يعود القناع ( ( masqueفي أصله إلى جذور مسرحية قديمة , وكان يطلق عليه باللاتينية
( persona ) وهي كلمة مأخوذة من اليونانية ( prosopon ) وتعني القناع الذي كان يضعه الممثل على وجهه ليؤدي الأدوار المنوطة به .
ثم جاوز القناع مفهومه الدرامي ( المسرحي ) إلى الشعر على يد الشاعر الإيرلندي وليم بتلرييتس الذي أطلق على قصائده اسم أقنعة ( masks ) وكان يعني عنده الكرامة والتمسك بالتقاليد .
ثم تحول الأمر إلى إيليوت الذي يرى أن القناع أداة تعين على الابتعاد عن الذاتية وهو كما يرى وثيق الصلة والارتباط بالتراث ؛ فهو من التقنيات التي تقوم بإظهار وجهة نظر تاريخية , كما أنه يشتمل على حالة من الوعي والارتباط الوثيق بالحداثة والهم المعاصر
أفاد الشعراء العرب من اتجاهات الأدب الغربي المختلفة , وكان من أهم من تأثروا به ت . س . إيليوت الذي دعا للنظر إلى الموروث وخاصة فيما يتعلق بآرائه النقدية التي تدعو إلى قراءة تجارب السابقين وتوظيفها لخدمة الشعر المعاصر .
وقد نجد جذوراً للقناع في تراثنا الأدبي وقراءة بسيطة لشخصيات أبطال المقامات تثبت ذلك ، فأبو الفتح الإسكندري بطل مقامات الهمذاني يتقنّع في كلّ مقامة بقناع جديد، ويتخذ شخصية مختلفة عن الشخصيات التي قام بها من قبل، فقد يكون في هذه المقامة متسوّلاً، وفي تلك أميراً، وتجده في مقامة أخرى أعمى أو شيخاً أو شاباً ، وربما رأيته في أخرى قائداً أوخطيباً أو فقيهاً ولغويّاً وشاعراً وواعظاً وزاهداً، وتجده ذا نسب شريف أو عالماً، كما تجده دجّالاً أو شاكياً أو بخيلاً، وهو يجيد كلّ هذه الأدوار، ويتقنّع بقناع هذه الشخصيات، وهو لا يكتفي بتقمّص الشخصية من الخارج، وإنما يتلبّس نفسيتها ومهنتها وفنون القول فيها، فهو ممثّل بارع ومتقنّع ماهر، ولابدّ من أن الشعراء المعاصرين قد اطلعوا على الأدوار التي قام بها أبطال المقامات، فنفذت إلى أعمالهم الشعرية بوعي أو بلاوعي منهم .
وربما كانت للمؤثرات الغربية الدور الأكبر في انتقال تقنية القناع إلى الشعر العربي الحديث , وكانت بداية توظيفه على يد الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي يعد أول من عالج هذه التقنية معالجة نقدية واعية وقد صرّح بذلك قائلاً في ديوانه الجزء الثاني ص : 38: (( حاولت أن أقدم البطل النموذجي في عصرنا هذا , وفي كل العصور ( في موقفه النهائي ) وأن أستبطن مشاعر هذه الشخصيات النموذجية في أعمق حالات وجودها , وأن أعبر عن النهائي واللانهائي وعن المحنة الاجتماعية … )).
والقناع لغة في لسان العرب ما تغطي به المرأة رأسها , والقناع أوسع من المقنعة , وقد تقنعت هند به , وقنعتها : ألبستها القناع فتقنعت به . قال عنترة العبسي :
إن تُغدفي دُوني القناع فإنني *** طبٌّ بأخذ الفارس المستلئم .
وفي الاصطلاح الشعري هو حالة من الامتزاج والتماهي والتداخل بين شاعر معاصر وشخصية أخرى تاريخية أو أسطورية أو واقعية أو ضمير غائب يستدعيها ذلك الشاعر لتنطق خلال النص بدلاً عنه , إلى درجة أن القارئ لا يستطيع أن يميز تمييزاً جيداً صوت الشاعر من صوت هذه الشخصية , فالصوت مزيج من تفاعل صوتي الشاعر والشخصية ولذلك يكون القناع وسيطاً درامياً بين النص والقارئ , وهو وسيط فيه من الشاعر مثل ما فيه من الشخصية التراثية التي يمثلها القناع .
والصلة بين الشاعر وقناعه رقيقة ، والحاجز بينهما شفّاف ، صحيح أنهما وجهان ، ولكنّ أحدهما فوق الآخر والظاهر منهما وسيلة للتعبير عن المضمر والداخل، وصحيح أنهما صوتان، ولكنهما متناغمان متآلفان في سمفونية واحدة وعمل واحد، فالشاعر اكتشف في الشخصية التي اختارها قناعاً نظيراً له، ورأى في ملامحه صورته، أو رأى في موقفه التاريخي إضاءة لتجربته، ولذلك جذبه إلى دنياه، وكأنّ الشخصية التراثية شاشة بيضاء يعرض عليها الشاعر صورته وصوته من خلال التماثل بين الأصل والقناع في موقف من المواقف أو حدث من الأحداث
وقد عرّفه البياتي – الديوان 2/ 37- بأنه : (( الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجرداً من ذاتيته , أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته , وبذلك يبتعد عن حدود الغنائية والرومانسية التي تردى أكثر الشعر العربي فيها )).
وفي كلامه نظر ؛ لأن استخدام القناع لا يجرد الشاعر من ذاتيته فهو لا يزال يتحدث بضمير مفرد المتكلم , وإحساسات الشخصية المتقنع بها هي إحساسات الشاعر نفسه . والذات الشخصية في القناع تحيل على ذات الشاعر , وتجربة القناع تحيل على تجربة الشاعر , وما القناع وصاحبه وتجربته سوى وسيلة يتوسل بها الشاعر للتعبير عن ذاته .
ووصفه إحسان عباس – في كتابه اتجاهات الشعر العربي المعاصر ص : 154- بأنه : (( شخصية تاريخية في الغالب يختبئ الشاعر وراءها ليعبر عن موقف يريده , أو ليحاكم نقائص العصر الحديث من خلالها )) .
أما جابر عصفور فيرى أن القناع (( رمز يتخذه الشاعر العربي المعاصر ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة , تنأى به عن التدفق المباشر للذات دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره )) انظر : أقنعة الشعر المعاصر , مجلة فصول , 1/ ع 4/ 123.
ونجد عند علي العلاق – انظر : دراسات نقدية ص 106- أن الرمز يأخذ شكل الشخصية التاريخية التي تنجز حديثها بضمير المتكلم .
ويخلص سامح الرواشدة – انظر كتابه : القناع في الشعر العربي الحديث ص 11- إلى أن القناع (( لا يعدو أن يكون شخصية سواء أسميناه ( اسماً أو رمزاً أو شخصية ) تبدو من خلال النص , ويختفي صوت الشاعر المباشر خلفها من بداية النص حتى نهايته , ويسيطر عليه ضمير المتكلم تماماً إلا ما يداخل هذا الضمير من حالات الالتفات المعروفة , أو تداخل بعض الأصوات الأخرى حين تتعدد الأصوات في النص )) .
