مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
تأملاتٌ في قصيدة:(إجهاشةُ قلب)؛للشاعر:شيخ بن علي صنعاني*
____________________
-النص :
أَلَا فَسَلُو الْمُدَامَةَ عَنْ مُصَابِيْ
عَنِ الْأَمَلِ الْمُضَمَّخِ بِالْسَّرَابِ
عَنِ الليْلِ الَّذِيْ أَمْسَىْ جَرِيِحًا
وَ أَنْجُمُهُ الْثَّكَالَىْ فِيْ انْتِحَابِ
سَتُنْبِيكُمْ كُؤوسُ الْوَجْدِ عَنِّيْ
وَ تُرْسِلُ بَعْضَ نَزْفِيَ لِلْتُّرَابِ
وَ تَنْثُرُ مَا تَوَارَىْ حِينَ جَاءَتْ
مُدَلَّلَتِيْ كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ
أُجَاذِبُهَا الْغَرَامَ بِكُلِّ صِدْقٍ
وَ تَمْنَحُنِيْ الْعَذَابَ ، فَوَا عَذَابِيْ
عَشِقْتُ أَرِيجَهَا سِحْرًا تَوَالَىْ
عَلَىْ رِئَةِ الْجَمَالِ مَدَىْ اغْتِرَابِيْ
فَكَانَتْ مِثْلَ رَاحٍ زَادَ نَفْحًا
مِنَ الْشَّفَتَيْنِ طُوِّقَ بالرّضَابِ
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ
فَأَجْهَشَ خَافِقِيْ فِيْ كَفِّ إِلْفٍ
بِسَيْفِ الْهَجْرِ قَدْ طَعَنَ اقْتِرَابِيْ
وَ نَاحَتْ أَحْرُفٌ ضَمَّتْ فُؤَادِيْ
أَقْامَتْ مَأْتَمًا ، عَزَّتْ مُصَابِيْ
____________________
-وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
المدخل الفنِّي لعالم القصيدة هو عنوانها الذي ارتآه الشاعر؛وهو هنا عبارة عن مفردتين جاءتا مركَّبة تركيباً إضافياً؛تبعاً لما يُسمى في علم النحو (إضافة نكرة إلى نكرة)؛وغايتها( (التخصيص).
والذي يعنينا أن هذا القالب الفنى؛اشتمل على عدِّة معاني إيحائية؛أهمُّها
أن قلب الشاعر أثخنه الولهُ والانتظار؛وأرَّقته لواعج الحنين؛فلم يجد بُدَّاً من أن يجهش بالبكاء هنا وسيلته في ذلك الأنَّات الحائرة؛والآهات الحادَّة.
ولمَّا كانت العينان وحدهما؛أوعية العبرات؛والمدامع المنسكبة؛وهما ملاذ الشاعر في حركة الكون وسكونه؛ وسلواه في مواجهة أمانيه المتجهمة؛ومطالبه الممتنعة؛ فإن ذلك الموران من شأنه أن يهبط على القلب المضرَّج بالأسى؛ويشعل بين جوانحه سعيرَ الصبابة، وضغطها العاصف المستمرّ؛وقديماً قال الشاعر:(فإنَّ البعضَ من بعضٍ قريب).
بيدَ أن لغة (بكاء القلب) وجيشانه لاتعدُّ من المحسوسات المرئية ؛بل هي فعلٌ معنويٌّ صِرف مستترٌ عن الأنظار تماما ؛ووحده الشاعر ؛صانع التجربة ؛يملك القدرة على ترجمته في إطار تراكيبه اللغوية المعبِّرة عن خلجاته المحتدمة في أعماقه.
ومما هو شبيه باستعمال شاعرنا أننا نلحظ في أبياتٍ للشريف الرضي صورة (القلبِ المتلفَّت)؛وكأنَّه كيانٌ قائم بذاته ؛وذلك في قوله:
وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَتْ
عَنها الطُلولُ (تَلَفَّتَ القَلبُ).
وتجدر الإشارة إلى أن
الشاعرالأمير عبد الله الفيصل رحمه الله أصدر ديواناً شعرياً أطلق عليه عنوان:(حديث قلب) وذلك في الثمانينات الميلادية.
وحول معنى الإجهاش المنصرف إلى معناه الحقيقي لا المجازي ؛نستأنس هنا بأبيات الشاعر العذري ابن الملوح؛إذ يستهلُّها بقوله:
وَأَجهَشتُ لِلتوبادِ حينَ رَأَيتُهُ
وَهَلَّلَ لِلرَحمَنِ حينَ رَآني !
وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ
وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني !
فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتَهُم
حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زمان؟!
فَقالَ مَضَوا وَاِستودَعوني بِلادَهُم
وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثان؟!
إنَّ (إجهاشة) قلب شاعرنا هنا ؛ يستحيل أن تُرى بالعين المجرَّدة كما أسلفت القول؛ولا حتى بالعين المُبصرة عندما تعبُر بها عبوراً فاتراً سريعاً ؛أو تمر بها مروراً
لا أناة فيه؛ولااستشعار(جُوَّاني) لطبيعةِ الغليان النفسي والشجون الثائرة في سماء الشاعر.
إنَّما الذي لايخفى أثره ؛ولايخفت بريقه؛ أن أصداء تلك (الإجهاشة القلبية) مما ينفذ إلى القلوب والأسماع؛ دون عناء ؛من خلال ماحملته التجربة من صدقٍ وحرارة وانفعال.
