تأملات في نص (بين بين) للشاعرة:هند النزاري
النص
--------------
تَـنـازَعَ فــي أفــقِ الـهوى الـقلبُ والـفِكرُ
فـلـلـنّارِ مـــا تَــحـوِي ولـلـريـحِ مـــا تـــذرُو
ولــي مــن كــلا الـخَـصمين بــوحٌ مُـطوَّلٌ
بِــصــمــتٍ وإفـــصـــاحٍ وأحــلاهُــمـا مُـــــرُّ
فـمـا زلــتُ أحــدُو الآهَ فـي كـلِّ عَـاشقٍ
يُــزلـزلـهُ الـمَـغـنَـى ويَـلـهـو بـــه الـشِّـعـرُ
ومــا زلــتُ أسـتـدعى الــرُّؤى كــلَّ لـيلةٍ
ومـــا زالَ لـــي فــي كــلِّ تَـهـويمةٍ سِــرُّ
ولـكـنـني أُخــفِـي عـــن الـقـلبِ مــا بــه
فــيُـدنـيـهِ إغـــــواءٌ ويـــنــأَى بـــــه زجْـــــرُ
تُــجــرِّؤُهُ الــبَـلـوى عــلـى الــبـوحِ بُــرهـةً
ونَــــجـــواهُ آثـــــــامٌ وأشـــجــانُــهُ كُـــفـــرُ
فــيَـقـتـاتُ بــالـصـمـتِ اعــتــزالًا وغــربــةً
فـحـيـلـتُـهُ الــسّــلـوى وقــانـونُـهُ الــصَّـبـرُ
وقـــد يـتـحـدَّى الــكـونَ بـالـنـبضِ بـيـنـما
تَـــطـــوفُ بـــــه الــدنــيـا وآفـــاقُــهُ قَـــبــرُ
فــإن دَاهَـمَـتْ أشـتـاتَهُ هـمـسةٌ مَـضى
على حدِّ سيفِ الصّحْوِ يهذِي به السُّكْرُ
أقــــولُ لــــه يــــا أيــهــا الــغِــرُّ مــــا لــنــا
عـلـى هــذه الأفـكـارِ فــي عـصْـفِها أمْـرُ
وأنــسَـى الـــذي خَـوّفـتُـهُ مــنـه عـنـدما
يَـعِـنُّ عـلـى بـالِ الـهوى الـطَّيُّ والـنَّشْرُ
فــيَــزرعُ فــــي رَوعِــــي الـحـنـينَ لـعـلّـنا
نــجُــرُّ الــصَّــدى تِـيـهًـا فــنـرْوَى ونـخـضَـرُّ
ويَــعـتـادُنـي سِـــحــرُ الـتّـثـنـي كــأنّـنـي
بُـــنـــيّــةُ عــــشـــرٍ لــلــتـغـاريـدِ تَـــنــجَــرُّ
وحـيـن يـرانِـي فــي سِــوَى مــا ادَّعـيْتُهُ
تـــعــاوده الــشــكـوى ويــغـتـالـه الـــــوِزْرُ
ويــســألــنـي هــــــلَّا نُــصــلِّــي تَــقِــيَّــةً
فــيــأخُــذنـا شَــــفـــعٌ ويُــرجِــعُـنـا وِتْــــــرُ
ويـــــدرِي الـــــذي لاذَتْ بــــه مُـبـهـمـاتُنا
عــن الـصّـبحِ أم عـن سَـائقِ الـليلِ نَـزْوَرُّ
شَــــتـــاتٌ مَــرامــيــنـا خُــــــواءٌ دُروبُـــنـــا
مَــلامــحُــنــا تــــيــــهٌ وآفـــاقُـــنــا قَــــهـــرُ
نَــعــيـشُ لــنــرفُـو كـــــلًّ يـــــومٍ ثـقـوبَـنـا
وتَـفـتـقُها ذكـــرَى حـكـايـاتِ مـــنْ مَـــرُّوا
وحــيـن تَــمـادَى فـــي خِــداعِـي بَـتـرتُهُ
وفــي حَــالِ فِـقدانِ الـرَّجَا يَـحسُنُ الـبَتْرُ
ووجــهِـي تَـخـطَّـاني لِـتـضلِيلِ خَـطـوَتِي
وقــد جَــالَ فــي أنـحـائِهِ الأمــنُ والـذعرُ
تُــحـدِّثُـنـي عـــنــه الــمَــرايـا فـتـخـتـفـي
حـقـيـقـتُهُ إن طــــافَ قـسْـمـاتِـهِ الـمَـكـرُ
ويــرجِــعُ لــــي مـسـتـسـلِمًا إثْـــرَ آهـــة
تـنـاهتْ إلــى الأحْـداقِ واجـترَّها الـصَّدرُ
تَــقــرَّبَ مــنــي حــيـن ضَــجَّـتْ جــراحُـهُ
وتـــــاهُ بــعـيـدًا حــيــن ســاومَــهُ الــكْـبـرُ
أعــيـدي إلـــيّ الـرشـدَ يــا رَبَّــةَ الـهَـوى
فَـنـجـمَةُ أوهــامـي كــبَـا دونــهـا الـفَـجـرُ
تَــنــاوبَـتِ الأيَّـــــامُ تَـــرعــى سَــديـمَـهـا
دهــورًا وفــي أعـمـاقها لـلأسـى سِـفْـرُ
وأنــهـكَـنِـي ركــــضُ الــمَــداراتِ حــولـهـا
فـغـادَرْتُ فـوضـى الـليلِ والـوجهَةُ الـخِدرُ
