في الغالب ما تكون الدلالة هي المعبرة عن الإيحاء الشعوري للنفس الناطقة وهي التي تهيء الذات للتعبير عن ماهية الأشياء المبهمة في سياقات النص وإذا كان التعبير الأدبي منطوقا فمن البديهي أن تتسرب الى خبايا الإدراك التصورات المعادلة للشعور وأن تتوجد النفس البشرية بما هو آت من الروح من هنا نقول أن الإدراكات المسيرة بالإيماء تتخذ بعدا ميتافيزيقيا إلى جانب الذات كون الوجدان مبهم التصور في الذات والروح معا وكون الإشعارات الآتية من الذات تخاطب الروح بلغة يفهمها وعي السامع وإذا أدركنا ذلك فمن الطبيعي أيضا أن ندرك ما هو آت من الشعور المخبأ في حفيظة الملقي وإن نستلهم إدراكات متنوعة من خلال وعيه المنطوق وعليه تساوق الروح بين ما هو آت من الشعور وبين ما هو مدرك بالسليقة الطبيعية للناطق من ذات المنطوق.
وإذا كانت التصورات المرئية من خلال الشعر تتالى في خضم التعبير المنطوق فإن إدراك الشعور مهمة وعي السامع الذي يتصور الإحساس بموجب اللفظ المهيأ بقرينة إدراك استشعاري يمازج بين البوح المنطوق وبين الأثير الآتي من الذات في الروح الملقية الهامها الى عالم التصور الخارجي للناطق وهذه هي الدلالة الإيحائية للإلهام المنطوق والرمز التعبيري للمادة المقروءة شعرا أو نثرا هذه الدلالات كلها يمكن أن نسميها بالدلالات الميتافيزيقية المركبة مع عامل آخر هو التأثير المبطن في الذات الصاغية أو التعبير الحامل رؤى الفكر المتسرب من الذات الناطقة.
وفي هذه الوقفة يشدني وبقوة إبداع شاعرة من الشاعرات اللاتي جسدن رؤى الفكر الإنساني تجسيدا يتراوح بين معمول الذات وحفيظة الإدراك الطبيعي للشعور بمعادلاته الإيمائية وبفنه المبتكر بطريقة دلالية موحية مؤثرة في الذات والروح معا هي الشاعرة أميرة صبياني التي لا تقف بالمرئي عند تصور واحد بل تجعل من الإيحاء الدلالي مساقا الى الذات بطرق معبرة عن الروح منشأها التفاعل الروحي بين الشعور والذات الناطقة ما يجعل من إبداعها الشعري أثيرا واحيا قوامه الشعور والوجدان وهي هنا أي الشاعرة أميرة تمتاز بالتصوير الدلالي المركب في أعمالها الشعرية وبالإيحاء المبهم للرؤى المخفية كون أحادية الذات من ملفوظها مهيأة لتصورات شتى وكونها تواكب الذات في تعبيرها الشعوري عن ماهية الأشياء وهنا وقفة تأملية متمعنة في إبداعها الشعري المهيأ للإدراك كما إن الشاعرة هنا تمتاز بالسمو المعرفي لماهية الشعور المكافئ للروح كما إن لها لغة موحية في الضمير المرئي الذي يتجاوز النظرة التأملية لمسار الرؤى والأفكار الآتية من أعماق الروح.
كما إن الشاعرة اميرة تمد آفاقا واسعة للمدلولات اللغوية بشقيها المبني والمجازي وتكيف المعمولات الإيحائية بتنظير محض إذ تكثف التقمصات الروحية وتستدرج الآني الى ما وراء الحضور كما إنها تجعل من الدلالة مشافهة روحية تتوغل بها في أعماق الإدراك من أمثال ذلك ما تسربه منطقا بقولها من ديوان لا تقرؤوني:
أمْطَرْتُ مِنْ لَهَبِ الإِحْسَاسِ قَافِيَتِي
فَذابَ سَعْدِي على أَنَّاتِ باكيتي
وَرُحتُ أجمعُ أنفاسَ الجِرَاحِ على
جمرٍ من البوحِ مَلْفُوْفًا بِأوردَتِي
عَانَقْتُ من لَوْعَةِ الأشْعَارِ غِلظَتَها
وَبُحْتُ بالحُزْنِ حتى أَقْفَرَتْ لُغَتِي
ضَيَّعْتُ عُمْرًا بأحلامِ الشبابِ وفي
مَجَاهِلِ الوَهْمِ قَدْ أَطْلَقْتُ أشرعتي
إذ تهيء الشاعرة المدلول المغيب للذات ليراوح بين النفس والشعور وتمد جسرا للألفة بين ما هو آت وما هو مستحضر في الوجدان كون التمثيل التنظيري في هذا النص يقوم على بيان الوجهة الذاتية للروح ما يجعل من المسافة بين حدي التمثيل بالغة الإدراك بمعمولاتها المخفية في النفس لذلك استوطنت في الذات رؤى مدركة مقابل الدلالة التصويرية التي تتسرب حيثياتها من منطوق المعنى بينما تقابلت الصور الإدراكية بمعمولاتها المهيئة للتشبيه ما جعل من الحدس مهيأ لولوج الذات إليه.