وعلى هذا فإن للقصيدة القناعية طرفين : الشاعر والشخصية التي تقنع بها , ولكن ذلك لا يفضي بالضرورة إلى التطابق الكلي بينهما ؛ إذ أن القناع محصلة العلاقة بين هذين الطرفين أو الصوتين : الشاعر / الشخصية , ولأنه كذلك فهو ينطوي على عناصر منهما معا , دون أن يطابق مع أيّ منهما بالضرورة , قد يكون القناع أقرب إلى هذا الطرف أو ذاك , ولكن القرب شيء والتطابق شيء آخر.
وبناء على ذلك فإننا – كما يقول سامح الرواشدة ص 16- (( لن نعثر على وجه من وجوه الاتفاق التام بين الطرفين , فالشاعر حين يستغل شخصية ما فإنه يتبنى بعض مواقفها لكنه لا يظل مقيداً بدلالتها تماماً , إنما يطوع تلك الأحداث ويتصرف بها بحدود لا تخرجها من معانيها وسياقها بصورة كاملة … فالقناع ليس صورة مطابقة لطرف من طرفيه , فإن أصبح صورة مطابقة لأحد الطرفين خرج عن حدوده الفنية , إذ يصبح نوعاً من السيرة التاريخية …)).
ولذلك فإن القناع (( حيلة بلاغية أو رمز أو وسيلة للتعبير عن تجربة معاصرة، وهذا يعني أنه لابدّ من أن يكتشف المتلّقي بنفسه وبمساعدة القرائن النصّيّة أن المقصود هو الحاضر، وما القناع سوى وسيلة إخفاء وإبعاد فنيّة، ولذلك جنح الشاعر إلى الاستفادة تناصيّاً من تجربة أو موقف أو رؤيا أو حدث شهير في الماضي، ليتقنّع بها، ويُعيدها إلى الأذهان ضمن تجربة جديدة مماثلة، فتتعدّد أصوات القصيدة وتتفاعل هارمونيّاً ودراميّاً، فيبتعد بذلك قليلاً عن الصوت الأحادي والمباشرة، ويُضفي على عمله الشعري شيئاً من الموضوعية والتعدّد والاختلاف والتكامل والغموض الفنّي الشفاف )).
وثمة عوامل كثيرة دعت الشاعر العربي المعاصر إلى استخدام تقنية القناع منها :
*- أنه يعد وسيلة نحاكم بها نقائص العصر الحديث وذلك من خلال استدعاء شخصية قديمة واتخاذها شاهدا نحاكم به ما يعتور عصرنا من عيوب ونقائص .
* وأن تقنية القناع من الحيل الفنية التي يستخدمها الشاعر , وركوبة يمتطيها المبدع للهروب من القيود السياسية والاجتماعية , وهذه الحيلة القناعية تمنح الشاعر مجالاً للتعبير ليفصح عن أفكاره على نحو فني يبعد القصيدة عن المباشرة والسطحية من جهة وينأى بالشاعر عن أن يكون عرضة للأذى والملاحقة . لذلك نراهم قد استعاروا أصواتاً أخرى اتخذوها أبواقاً يسرقون من خلالها آراءهم دون أن يتحمّلوا وزر هذه الآراء، فتواروا خلف أقنعة من التراث ليمارسوا مقاومتهم للطغيان والتخلّف
فالسياب في مرحلته المرضيّة – مثلاً – استلهم تجربة النبي أيوب في محنته المرضية التي جاء ذكرها في الكتب المقدّسة متوسّلاً إلى اللّه تعالى أن تكون النتيجة واحدة ويحسّ قارئ قصيدة { قالوا لأيوب } أن التجربة التي تتجلّى في القصيدة هي تجربة السياب، وما تجربة النبي أيوب سوى وسيلة درامية للتعبير عن تجربة الشاعر الشخصية .
وابتداع أدونيس شخصية مهيار، فإذا هو مهيار الدمشقي الذي ينتمي إلى أدونيس ودمشق أكثر مما ينتمي إلى الديلم والشخصية التراثية ، فالشاعر يحذف بعض ملامح الشخصية التراثية أو يضيف بعض الملامح كما فعل خليل حاوي في قصيدته { السندباد في رحلته الثامنة } فمن المعروف أن السندباد لم يرحل في { ألف ليلة وليلة } سوى سبع رحلات تكاد تكون واحدة في أسبابها والصعوبات التي لاقاها ونتائجها ، ولكنّ الشاعر أضاف إليها رحلة ثامنة مختلفة في اتجاهها ونتائجها، فالسندباد في التراث الشعبي يرحل في العالم الخارجي ، وسندباد الحاوي يرحل في عالمه الداخلي، والنتائج التي يتوصّل إليها سندباد التراث الشعبي غير النتائج التي يعود بها سندباد خليل حاوي ، وكذا شأن سندباد السياب في قصيدته { رحل النهار } ؛ فهو لا يعود من رحلته بعد أن أسرته آلهة البحار، ويغيّر بعض ملامح القناع التراثية لتتناسب وتجربته الشخصية فيطوّع الأحداث، ويتصرّف بها بحدود لا تخرجها من معانيها الثابتة الأساسية ، ولا تبعده عن تجربته ، ولذلك فإنّ مبلغ طموح الشاعر هو امتلاك القدرة على تطويع التجربة السابقة والتصرّف بها، وإضافة دلالات جديدة وتوجيه بعض مفردات التجربة القديمة لتخدم تجربته وتعبّر عنها .
* وأن القناع باعتباره وسيطاً بين المبدع والمتلقي فإنه يُبطّئ من التقائهما إذ أن الصوت لا يصل مباشرة مما يدفع المتلقي إلى التأمل وكدّ الذهن للقبض على المعنى , فيصبح بذلك طرفاً مشاركاً في تشكيل البعد الدلالي للنص , بالإضافة إلى العوامل النفسية التي تدفع الشعراء إلى توظيف الأقنعة ؛ ليصوروا من خلالها آلامهم وهمومهم بعيداً عن اللغة العادية التي ربما تعجز عن تحقيق ما يريدون .
والقناع نمطان , البسيط : وهو الذي يعتمد فيه الشاعر على شخصية رمزية واحدة مفردة يسقط عليها تجربة معاصرة بكل همومها وهواجسها وآلامها بعد أن عايش تلك الشخصية فترة من الزمن وتمثل عصرها وظروفها , فيتحد أنا الشاعر بـ { أنا } شخصية الغير , وهذا النوع هو الغالب على القصائد القناعية , وقد سماه الرواشدة ( النص وحيد الصوت ) .
إن ما يميز الشخصية في القناع البسيط كونها شخصية خالصة تنفرد بصياغة التجربة الشعرية وتمثل بؤرتها إذ تغدو رمزاً مقنعاً يروي ويتحرك وينجز كامل مكونات القصيدة وهو في هذا كله يتطابق مع المبدع موافقة أو مخالفة .
ونستطيع أن نعتبر قصائد (( سفر أيوب , وتموز حيكور , والمسيح بعد الصلب )) للسياب من ضمن الأقنعة البسيطة .