لاريبَ أن تجربة الشاعر هنا؛تبحر بنا -في ضوء استخدامه عنصر(تراسل الحواس وتبادلها)- بمنأى عن أفق الرؤية البصرية المحدودة؛إلى أفقِ الرؤية القلبية المتسعة؛(وناظر القلب لايخلو من البصر)وفقاً لتعبير الشاعر القديم.
ولعلَّ من أبرز مظاهر تلك (الإجهاشة المؤثرة)؛هذا الجانب الملحوظ الذي أُحبُّ الدندنة في محيطه؛أوعلى هامشه؛وهو:
-أنَّ شاعرنا استطاع التفنن في تعميق تجربته الفنية ؛وتوشيتها ؛بواسطة الإحالة على بعض الطقوس الحالمة؛ مما لها صلةٍ بواقعه المعاش وأحلامه المتطلِّعة؛فهو هنا يرمقها بعينيه وقد استحالت إلى بيادر قاحلة؛خلتْ جنباتها من النضارة والرواء؛وترتب على ذلك الخُواء الكوني أن ذبلتْ أفنانُها الخضراء؛وجفَّت ينابيع أُنسها؛ إلى الحدِّ الذي باتت فيه راضخةً لفعلٍ إقصائي أراد لها الجمود والشحوب؛بمعزل تماماً عن مواطن الفرح ؛والسرور؛والأوقات الصافية المترعة بأحاديث الغرام العذب؛ومذاقات الشهدِ المُصفَّى ؛حيث (الأمل الواهن مُلقَى في أكناف السراب؛وسط هاجرة النهار؛وحيث الليل الجريح ؛والأنجم اليتامى؛والكؤوس النازفة).
تلك المشاهد المتشحة بثياب الأسى؛عزَّ على الفاتنة المدللة (عطر كتاب الشاعر)كما سمَّاها الشاعر ؛أن تعيد إليها هالات الفرح المسلوب؛والبهجة المفتقدة ؛وأن تمنحها إكسير الحياة الهادئة الناعمة؛التي تملكها وحدها؛
وبدلاً من ذلك كله ؛كان سخاؤها عليه ؛وتضامنها معه؛-عكس المُراد؛والمُشتهى والمؤمل-أنْ(منحت العذاب) أضعافاً مضاعفة!
ولمن ياترى منحت (العذاب الصاهر) والشجن المرير ؟!
للشاعر المفتون بها؛المغرم بهواها؛المتفاني في عشقها إلى الأبد؛كما في هذا التصوير الدرامي الآسر:
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ !
وأنَّى لهذا العاشق المطعون (بسيف الهجر ) أن يحظى بالوصال المنشود؟!
وطالما أن تلك (الإجهاشة القلبية) خفيَّة وكامنة في مناطق الأعماق المجهولة؛ -إلا على تلك المدللة- ؛فمتى ستخمد نارها المستعرة؟!
——————————–
-بعض ظواهر النص الفنية
-إننا هنا أمام نص رومانسي بامتياز؛احتشدتْ فيه الصور البيانية بقدرٍ عالٍ من الانسيابية؛كقوله:كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ ؛ناحتْ أحرفٌ…الخ
– ألفاظ الشاعر مشحونةٌ بالتوتر والانفعال:مصابي؛عذابي ؛اغترابي؛الخ؛بما يؤكد احتلال التجربة بؤرة اهتمام الشاعر.
-استثمر الشاعر فيه مايُسمَّى(فنَّ التشخيص والتجسيم)؛فضلاً عن استثمار(فن تراسل الحواس) كما في العنوان الذي انطلق منه..
-اعتماد الشاعر الأسلوب الخبري؛ومن شأن ذلك الكشف عن أبعاد التجربة واستقصاء أسرارها العميقة.
-اعتماد (بحر الوافر) وهو بحرٌ سلسٌ طيِّع يستوعب التجارب الغرامية ويتلاءم معها.
وبعد فقد كانت تلك السطور محاولة لتجلية تجربة شاعرنا؛وإبراز بعض مواطن الجمال في أنغامها الحالمة؛إلى حدٍّ ما ؛راجياً أن أكون قد وفقتُ في تلك المهمة؛على أنَّ هناك جوانب فنية أخرى ؛قصر الحديث عنها لضيق الوقت؛
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
لنص الشاعر اليمني /محيي الدين جرمة 🙁 الجغرافيا درس مؤلم ).
_________________________
-عرضُ النص:
«الجغرافيا درسٌ مُؤلم»
-0
أغفو متقمصا جفن صخرةٍ
تمر شموس تحت ظلالها والمياه.
أستدرجني كشفق ٍ ما لامسته شفة .
لايد قُبلت قبلتَه.
أنشر عراءاتي فيكِ
أنتظركِ .
تمشين على حواف حُلم ٍ.
لخطواتك نكهة العنب الأسود.
يحدق بنظراتي صوف عظامكِ
كحلاوة الضوء في فمي!
-المقطع رقم9
إن مر يوم ولم أتذكركِ.
تعتذر الجهات للرياح.
شعشعانية الحشائش
وما تلامسه يد الريح
يعتب على الريح :
إن تركتني شارداً وبعيدا.
نحوكِ أصوبني.
كأزهاركِ
تغني
فضاء
يدي .
-المقطع رقم8
اشتكيت مرة ً قسوة أبي
لصخرة قرب بيتنا.
-المقطع رقم7
لايثنيكَ صمتٌ.
عدا صخور تلوح بيد البحر!
-المقطع رقم6
في جنوب الجراحات
عصفورة تتورد
داخل الصمت.
شوك الأسئلة يوخز رياحاً.
نوارس تنفذ
من تحت غلاف الرمل.
