-------------------
-عرض النصّ:
سُـكــونٌ كَـالـمَـقـابِـرِ لا يُــطَــاقُ
غَـرامٌ لا يَـكُـونُ بــهِ الــتِـصَــاقُ !!
فـلـثْــمُ تَـرائـبٍ و شـمِـيـمُ صــدْرٍ
بِـشَـرْعِ الـعـاشِـقِـيـن هو الصّـدَاقُ !!
وَ مَــا أشـهـى الـهَـوى إنْ ضـمّ روحـاً
لــرُوحٍ ثُـمَّ لَـفّـهُـمَـا الــعِـنَـــاقُ !!
سـتَـمْـسَـحُ قُـبْلَـتَـانِ و دِفءُ حضْـنٍ
مِـنَ الأوجَـاعِ مـا طـعِـمُـوا وذاقُــوا !!
ثَـــلاثٌ إنْ ظَــفِــرْتُ بِـهِـنَّ مِـمَّــنْ
هَـوَتْـهُ الـروحُ عَـذَّبـَهـا الـفِــرَاقُ !!
تَـأمُّــلُ عَــارِضَـيْـنِ و شَـمُّ جِـيــدٍ
وَ لَـثْـمٌ مِنهُ تَـنْـتَـفِـضُ الحِـقَـاقُ !!
وَ إنْ أنَـاْ لَـمْ أَذُقْ خَـمْــرَ الـثّـنَــايَـا
فَـقَـدْ ضَـيَّـعْـتُ أنْـفَـسََ مـا يُـذَاقُ !!
حَــرامٌ أنْ أُضَـيِّــعَ مِـنْـكِ حَــظِّــي
مِـنَ الـلّــذَّاتِ أيَّـتُـهَــا الــعَـنَــاقُ !!
طقوسٌ غرامية
وَ أعْـظَــمُ حُـرْمَـةً و أشَــدُّ وَطْــئـاً
دَمُ الـيَـمَـنِ الــسَّـعِـيـدَةِ إِذْ يُــرَاقُ !!
وَصَـرْخَـةُ سُـورِيَـا وبُـكَـاءُ حَـيْـفَـا
يُـحَـشْـرِجُ في الصُّدورِ لَهُ اخْتِـناقُ !!
وَلُـبْـنَـانُ الـعُـرُوبَـةِ مَـحْـضُ جُـرْحٍ
يَـطُــوفُ بِـنَـا لَـهُ قَــدَمٌ و سَــاقُ !!
َو فـي الـسّـودَانِ شَـيْـطَـانٌ يُـغَــنِّــي
لِـيَـرْقُـصَ فِـي شَـوارِعِها الشِّـقَـاقُ !!
تُـحَـاوِلُ مِـصْـرُ نُـصْـرَتَـهَـا وَ لَـكِـنْ
مُـعَــاقٌ قَــامَ يُــسْـنِـدُهُ مُــعَــاقُ !!
إذَا الـعَـرَبِـيُّ لَـمْ يَـنْـضُـجْ صَـغِـيـراً
فَـكَـيْـفَ تَـعُـودُ لِـلْـعَـرَبِ الـعِـرَاقُ !!
تمزق الوطن العربي
دَعِـيـنِـي مِـنْ هَــواكِ فَـإنَّ قَـلْـبِــي
إلـى الـعَـلْـيَـاءِ سَـــارَ بـهِ بُـــراقُ !!
ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا ؟؟
لَـنَـا الخَـيْـلُ الـمُـبَـرِّزُ و الـعـتَـاقُ !!
بِـكُـلِّ مَـنَـاكِـبِ الـدُّنْـيَـا مَـشَـيْـنَــا
لَـنَـا فِـي كُــلِّ مُـعْـتَـرَكٍ سِـبَــاقُ !!
فَـكَـيْـفَ تُـذِيـلُـنَـا شَـفَـةٌ و كَــأسٌ
وَتَـسْرِقُ مَجْـدَنا الـنُّـجْـلُ الـرِّقَـاقُ !!
