مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
هل فارق طول قامتي عن طلاب الفصل أخرني وأخر امنياتي ؟!منذ أن كنت طفلا صغيرا.
في الصف الثالث الإبتدائي، أجلس قصرًا في المقاعد الخلفية، لأن قامتي أطول قليلا من بعض زملائي في الفصل، على بعد عشر طاولات من السبورة.
لا أرى جيدا ما يكتب عليها، ولا أسمع بدقة مايقوله الأستاذ وسط ضجيج طلبة لا يتحكمون بأفواههم، وحدة أصواتهم النشاز وهم يصرخون في صوت واحد:أنا ..أنا. يتشنج إصبعي المرفوع دون أن يراه أحد، حتى شعرت إنني خارج دائرة الأسئلة.
في أحد الأيام طرح علينا الأستاذ سؤالا بعد أن طلب من الجميع الهدوء، وجه السؤال نحوي مباشرة فرحت وجميع الرؤوس تتوجه نحوي:
– ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟
رغم انني سمعت هذا السؤال في الصف الأول والثاني مما يجعلني أكرر الإجابة مع إضافة جديدة في كل مرة؛ في الصف الأول تمنيت أن أكون شيخًا للجامع، فقد كانت أمي تدعو لي عقب كل صلاة بذلك .
وفي الصف الثاني زدت واحدة: أن أحج بوالدتي إلى مكة لأنها تدعو الله أن يتم دعوتها بعد أن أنضم لها الخيط في إبرة المكينة التي تخيط عليها ملابسنا وملابس جاراتها وبناتهن مقابل أجر زهيد تقضي به احتياجاتنا بعد وفاة والدي وسعيها علينا.
وفي الصف الثالث زدت أمنية ثالثة : أن أتزوج منيرة بنت الجيران! ففي كل مرة تأتي الينا لتقيس فستانها الجديد،اسمع والدتي تقول “جعلك الله من نصيب سالم”،
كانت تضحك وتحمر وجنتاها وأنا كالأبله لا استوعب معنى الكلمة، حتى أخبرتني أمي أنها تتمنى أن تكون زوجة لي عندما أكبر.
وفي كل عام ، يلقي علينا استاذ آخر نفس السؤال! وفي كل مرة أزيد أمنية حتى تكدست الأماني في عقلي وحالت بيني وبين إكمال دراستي.
كنت أرسب وأعيد الصف أكثر من سنه وأغرق في حلم كبير يحمل أمنيات كثيرة في زورق خيال معطل على ناصية وقت مجنون يرحل سريعا دون أن أستطيع التجديف في أمواجه العالية.
لا أدري ! متى نمى لي شنب كثيف غطى شفتي العليا؟ ومتى كَفَّ بصر أمي ؟ قبل أن أحج بها أو أصبح شيخًا .
خذلتني الأيام و أخوتي كبروا، وتبدلت أحوالهم .
بالأمس أتى أخي الأوسط وأخذ أمي للحج وأخبرني أنها لن تعود هنا، ستبقى عنده حتى يعتني بها أكثر .
أختى سعاد أصبحت ممرضة ولديها ثلاثة أطفال لم تحلم بهم .
وأخي الأكبر دخل ابنه الكلية العسكرية لم يتمنى ذلك يوما ما .
أما أنا ! فمازلت اجتر بقية أمنيات متسربه؛أجلس على عتبة منزلنا الخالي من كل شيء! والقي بالحجارة نحو ظل زوج منيرة عندما يمر بي.
يدخل المطبخ تثير انتباهه مكنسة سوداء تفترش المكان ..!
يناديها :
ـــ تكنسين الأرض بشعرك ..!
تبتسم :
ـــ لأنه طويل ..
يقترب ليرفعه ، يتساقط في يده .
تختفي صورتها ، ويبقى شعرها متناثراً .