البلاد نحرٌ من ظلال ترتجف
تتقلب كأعواد ذرةٍ
تجلب دوارا.ً!
عند الإفراط بأكلها.
تحت مديات من سموم.
يحدق رماد الأمل.
لوحة لماء فنان.
وجه حي.
بورتريه لحُلم.
تيمات تشاهدنا
في دواليب
من زجاج شفاف
لجناح متحف الكائنات.
الجغرافيا درس مؤلم.
“هل انتهى كل شيء”؟
ربما.
قبل
أ
ن /
بعد
ما/
ككل
شيء ٍ
في
الأشياء.
_________________________
-القراءة النقدية:
أطلعت في مجلة ( كيكا ) kikah الصادرة عن لندن المهتمة بالأدب العالمي ،على هذا النص الذي يعدُّ من أرقى النصوص في شاعريته ورؤياه ، حيث ينمُّ عن رؤيا عميقة، وتمكن من القدرة على خلق الجمال الفني في عناصره وفضاءاته المفتوحة بلا حدود ، وتحمله رؤى تأويلية غير محدودة ، وخضوعه لقراءات وإسقاطات نقدية متعددة المناهج والرؤى. -الشاعر محيي جرمة :
هذا الشاعر يمني الأصل والنشأة غني عن التعريف له مشاركات أدبية ونقدية في اليمن وخارجه ، حازت تجربته على تقديرات بحصول أعماله على أبرز الجوائز العربية في الشعر ، هذا الشاعر الرؤيوي الذي ابتدأ بكتابة القصيدة العمودية مرورا بالقصائد الرومانسية والتفعيلة وصولا إلى قصيدة النثر وقصيدة الومضة ، وما يخص قصيدة النثر، له بعض القصائد مكتوبة بامتياز ، ويمتلك خيالا خصبا ورؤيا عميقة ، وروح شاعرية جميلة ،
لا يسعى إلى تلميع ذاته ، يكتب الشعر من أجل الشعر ، هذا الشاعر المسكون بالإنسان ، ينزوي وحيداً حاملاً هم المجتمع على أكتافه ، يسعى جاهداً أن يرى وطنه خاصة والوطن العربي عامة في أرقى سلم الحداثة والتنوير والتطور والارتقاء ..
_________________________
-رؤيا عامة حول النص :
ونحن نلم خيوط الرؤيا نحاول الاقتراب من كنه النص وعالمه ، من زوايا متعددة ، زاوية الذات ، زاوية الموضوع ، زاوية الرؤيا ذاتها ، زاوية الاستطيقا ، ليبدو النص واضح المعالم ، كيف بك أن تلحق بشاعر وكلماته تسافر مع الريح تحملك من فضاء إلى فضاء، ومن رؤيا إلى رؤيا ، هذا الشاعر الذي يتحد بالأشياء حد التماهي ، في رؤيا عميقة وحميمة للأشياء ،تجسد فلسفة التاو المنتشرة ، إنها فلسفة حميمة في علاقتها بالوجود ، وعناصره ، نلمس روح الشاعر في كل سطر وكل عبارة ، شاعر يلتف بالأرض وصخورها ومياهها وجغرافيتها وبحارها وأشجارها … ويرتقي بروحه في سلم السماء حيث الفضاء والشمس والروح والنور والضوء والإشراق …وغيرها من المفردات العلوية ، وحين نعتمد على الكلمات المفتاحية التي تجسد محور النص ورؤياه ننطلق من عبارتين : عبارة العنوان ( الجغرافيا درس مؤلم ) ،وعبارة ( البلاد نحر من ظلال ترتجف ، تنقلب كأعواد ذرة )
تلك العبارات تجسد محور دوران النص ورؤياه حول وطن الشاعر المرتجف ” كأعواد ذرة ” على حد تعبيره ، هذا الوطن الذي يعيش التمزق والشتات في ظل الصراعات السياسية والطائفية التي تنهش الوطن من كل زاوية ، فيبقى الشاعر يصدح بصوته ولا مجيب ، فينزوي مثخناً بجراحه وحيداً يحمل همّ وطن على ظهره …
_________________________
-سيميائية العنوان :
إن العنوان بوابة النص للدخول إلى عوالمه ، واستشراف خباياه بصورة مصغرة تبدو مرئية من بوابته الصغيرة ، وكلما حاولنا أن نتأمل هذا العنوان نجده يفتح أمامنا أكثر من تأويل فكلمة جغرافيا تدل على بلد محدود المعالم واقع في نطاق مكاني معين ، وهي كذلك تدل على التمزق والتجزؤ، وحين نقترب من هذا البلد الذي قصده الشاعر، ونتفحص مكانته بين البلدان الأخرى ، يجعلنا نستكشف مكنون الشاعر حين يحملنا إلى مواطن رؤياه العميقة التي يرى من خلالها بلده ( اليمن ) هذا البلد الذي يعيش بين زوايا الصراع ،هذا البلد الذي يتمزق كل يوم تحت معاول الساسة والمستبدين، تلك المعاول التي تنهش الوطن من كل ناحية وكل ضربة تقع على هذا البلد هي بالأصل تقع على عاتق الشاعر الذي يحمل همّ هذا البلد على أكتافه.