إلماحة مُجملَة
جِـنَـانُ الـوِدِّ يَـأْكُـلُـهَـا الــتَّـلاحِــي
ونَـارْ الـبَـيْـنِ يَـقّدَحُهَـا الـشِّـقَـاقُ !!
لَـنَـا أعْــدَاءُ قَـدْ ظَـهَــرُوا و بَـانُــوا
مِـنَ الـبَـغْـضَـاءِ كَـأسُـهُـمُ دِهَــاقُ !!
وَ فَـوْقَ الـبـشْـرَةِ الـسّـمْــرَاءِ يَـبْـدُو
جَـلِـيّـاً حِـينَ يَـنْـتَـشِـرُ الـبُـهَـاقُ !!
هَــدَانَـا خُـبْـثُ أنْـفُـسِـهِـمْ إلَـيْـهِـمْ
كَمَا يَـهْـدِي إلى الـمَعْـنَى الـسِّـيَـاقُ !!
سُـكَــارَى كُـلَّـمَـا وَجَــدُوا سَـبِـيـلاً
إلـى إطْــفَـاءِ جُـذْوَتِـنَـا أفَـاقُـــوا !!
يَـسُـوقُـونَ الـشَّـبَـابَ إلى الـمَـخَـازِي
كَمَا تُـسْـتَـاقُ لِـلْـعَـطَـنِِ الـنِّـيَـاقُ !!
فَـكَـيْـفَ سَـنَـسْـتَــرِدُّ زِمَـامَ مَـجْــدٍ
وَ نَـحْـنُ لِـمَـا أُرِيــدَ لَـنـا نُـسَــاقُ !!
إذا يَـبِــسَ الـتُّـقَـى بِـفِـنَـاءِ قَـلْــبٍ
وَ أمْـطَـرَهُ الـهَـوَى نَـبَـتَ الـنِّـفَـاقُ !!
عُـــرُوبَـتُـنَـا تَـئِـنُّ أنِـيـنَ ثَـكْـلَـى
مَـواجِـعُـهَا العَـظِـيـمَـةُ لا تُـطَـاقُ !!
إذَا ادّكَـرْتْ (بَـنِي الـعَـبَّاسِ) أغْـضَـتْ
ولِـلـذِّكْـرَى بِـعَـبْـرَتِـهَا اخْـتِـنَـاقُ !!
خُــيُـولُ ( بَـنِـي أُمَـيَّـةَ) كُــلَّ يَــومٍ
لَـهَـا مِنْ مِـلْـحِ أعْـيُـنِـهَـا انْـطِـلاقُ !!
تُـنَـادِي عَـمْـرَو و الـقَـعْـقَـاعَ هَـدْراً
و يَـأْســاً أنْ يُـجَـاوِبَـهَــا الـرِّفَــاقُ !!
تُــؤَمِّــلُ.. إنّـمَـا عَـبَـثـاً... كَـكَـهْــلٍ
إلى زَهْـرِ الـشَّـبَــابِ بـهِ اشْـتِـيَـاقُ !!
عَـلـى أنِّـي و إِنْ دَجَــتِ الـلّــيَـالِــي
وَ بَـدْرُ الـتَّــمِّ خَـاتَـلَـهُ الـمُـحَـاقُ !!
عَـلَــى أمَـــلٍ بِــأنَّ الــصُّــبْــحَ آتٍ
كَـغُــرَّةِ مَـنْ تحِـبُّ لَـهُ ائْــتِــلاقُ !!
فَـمَـهْـمَا اشْـتَـدَّ بِـابْـنِ المَاءِ ضِـيـقٌ
وَ ضَـاقَ عَلَيْـِه بِـالـكَـدَرِ الـخِـنَاقُ !!
سَـتَـبـقَى فُـرْجَـةٌ لِـلـسّـعْـدِ مِـنْهَـا
بِـحَــوْلِ اللهِ يَـتَّـسِــعُ الـنِّـطَــاقُ !!
فـبَـعْــدَ الـعُــسْـرِ قَـالَ اللهُ يُـسْــرٌ
وَ بَـعْـدَ ضَـرَاوَةِ الــجَـدَلِ الـوِفَــاقُ !!