والمركب : وهو الذي يلجأ فيه الشاعر إلى توظيف أكثر من شخصية قناعية في نص شعري واحد , إذ يحدث تجاذب من نوع ما بين الشخصيات , وتسعى مكونات كل منها إلى الهيمنة على النص , وعندها يقف المتلقي حائراً متردداً في إسناد الضمائر ونسبة الأقوال والأفعال . وقد أطلق الرواشدة على النص ذي القناع المركب ( النص المتعدد الأصوات ) .
وتجدر الإشارة إلى أن الشخصية القناعية ينبغي أن تشتمل على صفات وسمات تؤهلها لتكون قناعاً ناجحاً ومعبراً , إذ ليست كل شخصية تصلح بأن يتقنع بها ومن أبرز تلك السمات :
*- قدرة الشخصية على إضاءة تجربة الشاعر واستيعابها , وأن تكون ذات صفات دالة بحيث تحمل من الصفات ما يجعلها ممثلة للتجربة المعاصرة . إذ لا يمكننا – كما يقول الرواشدة ص13: أن نتخذ شخصية مغرقة في فرديتها قناعاً لتجربة عامة ذات بعد جماعي , وكذلك ليس من المناسب أن نتخذ تجربة جماعية أو ذات بعد عام قناعاً لهمّ فردي معزول .
ويضيف : وهذا المعيار يحتاج إلى رؤية دقيقة للحكم على نجاح الشخصية أو إخفاقها في أن تكون قناعاً , لأن السمة الدالة تحمل من المرونة قدراً كبيراً يجعل الحكم على الشخصية ليس سهلاً . ومن الأمثلة على ذلك نقد البياتي لأدونيس حينما تقنع بشخصية الصقر , فقد عدّها البياتي تفتقر إلى السمة الدالة لأنها تعبر عن تجربة فردية .
وعلى النقيض من ذلك فإن جابر عصفور لم يَر ما رآه عبد الوهاب البياتي إنما رأى في توظيف أدونيس لقصيدته ( وافراتاه كن لي جسراً وكن لي قناع ) لم يكن يفكر في القناع بوق المحاكمة , بل كان يفكر في القناع – الرمز – الذي يبتعث الخصب ويعيد الخلق في عالم يكتنفه الموت والجدب .
*- كذلك ينبغي للشخصية المتقنَع بها أن تكون قادرة بملامحها التراثية على أن تحمل أبعاد تجربة الشاعر المعاصر الخاصة , وهذا الأمر يقودنا إلى ضرورة حسن اختيار الأقنعة وتوظيفها بما يتلاءم وتجربة الشاعر الخاصة وقدرتها على التعبير عن همه المعاصر . وإن اختيار الشخصية القناعية – من لدن الشاعر – ليست بالأمر الهين إذ لابد أن يكون الشاعر متسلحاً بقدر كبير من الفكر والثقافة والفن ما يؤهله لئن يكون مبدعاً واعياً , وهذا الأمر يستدعي من الشاعر التوغل في أعماق التاريخ والظفر بالتجارب التي تستطيع أن تحمل همومه المعاصرة .
والشعراء منقسمون في مواقفهم التي عبرت عنها الأقنعة إلى فريقين , فريق جاءت أقنعتهم موافقة في دلالتها وموقفها للشخصية المتقنع بها فحمّلوا أقنعتهم مواقف تتجه اتجاهاً طردياً مع مواقفها المرتبطة بالتجربة الأولى , فإذا كانت الشخصية القناعية معروفة بالثورة والتمرد مثلاً نجدها تعبر عن موقف يفيد من هذه الصفة فيها , ومن ذلك شخصية الشاعر أبي فراس الحمداني عند البياتي في قصيدته ( روميات أبي فراس ) , فقد جعل البياتي جانب الأسر عند أبي فراس معادلاً لتجربته حين كان بعيداً عن وطنه , يقول :
جنّية كانت على شطآن بحر الروم / تبكي وكنت راقداً محموم / على رمال الشط عند مغرب النجوم / تنتظر البحارة الموتى / وتستلقي على الصخور / تمد للنوارس الضفيرة / تكتب فوق الرمل ما أقول / عانقتها وهي على شطآن بحر الروم / عارية تعوم / فانطفأ الليل وصاح البوم .
وفريق من الشعراء يستخدمون تجربة الشخصيات القناعية لتعبر عن موقف يخالف ما قد عبرت عنه في تجربتها المعروفة , فتنحرف التجربة الجديدة عن التجربة السابقة انحرافاً تاماً , من ذلك قصيدة ( عودة وضاح اليمن ) لعبد العزيز المقالح , حيث يتصرف المقالح بالقصة ويحملها دلالات جديدة فقد انشغل وضاح اليمن بهمّ فردي يقوم على علاقته بأم البنين , فيموت بسببها على يد الخليفة , ولكنه عند المقالح ينشغل عن روضة ( رمز اليمن في النص ) زمناً يعود إليها معتذراً عن غيابه , وهذه من إضافات الشاعر , كذلك فإن غيابه عن أم البنين يتجاوز الشوق الفردي لها إلى الشوق والرغبة في العودة إلى اليمن . يقول – انظر ديوانه ص : 533
ضائعاً كنت محترقاً أتمزق في قبضة الليل
والشجن البربري الرمادي , أصرخ , أرحل في سفن
الحزن , تحملني في بحار من اليأس , أذكرها تتعذب
بعدي , تواجه أعداءها في ثياب , أمد يدي نحوها
تتراخى يدي تحت رعب المسافات , أبكي , يطير بي
الدمع يرجع بي نحوها , يا لرخّ من الدمع يحملني في حنان رحيم
أتسأل أين الطريق إليها , فأسمعها تتكلم
من أنت ؟ ما تبتغي من فتاة عجوز بلا زاد ؟
أسلمها قومها للمجاعة والموت
باعوا ضفائرها للظلام حبالاً
وناموا على عتبات المواعيد
يقتسمون كؤوس المهانة في الحلم
يختصمون على القيد , يحتطبون بوادي الثعابين
يستمطرون الغبار العقيم ؟
وعند دراستنا للقناع نجد القناع يقترب إلى حد كبير من بعض التقنيات الأخرى كالأسطورة , وهي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان , فيكون تداخل القناع بالأسطورة من هذا الجانب إذ أن الأقنعة التاريخية والتراثية تعود بنا إلى الماضي وهي بذلك تمثل جزءاً من الأساطير .
ومن الشخصيات الأسطورية : السندباد , وتموز , ونارسيس , وأدونيس , وعشتار, والعنقاء … فهي رموز أسطورية تمّ استدعاؤها من الموروث التاريخي والثقافي يبثها الشاعر المعاصر في ثنايا النص الشعري بما يتلاءم وتجربة الشاعر . بيد أنها قد تأتي مبعثرة داخل النص دون أن يكون لها امتداد من أول النص إلى آخره , ودون أن تكون لساناً ناطقاً عن الشاعر , وهذه إحدى الفروق المهمة بينها وبين القناع .