وحين نرى هذه المعاول تتهاوى فوق رأس الشاعر ندرك حينها معنى قوله : ( الجغرافيا درس مؤلم ) ،ذلك هو الألم الحقيقي حين تحمل هم وطن على ظهرك … حين تحمل هم أمة بكاملها، بهذه الهمة يبدو الشاعر كنصف نبي أثقلته هموم مجتمعه . إن موضوع الجغرافيا هو موضوع مكان ، ونجد هذا المكان يختلط بـ ” أنا ” الشاعر وكينونته، فنستشف العلاقة الحميمة بين المكان والشاعر ، بين الأرض والإنسان ، علاقة الجزء بالكل والابن بالأم ، هذه العلاقة الحميمة المتماسكة نرى بها أن كل ألم يصيب الوطن والبلد هو بالضرورة يصيب هذا الإنسان والشاعر خاصة ، وحصر الألم في درس الجغرافيا دون غيره يعكس تماهي الشاعر بجغرافيته وحدوده ، حيث تغيب الأنا في الموضوع ولا يبقى لها علاقة سوى الألم الذي يربطه بهذه الجغرافيا ، ويعمّق الشاعر معنى الألم حين يرتبط بالدرس حيث يتحول هذا البلد إلى مصنع آلام وأحزان ومعاناة تتكرر معنا في كل يوم ؛ أي مع كل نفس نتنفسه نستقبل ألما بعد آخر إلى ما لا نهاية . إن الشاعر يجسد ثنائية الواقع والمتخيل في كل أجزاء النص ابتداء بالعنوان ومرورا بكل مقطع فهو حين يهبط إلى الواقع المشترك يحاول ينقل الآخر المتلقي إلى عالمه العميق الذي يراه هو ، ذلك العالم الفني الذي بناه برؤيته الشاعرية الخاصة ، فكلمتا ” الجغرافيا درس” في العنوان غير شاعرية، أي ليست من عالم الشاعر وحين تتضام مع كلمة ” مؤلم ” يختلف مدلول التركيب، وتتغير العلاقة فيغدو العنوان محركا من الداخل، حيث إن كلمة “مؤلم ” قد أشعت في العنوان بتضامها مع الكلمات السابقة ، ذلك أن الشعر طاقة مولدة من تضام الكلمات وعلاقاتها !
فهو أشبه بشرارة اللهب المنقدحة من اصطدام حجر بحجر ، وهنا يبدو شاعرنا ذا قدرة فنية وشاعرية كبيرة في الاقتراب من روح القارئ وأخذه إلى عالمه الخاص لمشاركته رؤياه .
_________________________
-الرؤيا والجمال في النص :
“أغفو متقمصاً جفن صخرة ” هذه الصورة السريالية هي محاولة للهروب من الواقع البائس وخلق عالم سحري صلب ليقف عليه أمام عواصف الفناء ، فالصخرة رمز للصلابة والقوة ، والتحمل ، وذلك التقمص لجفن الصخرة يمنح الشاعر قوةً للمواجهة والثبات للاستمرار في الحياة ، ونجد ذلك حين تمر شموس الإشراق والفكر والتجديد والمحبة والعرفان التي ينتظرها الشاعر حين تمر تحت ظلال صخرته ، ويضفي صورة الحياة بمرور المياه ، فالماء رمز للحياة والخصوبة ومحاولة لبث الحياة وبعثها في الواقع الأليم .
إن محاولة خلق عالم حي مشرق مفعم بالجمال هو محاولة لأخذ المتلقي إلى عالمه الذي يراه وحين يؤمن هذا المتلقي بأفكار الشاعر ورؤاه يستطيع حينها أن يعيش الواقع الجميل . وحين ننطلق مع الشاعر نجده في المقطع الأول ينشطر إلى ذات وموضوع ، ذات متوهجة تقود الموقف ، وموضوع يحاول اللحاق بها ويستدرجها ” استدرجني كشفقٍ ما لامسته شفة ” إن هذه الذات التي يحاول أن يستدرجها هي في الحقيقة الإنسان الآخر الذي اتحد به الشاعر وهو ذلك المخاطب الذي يحاول أن يستدرجه إلى عالمه الخاص فإذا هو كشفق يقترب من نهايته في الأفق يقترب من الموت والفناء تحت أمواج الظلام .
إن ذلك الآخر التائه والواقف على مشارف النهاية هو ذلك الإنسان اليمني ابن وطن الشاعر الذي فقد الحب والحنان في ظل الظروف القاسية ” لا يد قبلت قبلته “. وينفتح الشاعر بقلبه ورؤاه لهذا الوطن حين يقول : “أنشر عراءاتي فيك” ؛ إنها محاولات متكررة في نشر الشاعر فضاءاته المفتوحة لهذا الوطن ، فقلبه يتسع للجميع ، وينتظر قدوم الوعي لتغيير الرؤى العتيقة ” أنتظرك ” ولكن صورة الخوف تتوقد في ذهن الشاعر حين تغدو بلده محاصرة تحت كلاليب الرؤى الضيقة الحاقدة ، فتغدو طموحاته معلقة على مشارف حلم لم يتحقق بعد .