وَ لَـوْلا الـلـيْـلُ مَـا بَـزَغَـتْ نُـجُــومٌ
ولَـوْلا الـكُُـفْـرُ مَا فُـضِـحَ الـنِّـفَـاقُ !!
و مَــا لِـلْـعُـودِ مِـنْ عَـبَـقٍ و نَــفْــحٍ
إذآ لَـمْ يُـبْــدِ جَـوْهَـرَهُ احْــتِـرَاقُ !!
إذَا اعْــتَـصَـمَ امْــرُؤٌ بِـاللّــهِ لانَــتْ
لَـهُ الأَرْضُـونُ وَ الـسَّـبْـعُ الـطِّـبَـاقُ !!
وَ مَـنْ لـمْ يَــتَّـعِــظْ بِـالـدَّهْـرِ غِــرٌ
مِـنَ الأَيَّـــامِ لَـيْـسَ لَــهُ خَــــلَاقُ !!
سَـأَلْـتَـزِمُ الرَّجَـا و الـصَّـبْـرَ حَـتَّـى
يُــنَــادَى أنْ إلـى اللـَّـهِ الـمَـسَــاقُ !!
وَ مَــا لِـيَ و الـغَـرَامِ فَـلَـيْسَ بَـيْـنِـي
وَ بَـيْـنَ ذَوِيـهِ فِـي الـدُنْـيَا اتِّـفَـاقُ !!
وإنْ خَـنَـعَـتْ لِـذُلِّ الـحُـبِّ نَـفْـسِـي
فَــأيْـسَــرُ مَــا يُــعَـالِـجُــهَـا الـطَّـلاقُ !!
-----------------------------
-عنوان النص وإشعاعاته الفنية:
لامناص لأي قراءة نقدية في المقام الأول ؛من أن تكون انطلاقتها المشروعة السائغة من استقراء العنوان البرّاق الذي ارتضاه الشاعر؛وأودع فيه-بطريقةٍ مكثفة- معانيه النفسية الغزيرة؛ولواعجه المؤرقة المتدسسة في أعماقه..
وإذا كانت واجهات البنايات العمرانية ؛علاماتٍ فارقة يستدلّ بها مرتادوها إلى الدخول إلى أعماقها ؛فإنَّ عنوان النص هو حجر الأساس الذي يقوم عليه معمار القصيدة؛ومن ومضاته الأولى يستدل المتلقي على العديد من أسرار النص الذي يصافحه ؛ويهمُّ باستقرائه؛في وقفاته التالية.
و عنوان قصيدةشاعرنا :(طلاق الحب) -من الناحية الشكلية- عبارةٌ عن تركيب إضافي (مضاف ومضاف إليه)؛ارتآه الشاعر واستحسنه ؛وفقاً للحركة الديناميكية الناجمة عن طبيعة العلاقة المتنافرة؛والجو المشحون بين دلالتي: "طلاق"و"الحب"؛كما أنَّ الشاعر رأى فيه مدخلاً ينفذ بواسطته المتلقي؛إلى المضامين التعبيرية التي سيقرع بها الأسماع ؛ويقدح بها الأذهان..
وعند علماء اللغة فإنّ المضاف هنا اكتسب خاصية التعريف ؛بعد أن كان مجرد نكرة مبهمة..
وبالعودة إلى معاجم اللغة لاكتشاف مدلولات هذا التركيب على نحوٍ أدقّ ؛يتجلى لنا أنَّ
أكثر المعاني المنبثقة عن لفظة (طلاق ) ؛وإليها تنصرف الأذهان تندرج تحت قضية "إزالة مشروعية عقد النكاح بين الزوجين"؛ومايترتب عليه من انفصالهما التام عن المعيشة معاً تحت سقف واحد؛وإلغاء مبادئ الشراكة التي ألّفت بينهما ؛فيما سبق من مراحل زمنية؛ومن هنا أصبحت اللفظة مصطلحاً موائماً لتلك الأجدات..