ومن التقنيات أيضاً الرمز , وغني عن البيان أن ثمة علاقة كبيرة تجمع بين القناع والرمز , فكل قناع رمز , وليس كل رمز قناعاً , الرمز يأتي في النص ويغيب , وتنتهي فاعليته في موضعه , أما القناع فهو يمتد في جسد النص لا يشاركه عنصر آخر , وتختفي فيه شخصية الشاعر , أما في الرمز فالشخصية الشعرية تبقى حاضرة في النص والقناع يكوّن البنية الكاملة للنص , بينما الرمز أداة من الأدوات قد يمتد , وقد يبقى في جزء محدد من النص .
ويكون الرمز قناعاً إذا امتد في النص , واتكأ على ضمير المتكلم , واختبأ الشاعر خلفه .
وقد ربط جابر عصفور بين الاستعارة والقناع ؛ لأن كلا التقنيتين تعتمد على طرفين , فالقناع يعتمد على الشاعر والشخصية المتقنع بها , والاستعارة تعتمد على المشبه والمشبه به , وقد نبه على أن العلاقة بين طرفي القناع ليست هي العلاقة بين طرفي الاستعارة ؛ لأن العلاقة بين طرفي الاستعارة استبدالية , أي يحل فيها المشبه به محل المشبه , بيد أنه يرى أن العلاقة بين طرفي القناع علاقة تفاعلية .
ويرد عليه سامح الرواشدة بأن هذه المقابلة لا تخلو من قصور ؛ لأن التفاعل بين طرفي الاستعارة يكون في الكلمة أو السياق , في حين أن القناع يمثل النص كله , ولا يمكن ربطه بموقع محدد من مواقع النص دون غيره .
وعلى الرغم من إبداع الشعراء في استخدام تقنية القناع إلا أن هذا الإبداع لم يجعل نصوصهم الشعرية بمنجاة من بعض الهنات والمزالق والعيوب يمكن اختزالها في الأشكال الآتية :
*- تمزيق القناع , فالشاعر يقوم برفع القناع عن وجهه , ويقفز ليتكلم نيابة عن الشخصية المتقنع بها , ويعود هذا لأسباب منها : أن الشاعر يجد القناع أحياناً أضيق مما أراد أن يعبر عنه , أو ربما يعود لعجز الشاعر نفسه عن أن يبقى صوته بعيداً عن السطح الخارجي للنص , أو لعجزه عن تطويع التجربة المستعان بها لتؤدي التجربة دون أن يضطر لاستخدام صوته الخاص .
من الأمثلة على ذلك قصيدة ( أيام الصقر ) لأدونيس , فقد استدعى أدونيس شخصية عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) الذي هرب من العباسيين بعد أن ظفروا بأخيه على شاطئ الفرات وقتلوه , ولكن الصقر استطاع الفرار إلى الأندلس ليؤسس فيها دولة بني أمية , وهكذا يتماهى أدونيس بصقر قريش ويتخذه قناعاً ليعبر من خلاله عن انتقاد حاد سلوك السلطة السياسية مما يضطر الإنسان للاغتراب قسراً عن وطنه .
إن ما يعنينا في هذا النص الذي سوف نستشهد به هو أن نبين كيف مزق الشاعر قناعه وقفز ليتحدث نيابة عن الشخصية المستدعاة فنلحظ في المقطوعة الأولى خطاب القناع / الصقر ( ضمير المتكلم ) ولكن سرعان ما يتغير الأمر في المقطوعة الثانية إذ يدخل صوت الشاعر / أدونيس ليتحدث عن القناع / صقر قريش , ومعاناته التي لم تمنعه من ركوب صهوة المجد , يقول في كتابه التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل ص : 30- 32 :
لو أنني أعرف كالشاعر أن أغير الفصول / لو أنني أعرف أن أكلّم الأشياء
سحرت قبر الفارس الطفل على الفرات / قبر أخي في شاطئ الفرات / مات بلا غسل ولا قبر ولا صلاة / وقلت للأشياء والفصول / مُدّي لي الفرات / خلية ماء دافقاً أخضر كالزيتون / في دمي العاشق في تاريخي المسنون . هذه هي المقطوعة الأولي ثم يقفز فيقول :
ألصقر في بادية العروق في مدائن السريرة / ألصقر كالهالة مرسوم على بوابة الجزيرة / والصقر في الحنين في الحيرة بين الحلم والبكاء / والصقر في متاهه في يأسه الخلاق / يبني على الذروة في نهاية الأعماق / أندلس الأعماق / أندلس الطالع من دمشق / يحمل للغرب حصاد الشرق .
*- انحراف القناع عن دلالته الأصلية , حيث يلجأ بعض الشعراء إلى إلباس أقنعتهم دلالات ومواقف تختلف عما كانت عليه في الأصل , إذ لا يكتفي الشاعر بالتلاعب في القناع للوصول إلى دلالات مقاربة , بل يحمّل الشخصية التي تقنع بها مواقف ودلالات تضاد تماماً ما قد عُرفت به عند الناس , ويمكننا أن نسمي ذلك بالعدول أو كسر المألوف أو الاختراق أو كما سماه الرواشدة بالانحراف , ومن ذلك قناع ( مقابلة خاصة مع ابن نوح ) لأمل دنقل الذي عد ركوب سيدنا نوح – عليه السلام – ومن معه السفينة تخاذلاً وهروباً من المسؤولية , وأن الوطن لا يعني لهم شيئاً في الوقت الذي جعل فيه ابن نوح رمزاً للشجاعة وحب الوطن , يقول في أعماله الشعرية الكاملة ص : 394:
ها هم الجبناء يفرون نحو السفينة / بينما كنت / كان شباب المدينة / يلجمون جواد المياه الجموح / ينقلون المياه على الكتفين / ويتبقون الزمن / يبتنون سدود الحجارة / علّهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة / علّهم ينقذون الوطن / صاح بي سيد الفلك قبل حلول / السكينة / انج من بلد لم تعد فيه روح / قلت : / طوبى لمن طعموا خبزه / في الزمان الحسن / وأداروا له الظهر / يوم المحن / ولنا المجد نحن الذين وقفنا / وقد طمس الله أسماءنا / نتحدى الدار / ونأوي إلى جبل لا يموت / يسمونه الشعب / نأبى الفرار .
ولاشك أن الشاعر أمل دنقل قد انحرف عن دلالة الموقف , بل جاء بدلالة تضاد ما قد استقر في أذهان الناس ؛ فنوح – عليه السلام – لم يلجأ إلى السفينة هزيمة أو فراراً إنما طاعة لأمر ربه , كما أن ابنه لم يمنعه من ركوب السفينة حب الوطن أو الشجاعة , وإنما منعه كفره وعصيانه , وقد وصفه الله بأنه عمل غير صالح , كما أن هذه القصيدة أيضاً عمل غير صالح , وكذلك قائلها إن لم يكن قد تاب إلى ربه
نحن نعلم أن هذا التحول إنما هو في التجربة الشعرية المعاصرة , وأن الإسقاط إنما هو في السياسة المعاصرة , لكن هذا لا يسوغ للشاعر أو يبرر له التجاوز وإساءة الأدب مع ربه ومع الأنبياء .