ونجد الصور الشعرية تتلاحق في ثنايا النص مضيئة بروح الشاعر وإبداعه المتوهج ، فالخطوات لها نكهة العنب الأسود إنها مسكرة في إقبالها ، وتصوير الخطوات بأن لها نكهة يعتمد على تراسل الحواس الذي شاع عند الرمزيين ، إنها حالة نشوة وسكر تختلط فيها الأشياء ، فما تراه بعينك تشمه بأنفك ، الكل يتحد عبر المعنى هذه الرؤيا الصوفية العميقة التي يتحد فيها أجزاء العالم في وحدة كلية غير قابلة للانفصال وهي ما يعبر عنه ابن عربي بعالم الأنفاس ، حيث تغدو الفواصل مجرد وهم في رؤية الأشياء ، ويتجسد المعنى أكثر حين يغدو للضوء حلاوة في الفم ” كحلاوة الضوء في فمي ” فالضوء المشاهد بالعين يغدو هنا محسوسا بالذوق عبر الفم الذي يجسد حلاوته ، ذلك الضوء المشرق هو ضوء الوعي والعلم وضوء النور الروحي المشع بالمحبة في الارتقاء بالإنسان والمجتمع . ويصحو الشاعر من هذه السكرة التي حاول أن يستدرج بها الآخر حين يغدو الوطن مشرقا ومفعما بالمحبة والوعي والسلام ، فيتوجه مرة أخرى إلى مخاطبة ” الوطن ” المعبر عنه بضمير المخاطبة على شاكلة قوله :
* 9 إن مر يوم ولم أتذكركِ. تعتذر الجهات للرياح. شعشعانية الحشائش وما تلامسه يد الريح يعتب على الريح : أن تركتني شاردا وبعيدا. نحوكِ أصوبني. كأزهاركِ تغني فضاء يدي . اليمن هي تلك الحبيبة التي لا تفارق ذكر الشاعر وهي التي يعيش من أجلها بجسده وروحه وفكره وقلمه ، إن لم تمر على ذكراه يوم فالجهات تغدو بلا رياح مبشرة بالخير ؛ لأن صوت الشاعر هو صوت الخير في الأوطان ، وحين نلجأ إلى التـأويل نقترب من الرؤيا العميقة للنص فالرياح رمز للتغير ورمز لصوت الشاعر ولكل قلم ثائر ، إن الرياح في معناها تحمل مدلولا خصبا ، فهي في الثقافة الدينية وفي القرآن خاصة مبشرة بالخيرات وهي لواقح للأشجار من أجل الثمار ، وفي قول الشاعر : ” تعتذر الجهات للرياح ” نجد روح الشعر والفن تتوهج في المقطع فقد أنسن الشاعر الجهات وشخصها فكل شيء مصبوغ بالحياة ومفعم بالحركة وكل شيء مرآة لروح الشاعر الشفافة المشرقة ، فالعبارة السابقة مليئة بالإيحاءات الرمزية الخصبة المفتوحة على تأويلات متعددة ، إن هذه الجهات الأربع هي بوابة الدخول إلى فكر الإنسان ، فمنها يدخل داعي الشيطان وداعي الملك من أجل التربع على مملكة الإنسان ، وما صوت الشاعر إلا ثورة للتغيير ومحاولة للدخول إلى تغيير الوعي السائد ؛ ذلك الوعي الذي يتسم بالكراهية والفوضى والنظرة الدغمائية للأشياء ، وتلك الأصوات الواعية التي هي صورة من صور الرياح في عالم المعنى بمثابة محاولة لزعزعة الأفكار وغرس رؤى جديدة ومشرقة ، تلك هي الرؤيا العميقة في سبب جمع الشاعر بين ذكراه لليمن المعبر عنها بضمير المخاطبة واقترانها بالرياح وجهاتها . وفي المقطع الذي يقول : “اشتكيت مرةً قسوة أبي لصخرة قرب بيتنا ” ففي هذا المقطع الصغير تتجلى شعرية عميقة وكثيفة ، فمن هذا الأب الذي يشكو قسوته إلى الصخرة ؟ أليست الأبوة رمزا للقوة المتسيدة والسائدة في البلد ، تلك القوة القاسية التي لا تقود الأمور بزمام الحكمة والرحمة ؟!
* والشاعر حين يشكو تلك القسوة إلى الصخرة ، يشير بأن الصخرة أرق من المشاعر القاسية لبني الإنسان ، فهي تسمع لك دون كلل وملل ، هذه هي الصخرة التي يتهمها الناس بالقسوة ، لكن شاعرنا يستبطن معناها وجوهرها الداخلي ويعبر من السطح إلى العمق ليرى الأشياء بحقيقتها ، فإذا به يتواصل مع الصخرة بتواصل حميم ويجدها تسمع له شكواه ومعاناته دون ملل ولا كلل ، إنها أسمى المعاني التي يفتقدها بنو الإنسان ، فمن الذي سيظل يهبك ذاته دون أن يضيق منك وأنت تتحدث معه في كل وقت ،والشاعر وحده من يكتشف جواهر الأشياء بحدسه ، أليس للشاعر رؤيا عميقة غير الرؤية السطحية التي عند الناس ؟!
* تلك هي مهمة الشاعر في الكشف عن جوهر الأشياء وعمقها الداخلي . وفي قوله : لا يثنيك صمت ، عدا صخور تلوح بيد البحر ” هنا يلتحم الشاعر بالأشياء ويعكس عليها إحساسه ، فالصخور تحمل معاني عميقة في امتزاجها بالبحر هذه الصخور الصامتة ذائبة فيك ومصغية لك ، كل شيء يبدو مختلفا عند الشاعر ، إنها ليست فيها من الأنانية شيء .