فَــكــان أنِ اســتـدعَـتْ خُــطــايَ رَبــابــةٌ
ورَاودنـــي عـــن تَـوبـتِي الـطّـبلُ والـزّمـرُ
ودنـــــدنَ عُــشــاقٌ بــقـربـي فَـصـفَّـقَـتْ
لــهــم آخــــرُ الأحــــزانِ والـلـوعـةُ الـبِـكـرُ
تَـمـاديـتُ فـــي الـتّـهويمِ؟! أدري وإنّـمـا
هــي الأمـنـياتُ الـبـيضُ والـنُّـقطُ الـحُـمرُ
ونـــحــن نُــغــنّـي لـلـمـسـافـاتِ بــيـنـهـا
فـيـغـتـالـنـا شَـــطــرٌ ويــجـتـازُنـا شَـــطــرُ
ومَـــن تَـمـلـكُ الأمـــواجُ مِــجـدافَ قـلـبِـهِ
أســيــرٌ لــهــا مَـهـمـا ادَّعـــى أنـــه حُـــرُّ
-مدخل:
لما وقف ابن رشيق القيرواني أمام نتاج الشاعر البحتري؛ أدهشته طلاوته البيانية؛ وحلاوته الفنية؛واسترعت انتباهه تلك الرشاقة التعبيرية التي اتسمت بها تجاربه الشعرية ؛فأثنى عليه بهذا القول الدقيق :-
«البحتري أملح الناس صنعةً؛ وأحسن مذهباً في الكلام ؛يسلكُ فيه دماثةً؛ وسهولةً مع إحكام الصنعة؛ وقرب المأخذ؛ ولايظهر عليه كلفةٌ؛ ولامشقة»
ولاأغالي إذا قلت إنَّ هذا الوصف الدقيق يمتد إلى النابهين من الشعراء والشاعرات في أصقاع الأرض؛والشاعرة هند -في ضوء ما اتسمت به تجاربها الشعرية الأخَّاذة من عناية فائقة؛وتجرد تام لبناء القصيدة؛وطبع مكين يستحثها على الإتقان في صناعتها؛فضلاً عن مَلَكتها التصويرية الصادقة؛وأدائها اللغوي البارع ؛وتماهيها الملحوظ مع مضامين تجاربها الفنية؛ تقف في طليعة شاعرات العصر ..
-النص وأجواؤه:
_________
اتخذت الشاعرة مسلكها الفني في هذا النص؛ منطلقةً من أعتاب "البينية" -إن صحَّ التعبير- في اصطناعها عنوانها الظرفي :(بين بين)؛؛وتبدَّتْ فيه الشاعرة وهي في حلبة مشحونة بالتوتر والانفعال يحيطان بها من كلِّ زاوية؛ إزاء مواجهة حادة
شهدتها تحاورا؛وتفاعلاً؛ وتنازعاً ؛وأملتْ عليها كما يقال "أن تضع النقاط على الحروف"؛وهي تتلمس وجهتها الصحيحة؛معيدةً النظر في طبيعة الشتات النفسي؛والصبوات الحسية التي تقابلها ؛وتكمن لها في الأماني البراقة؛والخيالات المتواردة للعين في الصور المتحركة؛وما إلى ذلك .
نحن إذن أمام تجربة شخصية ؛التقى فيها الفكر والوجدان في بوتقة الفن الجمالي كمايلتقي الخصمان ؛يغاضب كلُّ منهما الآخر؛ويريد لنفسه الهيمنة
المطلقة على مقاليد الذات الشاعرة..
وماهي إلاَّ هنيهة حتى انبلج صوت الشاعرة في امتشاق ريشتها الوصفية ؛والمضي الموضوعي بها في استقصاء جوانب الصراع العاصف ؛وانعكاسات ذلك على واقعها النفسي؛ومرصدها العقلي المتبصر؛ وفقاً لسلسلة من المشاهد الحيوية ؛كما في (حدائها للآه؛واستدعاء الرؤى؛وإضمار القرارات الواعية؛ومتابعتها الدقيقة للأطوار القلبية ؛وملاحظتها لمواطن السيطرة الخفية والمرئية )؛ ممثلةً في (نجاويه الآثمة؛واقتياته للصمت؛وتحدي الكون بنبضه؛وما شابه ذلك من ممارسات استعلائية تدخل في صميم الإغراء والإغواء القائمين على قوَّة الجذب؛
إذ ذاك تعلن الشاعرة وثبتها -على الشبهات والاحتمالات ؛ومحاولة ردع هذا القلب المتمادي في غلوائه؛والمتفنن في زخرفة العواطف الوهمية؛ودفْعها باتجاهات غير مأمونة العواقب ؛إلى درجة أنه يكاد يحجب عنها سبل الهداية والتقوى والإنابة- فتعلو نبرتها ؛ويعتريها نوعٌ من الغضب المزلزل؛ فتصدح قائلةً:
أقول له يا أيها الغرُّ مالنا
على هذه الأفكار في عصفها أمر !
