مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
إلى الإسفلت الكهل، والشارع المسكون بأحذية المتعبين والمتعثرين ، هناك نافذة تفتح ورجل يمسد وجه المساءات ويسرح شعر الليل الطويل هناك صوت ينام قليلا متوسدا القلق والأمنيات … هناك لعثمة وكلمات مجروحة تصطدم بطيوف عابرة ،،وتنكسر أمام ضحكة سافرة وظلال غامضة تنعكس على نافذة ، تلعب أعمدتها بالريح الجائعة ، هناك طفل يحبو، وأحلام تفتح ممراتها لطوابير الانتظار .
نظرت إليّ شاكية باكية، ودمعها ينهمر على خديها كأمطار شهر كانون البارد إلا أنها تشتعل من الغضب -رغم الشحوب الظاهر في عينيها الغائرتين – فالسواد الفاحم حول العيون المكحولة يشبه الحجر الأسود من شدة البكاء . جلست بعيدة عني، مسحت فمها قبل أن تبدأ بقضم أظافرها، وهي تهتز وترتعش من شدة الحزن والتوتر وصوتها يئن، وكأنها تحاول كتم أنفاسها لتهدأ. بدأت الدهشة تفتلني من سلوكها المفاجىء هذا، فأصابعها تكاد لا تهدأ من الدخول والخروج إلى فمها، وكأن قضم الأظافر فطورها الصباحي المعتادة عليه. وقفتُ أمامها وأمسكتُ أناملها، فوقفت وارتمت على صدري، وهي تجهش بالبكاء. نظرت إلى المحارم الورقية البيضاء التي تكومت على الكنبة، وقد اختلط سواد الكحل مع البياض النقي، فضحكت لا شعوريا إلا أنها ابتعدت عني بنفور وغضب وقالت: – هل تسخرين مني؟.. – لم أفهم ولماذا أسخر منكِ ، إنما أضحكتني ألوان الماسكارا المتفحمة على المحارم الورقية، وعلى جفنيك يا بنت. – تنفست وتراخت بعد أن جلست مجددا على الكنبة، وأمسكت بسلسلة أخرجتها من جيب قميصها الكتان، وأجهشت بالبكاء من جديد – ما بكِ يا بنت؟! – ما عاد يقبلني كما كان يفعل كل يوم. أفتقد لدغدغة خدودي، ومداعبة أصابع قدمي ليلا وعند الصباح. نظرت إليها نظرة ثابتة بعد أن توسعت حدقات العيون من الدهشة، لم أتمالك نفسي من رسم معالمها على وجهي، وانفجرت ضاحكة وهي تنظر إلي، وكأنني سأقدم لها حبل النجاة. – أتبكين من أجل هذا في صباح مشرق! ونحن في رحلة استمتاع وراحة ، وعزلة أيضا بعيدا عن الضوضاء، لكن نحن وحدنا في البيت منذ أيام، فكيف سيقبلك كل يوم ؟. ومن هو؟..من يكون؟.هل هو نجم الدين ذاك الرجل صاحب قطيع الأغنام؟. استدارت بسرعة ونظرت من النافذة إلى البستان، وكأنها تبحث عن شىء ما!. بدا على وجهها الخجل رغم احمراره، كما بدأ التورم والانتفاخ على عينيها، لكنها نظرت إلى السلسلة ،ويدها ترجف حتى أحسست كأنها سيغمى عليها، وساد الصمت، كما ازداد استغرابي لسلوكها المفاجى إلا أنني لم أستطع الكلام، وحافظت على الاتزان قدر المستطاع. – اشتريت له هذا السلسلة لأنني في البداية لم أحبه. أما الآن فهو حياتي التي يشاركني فيها ، بل هو توأم روحي، وأعتبره فرحي وكل ما تبقى لي في هذه الحياة ، لكن ماذا أفعل الآن؟.. وقد بدأت تغيراته العاطفية نحوي تنكمش يوما بعد يوم؟.. ظننت أنه مريض; أخذته للطبيب ولم يجد علة به، بل قال لي إنه بصحة ممتازة، لكنه يثير جنوني بأفعاله هذه. حقيقة شعرت بالحزن لحالها، فالحب في الحياة لا بد من تغيرات تطرأ عليه مع مر الزمن، فهو كالموج تارة يعلو وتارة ينخفض، لكن تساءلت بيني وبين نفسي ما الذي يذكرها به في هذا الصباح؟. أيعقل الأشتياق؟. أم الإحساس بفقدانها له؟.. – استمرت بقضم أظافرها، والصمت لا يخلو من أصوات زقزقة العصافير في الخارج، وحفيف أوراق الشجر كأنه همس أو وشوشة رومانسية في أذن الطبيعة الريفية. – أحسست بالتوتر الشديد يتملكني، فوضعت حبة شوكولا مر في فمي، وبدأت أتذوقها بصبر وأناة ، وأنا أنظر إليها والابتسامة لا تفارقني، فربما تساعدها ابتسامتي على البوح أكثر. حملت البونبونبير الكريستال ووضعتها أمامها ، فربما تهدأ لو تناولت قطعة من الشوكولا المر. لكنها عادت للبكاء بشكل هستيري. – أخبريني ماذا أفعل ؟ كيف يمكن أن أعيده كسابق عهده معي؟ – يبدو أنك مهملة له، وأنانية في تصرفاتك معه هل تداعبينه كل يوم كما يفعل؟. ملأتها الدهشة والاستغرب وفتحت فمها، وكأن الكلام وقف في حنجرتها ورفض الخروج. إلا أنها قالت بسرعة
: – هل يعقل يا صديقتي أن أفعل هذا معه كل يوم؟
– نعم، وماذا قي هذا ألا تحبينه؟
– نعم أحبه، هو رفيقي الوحيد في الحياة ومؤنس وحدتي لكن هو لا يفارقني إلا مسه ، أداعبه، أحنّ عليه ، أطعمة، أضعه بين أحضاني دائما، أتنزه معه ألا ينفع كل هذا يا ضحى؟ – في الحقيقة نعم نافع جدا, لكن ربما! هو مغرم ببنت أخرى. فتحت فمها أكثر ،وكأن ما أقوله غير مفهوم، أو يحتاج لترجمة.. أكملت كلامي معها عن الحب والقدرة على التناغم فيه مع الآخر إلا أن الاستغراب لم يفارق معالمها، فسألتها: – من يكون هذا الذي أبكى صديقتي في يوم جميل كهذا.. – إنه توكي يا ضحى لا أدري حقيقة ما الذي أحسست به، إلا أنني مسحت أنحاء الغرفة بنظراتي بحثا عن توكي هذا، لأرميه في الخارج، قبل أن أسمع نباحه المزعج في هذا الصباح الذي لا يُنسى …
حشدٌ غفير تجمهروا مكان الحادث. كنتُ شاهد عيان، بات قلبي مضرجاً بدمائِه. وصل الإسعاف متأخراً ، مات قلبي؛ بل قُتل…! أُقفل المحضر بعد استجوابي في القضية: – هل تشك في أحد؟ – لا. أتممتُ مراسِم العزاء، وارتديتُ جلباباً أسودًا، أسفل خاصرتي خنجر . جلتُ الطرقات بحثاً عن خيط يدلني إليك؛ فرائحة الثأر تنبثق من شراييني. على يميني مقهى عربي، لمحتكِ بالداخل!. تعقبتُ خطواتك، و استدليت مخدرك، بدا العالم وكأنه خلا من الناس. شعرتُ بتناقص أنفاسِك ، تحسستُ خنجري، وجدته ساخناً، أدخلته غمده، وهمتُ وسط الزحام. وفي الصباح جمهور غفير احتشدوا مكان الحادث. سألت أحدهم، فقال: امرأة تقطن الدور الرابع وجدوها مقتولة…!
١-
أقامر الآن بفرصتي الأخيرة في الحياة، و بالوسيلة الوحيدة التي كنت أظن أني أعرفها، الوسيلة الوحيدة والعاجزة والتي لم تعد تفي ” الكتابة ” . وأصبحت أراوح بين الضلال وشبه اليقين ، مفرغا مساحات أبدية وشاسعة تجرفني للتيه الذي جئت منه، والذي حتما إليه سأعود. وكل ما أفعله الآن هو محاولة خدش هذه المفازة بهذه الكتابة، وبما أستطيع من الصمت والصراخ معا ، غير أنه لا يقين سوى اليقين بأنه لا يقين ..لا الموت لا الميلاد لا الكتابة ولا حتى الألم الذي ظل يذكرني على الدوام بكينونة هذا الجسد ثم إنه أنا ؟
٢-
لن أدعي أن أحدا لم يفهمني، وهذا العالم ليس ملزما بذلك ، ثم إنه من أنا لألقي على الكون تهمة ظالمة كهذه؟ وحتى اللسان الذي وهبتني الحياة ظل وحيدا يحاول قول كل شىء ولا يقول شيئا ويخطىء أكثر مما يصيب ، ويقطع أكثر مما يصل ، ويزّور الأمنيات والأسئلة وحتى اللغة التي حاولت امتلاكها , ولقد خانها كثيرا ( اللسان) وخاتلها أكثر، ثم إنه ما من فائض في قواميس الكلام لأغترف منها كيف أشاء، ومتى أشاء وكأن الحياة عرس لن يتبدد ، ولقد خانتني حتما كل أعراس الحياة ..