* حين تقف مع الصخرة وتتأملها وتتحاور معها بصمت تكتشف أن للأشياء جوهرا حيا عميقا هذه هي رؤيا الشاعر البصير ورؤيا المتصوف الخبير بأسرار الروح وحياة الموجودات ، حتى الذي نتوهم أنه جماد فهو عند الشاعر والمتصوف له حياة خاصة وكينونة لا ندركها إلا حين نقترب من جوهرها ، وهذه المسألة ذوقية تأملية لمن وقف معها لا تتأتى لأي شخص ، ويلفتنا كثيرا قول الشاعر: ” عدا صخور تلوح بيد البحر” ما العلاقة بين يد البحر والصخور ؟ إن البحر رمز للمدى الذي لا ينتهي ، رمز للأبدية ، وتلك الصخور تغدو بإشاراتها متلبسة بتلك اليد البحرية الأبدية ، إن هذا البحر الذي يتحدث عنه الشاعر ليس البحر الخارجي الذي نراه بل بحر آخر كلي عميق ، بحر الوحدة الكلية للأشياء ؛ إنه بحر الوجود الذي تستند إليه الموجودات . ينطلق الخيال الشعري في المقطع السادس من الواقع إلى بناء العالم الداخلي للشاعر ورؤياه للأشياء ، فيحملنا إلى مشاهدة الأشياء المعنوية مجسدة ، فإذا بالجراحات متعددة الجهات لها الشمال والجنوب والغرب والشرق ، وفي زاوية هذه الجراحات التي لا تنتهي يغدو الشاعر السجين الذي هو أشبه بعصفورة تتورد داخل قفص الصمت ، إنها صورة جمالية لا أبدع منها وخيال وقاد في خلق الجمال ، وفي هذه الحالة العصيبة من الصمت تبدو الأسئلة كشوك في وخزها تلك الأسئلة التي لا يجد لها الشاعر حلا ، فتبدو كالنوارس ، فكلمة نوارس معناها شوك القتاد ، ولها مدلول آخر بمعنى الطيور البحرية التي تنتمي إلى النورسيات ، وهنا لها المدلول الأول وهو الشوك التي تظهر من تحت غلاف الرمل على شاكلة قوله : 6ــ البلاد نحر من ظلال ترتجف تتقلب كأعواد ذرةٍ تجلب دوارا.ً عند الإفراط بأكلها. تحت مديات من سموم. يحدق رماد الأمل. لوحة لماء فنان. ونشير هنا إلى ترتيب الشاعر المقاطع بالعد التنازلي من الأكبر إلى الأقل ، هذا الترتيب له دلالته عند الشاعر وهو دلالة التراجع لهذا الوطن (اليمن ) الذي يتراجع إلى الوراء مع مرور الوقت ، ويمكن أن نعطي النص أكثر من قراءات لفراغاته وسواده وبياضه …كل ذلك يجسد إشعاع النص وامتلاءه برؤى مفتوحة لا تحصر . تلك هي مجمل المقاربة المختصرة لهذا النص الذي لا ينتهي تأويله هذا النص الذي يتمدد معنا كلما حاولنا الوقوف معه والإمساك به .
بقلم / محمد سلطان الأمير
العِيد والغِياب
*كُـلُّ المَـوَاعيدِ خانَـتْـها المَواعيدُ*
*سِيَّانَ إنْ غِبْتَ أو وَافَيْتَ ياعيدُ*
*تَقَـطَّعَتْ بَينَنا الأَسْبابُ وافْتَرَقَتْ*
*دُرُوبُـنا، وَاسْـتَـوَتْ أيَّـامُنا السُّودُ*
*شَطَّتْ بِنا الدَّارُ، أَنْسَـتْنا ملامِحَنا*
*حَتَّى اغْترَبْنا وأَدْمى خَطْونَا الْبِيدُ*
*وَمَضَّـنا البُـعدُ وَجْـداً ما نُغَـالِـبُهُ*
*زَفِـيْـرُهُ الآه تَـكْـوِي والتّـناهِـيْـدُ*
*كيفَ افْترقْنا وَهَـمْسُ الحُبِّ يجمَعُنا*
*ومـا التَـقَيْـنا، وحَـبْـلُ الـودِّ مَـمْـدُودُ*
*ولَـوَّعَـتْـنا لَـيَـالٍ صَـفْـوُهـا كَـدَرٌ*
*أَدنَى تَـبَارِيْـحِـها هَـمٌّ وَتَـسْـهِيْدُ*
*تشِـيحُ عَـنَّا أمَـانِـيْ الحُـبِّ لَاهِـيَةً*
*وتصْطَفِينا على البَلْوى المَوَاجِيدُ*
*ياعِيدُ أيْـنَ التي كانَتْ إذا خَـطَـرَتْ*
*يَخْـتَـالُ بَـدرٌ، وتَـنـسَـابُ المَـوَاعِـيْدُ*
*تِلْكَ التي تَمْـنَـحُ الأعـيادَ بَهْـجَـتَها*
*أو رُبَّـمـا أَنَّـها كـانَـتْ هِـيَ الـعِـيْـدُ*
*مَـا بَـالُـها نَسِـيْتْ لَمْ تُهْـدِنا قَـمَـراً*
*في لَيْلَةِ العيدِ، هل يَحلُو لَنا عِيدُ*
🍃 *محمد النعمي* 🍃
*بيش*
👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏
لموسمِ العيد المجيد نكهته الخاصة؛ ورونقه الروحاني الذي لاينفصل عليه؛وكلٌّ منا يراه من مرصده الخاص تبعاً لأحواله النفسية والاجتماعية وتقديراته الذَّاتية.
ولما كان الشعراء أكثر النَّاس اتصالاً بالمشاهد الكونية؛ وأكثر الناس تفاعلاً معها وشعوراً بها وتغلغلاً في بواطنها ؛فإنَّ نظراتهم لمشهد العيد ومراسيمه وطقوسه ؛تسترعي الانتباه؛ذلك لأنَّهم يرون مالايراه عامَّة النَّاس؛وإن بصائرهم المشحوذة ؛لتستطيع التقاط المشاهد الدقيقة ؛وتسليط الضوء عليها بجلاء ؛من خلال تلك الحساسية المرهفة التي أودعها الله بين جوانحهم.