مايلبث هذا القلب الغائص في بحار المطامع الآنية؛واللذَّات العابرة ؛والتسويفات الناعمة : (أن يزرع في روع الشاعرة الحنين الممض؛مصوراً لها في سياق الإغراء؛ مشاهدها الطفولية الحالمة؛منتقياً لهامرحلة: (بُنية عشر)؛
ويمضي مستغرقاً في تسويلاته اللاهية؛وطرائقه الزاهية ؛حتى يستشري خطره على الشاعرة؛وتضيق به ذرعاً ؛ هنالك يأتي القرار الحاسم من لدنها صاعقاً؛على حدِّ قولها:
وحين تمادى في خداعي بترتهُ
وفي حال فقدان الرجا يحسنُ البتر!
وتأتي تداعيات ذلك الإجراء الطبي الواعي؛عكس ماكانت ترمي إليه الشاعرة؛إذ لم يقطع البتر حبل الغواية تماماً ؛(وأين يمضي هارب من دمه؟!
فإذا هذا القلب الجريح مستسلم بين يديها؛لائذٌ ببابها ؛وإذا هو يتقرب إليها تقرَّباً حميماً في مقام الملاطفة ؛"وطلب اللجوء"؛ وإذا هو يطالبها بقضية عزله عنهامستجدياً؛وذلك بأن تعيد إليه رشده المفقود؛وصوابه الذي انسلخ عنه!
لكنَّ الشاعرة -وهي الجرحى بذلك التحامل المرير على وجيب قلبها- قدأصدرت قرارها ؛و"لاتَ ساعة مندم- وتمَّ لها أن تضرب صفحاً عن هواجسه المُعذبة؛وهدهدات ألاعيبه ومكائده ؛وأن تتجاوز الأسلاك الشائكة ؛مستأنسة بصوت العقل؛باتجاه منعطف آخر ؛تغشاه مسحة من ندم دفين على نحوٍ ما ؛وذلك من خلال استدعاء بعض مواقفها كما في هذه الشجون الملتهبة: (تناوب الأيام الضبابية عليها؛التمادي وراء التهويمات المزخرفة؛العكوف على الأمنيات البيضاء؛والتماعاتها الهشَّة؛ وتخطي (النقط الحمر)؛إزاء الغفلات التي كانت تنسج لها الأغلال الخفية..
ولما أحسَّت الشاعرة أنَّها ليست وحدها ؛أمام تيار العواصف العاتية؛وفي ميادين الصراع الوجودي ؛بل الكلُّ معها في الخندق نفسه؛بمعزل عن العبر والعظات ؛قد أصمَّ أذنيه؛غير عابيء ؛بكرِّ الليالي والأيام؛ وغير مكترثٍ بتوالي الأحداث الجِسام؛واحتشاد المخاطر به ؛هنالك أطلقت صوتَها التقريري الشمولي بقولها:-..
(ونحن نغني للمسافات بينها
فيغتالنا شطرٌ ويجتازنا شطر)
ولعلَّ الغناء للمسافات وهو تعبير ابتكرته الشاعرة فيما أعلم ؛بصبُّ في مجرى الآمال النابضة بالحياة؛واستشعار مذاق السنوات الحالية الطعم في أكمام تلك الآمال الباسمة؛لكنَّ مباغتةً ما سرعان ما تعصف بهذا النعيم السادر ؛تكون مقترن بحركة الزمن ؛ومندسة في الأعمار نفسها ؛ فتكون النتيجة الحتمية :(فيغتالنا شطرٌ ويجتازنا شطر)؛ شطران متعاقبان يتخذان إطار الثنائية؛يمكن أن يندرجا في مضمار(الموت الحياة)؛(الخوف والأمن)؛(الهلاك والنجاة)؛ وماشابههما من مفارقات..
ويأتلق صوت الحكمة في الختام بقولها:
ومن تملك الأمواج مجداف قلبه
أسيرٌ لها مهما ادَّعى أنَّه حرُّ).
وفي النص عناصر فنية لاعداد لها؛ وظواهر أخرى تستدعي الوقوف عندها ملياً؛ لاستكناه مكنوناتها؛وسبر أغوارها ؛مما لايتسع لها المجال الآن؛ ولعل في الإضاءة هذه جانباً من تسليط الضوء على روح التجربة ..
تحياتي للشاعرة القديرة قيثارة المدينة؛ شاعرة المطولات الفاخرة؛واللغة الرصينة؛والاستقصاء المدهش🌷