بينما في قصيدة (فصول متناقضة) من ديوان (بعثرة طين) تجعل الشاعرة أميرة من الدلالة اللغوية مجازا يكتنف التمثيل تراوح بينه وبين الفكرة المهيمنة بطريقة تقمص إيمائي يدرك بالشعور ويوائم بين مد اللغة وبين التصوير المكتنف لحقيقة الوعي ما جعل من المنطوق مستلهما اشارات رمزية يجلي المبهم من التصور ويزيح عتمة المباغتة الإدراكية ويفتح أفقا واسعا للتخيل يستقطب اشعارات الذات ويناغم الحدس بطريقة تمثيل مؤطر بالرؤى المتخيلة ما هيأ الذات للتماهي مع المدركات التعبيرية والاكتفاء بالشعور كما تقول الشاعرة في القصيدة:
أنا وروحي المُتْرَفةْ
أسيرُ في كلِّ الفصولِ أنتشي
بالأمنياتِ المُرهَفَةْ
ودفتري ملونٌ بالرملِ بالهجيرِ
بالصقيعِ بالزهرِ الذي ينتابني لأقطِفَهْ
أُمَرِرُ الفصول في شعري الذي
أنهكتُهُ زوابعًا تجتازُ حُسنَ الزخرَفةْ
شعري الذي لقَنْتُهُ أنايَ حتى أعرِفَهْ
متى أفُك معصمي من سطوةِ البوحِ الذي يحتالُ كي لا أكشِفَهْ؟
متى يغيبُ آسِري مُستصحِبًا تَأَفُفَهْ؟
متى متى أفرُّ من دوامَتي ؟
متى أكونُ المُنصِفَةْ ؟
إذ وطنت الشاعرة الإبهام مقابل الحضور المكثف للروح وألمحت الى مدلول الوعي بطريقة استقصاء للرمز فالشعر يقام عليه حدي التكافؤ بين ما هو منظور للذات وبين ما هو مستبطن في المخيلة فتتبعت الشاعرة مسار الولوج إلى النفس وساوقت بين مدلول اللغة وبين ما هو ضمني مكيف في الوعي من هنا نشأ التصور المجازي لإدراك الذات ما جعل من التمثيل ضمني الحركة حيث استقصت بأسئلتها المدرك الذاتي للروح مسربة حيثيات مجازية تفهم من خلال الإلماح التنظيري للوعي.
بينما في قصيدة (إليه وحده) من ديوان ( لأنك الله) توحد الشاعرة الملفوظ باتجاه الخالق وتتقمص مدركا دلاليا يتمثل باستحضار الذات ويشافه التجليات الرفيعة المبنية على أعتاب الروح فتنوع الشاعرة من حدة لغتها بين المنظور التمثيلي للروح وبين مسار التجلي كما هو قولها:
ما كان ضوءُ البَرقِ مصباحِي الذي
يرعى انكشافَ الليل في فَلَوَاتِي
نفسي وداجي التِّيهِ مَرْكَبُ سَطْوتِي
وسُدودُ حجبي عن عيونِ صِفاتِي
فَعَلامَ أَحْفِرُ جفوةَ الأرواحِ في
أُنْسِي وأُغلِقُ بِالهوى نَفَحَاتِي؟
مفتاحُ إشراقِ الجوانِحِ في يدي
وعلى انْشِراحِ الرُّوحِ عَذْبُ فُرَاتِي
إذ أومأت الشاعرة الى النفحات الروحية واستحضرت تجليات شتى باتجاه البوح وناغمت بين مدرك التجلي وبين المثول الروحي وهنا قمة التهيؤ الإدراكي للنفس باتجاه الخالق سبحانه وتعالى.