ولقد أطلَّ علينا شاعرنا الكبير الأستاذ الرائد النعمي بأنغام قصيدته المرنانة في موسم العيد؛فأشجانا بمعانيها الوجدانية ؛وأسرنا بانسيابية لغتها المحكمة ؛ بعيداً عن ضجيج قصيدة المتنبي المشهورة؛وطنطنتها.
ولا غرابة أن يشعل في أعماقنا نيران الحنين؛ ولواعج الشوق المرير؛ فمن وراء عدسته الشعرية لانستجلي سوى الصدق الفني؛والشفافية الآسرة؛والروح الرفافة رفيف الفراشات في الحقول الخضراء.
إنَّها قصيدةٌ جزلة رقراقة؛ أنغامها تسري في الآفاق دون عناء ؛سريان المسافر في الليلة القمراء
فماذا عسى أن أقول أمام المواعيد الخائنة؟!
ماذا أقول وقد بدت (لغة التعميم) هنا حاسمة لامجال لنقضها أو العبوس في وجهها؟
وإذا تساوى حضور العيد وغيابه -وهو الواقع الذي نلمسه جميعاً- ؛فأين هالات الفرح المنشود؟!
وإذا اتسعت مساحات الأيام السود؛ فماذا سيبقى من فراغٍ للأيام البيض؟!
وإذا تباعدت ديار الأحباب ؛وخلت القلوب عن تلك الروابط الحميمة؛والعلاقات الإنسانية الدافئة؛ فمتى تعود إلى بساتين الأُلفة والمحبة؟!
لقد طرق شاعرنا سلسلة من العذابات؛وترجم لنا ألواناً من الآلام التي تصحبنا بكرةً وعشيَّا؛وجاءت انطلاقته الذاتية الصِّرفة؛ متطابقة مع النظرة العامَّة المجتمعية؛ومتعانقة مع شجوننا المحتدمة(فالهَـمٌّ وَالتَـسْـهِيْدُ) يترصدان بنا في كل مسلك؛والاغتراب صار زاداً يومياً؛ نلمحه حتى في الأشياء البسيطة ؛والأمنيات التي ضربنا الخيام حولها؛وعكفنا في محاريبها؛ ووقفنا نناشدها أن يلين لنا جماحها؛ألفيناها تلهو بنا ؛وتعبث برغباتنا؛وتلقي بها في مهبّ الريح ؛وكأني بصوت شاعرنا يعانق صوت جورج جرداق
في قوله:«سوف تلهو بنا الحياة وتسخر».!
لقد بدت تساؤلات شاعرنا كالأجرام السماوية الناريَّة ؛أقضت مضجعه طويلاً؛وأقلقته تداعياتُ السواد الجاثم الذي غلَّف الكون بأسره؛ولنا أن نصغي إلى هذا البوح:
ياعِيدُ أيْـنَ التي كانَتْ إذا خَـطَـرَتْ*
*يَخْـتَـالُ بَـدرٌ، وتَـنـسَـابُ المَـوَاعِـيْدُ*
*تِلْكَ التي تَمْـنَـحُ الأعـيادَ بَهْـجَـتَها*
*أو رُبَّـمـا أَنَّـها كـانَـتْ هِـيَ الـعِـيْـدُ*
*مَـا بَـالُـها نَسِـيْتْ لَمْ تُهْـدِنا قَـمَـراً*
*في لَيْلَةِ العيدِ، هل يَحلُو لَنا عِيدُ؟!
إنَّها تساؤلات شاعرٍ ؛احترقتْ أعصابه في أتون الانتظار؛
إذ كلُّ شيء من حوله ساكنٌ لاحراك به؛وكلُّ المؤشرات لاتنبئ بانقضاء أمد الغياب الطويل.!
وباختصار فإن معادلة (العيد والغياب)عنوان النص
تشكلت حقيقتها؛وتبلورت عناصرها في سياق هذا النص الرومانسي الشجي.🌷
أيها الشاعر الرائد لاعدمنا أنغامك المرنانة؛ ولا أخيلتك الوثابة؛ولا إبداعاتك السلسة ومذاقاتها الأصيلة.
ولايسعني في ختام هذه الدندنة إلا مشاطرتك أشجانك المتدفقة؛مستعيراً من شاعر النيل قوله:
إِنّي كَهَمِّكَ في الصَبابَةِ لَم أَزَل
أَلهو وَأَرتَجِلُ القَريضَ وَأَعشَقُ
طاب بك الشعر أبامازن وكل عام وأنت ومن تحب على ظهر البسيطة بخير وعافية وسرور دائمٍ مستديم
🌷🌷🌷🌷
قراءة في “ترانيم من بوح بلقيس” للشاعرة المغربية فاطمة قيسر
قبل أن تجمع الشاعرة قصائدها في ديوان ورقي، كنت اكتشفت قلمها و هواجسها و اشتغالاتها من خلال النشر الرقمي مما جعلني أتعرف إلى انشغالاتها الجمالية و الوجدانية
و الفكرية.
حين الوقوف على ديوانها الماثل بين يديّ الموسوم ب: ترانيم من بوح بلقيس، الصادر في 2017 عن مؤسسة آفاق للدراسات و النشر و الاتصال بمراكش/المغرب، و الواقع في ثمانين صفحة مقسمة بين الإهداء و مقدمة للأستاذة مليكة الجابري، و 44 قصيدة، لابد من تذكير يعيد للشعر تفرده عن النثر من حيث الحميمية ذلك أن الشاعر لا يكتب إلا لغته/لغة نفسه …
قبل الدخول في عالم فاطمة قيسر الشعري لابد من الإشارة و لو من بعيد إلى هواجس الكتابة الأدبية عامة و خاصة تلك التي ينتجها النساء دون تبني نظرية الأدب النسوي إذ أظل على يقيني أن الأدب إنساني لا هو بالذكوري و لا بالنسوي…
هذه الكتابات تكشف اشتغالات الكاتبات على ثيمة العنف المقدس حسب تعبير جيرار روني.