على أنَّ هناك عبارات شتَّى تجري في فلك مصطلح(الطلاق)؛كقولهم:
"طلَق المسجونُ": أي تحرَّرَ من قيد ما كان مفروضاّ عليه؛وكقولهم:
طلَق يدَه بالخير: أي بسَطها للعطاء والبذل...الخ
وإجمالاً لما سبق ؛فإنَّ ما تشع به تلك اللفظة من إيحاءات ؛إنما تندرج في معاني الافتراق والاختلاف وفقدان اللُّحمة المشتركة بين الطرفين..
وتأتي لفظة (الحب) -سلطان المشاعر والعواطف -جليةً واضحة للعيان؛مؤتلقة في النواظر والأسماع ؛إلَّا أنّ الحب هنا بهالاته النورانية الملتحمة به؛وصفاته القُدسية ؛يشهد أحداثاّ دراماتيكية عاصفة ؛أذاقته ألوان الهزيمة ؛حتى ألجأته إلى أن ينأى بجانبه؛وأن يتنازل عن عرشه المطهَّم؛وأن تتضاءل قيمته الوجودية؛ليستحيل بعد ذلك كائناً منبوذاً محتقراً ؛أشبه مايكون بسقط المتاع..
وفي هذا السياق الناعم المخملي نستأنس بقول كاتبٍ قديم:
« الحبُّ أصعبُ ما رُكِبَ، وأسْكَرُ ما شُرب، وأقطعُ ما لُقي، وأحلى ما اشْتُهي، وأوجعُ مابُطن؛وأشهى ماعُلن».
من هذه الجولة العنوانية الخاطفة؛يمكن لنا أن نستخلص
أنَّ الحب -في نظر الشاعر -فقد جدواه ومصداقيته؛ وخسر رونقه الذي اتشح به؛وتأثيره المستمد من تفاعله مع بني الإنسان؛فوق أنَّه سُلبت منه الرهافة المقترنة به في ماضي الزمان؛فأصبح أقرب مايكون إلى مأساةِ المرأة المطلّقة ؛أو المسرّحة تسريحاً لاإحسان فيه؛ولالطافة تعتريه؛وأصبحت لغته الناعمة ؛ساذجة فجة لابريق لها؛ولاقدرة لها على رسم معالم الوفاق بين أصحاب الهمِّ الواحد.
على أنَّ هناك تأويلات أخرى؛تصبُّ في النهر ذاته ؛وهو نهر لم يعد صافياً .
ومن هنا فنحن على أعتابٍ غليانٍ شعري ؛حشد الشاعر فيه طاقته الفنية؛وأشهر حججه الدامغة؛وبراهينه النافذة؛على ماسنرى في أبيات النص .
-----------------------------
-الجو العام للنص:
يفتتح الشاعر نصَّه مشيراً إلى السكون المطبق الذي يلفُّ الكون بأسره ؛ويحيط به إحاطة السوار بالمعصم ؛وهو سكونٌ رأى فيه الشاعر صمت المقابر الموحش؛ تشبيه المعنوي بالحسِّي".
وفي الإطار نفسه -لافاصل بين الأمرين-هناك غرامٌ يسبح في فضاء العدم ؛غرامٌ جائع يفتقر إلى طقوسه المتعارف عليها في قواميس العاشقين ؛من لثم وعناق وقبلات حارّة؛باعتبارها الأثمان المادية المعبرة عن مصداقيته وقيمته المعنوية.
بتلك الطقوس الحلوة يبلغ الهوى الوجداني قمة صفائه ؛وذروة احتوائه؛
إذ لا أجمل من روحين ؛ضمهما الهوى الوجداني على ضفاف الحياة ؛وكان العناق المبرأ من الخداع غلافاً لهما ؛
في مواجهة طاحونة الحياة؛وتحدياتها المحدقة.
إن تلك الحرارة الوجدانية التي يتقاسمانها؛ وتداعياتها الحميمة من قبلات وأحضان دافئة ؛تعدُّ بمثابة الإكسير الذي به تتداوى الأوجاع ؛وتلتئم الجراحات..
وهكذا يمضي الشاعر في حديثه الغرامي السائغ العذب المنصب على الشمولية ؛لاعلى الخصوصية؛راسماً نموذجاً إنسانياً فريداً من نوعه؛ في ضوء تصوراته الشفافة المتوخية بناء صرح العلاقات الصادقة بين المحبين على الوجه الأكمل والأتمّ .
