مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
دخلت حجرته ذات يوم، وأخذت تبعثر كل ما في طريقها إلى أن وصلت إلى أسفل السرير، تقترب من الغطاء المتدلي على جانبي السرير فيعيقها عن المضي، فتدخل يدها تحت الغطاء فإذا بها تقع على شيء لم تعرفه من قبل، سحبته إليها بقوة، كان طرفه بيدها والطرف الآخر في الجهة المقابلة من السرير.
وبينما هي كذلك، إذا به يدخل فجأة، مندفعاً، يلتف على قدمه اليسرى، ثم يصفعها على خدها، صارخاً بأعلى صوته، بدل أن تصرخ هي:
– ” ماذا تفعلين يا مجنونة ؟!”
تأكد أنها لم تلمس شيئاً، فاستعاد هدوءه في ثوان، ثم أخرجها من حجرته، ودموعها تتدفق على وجنيتين صغيرتين،لم تكفكفها مصالحته لها، بعد خروجها، مكث لبضع دقائق،ثم ما لبث أن انطلق إلى خارج المنزل، وهي ترمقه بنظرة حزينة، وهو ينطلق إلى سيارة كانت هناك تنتظره خارج المنزل.
نادتها أمها بصوت مرتفع:
-“أين أنت يا شذى؟”
تسمعها ولم تجبها، رددت النداء ثلاث مرات، وفي كل مرة يرتفع الصوت أكثر من ذي قبل، ترد شذى بصوت تخنقه العبرة:
– ” ماما أنا هنا “.
أعادتها والدتها إلى حجرتها، وألبستها ثم خرجت بها إلى والدها، الذي كان ينتظرهما عند الباب، وانطلقواجميعاً، وعند دخولهم المدينة، لمحت شذى أخاها في تلك السيارة التي كانت تنتظره عند بابهم، ولكنه في تلك اللحظة لوحده على مقود السيارة، لم يعد السائق الذي ينتظره بجواره، ومن شدة غضبها منه لم تخبر أحداً، ولم تلتفت إليه.
ازدحم الشارع بالسيارات، فظن الناس أن هناك حادث تصادم عطّل الطريق، لاح أمام ناظره كل من في الشارع،ما عدا سيارة والده، وانطلق بين الناس مستغلاً توقف السير، وهو يلتف ً بحزامه، ويده على خصره، وعلى إثر حركة منه، تغيرت معالم المكان، فلم يعد هناك أي شيء،حتى شذى لم ير منها إلا شذاها يعطر المكان.
تقت للابحار ، في تلك الشواطئ التي عبثت بها يوما ، صبغتها بألوان متمازجة، عزفت الأمواج موسيقاها ، رقصت رقصة البجعات ، حلقت بأجنحتي نحو الأفق ، عند المساء حللت طليتها باللون الأسود القاتم ، ضجت مخلوقات البحر تطالبني بالعودة من حيث أتيت.
طويت المسافات علني أستعيد حلمي، لم أجد سوى خواء يتردد صداه نحو البعيد.
بزغت الكواكب ؛ سطوعها في الفضاء كان الدليل الذي رسم لي خطواتي..
هناك ..
حيث يرقد الحلم …
في ذلك الفضاء الفسيح.. دوى صوت طفل يرتل انشودة التاريخ ..
كتبت له القصائد ، نثرت حوله المعاني، جف النبع الذي كان يروي العطشى..
رحلت أقطع المسافات ، أحمل خيباتي ،أجذب الأماني خلفي ، وفي تجاويف قلبي يعتمر الحزن ..