*- عجز القناع عن حمل الهم المعاصر , إذ يقوم بعض الشعراء باستدعاء شخصيات تاريخية ليتقنعوا بها , لكن تلك الأقنعة تحمل دلالات أقل مما يريده الشعراء , فيلجأون إلى تحميلها تجارب أكبر مما عبرت عنه في تجربتها الأولى , ومن تلك الشخصيات ما تكون مغرقة في فرديتها , فيوظفها الشاعر لتعبر عن هم جماعي أو قضية جماعية , ومنها ما تحمل تجربة محدودة البعد , قليلة الأثر , هامشية فيحملها الشاعر المعاصر هموماً أساسية وذات خطر وأهمية , ومن الأمثلة على ذلك ما ورد من قصائد اتخذ شعراؤها ( وضاح اليمن ) قناعاً للثورة على السلطة والمغامرة , فهذه التجربة تحمل بعداً فردياً , ولكنها أصبحت عند بعض الشعراء قناعاً لقضايا كبيرة وهموم جماعية , فقد تقنع بها عبد الوهاب البياتي في قصيدته ( عن وضاح اليمن والحب والموت ) عبر من خلالها عن رسالة الشعر والتمرد على السلطة الحاكمة , إذ نجده يقتنص جانباً مهماً من التجربة المعروفة لوضاح جانباً يرتبط بمغامراته مع زوج الوليد / أم البنين , فها هو ذا يأتي طائراً على أجنحة الخرافة والمغامرة , وهي مغامرة قاتلة لأنها تسعى إلى لاقتحام حصون السلطة وتجاوز حرمات الحاكم مدفوعاً برسالته الفنية – الشعر – متوسلاً بوسائل قادرة على التجاوز , وسائل السحر التي تصنعها الكلمة القادرة على اقتحام حصون الحاكم وإغواء زوجه وأم أبنائه , يقول – انظر الديوان 3/ 27 :
يصعد من مدائن السحر ومن كهوفها وضاح / متوجاً بقمر الموت ونار النيزك يسقط في الصحراء / تحمله إلى الشآم عندليباً برتقالياً مع القوافل السعلاة / وريشة حمراء ينفخها الساحر في الهواء / يكتب فيها رقية لسيدات مدن الرياح / وكلمات الحجر الساقط في الابار / ورقصات النار / ينفخها في مجلس الخليفة / فتستحيل تارة قصيدة / وتارة لؤلؤة عذراء / تسقط عند قدمي وضاح / يحملها إلى السرير امرأة تضج بالأهواء / تمارس الحب مع الليل وضوء القمر المجنون / تهذي , تغني , تنتهي من حيث لا تبدأ , تستعيد / تعود عذراء على سريرها خجلى من الليل وضوء القمر المجنون / تفتح عينيها على رماد نار نيزك يسقط في الصحراء / وريشة حمراء – ينفخها الساحر في الهواء – فتستحيل تارة غزالة / قرونها من ذهب وتارة كاهنة تمارس الغواية / ولعبة النهاية في حرم الخليفة / وليله المسكون بالأشباح والملالة .
*- ومنها استخدام تقانة القناع استخداماً جزئياً في العمل، ولذلك تكون التقانة تشبيهية وناقصة، ولا تؤدي وظيفة فنية عالية، ولا تترك أثرها في المتلقي، كما تترك قصيدة القناع، ثم إنّها تخرج من هذا البحث لارتباط القناع بجزء من النص، وهذا كثير في شعر الرواد وتابعيهم.
*- ومنها أن يظلّ الشاعر أسير الصوت الغنائي، وأن تكون علاقة القناع في النص خدعة ليست فنيّة، فلا يوازن الشاعر بين تجربته وتجربة صاحب القناع، ولا يتداخل الصوتان، ولا يتقاطع الزمنان، ولا يستطيع الشاعر أن يخرج عن همّه، فإذا حذفنا اسم القناع لما خسرنا شيئاً، وهذا ما يمكننا أن نجده في بعض قصائد البياتي وعلي الجندي وأدونيس وسواهم من التابعين .
*- ومنها أن يظلّ الشاعر أسير الدلالة التراثية في القصيدة كلّها أو في أجزاء منها، فيكون التعبير عن تجربة شخصية القناع راجحاً على التعبير عن التجربة المعاصرة، وبذلك يغدو القناع غايةً بدلاً من أن يكون وسيلة، وهذا ما يمكننا أن نجده في مقطع كامل من قصيدة ( لا تصالح ) لأمل دنقل، وقد استوحاها من عشر وصايا جاءت في سيرة الأمير سالم الزير من كليب المغدور إلى أخيه ليعبّر عن الواقع العربي المعاصر، وقد سارت قصيدة القناع بشكل جديد وشفاف، وتداخل صوت الشاعر وصوت كليب القناع إلى أن جاء المقطع الثامن، فإذا صوت كليب يبتعد عن صوت الشاعر، ويتراجع إلى زمنه، ويقترب من الحادثة التاريخية، فظلّت الوصية الثامنة استرجاعاً لوصية كليب، وهذا قسم من الوصية الثامنة وآخر سبقه مباشرة من الوصية السابعة:
لا تُصالحْ ! / إلى أن يعودَ الوجودُ لدورتِهِ الدائِرَهْ / النجومُ… لميقاتِها / والطيورُ… لأصواتها / والرّمالُ… لِذَرّاتها / والصّبايا… لزيناتها / والقتيلُ.. لطفلتِهِ الناظِرَهْ…. / وتحاملتُ / حتى احتملْتُ على ساعدي / فرأيتُ : ابنَ عمّي الزّنِيمْ / واقفاً. يتشفّى بوجهٍ لئيمْ / لم يكنْ في يدي حربةٌ / أو سلاحٌ قديمْ .
لم يكن غيرُ غيظي الذي يتشكّى الظَّمَأْ! .
وتتعدد الموضوعات والقضايا التي عبر عنها الشعراء من خلال الشخصيات التي تقنعوا بها , حيث نجد الأقنعة عندهم أنواعاً أربعة :
الأول : قناع الثورة والرفض , فقد ثار معظم الشعراء على الأعداء , ورفضوا المصالحة معهم , ومثال ذلك قصيدة ( لا تصالح ) لأمل دنقل , فقد استدعى الشاعر شخصية ( كليب ) وجعلها قناعاً له , ليعبر عن رفضه الصلح مع العدو الإسرائيلي , كما أوصى كليب أخاه المهلهل برفض الصلح مع قاتليه مهما كلف الامر , مما أدى إلى اشتعال حرب البسوس بين الحيين بكر وتغلب أربعين سنة .
يقول – انظر الأعمال الشعرية الكاملة ص : 324
لا تصالح / ولو منحوك الذهب / أترى حين أفقأ عينيك / ثم أثبت جوهرتين مكانهما / هل ترى ..؟ / هي أشياء لا تشترى .. /
لا تصالح / ولو ناشدتك القبيلة / باسم حزن الجليلة / لا تصالح / ولو قيل : إن التصالح حيلة / إنه الثأر / تبهت شعلته في الضلوع .. / إذا ما توالت عليها الفصول / ثم تبقى يد العار مرسومة بأصابعها الخمس / فوق الجباه الذليلة !
