ما إن اكتمل عقدنا حتى قلنا للسائق اتكل على الله. كان بعضنا معه في القمرة بينما غالبيتنا كانت في الصندوق، الصندوق فضاؤه رحب مفتوح يتيح للمدخن أن يدخن وللمغني أن يغني. تحرك بنا "الشاص" وماهي إلا دقائق حتى ابتعدنا عن العمران ودخلنا بعدها في طريق لم يصمد جيدا أمام الطبيعتين التضاريس والمناخ، لذلك كنا نعلو كلما اعتلى الشاص نتوءا من الأرض، ونهبط كلما هبط بنا خندقا، نميل حيث يميل ونهتز كلما اهتز. بعد ساعة من السير على كف زلزال وصلنا إلى الع ْجمة. توقف الشاص فترجلنا ومشينا نحو المسقط المائي المهيب، شلال الع ْجمة كما نسميه وكما نعشقه، نأتي إليه في كل مرة نتأمل الماء وهو يندفع عبر حافة من الصخر الأزرق ثم يهوي إلى قاع الوادي السحيق. إلى اليسار من هذا المسقط المائي تنبسط خميلة كأنما قد اقتطعت من الجنة، حيث تصطف أشجار العرعر متشابكة الأغصان لتصنع باحة وارفة الظلال توازن المسقط المائي من على مصطبة ترتفع عنه قليلا، تفرشها أعشاب خضراء طرية باردة تغنيك عن أكثر الس ّجاد فخامة. في جهة أخرى غير بعيدة عن مكاننا أنزلنا أمتعة الطبخ: قنينة الغاز والموقد وبضع قطع من الآنية فيها قدر كبير وقدران صغيران وعدة صحون وسكينة وملعقة وكبشة وملاس ومنزاع لنزع اللحم إذا استوى. كانت المهام موزعة فيما بيننا وكأنها قانون. هناك من يجهز اللحمة، وهناك من يجهز الأرز، وهناك من يجهز السلطات، وهناك من ندخره بشكل دائم لإعداد الشاي. ومن يتم واجبه يتمدد تحت ظلال العرعر أو يقرأ صحيفة أو كتابا، وعندما جاء دوري وتمددت كنت أحضن جهاز غراوندينغ، ذلك الراديو الألماني الذي يأتيك بإذاعات الدنيا من حيث لا تحتسب. عندما هممت بتشغيل الجهاز لفت انتباهي حمار يقف في السفح المقابل. هذا أمر غريب فالحمير في القرى وحول المزارع أما هنا فأمر غير معتاد. بدأت يدي اليمنى تشغل الراديو وتدير منتخب المحطات بحثا عن محطة، أبحث وبصري صوب الحمار، ثم ما لبثت أن أغلقت الراديو ورفعت ظهري قليلا ثم قمت منتصبا أدقق النظر في أمر ما. كان الحمار يقف ساكنا مثل تمثال، يتكئ على ثلاثة أرجل فقط، أما الخلفية اليسرى فهي مثنية قليلا وحافرها بالكاد يلامس الأرض. رأيت بوضوح معالم تو ّرم يوشك أن يبتلع الجزء السفلي من الساق. اقتربت خطوتين، ثم عدة خطى. ظهر لي التورم، ظهر أكبر وأبشع وأشد إيلاما مما توقعت، كان يحيط بالمنطقة الفاصلة بين الساق والحافر عند المفصل. أوجس الحمار خيفة عندما سمع وقع خطواتي، تحرك بصعوبة بالغة فتغير لحركته وضع رجله المصابة لأرى حلقة معدنية عالقة في منّتصف الورم، غائرة في طبقات من اللحم المهترئ المتورم، والدم المتجلط، والقيح المتخثر. طبقات طبقات في أعلى الحلقة، وأسفل منها، وبان على وجه الحمار أنه يئن ويتألم بصورة فظيعة، بل أوشك أن أقسم لكم أن دموعه تلك لم تكن إلا نشيج كائن حي لا يقدر على البكاء.
لم أجد صعوبة في كسب تعاطف أصدقائي مع الحمار بينما أخفقت تماما في إقناع الجميع بضرورة إسعافه، وتخليص قدمه من تلك الحلقة المعدنية التي علقت بها رجله. قمت عليهم خطيبا فلم يزدهم خطابي إلا إصرارا، بل وتهكما، حتى أن البعض قد وقف على قدميه ليقول لي: هناك العشرات من الناس بحاجة إلى المساعدة ولم تفكر إلا في مساعدة حمار، وزاد بعضهم في تهكمه عندما قال لي أنت عاطفي أكثر من اللازم لأنك
"ولد كهلة". اتخذنا قرارا، الذين آمنوا معي وأنا، رأينا تجميد حسابنا في هذه الرحلة والتبرع بوقتها للحمار. درسنا الموقف من شتى جوانبه ثم وضعنا خطة تتضمن أدوات العمل وآليته. رأينا أن موقعة التحرير المنتظرة تتطلب مقصا يقص المعادن وحبالا قوية، ولما كانت مثل هذه المتطلبات غير موجودة كان علينا أن ننطلق إلى سوق المدينة لجمعها من هناك ومن ثم العودة بها ثم إجراء مناورات بسيطة ثم ننطلق في موقعة تحرير قدم الحمار. عند عودتنا وجدنا بقية الأصدقاء في انتظارنا وعلى وجوههم كانت مفاجأة، بل كانت المفاجأة الكبرى حقا، ففي غيابنا استولت عليهم الدهشة من تصميمنا على نجدة الحمار، ثم تحولت تلك الدهشة إلى إعجاب ثم تحول الإعجاب إلى انضمام للمجموعة، لذلك رأيت أنمنواجبيأنأضعخطةعملفأناأقودالجميعالآنوعل ّيأنانفذمعهمخطةتجريبية نتدرب فيها لنضمن النصر. في منطقة تواجه منتصف المكان الذي يقف فيه الحمار تمركز أحدنا وفي يده رأس الحبل، وتحرك آخر وفي يده الطرف الثاني للحبل، كنا نتدرب على الالتفاف حول الحمار وإحكام الحبل على أرجله، وفي نفس الوقت كان هناك آخر في يده أنشوطة ينبغي أن تلتف حول رقبة الحمار وفي لحظة واحدة يجب أن يسقط الحمار على جنبه الأيمن ثم نتكاثب عليه وأقوم أنا بقص الحلقة الحديدية وتخليص الحمار منها. نجحنا في طرح الحمار أرضا وفي الارتماء عليه، لكننا لم ننجح في حماية أنفسنا من الأذى، كنا كمن يقاتل فرقة مدربة من حاملي الهراوات، وتعرض اثنان منا لنهشات مؤلمة من أسنانه التي تبدو مثل أسنان منشار كبير قاطع. تلطخت ثيابنا بالدماء، دماؤنا ودماء الحمار، لكننا لم نكترث لذلك كله، بل لم نلتفت إليه لأننا قد عقدنا العزم على نجدة الحمار طوعا أو كرها. استلمت الرجل المصابة وجعلتها بين ساق ّي، استصرخت ثلاثة كانوا على مقربة مني لمساعدتي، مساعدتي في تثبيت رجل الحمار التي كان يحركها بقوه وجنون، مددت مقص الحديد وأنشبته في الحلقة الحديدية بينما رجل الحمار تنتفض في أيدينا ألما، وقبل أن أكمل قص الحلقة انبثقت نافورة من دم وقيح لتغطي وجهي بكامله، بل وتدخل إلى فمي، ومع ذلك واصلت قص الحلقة الحديدية رغم ملوحة الدم والقيح فوق لساني.