يشتد الوخز في صدري يسارا ، كما يشتد اليأس تتجمد الدموع في عينيّ من أنا ؟! ومن أين أتيت ؟! لماذا لا أشعر بانتماء لهذه الأرض ؟!ولحقولها الخضراء ؟! رغم أن الناس هنا أحبوني وعاملوني كواحد منهم !!! حدثوني كثيرا عن الحرب بين العرب والصليبين ؛ فقد أكون أحد الجنودالمفقودين .. الشمس تسحب رداءها ؛ تترك الأرض والحجارة ملتهبتين ؛ أتأمل ظلي الذي أصبح أطول مني اسأله : هل تعرف من أنا ؟ ومن أين أتيت ؟اسير بمحاذاته ، أركض وهو يتبعني ، وجدته يختفي في الظلام الذي هبط تدريجيا دوني … القرويون يعودون إلى بيوتهم في هذا الوقت بنصف ابتسامة ، وكثير من التعب والحزن .. دموع الأمهات تكنس الألغام والآثام ، ترى من هي أمي ؟ أعود كسير النفس منكسا رأسي وحيدا ككل يوم منذ خمسة عشرة عام . غرفتي قريبة من منزل المختار بناها لي ابناء القرية ، أقضي مساءي مع ذكريات لا ذاكرة لها ، اصنع قهوة ، افتح التلفاز ؛ أدير القنوات ، أشعر بالملل اتوقف فجأة أمام قناة المملكة العربية السعودية ؛ يتدفق الدم في عروقي تنتابني القشعريرة حينما يرتفع الآذان في المسجد الحرام ؛ أشعر أنني جزء من هذا الصوت الذي آسر القلوب ، أشعر أنني جزء من من تلك الروحانية . هل يعقل أن أكون من تلك البلاد ؟! هل أنا من حجارها الطاهرة ومن تربتها النقية ؟ أدير القنوات اشاهد برنامجا مناطقيا جنوبيا يصطف الرجال يؤدون الخطوة الجنوبية انتصب في الغرفة وحيدا أقدم رجلا وأوخر أخرى ، انتشي كما ينتشون وأردد معهم دون صعوبة في فهم مايقولون ، لغة الجماهير التي يقابلهم المذيع ليست صعبة أشد لحافي المصنوع من السدو بأيدي الأمهات الكبيرات في السن المصنوعة من الصندوق وأنام على حلم باهت استيقظ على طرقات جاري لنؤدي صلاة الفجر في المسجد وبعد الصلاة جلس الإمام في مواجهة المصلين ؛ سأل ؛ من منكم ينوي الحج هذا العام ؟ أجابه رجلان عن استعدادهما للحج مع عائلتيهما ، وانهما يقومان بقضاء ديونهما ويودعان لدي معارفهما مستودعاتهما من المحاصيل والذهب والأغنام ،كل ذلك وأنا مطرق الراس ، حائر قال أحدهم : (وحد الله يازلمة ) شوبك؟ تدخل رجل ثان وقال لماذا لا تذهب للحج لعل أحدهم يتعرف عليك هناك .لم تكن الفكرة مشجعة ، فقد لاأكون من هناك أو قد لايتعرف علي أحد من حجاج العالم المسلم .. ولم يعد معي قلب يتحمل نكبة جديدة …لكن العمدة قال علي إعداد حجك لهذا العام قربا لله وبرا بوالديّ . لن تخسر شيئا هنا ،وضحك كعادتهم هنا نصف ضحكة .. أحمل بضعة ملابس ورداء يقيني البرد وأحدق في البحر ، أقدف اسئلتي الملحة فيه فلامجال للتراجع أو العودة . السفينة تشق عباب البحر ، رائحته تستفزني أكاد أقسم أن ملح جسدي من هنا، يغني البحارة على بحر جدة وديني ؛أقف ، يضحك من حولي .. أجلس خجلا أعرف هذا اللون من الفلكلور ، أعرفه جيدا يستمر البحارة يستعرضون ألوانا من الفلكلورات المصرية والينبعاوية ، وأنا مختبيء في صمتي وبعد ثلاثة أيام وصلنا ميناء جدة سجدت فوق ترابها دون أن أفهم فوجئت بالمسئول يسألني عن أوراقي الثبوتية ، لم استطع أن ا فتح فمي .كان أحد الضباط يقترب مني صارخا معيض ، اقترب مني وضمني حتى بكيت هناك وشيجة تربطني بهذا الرجل ، حدثهم عني وأنني كنت جنديا سعوديا فقد حتى ظن الجميع أنني مت في الحرب . سقطت مغميا عليّ ، أفقت والجميع حولي ، زوجتي وابنائي ،أمي ، جيراننا ، زملائي ، الإعلام وفي خلال شهر تم استخراج أوراقي الثبوتية لتعود إلي حياتي الخضراء كعلم وطني سعيدا بابنتي التي رأتني لأول مرة وهي في الخامسة عشرة من عمرها . لروح أبي الذي فقدته في غيابي ، لذاكرة أمي زرعة التي تصيب حينا وتخيب أحيانا ،لزوجتي سفرة التي لبست ثوب الحداد ورفضت مغادرة بيت أهلي ..
في المقهى
تنظر إليه .. ينظر إليها بين فينةٍ وأخرى
النظراتُ لا تتوقف، لماذا تنظر إليه هكذا، من المؤكد أنها ليست معجبة بوسامته أو حتى بذكوريته، فقد اختطف الزمن منه الكثير من بهائه القديم، ما عاد طبقًا شهيًا للنساء ولا هي أيضًا طبقٌجذّابٌ تستحق بذل الجهد للرجال، الإحتمال الأكبر أنه يشبه أحدًا كانت تعرفه يومًا. ربما .. ربما كل السيناريوهات مفتوحة.
رآها تقرأ كتابًا، حينما استرق البصر عدة مرات عرف أنها رواية “غادة الكاميليا” للروائي الفرنسي ألكسندر دوماس، تذكّر أنه قرأ هذه الرواية أكثر من مرة، مرة في صباه ومرة ثانية قبل حوالي سنة. استطاع بعد تحديق عميق في وجهها وهي مشغولة بالقراءة أن يقرر بان وجهها ليس غريبًا، هو شاهدها من قبل لكن لا يتذكّر متى وأين.