ولو أنعمنا النظر في نصوص الشعراء لوجدنا أنهم تقنعوا بشخصيات كثيرة منها الأسطوري والديني والتاريخي عبرت عن الثورة والتمرد على الظلم السياسي ورفض الواقع وعدم الانسجام مع المجتمع , ولعل من أبرزها : شخصية المتنبي وأبي العلاء والسهروردي والحلاج وابن عربي ووضاح اليمن واليمامة ومهيار الديلمي والخوارج والصعاليك …
الثاني : قناع الإخفاق وخيبة الأمل , وهو القناع الذي يعبر عن حالة من الإحباط واليأس إذ يتقنع به الشاعر وكله أمل بالخلاص والنجاة والنجاح بيد أن محاولاته تبوء بالفشل فيخفق في تحقيق أحلامه , أو تدمر آماله قبل أن تتحقق .
والإخفاقات التي عبرت عنها الأقنعة كثيرة منها : إخفاق الأمة العربية في تحقيق وحدتها وإخفاقها في تحقيق العدل ورفع الظلم عن المظلومين , وإخفاق المظلومين في بحثهم عمن ينتصر لهم , وقد عبر قناع المتنبي عند محمود درويش عن هذا الأخير ؛ إذ يرى أن الفلسطيني قد أصابته حالة من الخيبة والإخفاق في وجود نصير ومعين له كحال المتنبي الذي غادر حلب بعد حالة يأس , ولجأ إلى مصر , ولكنه لم يجد مصر أحسن من حلب , فقد أصبح مثل السجين عند كافور الذي لم يحقق له ما تمنى به , فانتهى به الأمر إلى الفرار من مصر , وهجاء كافور , يقول – انظر : حصار لمدائح البحر ص : 37
للنيل عادات / وإني راحل / أمشي سريعاً في بلاد تسرق الأسماء مني / قد جئت من حلب وإني لا أعود إلى العراق / سقط الشمال فلا ألاقي / غير هذا الدرب يسحبني إلى نفسي … ومصر /
للنيل عادات / وإني راحل / وإلى اللقاء إذا استطعت / وكل من يلقاك يخطفه الوداع / وأصيب فيك نهاية الدنيا ويصرعني الصراع / والقرمطي أنا , ولكن الرفاق هناك في حلب / أضاعوني وضاعوا .
الثالث : قناع الاغتراب عبر الشعراء من خلال أقنعتهم عن نوعين من الغربة أحدهما : غربة تقوم على رفض الواقع الاقتصادي وعدم الانسجام مع المحيط الاجتماعي .
والثاني : غربة تعبر عن موقف جبري إذ يتخلى الإنسان عن وطنه رغما عنه , وغالباً ما تكون هذه الغربة بسبب الحكام الذين يجدون في نفي معارضيهم خلاصاً منهم ومن تحريضهم , ولعل التقنع بشخصية المتنبي يمثل النمط الأول من الاغتراب إذ ترك المتنبي حلب قاصداً مصر بسبب الاضطهاد الذي وجده حينما شن عليها الحساد حرباً شعواء , وأشعلوا نار الفتنة بينه وبين سيف الدولة .
ومن الأمثلة على ذلك قناع المتنبي في قصيدة ( من مذكرات المتنبي في مصر ) لأمل دنقل يقول : انظر الأعمال الشعرية الكاملة 237:
أكره لون الخمر في القنينة / لكنني أدمنتها .. استشفاءا / لأنني منذ أتيت هذه المدينة / وصرت في القبور ببغاءا / عرفت فيها الداءا / أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور / ليطمئن قلبه فما يزال طيره المأسور / لا يترك السجن ولا يطير / أبصر تلك الشفة المثقوبة / ووجهه المسود والرجولة المسلوبة / أبكي على العروبة .
فالقناع / المتنبي في المقطوعة السابقة يحمل إحساساً بعدم الانسجام مع البلد التي رحل إليها / مصر ؛ ولذلك نرى أن رحيله عن حلب إنما هو اغتراب ليس محموداً عند المتنبي وإنما كان بسبب عدم الانسجام مع المحيط الحلبي الذي فرّق بينه وبين سيف الدولة .
كما أن دنقل في استدعائه لشخصية المتنبي ينقد الواقع السياسي العربي , ويبين عجز الحكام وضعفهم وانهزامهم وذلك من خلال المقابلة بين سيف الدولة / رمز المجد والعروبة وبين كافور / رمز الخزي والهزيمة .
أما النوع الثاني من أقنعة الاغتراب فهي التي عبّرت عن اغتراب قسري كالاحتلال وسيطرة الأعداء على ديار المسلمين مما يفضي إلى الأسر والمنفى , ومثال ذلك قناع أبي فراس الحمداني في قصيدة ( روميات أبي فراس ) للبياتي إذ أن أبا فراس قد أمضى في الأسر ( سجون الروم ) سنوات عديدة فأحس بمرارة الغربة وطفق ينتظر الخلاص ويبعث الأشعار لابن عمه سيف الدولة لعله يخلّصه من هذا الأسر , ولذلك نرى أن البياتي قد تقنع بشخصية أبي فراس ليعرض من خلالها تجربته هو في الغربة والثورة والنفي . يقول : انظر ديوانه : 2/ 371:
لم يقبل الفارس من دمشق / ولم يضيء وجه المغني البرق / لعل خيل الفتح ! يا أميرتي على ضياء الصبح / تمسح عار الجرح .
الرابع : قناع الإدانة , وهو قناع يقوم الشاعر من خلاله بنقد الجوانب السلبية في مجتمعه مثل : الانحرافات الاجتماعية أو السياسية , وقعود الأمة عن نصرة المظلومين , وقتل روح التحدي في الشباب , ومثال ذلك قصيدة ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ) لأمل دنقل , حيث يتقنع بشخصية عنترة بن شداد , ويجعلها معادلاً موضوعياً للشباب الذين صادرت الحكومات حقوقهم , واستلبت إرادتهم , إذ أن عنترة كان من المغضوب عليهم عند قومه بني عبس بسبب لونه , وكان راعياً , كذلك لم يكن له أدنى اعتبار عند أبيه , ولكن تلك القبيلة حينما داهمها الأعداء دعت عنترة للمشاركة في القتال لما عرفت عنه من الشجاعة والإقدام .
وهذه الصورة تقابل الواقع الذي يتحدث عنه دنقل ؛ فقد استبعدت الحكومات شعوبها في السلم واستنصرتهم وقت الحرب , وهذه من المواقف النرجسية الانتهازية التي أدانها الشاعر من خلال ذلك القناع .