تصدع
يرقد وفي عينيه دمعة ، تدمي قلبه حكاياته التي تحاك خلف الأبواب المؤصدة ..من وراء حيطان محطمة يسرق دقائق من رحم الحلم؛ يؤدي فيها خلسة النشيد الوطني.
شؤم
تتسلل إلى أزقة عتيقة، تقف عند مفترق طرق، تنحني.. تنثر شعرها..
يستيقظ أهل القرية على عويل.
صباحية
يتسابقان عند الشاطئ، خطواتهما تسبقهما في حبور.. يجريان هنا وهناك .. يتراشقات حبات رمل وقطرات مياه .. زفافهما البارحة، ارتديا بذلتيهما الحلم ..
قبض عليها بقوة؛ مزق فستانها الأبيض.. صرخت، ارتاع، وقع من سريره ممسكا بجامته الممزقة…!
تشكل صداقتي للمرضى محور عملي وحياتي. خالد رجل أربعيني معافى جسدياً ،وذو شعر كثيف أشيب.
كان في الثامنة عشرة من عمره عندما تعرض لحادث سير، فقد على إثره أسرته، وجزء كبير من ذاكرته. يرقد في المشفى طيلة السنوات الماضية.
تشير تقارير ملفه إلى أنه دخل في غيبوبة كاملة،أفاق منها قبل أيام.
في أول جلسة،أبدى تجاوباً واستعداداً للحديث معي.
– صباحك جميل.
– أهلا وسهلا .
– حدثني عن نفسك؟
أخبرني باسمه واسم قريته. تحدث عن جيرانه وأصدقائه، وملعبهم الترابي.
تكلم بحماسه عن أسرته، أبوه، أمه، أخته… وتوأمه يوسف!.
وراح يُسهب في سرد آخر مساء يذكره، بتفصيل وحنان.
توقف فجأة! ثم طلب ورقة بيضاء وقلم رصاص.ظل جامدا بلا حراك، مع نظره مرتبكة ومظلمة .ثم شرع برسم ملامح شابٍ مشرقٍ .كان بارعاً في إبراز التقاسيم..
– يشبهك كثيرا!.
– ……….
– ولكن…! لمَ هذه الشامة على الوجنة اليمنى!.
– هذا أخي يوسف – قالها بابتسامة .
كان ممتلئاًبالحيوية وهو يتحدث عن أخيه. راح يتذكر ويحيا الأشياء بخياله.
يكبرني يوسف بسبع دقائق فقط. لكني أقوى منه، انظر..!
شمّر عن عضلاته ثم أطلق قهقهة عالية رجّت العيادة…
استوقفني أنه لا يتكلم بصيغة الماضي، بل بصيغة الحاضر…!
رفعت روزنامة التقويم عن المكتب؛ ثم سألته وأنا أخفي حيرتي : في أي سنة نحن الآن؟
أجاب : في عام ألفين، قالها بكل ثقة! .
باغتّه : كم عمرك الآن؟.
تردد للحظة، ، ثم قال : أعتقد في الثامنة عشرة! .
شعرت أن الوقت قد حان لإنهاء جلستنا. رافقته الممرضة إلى غرفة تنويمه.
آثرتُ أن تكون الجلسة التالية مليئة بالأريحية والاستلطاف.
– صباح الخير صديقي العزيز خالد.
لم تكن هناك أي علامة على وجهه تدل على تعرفه عليّ! .
سألته : ألم نلتقِ قبلاً؟
– لا، لا أظن ذلك يادكتور؟
– حسناً، لماذا تدعوني دكتور؟
– من خلال اسمك على المكتب .
– أين تظن نفسك الآن؟
– كل شيء يوحي لي أني في مستشفى ما. ولكن! ماذا أفعل هنا!
هل أنا مريض؟ أم أعمل هنا؟
ربما أعمل هنا؛ فأنا أشعر بشعور جيد … ما وظيفتي؟
أريته الورقة التي رسم عليها توأمه .ذُهل، وأنكر بأن الرسمة تخصه .