حتى إذا انتقل إلى الحديث عن ذاته الهائمة ؛وأزمته الخانقة؛وجراحاته الملتهبة؛تغيرت النبرة قليلاً؛وتغير المسارالكلّي بعدها ؛ووجدنا أنفسنا أمام انتفاضة عارمة أفضت بنا إلى الخروج من توطئةٍ وجدانية واضحة المعالم ؛إلى مواجهة سلسلة من الخيبات المعاصرة؛يستهلها بقوله:-
وَ إنْ أنَـاْ لَـمْ أَذُقْ خَـمْــرَ الـثّـنَــايَـا
فَـقَـدْ ضَـيَّـعْـتُ أنْـفَـسََ مـا يُـذَاقُ !!
من نافذة هذا البيت القائم على نفي الهناءة وحلاوة الطقس الأنيس ؛واللذّة الحسية ؛ وإثبات الضياع الذي حال دون نيل مطلبه العزيز ؛منسوباً إلى الذات في (ضيعتُ)؛ ومؤكَّداً بأداة التحقيق (قد) ؛نذلف إلى معاينةخارطة الأقطار العربية؛
(اليمن-سوريا-لبنان-مصر -السودان- العراق)؛ وهي خارطةٌ داميةٌ تكسوها الأردية الشاحبة من كلّ زاوية من زواياها.
لغةُ الشاعر التصويرية الوصفية -إذن-تتجه بنا صوب الأوطان المتشظية ؛الأوطان التي أرهقتها المؤامرات وأثخنتها النزاعات؛وعطلت نهضتها الانقسامات ؛والصراعات الغائمة؛واستشرت في ربوعها ملامح
الخزي ؛والعنف ؛والتخلف ؛فإذا بها تعود القهقرى ؛وإذا بينها وبين الحضارة العالمية سنين ضوئية لاعداد لها..
لقد رصدت عدسة الشاعر سلسلة من الأزمات والانكسارات؛مستمداً ذلك كله
من مرآة الخذلان العربي ؛والتشرذم السائد ؛الناتج عن ضياع البوصلة ؛فتبين له أن كلّ قُطرٍ منها؛أصابته الأحداث الجِسام دون هوادة ؛وساقته القرارات العمياء إلى حافة الفناء.
دماءٌ تراق عبثاً؛ جراحات تتفاقم على مرأى ومسمع من العالم ؛مناوشات غوغائية ؛مطامع استعلائية هدفها الهيمنة ؛صراخات تدوي في الآفاق فتبتلعها آذان الصخر الأصمّ ؛وشيطان احترف الغناء مؤخراً في السودان ؛ومشاهد أخرى دراماتيكية يندى لها الجبين ؛وترفضها المبادئ المثلى..
لقد سار الشاعر بقلبه المشرئب إلى المطامح العُليا ممتطياً بُراق شعره الجامح ؛سيراً حثيثاً إلى التحديق في حاضرنا الأصم الأبكم بعين البصير الواعي المسكون بهموم أمته وهي تنحدر إلى الهاوية السحيقة؛ورأى بعين الحكيم النابه جراحات الوطن العربي الكبير المتسعة وشجونها المترامية.
وإنها لجراحات دامية لمن ألقى السمع؛ جراحات لايهدأ أُوارها ؛أساسها حالاتُ التشرذم والانقسام والعزائم الخائرة..
في هذا الجو الصاخب المتوتر المشحون ؛أرسل شاعرنا الصداح أنغامه المرنانة ؛في إطار أسئلته المنصهرة في بوتقة آلامه ؛يحدوه في ذلك إيمانٌ مكين ؛وقلبٌ يحلم بانتظارِ غدٍ قادمٍ لامحالة؛ تفيق فيه الأمة من سباتها الطويل.
وفي إطار تشخيصاته البارعة للواقع الهزيل ؛واجهتنا مجموعة من الإحالات والإشارات إلى مواطن العز والشجاعة المغيبة؛و مواطن الذل والهوان المستبسلة في نخر جسد الأمة.