ولم يكتف دنقل بشخصية عنترة العبسي / القناع , وإنما استعان بشخصية أخرى داخل النص , إنها شخصية ( زرقاء اليمامة ) تلك المرأة التي عرفت بحدة البصر مما جعلها تستشرف القادم , وتحذر قومها من الشجر المحمول على أكتاف الرجال , فتصبح في النص وجهاً للمظلومين الذين يحاولون أن ينبهوا للخطر القادم , لكن السلاطين لا يحفلون بهم , فعنترة وزرقاء وجهان متممان لبعضهما بعضا , فعنترة رمز القوة المغيبة التي تُدعى للحرب فجأة دون أن تهيأ لذلك , وزرقاء رمز الوعي والعقل , وكلاهما ظل مُبعداً عن القرار إلى اللحظة الأخيرة , يقول دنقل ص : 123:
ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان / أجتز صوفها .. / أرد نوقها .. / أنام في حظائر النسيان / طعامي : الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة / وها أنا في ساعة الطعان / ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان / دعيت للميدان / أنا الذي ما ذقت لحم الضأن / أنا الذي لا حول لي أو شأن / أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان / أدعى إلى الموت .. ولم أدع إلى المجالسة !!
أيتها العرافة المقدسة / ماذا تفيد الكلمات البائسة / قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار / فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوار / قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار / فاستضحكوا من وهمك الثرثار / وحين فوجئوا بحد السيف : قايضوا بنا / والتمسوا النجاة والفرار !
وعلى ضوء المعادلة السابقة حين قام السلاطين بتهميش ذوي العقل والمكيدة تأتي النتائج التي لم تكسر أفق توقعات المتلقي , إنها الهزيمة أمام الأعداء !
لم يبق إلا الموت / والحطام / والدمار / وصبية مشرّدون يعبرون آخر الأنهار / ونسوة يسقن في سلاسل الأسر / وفي ثياب العار / مطأطئات الرأس لا يملكن إلا الصرخات / الناعسة / ها أنت يا زرقاء / وحيدة عمياء !
نموذج لقصيدة قناعية ( سفر أيوب للسياب ) :
اتخذ بدر شاكر السياب من هذه الشخصية الدينية (النبي أيوب- عليه السلام ) رمز الصبر والبلاء والجهد والإيمان في المحن والرضا التام بقضاء الله في قصيدته « سفر أيوب» قناعاً للتعبير عن تجربته في مرضه الأخير عن مرحلة من مراحل تجربته.
فقد كتب هذه القصيدة في لندن في أثناء استشفائه بين نهايات عام 1962 وبدايات عام 1963م بعيداً من عائلته وأصدقائه. وفيها يتحلّى بالصبر والتجلّد على غرار النبي أيوب – عليه السلام – في العهد القديم . وقد وجد أن شخصية أيوب – عليه السلام – هي أكثر الشخصيات تراسلاً مع هذا البُعد من أبعاد تجربته .
تتألف القصيدة من عشرة مقاطع، يتجلّى أسلوب السياب في بنائها على تقنية القناع . وعندما نتأمل في القصيدة نلاحظ أن الشاعر يلجأ إلى شخصية أيوب يتقمّصها، ويتّحد بها اتحاداً تاماً وبذلك تحتوي القصيدة على مكوّنات الشخصية والشاعر معاً في آن واحد، بحيث يصعب فصلها أو تمييزها.
« وقد بلغ من قوة الامتزاج بين السياب وبين رمز أيوب الذي اختاره ليكون رمزه الأساسي في تلك المرحلة أن الشعراء الذين رثوا السياب بعد موته مزجوا بدورهم بينهما , فكانوا يتحدثون عن السياب باعتباره أيوب »
يتوجّه الشاعر في المقطع الأول على لسان النبي أيوب إلى اللّه تعالى يشكره على بلاياه الكبيرة في بوح نفسي واعتراف بفضله شبيه بالتسابيح التي يُمجّد فيها الخالق، ويجمع بين المتناقضات الفجائعية، فيعدّ مرضه هبة من اللّه، ويشكره في حالي النعمة والكربة، ويعلن استسلامه الكامل للقدر ولمشيئة اللّه:
لك الحمد مهما استطال البلاء / ومهما استبدّ الألم / لك الحمد أنّ الرزايا عطاء
وأن المصيبات بعض الكرم / شهورٌ طوالٌ وهذي الجراحْ / تمزّقُ جنبيَّ مثلَ المُدَى / ولا يهدأُ الدّاءُ عند الصَّباحْ / ولا يَمْسَحُ الليلُ أوجاعَهُ بالرَّدَى/ ولكنّ أيوبَ إنْ صاحَ صاحْ: / لكَ الحمدُ إنّ الرزايا ندى / وإنّ الجراحَ هدايا الحبيبْ /
أضمُّ إلى الصَّدْر باقاتِها / هداياكَ مقبولةٌ. هاتِها!
عند التأمل في هذا المقطع نكتشف أن وراء المعنى الظاهر ثمة دلالاتٍ عميقةً أخرى, فقوله : « لك الحمد » عبارة دعاء واستعطاف، ولكنها تأخذ بُعداً آخر في فكرنا، وتبعث على الألم المضمر بقدر ما يوحي ظاهرُ العبارة بالرضا والراحة والسكون. والذي يجعل هذه العبارة تنفجر هو ما يأتي بعدها من هدير موجع: « مهما استطال البلاء ، ومهما استبدّ الألم »، وما يعقبها من تقرير مفجع بأن الرزايا عطاء، وبأن المصيبات التي ننالها ليست سوى بعض الكرم.
فالسياب في هذه القصيدة يُبدي روحاً جديدة عالية من الصبر والتحمل والأمل وهو يتوجه على لسان النبي أيوب – عليه السلام – إلى اللّه يشكره على بلاياه الكبيرة:
« فنبرة الحمد على البلاء، وتحوّل المصيبة إلى عطاء، والاستسلام القدَريّ الكامل، والتوجه إلى اللّه بما يشبه فناء المحب في المحبوب، هي نبرة أيوبية خالصة إلى أبعد حدّ، وهي تنتمي إلى أيوب بقدر ما تنتمي إلى الشاعر»
ويقول أيضاً في المقطع نفسه:
شهورٌ طوال وهذي الجراح / تُمزّق جنبَيَّ مثلَ المُدى / ولا يهدأ الداءُ عند الصباح
ولا يسمح الليل أوجاعه بالردى. ولكنّ أيوب إن صاح، صاح:/ لك الحمد أن الرزايا ندى،
وأن الجراح هدايا الحبيب / أضمّ إلى الصدر باقاتِها،/ هداياك في خافقي لا تغيب،
هداياك مقبولة، هاتِها!»
في هذه الأبيات نلاحظ وصف مظاهر الألم والمعاناة. فصاحب الصوت يتمزّق ألماً وجراحاً طوال الليل، والداء لا يفارقه مساءً وصباحاً. ثم نلاحظ مواقف الشخصية من تلك الآلام، وطريقة تعاملها معها. فيعمد الشاعر في هذه الأبيات إلى تجسيد المجرد، فالألم عطاء، والرزايا ندى، والجرح هدايا الحبيب. إنها لغة تجسّد الرضا الذي يُبديه العاشق من معشوقه.
وحافَظ السياب على التوازن في هذا المقطع بين تجربة الماضي وتجربة الحاضر، وبين صوت النبي أيوب وصوته , فالجراح تمزّق جنبي السياب والنبي أيوب، والآلام متواصلة في مرضَيهما , واستسلام النبي أيوب لقدره يعني استسلام الثاني له , وإذا كان النبي يتقبّل هذه الرزايا، ويُمنّي نفسه بالشفاء، فليس السياب أقلَّ منه في ذلك .