كان مشغولًا بقراءة رواية “بيت الأرواح” للروائية التشيلية إيزابيلا الليندي. استطاع أن يمسكها متلبسة وهي تحاول معرفة ما يقرأ بنظراتها المكشوفة فابتسم وهي ابتسمت. لم يُضع الوقت فهو متهوّر بطبعه. أخذ كوب قهوته وانتقل إلى طاولتها متصنّعًا التهذيب فهو في عمره العتي لا يزال مراهقًا لم يكبر، ويبدو أنه لن يكبر ابدًا لدرجة أن أحد أصدقائه المقربين قال له يومًا “أخشى أن تقضي نحبك وأنت على صدر امرأة”.
– هل يمكنني أن أشاركك وحدتك؟
– انا لست وحيدة أنا مع كتابي.
– انا مثلك الكتاب صديقي ربما الوحيد.
عرف من لهجتها أنها إماراتية وأخبرته أنها وصلت من وقت قريب لدراسة الماجستير هنا.
– هل تزور الإمارات كثيرًا؟
– ابدًا، زرتها عدة مرات لكن من فترة بعيدة.
– إذن أين رأيتك. هيأتك وحتى طريقة كلامك تشعرني أنني أعرفك عن قرب.
– انا عندي نفس الشعور …غريب هذا الكون.
– ما موضوع رسالتك؟
– الفن التشكيلي الحداثي في الخليج العربي.
– انتِ فنانة تشكيلية؟
– نعم
– أنا أيضًا لكنني دخلت عالم الفن متأخرًا، كنتُ أكتب الشعرسابقًا.
– من الشعر إلى الرسم؟
– نعم لأن الشعر بمرور الزمن تحوّل إلى قلادة ثم تحوّلت القلادة إلى قيد أشعرني بـأني أصبحتُ سجين الحروف، فقررت أن أكتببالريشة فهي أكثرّ حريةً، أكثر تعبيرًا وعمقًا، لذلك أعشق الفن التجريدي كأسلوب وحيد للتعبير.
– أنا مولعة بالعديد من المدارس الفنية والتجريدية احداها.
منذ تلك اللحظة بدأت صداقة عميقة بينهما لكن ما آثار استغرابه أنها تشبهه إلى حد يقترب من التطابق، رغم اختلاف برجيهما وعمريهما. يتعرضان لمشاكل معًا، يكتئبان معًا، يفلسان معًا، حتى أن سيارتيهما تتعطلان معًا وتتعرضان للحوادث معًا. عندما زارها في مرسمها بشقتها فوجىء أن معظم لوحاتها التجريدية تتناول نفس المواضيع التي يرسمها.
حالة أكثر من غريبة لم يجد لها تفسيرَا. أما هي المغرمة بالغرائب وعالم الأرواح وقراءة الفنجان فقد فسّرت الموضوع بأنهما التقيا في أزمنة سابقة، كانا أخوين أو حبيبين أو ربما روحًا واحدة انشطرت نصفين.
استعانت هي برجلٍ ملتحٍ يسمِّي نفسه “عابر” يتردد على المقهى ويقرأ المستقبل للفتيات غالبًا، وطلبت منه تفسيرًا لحالة التشابه بين الشخصيتين. كان تفسيره بعد عدة جلسات أنهما روحانمسجونتان في روح، لذلك فإن الروحين معذبتان ويجب فك الارتباط بينهما وإلا سيحترقان معًا في طريق لا نهاية له. عندما أخبرته انفجر ضحكًا، فهو لا يصدّق كل هذا الهراء.
وفي ليلة ظلماء هجرها القمر والنجوم وسكنها اكتئاب عميق، وأنفاس أناسٍ أشرار، سقطت من فوق السلم ودخلت في غيبوبة شبه تامة، الغريب أنه عندما كان يزورها في المستشفى ويضع يده على رأسها تبتسم ابتسامة خفيفة، له وحده فقط دون غيره حتى أن أهلها والأطباء احتاروا في الأمر لأن الفحص السريري أثبت تلف الدماغ نسبيًا ولا يمكن شفاؤها كما أخبروه !
حزن حزنًا شديدًا على ما حدث لصديقته التي بدأ يفتقدها وترك حزنه للزمن. بعد سنوات طويلة كان في مطار دبي، شعر بصدمةٍكبيرة عندما رآها في الطابور تنتظر دورها للسفر. استغرب بشدة، فتوجّه صوبها ففوجئت بوجوده.
سألها لماذا؟ فردت: “لم يكن هناك حل آخر، كان لا بد من فك رابط اللعنات الملتف حول أعناقنا بأي طريقة لأن وجودنا معًا يدخلنا في دوّامة لا فكاك منها إلى الأبد!!!