إن معطيات تجربة شاعرنا إنما هي انعكاس لواقع منتكس؛هيضت أجنحته الرفافة؛وتكسرت على شاطئ الأحلام والأمنيات..
لم تغب عن بوصلة شاعرنا الدقيقة صفحات الأمجاد التاريخية الخالدة في ضمير الزمن ..
وهي صفحات مضيئة ؛لم نقدرها حقَّ قدرها؛ ولم نستوعب ما اشتملت عليه من مآثر وبطولات؛فتركناها نهب الضياع ؛والجمود المطبق؛وأسدلنا عليها ستائر النسيان الصفيقة؛فتولدت أشكالٌ من الخزي والرضوح والانقياد الأعمى ؛وقديماً قالت العرب: «لافرق بين إنسانٍ يُقاد وبهيمة تنقاد».
غابت الشجاعة والبسالة والتضحية والقيم الجوهرية؛وغاب نضج العربي؛فضاعت الأوطان؛وظلَّ الأعداء من حولنا يتفننون في صناعة المصائد والأفخاخ..
فهم في مرآة الشاعر:
سكارى كلما وجدوا سبيلاً
إلى إطفاء جذوتنا أفاقوا!
يسوقون الشباب إلى المخازي
كما تستاق للعطن النياق!
وفوق ذلك العناء المستفحل ؛والعنت الذي نتجرعه ؛مازالت الصورة العامة قاتمة متجهمة في مشهد العروبة المغلوبة على أمرها ؛كما في هذا التصوير المؤلم:
عروبتنا تئنُّ أنين ثكلى
مواجعها العظيمة لاتطاق..
إنَّ "وراء الليلة السوداء فجر أبيض " ؛ آتٍ لامحالة ؛لكنَّ مأتاهُ المفعم بالنصر ؛مشروطٌ بالعودة إلى ذي الجلال والإكرام؛والإنابة الصادقه إلى ركنه الذي لايُضام ؛والاعتصام الجمعي بحبله المتين؛والمُضي على نهجه القويم ؛كما في هذا التقرير:
إذا اعتصم امرؤ بالله لانت
له الأرضون والسبع الطباق!!
الحاضر المتأزم المتردي؛والأمس الساطع المُغيَّب ؛يتشكلان في لوحة شاعرنا على هذا النحو:
-الحاضر المتهالك :أبطاله الأعداء النفعيين المتآمرين على طمس هوية الأمة؛والاستئثار بثروات أوطانها.
-الأمس المصاب بالعقم: أبطاله من بني جلدتنا؛ أغلقوا منافذ التفكير؛واستسلموا للتبعية ؛والركض وراء الشهوات الرخيصة.
لقد بدت عاطفة شاعرنا نهراً من اللهب المتفجر؛وهو يرصد هذا الواقع المرير الذي يشهده الشعراء النابهون من أمثاله؛وعلى الرغم من الكهرباء السارية في تفاصيل النص؛الناتجة عن طغيان الانفعال ؛إلاَّ أن شاعرنا ظلَّ كالطود الأشمّ ؛قابضاً على عناصره الفنية ؛من أن تنزلق بها الخُطى في الخطابية والمباشرة..
-------------------------------
-بعض سمات النص ؛وظواهره الفنية؛بإيجاز:
-تنطوي تجربة الشاعر الحماسية هنا على ألم عميق؛وقلق مؤرق؛وتشي عاطفته المتقدة بسخط عارم؛تجاه الأوضاع المتردية؛والتبعية العمياء؛والإحساس المرير باستعصاء الحلول؛
في ظل هيمنة المصالح الشخصية؛فضلاً عن التبلّد المخيف الذي ران على حاضر الأمة؛والهوان الذي أنشب أظفاره في جسدها المريض؛وألقى بها في مؤخرة الأمم المتحضرة.
-تسلسل الأفكار بانسيابية تامة ؛وخلوها من التصنع أو الافتعال؛وتوشُّحها بالعديد من الصور الفنية البارعة؛كما في قوله؛على سبيل التمثيل لا الحصر:
يَـسُـوقُـونَ الـشَّـبَـابَ إلى الـمَـخَـازِي
كَمَا تُـسْـتَـاقُ لِـلْـعَـطَـنِِ الـنِّـيَـاقُ !!