بينما في قصيدة ( القدس بوابة النور) من ديوان (من أجل من) فقد عمدت الشاعرة الى استقطاب المفردة التمثيلية التي تصور المدرك التخيلي على إنه ذات يسترسل في الوجدان ويحيل المنطوقات إلى إيماءات دلالية تواكب التصور المرئي للشعور وهنا التفاتة رائعة من قبل الشاعرة تجر الحدس إلى ما وراء الذات وتستنطق المبهمات من التصورات المرئية وتوائم بين مدلول اللغة وبين معمولات الإدراك وتستنطق المبهم من التخيلات مقابل الحضور المكثف للروح التي تتماهى مع المكان الأرض بصيغتها التعبيرية المجازية بوابة النور تقول الشاعرة من قصيدتها:
في ذِمَّةِ اللهِ يامَهدَ الأمانِ فما
لِلظُلمِ حُكْمٌ بِسَحقِ الطُّهرِ أو سَبَبُ !
ياجَنَّةَ الطُّهرِ ياقدسَ الجلالِ متى
كانت بِحُرمَتِكِ الآثامُ تُرْتَكَبُ ؟
في عُمقِ جُرحِكِ أرضَ الأبرِيَاءِ طغى
جيشُ الظلام وَأَجْرَتْ نَزفَكِ الخُطَبُ
متى تشدَّقَ بالوعدِ الكذوبِ فمٌ
من منطقِ السُّحتِ بالبغْضاءِ ينتَعِبُ ؟
بينما في قصيدة ( في القلوب تربعك) من ديوان (استثناءات) توغل الشاعرة بالحدس المكافئ للروح وتجعل من المرئي مبهما في الذات وتحشد اللغة بتكثيف دلالي رائع ومجازات فائقة التأثير عن الذات تحيل المدركات التعبيرية الى مدركات إيمائية تستنطق المد الروحي وتغيم بدلالاتها المرئية على الشعور فتمازج بين ما هو مستلهم بالفطرة وبين ما هو مدرك بالتعبير الثنائي للروح والذات معا والشاعرة أميرة صبياني في هذه القصيدة تستشرف أفق البوح وتناظر المبهم لغة وإدراكا إذ تمد مساحة تعبيرية لشروق الذات في خضم المدركات المجازية بتوغل رائع في الحفيظة الإدراكية للبوح كما هو قولها:
اضحكْ فهذا الفجرُ حُبٌّ ضَوَّعَكْ
وضياءُ روحِ الطَلِّ يَرْسِمُ أرْوَعَكْ
غَنِّ الْجمالَ بأروعِ العزفِ انتظرْ
كي يستقرَّ على الغيومِ لِيسمَعَكْ
لاشكَّ أنَّ الحبرَ بالسِّحْرِ انتشى
والمُغرياتُ الحورُ أسطُرُها مَعَكْ
والذكرياتُ السُّودُ بيَّضَ رجْعَهَا
همسٌ يُعطِّرُ في ابتهاجٍ مَطلَعَكْ
ارسمْ بِبَسْمَتِكَ السلامَ على النَّدى
وانثُرْ على الآفاقِ سِرًّا رَجَّعَكْ
أزْهَرتَ في كل الحقولِ وأينَعَتْ
عيناكَ تنقشُ في القلوبِ تربُّعَكْ
والشاعرة أميرة صبياني من الشاعرات اللائي يجسدن الحدس ويمثلن البوح بطرق موحية ويرسمن المعاني التعبيرية بدلالات فائقة الشعور وفي أكثر من قصيدة من قصائدها في دواوينها الشعرية تستنطق الدلالة المرئية كتعبير محض عن الروح وتستغرق إيماءاتها الرمزية النصوص كحد يجتاز الوقفة الآنية للتعبير ويمتثل المدركات ويستخلص الشعور كما إن للشاعرة أميرة لغة سلسة عذبة محملة بالدلالات الرمزية التي تتجاوز الآن إلى ما وراء الحدس الزمني وإلى ما وراء الشعور.
-