سأحاول في هذه القراءة أن أتناول الأثر من حيث ثنائية الألم و اللذة الفرويدية انطلاقا من العتبات و صولاً إلى المتن، حريصة في ذلك على تجاوز القراءة السيرذاتية التي ينزع نزوعها بعض النقاد حين تناولهم لكتابات النساء.
العنوان: يستوقفنا هذا الاختيار:
ترانيم من بوح بلقيس…
فالترانيم هي جمع ترنيمة و هي كما ورد في معجم المعاني” أنشودة صغيرة… نشيد الكنائس” و هنا لا يخفى على القارئ تلك النزعة إلى الشجن، و إلى الروحانيات، باعتبار أن الإنشاد واحد من أهم تعبيرات المتدينين و هو ارتقاء بالذات من وثنيتها إلى مصاف من التجلي تتوحد فيه الروح بالروح الأعلى…
و لا يمكن بحال أن نتغافل عن تلك النورانية التي تهيمن على أجواء الإنشاد الديني.
و ” من” أداة تفيد التبعيض
أما البوح فهو و كما جاء في المعجم ذاته ” إظهار السر… يعالج الطبيب النفساني مريضه عن طريق البوح الذاتي”.
و بلقيس، لا يخفى علينا أنها مرجعية لبلقيس كما جاءت في التراث الديني صنو الإيمان و الطيبة و الجمال..
و هكذا نلاحظ أن الشاعرة و منذ العنوان تضعنا في حفل سيكولوجي بل و ماوراء سيكولوجي دون ابتذال .
أما العتبة الثانية فهي الغلاف بوجهيه.
الوجه الأول فهو لوحة تمثل قلعة بلقيس و ما يلفت الانتباه هو تلك المرأة التي تجلس معلقة على حافة حرف تسند ظهرها أو تديره لكتلة غلب عليها اللون الغامق، في حين ترتدي هي ثوباً ذهبي اللون عدا الإيشارب الأزرق و الذي يبدو محيطاً برقبتها عائداً إلى الوراء؛ كأنَّ المرأة في مقابلة مع الريح … و بعضٌ أحمر هو على الأرجح لون بنطلون، عادة تلبسه المغربيات تحت الجلباب، إضافة إلى الأصفر الصافي الذي يلون الحذاء المغربي التقليدي (البابوش).
نلاحظ أن المرأة تتوسط فضاءين، الأول خلفها مرصوص رصاً، و الثاني أمامها مفتوح على أفق يبدو حاملاً للأمل و الانقشاع …
أما الوجه الثاني فهو قصيدة بلقيس و كأنها هي قصيدة القصائد في المجموعة الشعرية كلها و لعل الغوص فيها سيفتح مغاليق الديوان تدليلاً.
تتظافر العتبات لتقحم القارئ للأثر في جو طقوسي يبدأ بالإنشاد ،وينتهي بالبوح، ويجبرنا على تلك الرؤية الفرويدية للغوص في مظانِّ النص و أغوار الذات الشاعرة، لا بوصفها ذاتا متفردة، و إنما بوصفها ذاتا متعددة ،تشكل لوحة من لوحات الألم الأنثوي الذي يعمل على مراودة الخارج عن الذات عبر ترنيمة مموسقة و مكتوبة، تبحث عن لذة التشكل خارج الذات، والظهور إلى الآخر و من هنا البوح النسائي كما يراه وجدان الصائغ في شهرزاد و غواية السرد ص 63 ” حيث تبوح الأنثى بكل حروفها المشفرة، فإنها تريد من الرجل الاعتراف بانتمائها إلى مملكته لا فصلها عنه”…
قصيدة يا بلقيس تنفتح على النداء و يهيمن عليها الأسلوب الطلبي ( الأمر( اكشفي/ اقذفي/ سطري/ لملمي/ مرغي/ انصبي/ مشطي/ اقذفي”
و هو دعوة صريحة إلى الثورة و القطع مع الصمت.
و المعروف هو أنَّ الثورة لا تكون إلا رغبة و تمردا و مراودة للذة الانتصار بعد ألم الاستكانة.
فثنائية الألم و اللذة ثيمة هيمنت على نفس القصائد، إذ تعددت التعابير الدالة على وجع الصمت، و فقدان المشاعر، و الصدق ،و وجع الكينونة المسورة .
و هذه الثنائية تكمن أيضا في ألم الكينونة المهشمة بفعل خيارات مجتمع يمارس عنفه على الفرد أولا بوصفه فرداً ،و على الأنثى ثانياً باعتبارها مدعوةً دائماً و أبداً إلى الصمت القسري حين يكون ظهورها عورةً، و صوتها عورة، و نحيبها عورة،
و غناؤها عورة …
أما اللذة فهي لذة البوح و تجاوز المحظور و القفز على الصمت بالصوت و على الغياب القسري بالحضور المؤثث بشتى أوجه الثورة…
و بما أنَّ الألم و اللذة متلازمان كما ينظر فرويد، يبقى الأدب تعبيراً عن ألم الكينونة و لذة الانتصار بالبوح و ربما الخلود.
______________