جَنَّ عليه الليل وهو في قمة الجبل .. كان البرد قارساً استعاد الكثير من حكايات أجداده المتخشّبة في ذاكرته وهو يضُّم بجاكيته جسده النحيل .. تُلحُّ تلك القصص على عقله المخبوء بالتعب وأكثرها ناقوساً هي تلك الحكاية التي رآها بعدما كان يسمعها .
الجبال تنادي بعضها بعضاً في الشتاء حيث يكون البرد هو صوتهـا الحاد .. !
يسمعُ عواء الذئاب ويتخلله صوت سامرٍ يوقد آخر نقطة سماع فيه .. أراد شيئاً يدفئه، فليس في جيبه غير كسرة خبز ٍ يابس .. بحث عن صخرة صمّاء يلوذ بها علَّها تنقذه من صرِّ هذه الليلة الدهماء .. استرق من الجبال صوت ذاك السمر وبتثاقل ومن علوٍ يتكئ على صخرته الصماء التي سمعت بعضاً من قصصه .. مازال يسمع صوته في صدره وهو ينفث في راحتيه دفئاً ..إذا بها سمرة توقدها النار والأقدام توجّس خيفةً ولم يعبأ بها كثيراً ؛ لأنه لم يكن لديه خيار إلا تلك السمرة، تلك الحياة .. بخفة ورشاقة قطع تلك المسافة الطويلة الفاصلة كما لم يقطعها من قبل، وجلس حول النار يستدفئ، فإذا به قد كسته النار دفئاً وثوباً أسوداً بدلاً من ثوبه الممزّق وجاكيته المهترئ وحذائه المقطوع
صار جديداً وإذ به ينظر في وجوه السامرين .. وفجأةً صرخ بأعلى صوته أحمااااااااااااد ..
لم يعلم بعدها سوى أن صرخته سارت بها الجبال ولم يفق إلا على صوت راعي الأبل خلف أبله يردّد :
هي هي ويييييييييه وييييييييييه
والشمس تبسط كفها على الأرض والنهار يكتب للحياة فصلاً جديداً ..
صرخ بنفس صرخته البارحة : أحمااااااااااااااااد !
أحماااااااااااااااد !
نعم رأيته في تلك الصفوف والله أحمد
رأيته البارحة .. وأجهش بالبكاء
الراعي : من أحمد ؟
ومن أنت ؟
الصمت وحده من يجيب الراعي على
أسئلته الحائرة على حافة الصباح ، وأخذه لمكان في ظل شجرة بعد أن ناوله قربة ماء ليشرب ..
فجأة سيارة عتيقة من نوع " شاص " يُسمعُ لها جلجلة وهلهلة بطول الوادي الممتد بين الجبال ويقف سائلاً :
السلام عليكم ورحمة الله
أسألك هل رأيت ولدًا نحيلًا ؟
الراعي : يبدو أنك أبوه !
نعم نعم موجود إن كنت تقصد هذا الولد في ظل الشجرة هناك !
وحين وصلا للشجرة لم يجداه ولم يجدا له أثـرًا وكأنه لم يكن هنا !
الراعي :
استغفر الله العظيم !
لا إله إلا الله
لقد كان معي هنا وكان يصرخ :
أحمااااااااااد !
أحماااااااااد !
الأب :
هذا والله أحمد
يا ولدي أحمد !