٣ –
هل لي أن أقول أنني لم أعد أفهمني أنا ؟ نعم وأعترف بذلك ، بقيت أتشكل وأعاود التشكل كل يوم; محاولا تكوين هذا النهج المقنع لي ، ثم أني لم أتفق مع الحياة على هذه المسرحية الهزلية ..وقد كان شرطي أن أكون كائنا بشريا أحمل قدري وأذهب به نحو النهايات غير أن هذا لم يحدث، ولقد خدعت، نعم خُدعت .
٤ –
وكل شىء يغادرني الآن ولم يعد هناك ما أصغي له سوى صوت الروح , الروح التي لم تخذلني حتى الآن ولن تفعل . وأستيقظ كل ليلة وحيدا أحتسي كأس الظلمة وأصغي لصوت الزمن العابر وأسمع من خلاله كل أصوات الحياة . هذا الصوت الذي يسكن الظلمة والذي ينتفي من خلاله الأعلى والأسفل والقادم والراحل , والراحلون يحضرون والأرواح التي لا تعترف بالعدم ولا بتراتب الأزمنة تحضر ، وتتلاشى معاني المؤنث والمذكر ، و تعود كل الأرواح ارواح .
٥ –
ثم نلتقي بهم أولئك الذين اشتاقت أرواحنا لأرواحهم ونلتقي ونأتلف ، ونتقاسم الحب الذي بيننا والغني والفقر الذي لنا ، ونمحو ما نستطيع من الحنين والغياب ثم نأخذ عهدا ألّا نموت ولن نموت .
٦ –
وهم من فعل بنا كل هذا ، أولئك الذين كنا نظن أنهم يشبهوننا والذين من أجلهم قبلنا الحضور اللامشروط لهذا العالم، والإيمان بما لم نؤمن وبالرضى والصمت عن كل غصات الحياة. كنا نظن أنهم رفقتنا وسيمضون معنا ، ومعا كنا سنكسر قوس الوحدة ، ثم نعلن قيامتنا عندما نتحد وندخل جنتنا متى شئنا والتي حتما لن تكون أنهارا من العسل واللبن والملذات .
٧ –
وهم لم يأتوا والعتاب ليس سوى سجود سهو لصلاة ضلت طريقها للسماء ، فهل خذلونا أم أنهم أيضا خذلتهم أقدارهم والطرقات التي تجىء بهم والأقدام التي تستدل علينا؟ ومهما يكن فقد غفرنا، ليس لأننا الأنقياء ولكن لأنه ما من عوض لنا سوى الغفران
٨ –
ولكن لا يقولنّ لي أحد أني كنت وجودا في هذا العالم ،وأني كنت هنا , هذا لم يحدث ، نعم عبرت من هنا ،وعرفت مفردات كالشمس والهواء والتراب والغيم والوعد والمطر وحتى مفردة الحب سمعت بها ، غير أني لم ألتقِ بأي منها ، لا الشمس لا الغيم لا الحب ولا حرية أن أكون أنا ، و أن أزهر كشجرة . نعم عبرت هذا العالم ولكن كسؤال كبير وموجع ودون إجابات ولم أعرف من أنا ومن يقول لي من أنا.؟
٩ –
ولنفترض أني كنت هنا أفلا يحق لي استعادة التجربة التي لم تكن ناجحة ولا سعيدة بأي حال؟ . وسأقبل تكرارها حتى على هيئة عصفور أو شجرة أو حتى كائنا بشريا شريطة أن يكون معي الصفحة الأولى من كتاب الحياة; ولأعرف كيف هي الأبجديه وما من متسع للتعلم من جديد. وعدا ذلك سأحتجّ وأعرف ألّا أحد سيسمعني غير أن الصراخ في وحشة الأبدية هو كل ما أستطيع فعله الآن .