وفي هذا النص الشعري نرى علاقة بين أيوب النبي والسياب الشاعر، وهي علاقة الصبر على البلاء، كما جاء في القرآن الكريم: (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادىٰ رَبَّهُ أَنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ)) (الأنبياء 21: 83 ) .
كذلك نرى السياب يتقمّص هذا النداء الكوني ليصيح :
ولكنّ أيوب إن صاح ، صاح:/ لك الحمد أن الرزايا ندى/ وأن الجراح هدايا الحبيب /
وهو يقبل هدايا الحبيب الذي هو البلاء، حيث كان يُؤلمه، ولكن هذا الألمَ كان هدية الحبيب، و هدية الحبيب لا تُردّ. فالحبيب في هذه القصيدة رمز للذات الإلهية.
ثم يأتي الشاعر بتفاصيل لبيان صورة ألمه ومرضه. فهنا في لندن أصداء بوم، وأبواق سيارة، وأصوات المرضى في المستشفى، إلى غير ذلك من الأصوات التي تؤلم من يحمل مشاعرَ رومنسيّة هادئة؛ لذا فصورة لندن مناقضة تماماً لما في «جيكور» من خضرة وحياة وأطفال ونخيل.
وفي المقطع الثاني يصف الشاعر مناخ مدينة لندن في الشتاء، ويذكر شوقه لابنه «غيلان»، وامرأته «إقبال».
وفي المقطع الثالث يحنّ إلى زوجه وأطفاله وجيكور، ويعبّر عن عواطفه الجيّاشة دون وسائط أو رموز. فلا نرى في هذين المقطعين ما يشير إلى أيوب النبي، أو ما يدل عليه.
وفي المقطع الرابع يعود النبي ثانية , ولكنّه أيوب المغترب عن وطنه وزوجه وأطفاله، وهو لا يمتلك المال أو المنزل، وهو ابن جيكور ذو العكّاز الذي يتمنّى أن يعود إلى وطنه ليدفن فيه :
يا ربّ ، أيوبُ قد أعيا به الداءُ / في غربة دونما مال ولا سكن / يدعوك في الدُّجَن / يدعوك في ظلموت الموت أعباءُ / نادَ الفؤاد بها، فارحمه إن هتفا.
يا منجياً فُلكَ نوحٍ مزِّق السُّدَفا / عنّي، أعِدني إلى داري، إلى وطني!
أطفالُ أيوب مَن يرعاهم الآنا؟ / ضاعوا ضياع اليتامى في دجى شات
يا ربّ أرجع على أيوب ما كانا: / جيكورَ والشمس والأطفال راكضة
بين النخيلات…
ويبرز الحنين إلى العراق في المقطع الخامس، ويتمنى أن يعود إليه معافى، وأن يكون مثل لعازر ينفض عنه أكفان الموت ليسير من دون عكّاز.
ويلجأ الشاعر في المقطع السادس إلى خيالاته، ويُثير موضوع الجنس نقيضاً للموت، ويتخيّل جسداً يُعَرّيه ، فتُثار عروقه الميتة، ويوهم نفسه بأنه قريب من المعجزة ليفرّ من قبضة الموت إلى عالم الحياة. ويحنّ في المقطع السابع إلى بلاده وأطفاله.
ويتذكّر في المقطع الثامن لميعة، ويحنّ إليها كما يحنّ إلى العراق وجيكور، ولكنّه يدرك أن البحر المزمجر يقوم كالسّور بينه وبين العراق، وكأنّ البحر أصبح رمزاً للموت بعد أن كان رمزاً للحياة. ويستدعي في المقطع التاسع هرقل وتموز اللذين صارعا الردى وانتصرا عليه، وهو يُقيم موازنة بين وضعيهما ووضعه فهما قويّان وهو ضعيف، مشلول، وسلاحه ضد الموت هو الشعر، فهل يُجدي مثل هذا السّلاح في مواجهة الموت العتيد؟
وفي المقطع العاشر، وهو الأخير، يخاطب الشاعر غيمة في أول الصباح، ويطلب منها أن تبرق وترعد وتمطر , والقصيدة تنتهي بهذه الأبيات:
وأنت يا شاعر واديك، أما تَؤوبُ / من سفر يطول في البطاح / تُراقص النهر
وتَلثِم المطر/ أما سمعتَ هاتف الرواح؟:/ “خامٌ وزنبيلٌ من التراب / وآخر العمر ردى ويطلع القمر / فأبرق، وأرعد، وأرسل المطر/ قصائدَ احتوى مداها دارةَ العُمُر/ يا غيمة في أول الصباح / يا شاعراً يهمّ بالرواح / وودّع القمر!
وتنتهي القصيدة برسالة من الذات إلى الذات يؤكد فيها الشاعر قرب المصير الشخصي واستسلامه لقدَره، وهنا تفترق شخصيته عن شخصية النبي أيوب، وتبرز تجربة الشاعر , وتكون الرسالة شبيهة بورقة النعي .
كما نرى في هذه القصيدة أن الشاعر استخدم تقنية القناع في المقطع الأول منها، وقد اختفى وراء شخصية أيوب – عليه السلام – وتفاعل معها.
وللقصيدة طابع قصصي فالشاعر أخذ من قصة أيوب – عليه السلام – نموذجاً لقصيدته ووقع تحت تأثير تلك الشخصية، واستخدم قصة أيوب– عليه السلام – لمِا عاناه من صبر، وامتحان وبلاء.
وكأنّ الشاعر يعاني ما عاناه أيوب – عليه السلام – مع الرضا بما أصابه. والشاعر يصوّر ما ابتلي به من صبر ، ومرض، وغربة في لندن. فهناك صفات مشتركة بين شخصية الشاعر وشخصية النبي أيوب– عليه السلام – .
ويرى الدكتور محمد فتوح أحمد أن السياب قد وجد أكثر الصيغ ملاءمة لأحزانه الصابرة في شخصية أيوب– عليه السلام – ؛ فامتزج بها امتزاجاً كاملاً. وكان أيوب – عليه السلام – حقيقةً هو الذي يشكو ويبوح ويهجِس ويأمل .
وهذه القصيدة كادت أن تشكّل عملاً درامياً متميزاً، لولا نبرة التفجع و النحيب التي انغمس الشاعر فيها، وغطّت معظم أقسام القصيدة . ويبدو مما مضى أن السياب يرى شخصية النبي أيوب قادرة على حمل أعباء تجربته التي يعانيها. فاستخدم هذه الشخصية استخداماً مباشراً، ولجأ إلى التقنع بها ـ خاصة في المقطع الأول من القصيدة ، و تفاعل معها وامتزج بها امتزاجاً كاملاً، معبّراً عن بعد من أبعاد تجربته.
كما لاحظنا أن الشاعر في معظم مقاطع القصيدة يرفع القناع عن وجهه، ويعبّر عن تجربته الذاتية تعبيراً مباشراً.