سألني مستنكرا : أين أسرتي؟
قلت وأنا أناوله مرآة : انظر في المرآة، وأخبرني ماذا ترى؟
شحب وجهه فجأة، وأمسك بشعره الأبيض…
هاج بشدة وقام مذعوراً.
صارحته :أنت تعاني فقداً شديدا في الذاكرة الحديثة، خلاف الماضي الذي تعيشه بوضوح.
تغير لونه ، ثم قال :
– إذاً أنا مريض، وتلك مشكلتي..!
اصطحبته إلى النافذة، أشار إلى أولاد يلعبون كرة القدم. استعاد لونه وبدأ يبتسم.
انسحبتُ بهدوء…
كنتُ معصوراً بالعاطفة نحوه، لقد كان روحاً ضائعة.
تاهت حياته في حالة من عدم اليقين، وأذابها النسيان.
عايدته هذا الصباح في حجرته.
عندما فتحتُ الباب، التفتَ ناحيتي، وارتسم على وجهه تعبير بهيج.
قال : أهلا وسهلا! تريد أن تتحدث إليّ.. ؟
قلت له : هل تسمح لي أن أجري عليك بعض الاختبارات؟ وإن تجاوزتها؛ فسآخذك لفسحة خارج حدود المستشفى.
أظهر خالد مقدرة ممتازة في اختبار الذكاء، كان سريع البديهة وشديد الملاحظة. ليست لديه في أية صعوبة في حل المسائل السريعة.
لكنّي اكتشفت أن آثار ذاكرته الحديثة سريعة الزوال، وعرضة لأن تمحى في غضون دقائق !. عدا بعض الصور الباهتة عالقة كصدى مبهم أو شعور بالاعتياد.
فقد وضعت أمامه قلم وسماعة ومذكرة صغيرة، وطلبت منه أن يذكرها، ومن ثم غطيتها.
وبعد أن تحادثنا لبرهة، سألته عن الأشياء التي وضعتها تحت الغطاء، لم يستطع أن يتذكر شيئاً منها.
ألزمته أن يحتفظ بدفتر يوميات، يدون فيه يومياته، أسماء شخوص وأماكن، تجاربه، مشاعره وتأملاته…
كتبتُ في جدول بياناته : “حياة مبكرة يتذكرها خالد بصورة حية. ولكن لسبب ما، توقفت ذكرياته هناك. وهذا يؤكد بأن توقف ذاكرته عند العام ألفين كان حادا، مما خلف لديه هفوات عميقة في الذاكرة الحديثة. ”
طمأنته بأني لازلت على وعدي له بالفسحة.
ظل مبحلقاً، ثم تمتم: أي فسحة…!
في رقة الأنثى.. بهمس ناعم.. ربتت على كتفيه في حنان بالغ.. لمست خصلات شعره التي تتخللها فضيات السنين المتناثرة..
جلست بجواره قالت له بكل معاني الحب والأمل المذاب في عمق اللهفة.. وقد عشقت في محياه الطفولي ذاك الوهج الجميل :
لقائي بك غير مافي تكويني.. لحظات معك لكنها بحجم مسافات الفضاء تضج حبََا وشغفََا..
بعد غيبة طويلة في ذاكرة الزمن أظنها تكفي لغرس ذكرياتنا في زمن أغفلنا وجوده..
فرحتي بوجودك مدججة بألوان الشوق.. حولت بسمتي الباهتة إلى هزجة مفعمة بنغمات طربية مع أوتار نبضك.
لا أريد لخيالاتي البلهاء تصور لي رحيلك عني.. لايمكن أن أبكيك كل حياتي.. في قلبي نبضة وأدتها لتبقى أنت نبضي.
كفانا ياحبي وجع السنين.. وأنات الأحداث.
أنحنى على كفيها يلثمهما وفي أحداقه دمعات عالقة كحبات اللؤلؤ البراق
قال لها : رجعت إليك حبيبتي.. أنا لك حتى يحين الرحيل.