-المراوحة بين الأسلوب (الخبري؛والإنشائي) ؛واتساع مساحة الخبري منهماً؛تبعاً للمشاعر المحتدمة في قلب الشاعر؛واستحضاراً لمطالب الشعوب المغلوبة؛وحلمها المتعثر في العيش بسلام.
-اعتماد الشاعر أسلوب (الالتفات)؛من خلال انتقال الشاعر من دائرة الهم الذاتي الفردي ؛إلى الاندماج مع صوت الجماعة ؛والامتزاج التام بشجونها ؛كما في قوله المتسم بطابعه الذاتي:
دَعِـيـنِـي مِـنْ هَــواكِ فَـإنَّ قَـلْـبِــي
إلـى الـعَـلْـيَـاءِ سَـــارَ بـهِ بُـــراقُ !!
وانتقاله إلى صوت الجماعة:
ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا ؟؟
لَـنَـا الخَـيْـلُ الـمُـبَـرِّزُ و الـعـتَـاقُ !!
-التفصيل بعد الإجمال كما في قوله:«
ثَـــلاثٌ إنْ ظَــفِــرْتُ بِـهِـنَّ...».
-استلهام بعض الأمجاد العربية القديمة؛والقيم العربية الأصيلة ؛والتنويه بأبطالها الصناديد من أمثال:بني العباس،وبني أمية،والقعقاع.
-حفاوة الشاعر بفن الحكمة -على نطاقٍ واسع- كما في قوله؛ على سبيل التمثيل :
إذا يَـبِــسَ الـتُّـقَـى بِـفِـنَـاءِ قَـلْــبٍ
وَ أمْـطَـرَهُ الـهَـوَى نَـبَـتَ الـنِّـفَـاقُ !!
وَ مَـنْ لـمْ يَــتَّـعِــظْ بِـالـدَّهْـرِ غِــرٌ
مِـنَ الأَيَّـــامِ لَـيْـسَ لَــهُ خَــــلَاقُ !!
إذَا اعْــتَـصَـمَ امْــرُؤٌ بِـاللّــهِ لانَــتْ
لَـهُ الأَرْضُـونُ وَ الـسَّـبْـعُ الـطِّـبَـاقُ !!
-استثمار الشاعر فن الاقتباس وتصرفه فيه كما في قوله:(ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا )؟؟ ؛إلى جانب اهتمامه بتوظيف الكناية كما في قوله:"ابن الماء"؛الرامز للإنسان؛وغيرها من الفنون الجمالية.
-بزوغ روح الأمل عند الشاعر على الرغم من قتامة المشاهد المحيطة به؛كما في قوله:
عَـلَــى أمَـــلٍ بِــأنَّ الــصُّــبْــحَ آتٍ
كَـغُــرَّةِ مَـنْ تحِـبُّ لَـهُ ائْــتِــلاقُ !!
وهذا الجانب يؤكد دور الشاعر الإنسان؛في غرس الآمال الزاهية ؛مهما عظمت الشدائد والمحن ؛حيث يحوّل العلّة المستشريةإلى صحّة وعافية؛والجدبَ المستفحل إلى خِصْبٍ ونضارةٍ تهفو إليها القلوب.
وهناك جوانب فنية أخرى ؛مما يطول الحديث عنها ؛كالتشخيص ؛والمفردات الموحية ؛وما إلى ذلك من سمات.
-------------------------------
«كلُّنا مشفقٌ على أوطانه».!!
لاريب أنَّ شاعرنا استطاع أن يبحر بنا في قضية وجودية مشهودة ؛ملتحفاً روح العربي المخلص لدينه و لأمته ولأوطانه العربية المترامية الطريف ؛ومجنداً قلمه لإيقاظ الهمم المترهلة؛والنهوض بها من التردِّي في غياهب الذلّ والهوان؛فإذا أردنا تصنيف النص حسب موضوعات الشعر المتعارف عليها ؛وجدناه أميلَ إلى الشعر الوطني المتجاوز نطاق الإقليمية؛إلى الآفاق الرحبة.
