يدخن سيجاراً رطباً بين شفتيه الرفيعتين، لوهلة أمسك الرجل بقوة يدي الصبي الباردتين وسأله:
"ما الأمر هل ازداد صدر والدك سوءاً؟"
"لا، فأنا لم آت من أجل الدواء، إنما أردت أن....." وفتح جدي منديله وأخرج الحجارة الخمس وقال "لهونيش": "أريد منك أن تزنها لي".
أخذ جدي ينظر بقلق إلى وجه الرجل، ولكن حينما لم يتفوه بشيء ولم يغضب، بل حتى لم يسأل عن أي شيء، فقال له جدي: "هذا هو المقدار المفقود من العدالة".
لما دخل جدي الحجرة الدافئة أدرك كم كانت قدماه مبتلتين، فقد أغرق الثلج حذاءه الرخيص إلى جانب ما أمطرته به أغصان الغابة من الثلج الذي أصبح الآن سائلاً، كم كان متعباً وجائعاً وفجأة بدأ يبكي لأنه تذكر كميات الفطر والأعشاب والزهور، التي كانت توزن على الميزان الجائر وفكر في الأجيال السابقة من آبائه وأجداده الذين أجبروا إلى ترك ما يجمعونه من الفطر والزهور يوزن على ذاك الميزان فتملكته موجة عارمة من الإحساس بالظلم وازداد نحيبه وعلا. وبدون أن ينتظر أن يقول له أحد تفضل بالجلوس، جلس على كرسي متجاهلاً الفطائر وكوب القهوة الساخنة، التي وضعتها أمامه السيدة "هونيش" السمينة اللطيفة، ولم يتوقف عن البكاء حتى عاد "هونيش" من المحل في مؤخرة الدار وجعل الحجارة تتدحرج على كفه وقال لزوجته بصوت منخفض:" خمسة وخمسون غراماً بالضبط".
قفل جدي عائداً ماشياً خلال الغابة لمدة ساعتين، حتى بعد تعرضه للعقاب بالضرب لم يقل شيئاً، لم ينبس ببنت شفة حينما سئل عن نصيب أسرته من القهوة، أمضى المساء كله يجري حساباته على قطعة الورق، التي كان مدوناً عليها كل ما باعه للسيدة "باليك" وعندما انتصف الليل وسمع المدفع وهو يطلق من القصر وجلجلت القرية بالصخب والضحك وقبلات أفراد العائلة واحتضان بعضهم البعض فإذا به يكسر هدوء السنة الجديدة بقوله: "إن آل "باليك" يدينون لي بثمانية عشر ماركاً واثنين وثلاثين قرشاً"، ومرة أخرى فكر في كل أطفال القرية وأخيه "فريتز" الذي جمع الكثير جداً من الفطر و أخته "لودميللا"، فكر في مئات الأطفال الذين جمعوا الفطر والأعشاب والزهور لآل "باليك"، وهذه المرة لم يبك بل أخبروالديه وإخوته باكتشافه.
عندما ذهب آل "باليك فون بيلقان" إلى الإحتفال الديني الذي يقام بمناسبة بدء السنة الجديدة في عربتهم المغطاة بشعارهم الجديدوهو عبارة عن عملاق رابض تحت شجرة تنوب، ومزينٌ باللونين الذهبي و الأزرق، رأوا الوجوه الجامدة الشاحبة تحدق بهم بدل ما توقعوه من أن يجدوا أكاليل الزهور في القرية او أغانٍ تنشد من أجلهم أو هتافات و تراحيب، ولكن القرية كانت تبدو مهجورة بالكامل عندما كانت عربتهم تسير فيها، وعندما اعتلى الخطيب المنبر ليلقي موعظة السنة الجديدة أحس ببرود و إحباط هؤلاء القوم الذين كانوا عادة هادئين و مسالمين، فتعثر عدة مرات في كلامه إلى أن عاد إلى مكانه يتصبب عرقاً.
عندما غادر آل "باليك" المكان مشوا عبر صف من الوجوه الصامتة الشاحبة، ولكن السيدة الشابة توقفت أمام مقاعد الأطفال وبحثت عن وجه جدي، الصغير الشاحب "فرانز بروتشتر" وسألته: "لماذا لم تأخذ القهوة إلى والدتك؟" فوقف جدي وأجابها: "لأنكم تدينون لي ما يساوي قيمة خمسة كيلو من القهوة" وأخرج حجارته الخمس من جيبه وأراها إياها قائلاً: " إن هذا القدر، خمسة وخمسون غراماً ناقص من كل رطلٍ من عدالتكم"، وقبل أن تتمكن السيدة من قول أي شيء رفع الرجال والنساء أصواتهم بالغناء مرددين" حكمت عليكم العدالة بالموت".
وفي أثناء تواجد آل "باليك" في الاحتفال اقتحم الصياد "فيلهم فولا" الغرفة الصغيرة وسرق الميزان والمجلد الضخم، الذي ُقيّد فيه كل كيلو من الفطر وزهور القش أي كل ما اشتروه من أهل القرية.
أمضى رجال القرية عصر أول يوم من السنة الجديدة في حجرة الاستقبال بمنزل أجدادي يجرون حساباتهم، فحسبوا العشر من كل شيء باعوه إلى أن توصلوا إلى ألوف كثيرة من الجنيهات الفضية ولم يصلوا إلى نهاية بعد، وإذا ببعض قوات من الشرطة تصل وتقتحم المكان وتملأه بالصرخات والطعنات وتسترد بالقوة الميزان والمجلد، هذا بالإضافة إلى مقتل أخت جدي الصغرى"لودميللا"، كما جُرح بعض الرجال وطعن الصياد "فيلهم فولا" أحد رجال الشرطة وأرداه قتيلاً.
لم تكن قريتنا هي الوحيدة التي تمردت فقد تبعتها أيضاً "بلاوقاو" و "بيرناو" ولمدة أسبوع تقريباً لم يكن هناك أي عمل في مخازن الكتان، وانتشر الكثير من أفراد الشرطة يهددون الرجال والنساء بالسجن فعادوا إلى العمل، كما أجبر آل "باليك" أحد رجال الدين على عرض الميزان على الجميع في مبنى المدرسة ليروا كيف أن مؤشر الميزان يعمل بدقة، ولكن لم يذهب أحد إلى المدرسة فوقف الرجل هناك بلا معين، وحيداً مع الميزان و الأثقال وأكياس القهوة.
عاد الأطفال إلى جمع الزعتر والزهور، ولكن في كل يوم أحد وبمجرد رؤية آل "باليك" فإن الترنيمة كانت تبدأ " حكمت عليكم العدالة بالموت" إلى أن صدر قرار بمنع غنائها في جميع القرى.
اضطر والدا جدي إلى ترك قبر ابنتهم الصغيرة و مغادرة القرية بأكملها وأصبحوا صانعي سلال و لكنهم لم يستقروا في أي مكان لأنهم كانوا يتألمون حينما يجدون أن العدل مفقود في كل مكان، فإصبع العدالة كان دائماً يتأرجح بطريقة خاطئة فكانوا يمشون خلف عربتهم التي تزحف ببطء على الطرقات الريفية و معهم عنزتهم النحيلة و ربما أستطاع المارة في بعض الأحيان أن يسمعوا صوتاً من العربة يغني: " حكمت عليكم العدالة بالموت"وكل من أراد أن يصغي، وقليل ما هم، كان بإمكانه أن يستمع إلى حكاية آل "باليك فون بيلقان" الذين نقص العشر من عدالتهم.