حشد شاعرنا طاقته -كما أسلفتُ القول-من منطلق ولائه الشديد لالوطنه العزيز عليه وعلينا جميعاً فحسب ؛بل للأوطان العربية قاطبة.
ولاريب أيضاً أن تلك العثرات التي ألمح عليها شاعرنا سبق أنْ مسَّتها أوتار الشعراء الغيارى قديماً وحديثاً ؛وطالما بُحَّت حناجرهم وهم يلهجون : «أما لهذا الليل الداكن الطويل من آخر؟!»؛مما دفع شاعر العربية في عصره (المتنبي) إلى القول :« مالجرحٍ بميت إيلام» .
وهاهو الشاعر المصري أحمد محرم رحمه الله يعزف على الوتر ذاته في قصيدة له أطلق عليها : «متى ينهض الشرق»؛إذ ورد فيها قوله:-
فيا لهف قلبي لمجدٍ مضى
ويا شوق نفسي إلى عودته!
ويا لهف آبائنا الأولين
على الشرق إن ظلَّ في نكبته!
همُ غادروه كروضٍ أريضٍ
تتوق النفوس إلى نضرته!
ونحن تركناه للعادياتِ
ولم نرعَ ما ضاع من حرمته!
فأذهبنَ ما كان من حسنه
وأفنينَ ما كان من بهجته!
وكذلك سار شاعر مكة الفيلسوف :محمد حسن فقي ؛رحمه الله ؛في إحدى قصائده؛عبر لغةٍ مصطبغة بقدرٍ من الأسى الطافح:-
تفكرتُ في يومي القميء مطأطئاً
إلى الأرض ؛لاسعْياً أطاق ولاقصدا
وفي الأمس ما أقواه يوماً مُدويّاً
بنى بالدم الزاكي لأبنائه مجدا!
بينما يلمُع الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي البصير في قصيدة له أطلق عليها «ضيعة الوجدان»؛إلى الذين أسلموا الغربَ مقادتهم ؛ورأوا في حضارتهم النموذج الأمثل على هذا النحو:
أبت الحياة فحاربتْ أوطانها
فئةٌ تهدد بالخطوب كيانها
ورأتْ بأن الغرب مُلِّك أمرها
فتطامنتْ تلقي إليه عنانها!
ماذا الذي باعت به أخلاقها
ولحفظ ماذا ضيعت وجدانها؟!
ألدرهمٍ وأمامها الوطن الذي
في الصدق يغنيها ويرفع شأنها!
ليس المُحاربُ للبلاد عدوَّها
لكنَّ من قد أنجبته فخانها!
ومن هنا فإنَّ إسهامات الشعراء الأفذاذ؛
في التصدي لألاعيب الغرب وغطرسته المكشوفة؛والتنديد بالأعداء في الداخل والخارج ؛احتلت ركناً ركيناً في سجلات الشعر العربي على مدار الزمن.
-------------------------------
-نهايةُ المطاف:
وبعد:فقد كانت الرحلة مع نص شاعرنا شائقة على طول الخط؛وملهمة في نفس الوقت؛ولعل مبعث ذلك تلك التركيبة الشعرية السحرية التي يمتاز بها ؛في الغوص على المعاني؛وإحياء ماكان منها بالياً وعتيقاً ؛وتهذيبه الواضح لنصه المكتنز بالانفعالات الحادّة؛قبل أن يقذف به إلى عالم القرَّاء ؛ولم يبق لي سوى أن أشيد بموقفه الإنساني البارز في هذا النص؛ورسالته الفنية المتساوقة مع المنطق العقلاني السليم ؛وروحه المتطلعة الهفهافة إلى مستقبل مزدهر يخلو من النزاعات المفتعلة؛والأطماع الذاتية؛إلى مستقبل أنقى من اللؤلؤ؛يسود فيه السلام ؛والقيم الإسلاميةالنبيلة ؛أقطار العالم بأسره ؛ووقتذاك تسترد الأوطان عافيتها؛وتستعيد مكانتها الراسخة في ضمير الزمن..