مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
شعر/إبراهيم مسير المباركي
________________________
-تقديم :
محمد الأمير
وكما تتدفق المياه الرقراقة؛وكما تتفتح الورود في خمائلها ،وبساتينها المونقة ؛يطلُّ علينا الشاعر القدير:إبراهيم مسير المباركي؛بمعزوفةٍ أطلق عليها (جدائل الصمت)؛وهو عنوان حيويٌّ برَّاق ؛استثمر فيه الشاعر فنّ الاستعارة استثماراً بارعاً؛وأفسح لخيالاتنا مجال الطلاقة الرحبة؛ في أن تتلمّس نوعية الصلة المعقودة بين (الجدائل والصمت).
هذه الجدائل المستقرّة في أصداف الصمت المطبق ؛المستغرقة في بحار الحيرة البركانية- إن صحَّ التعبير-سرعان ما تتفجر ينابيعها؛وتتشكل لبناتها في أُطر زاهية قائمة على تراكيب لغوية متينة؛ورؤى فنيّة مشعَّة؛تنطوي على غربة روحيةٍ قاتلة؛فرضتْ على الشاعر ضرورة الكشف عنها؛والمواجهة الباسلة؛وفقاً لمقتضيات الموقف الحاسم الذي هو بصدده؛وطبيعته الصاخبة.
إنّنا هنا-كما أسلفت- أمام غربةٍ روحية مؤججةٍ؛ تلفح نيرانها المستعرة كيان الشاعر؛وتستلب منه صفاء النفس وهدوءها المنشود وطمأنينتها المأمولة .
لاريب إذن أن تتمخض تلك النيران المندلعة عن سلسلة مؤاخذاتٍ لاتكتفي بمجرد الوقوف السلبي على الحِياد؛أو أن يضرب الشاعر عن وخز أشواكها الحادَّة صفحاً؛وإنَّما أملتْ عليه ذهنيته المتقدة؛ووعيه المتزن أن يعمد إلى تصحيح المسار ؛وتسوية وعثاء الطريق؛ما أمكن ذلك؟!
أبعد هذه الإخفاقات المشهودة ؛والانهيارات المتتالية؛يحسن بالشاعر السكوت؟!
إنَّ ما يشهده صُنَّاع الجمال؛وذوو النباهة في مآلات المشهد الشعري العام؛بل وفي ميادين التواصل الإنساني ؛من هبوطٍ واضح ملموس ؛في مستوياتٍ عدَّة لعلَّ أبرزها:اختلاط الأوراق ؛وغياب الأصوات الجادَّة؛واتساع مساحات الأوهام والآثام ؛وما إلى ذلك من خواءوإسفاف ملحوظين ؛لمما يستدعي التصدّي والمواجهة وإعادة المياه إلى مجاريها كمايقال..
وما الشأن إذن في لغة هزيلة؛وهياكل خاوية؛وأساليب فجَّة ملتوية؛تمطرنا ليل نهار بصنوفٍ لاآخر إليها من (الوهم والآلام والجدَل السفسطائي العقيم)؟!
-وماظنكم في من يخالف الفطرة الإلهية ؛ويشق “عصا الطاعة”؛أو”يقلب ظهر المجنّ” على النواميس الكونية؛والأعراف الذوقية ؟!
غيداء حسناء تستحيل -بين عشية وضحاها- رجلاً؛بل مسخاً شائهاً !!
مما حدا بالشاعر إلى أن يقول في نبرةٍ عالية:
(هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا)
إنَّ ملامح ذلك الغثاء لتتبدَّى في التكريس المحموم لتسمية الأشياء بغير أسمائها؛وإعلاء منازل الأقزام دون أدنى اكتراث!
ومع مايبدو من قتامةٍ سائدة؛ومشاهد مضطربة في إيماءات الشاعر؛ ومضامين قصيدته ؛إلا أنَّه لم يسقط في وهاد اليأس؛ودركات السأم ؛بل ظلَّ على العهد به؛متشبثاً بروح التفاؤل ؛قرين الحلم ؛ مشحوذ البصر والبصيرة ؛كما في هذا البوح الآسر:
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا!
وختاماً أبادر إلى القول إنني لست
في مقام النقد أو التقويم القائم على استشفاف خلجات الشاعر؛ومحاولة تجليةِ أبعاد تجربته الفنية للعيان؛وإنما لذلك مجالٌ آخر؛وغاية ما كنت أسعى إليه هنا هو تقديم قصيدة شاعرٍ نابه ؛دقيق الشعور؛مرهف الإحساس؛غيور على لغة الضَّاد والقيم النبيلة؛يقظ الفكر؛وحسبه أنَّه استوعب رسالة الفنّ الأصيل؛وأدرك مهمة الشاعر الحقيقية؛وتقبلوا تحياتي🌷
_______________________
-القصيدة:
أستغفرُ اللهَ ، آفاقي هنا لغةٌ
تستمطرُ الوهمَ والآلامَ والجدَلا
ينأى بها الليلُ آثاماً وأضرحةً
والعاكفونَ كوجهِ التيهِ مُرْتَحَلا !
جدائلُ الصمتِ في أعناقهم عشقتْ
هُوجَ الرياحِ.. فصارتْ غِيدُهم رجلا
تجذَّرَ الخوفُ في أفواههم فَنَمَا
هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا
شمائلُ الرَّملِ لا..لا.. لم تعُدْ وطناً
يُحدِّثُ النّجمَ والأمجادَ والطّلَلا
ياغربةَ الرُّوحِ … والظلماءُ موغلةٌ
تساقط النورُ من عينيكَ بلْ أفَلا !
أيرتديكَ الدُّجى والفجرُ مابَرِحتْ
أضواؤُهُ تبعثُ الآياتِ والأملا ؟
مضى بكَ الحبُّ ياقلبي أتحملهم ؟
يارحلةَ الصبرِ في أطيافِ مَن رحلا
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا
آمنْتُ أنَّ بقائي لونُ قافيتي
والعاثرون همُ بَوحي الَّذي قُتِلا!
على عادة بعض قُرّاء الكتب تعجبني خُلاصاتٌ، في الروايات خاصةً، يستوفيها كُتَّابُها بحصافةٍ ورهافة، ويلقاها قارئُها كامنةً متأهِّبةً مُسدَّدةً، فتكون بلحظةٍ كمثل يدٍ ابتهلَ إليها آرتور رامبو في فصل في الجحيم؛ «وماذا أقولُ عن اليد الصديقة!»
تراكُم المعارف والخبرات شرطٌ لنشوء الحضارة ودوام ازدهارها، ولَطالما لاحقَ مُعلِّمون تلاميذَهم بمقولةٍ لاعِنة؛ «عَلِّم في المتْبلِّم يصبح ناسي» تعبيراً عن خيبة أملهم وجهودهم المهدورة في تعليم مَن هم غير مستجيبين للتعلُّم ومراكمة المعارف. وما ابتعد نجيب محفوظ عن هذا المحتوى، في أولاد حارتنا، لـمّا كتبَ عبارةً صارت مُقتطفاً شهيراً؛ «ولولا أنّ آفة حارتنا النسيان ؛ما انتكسَ بها مثالٌ طيب. لكن آفة حارتنا النسيان»!
وأتت فيها لكنْ الاستدراكيةهذه حادةً جارِحةً تُغلِّظ معنى خيبة الأمل الأكيدة.
ويكتبُ عبد الفتّاح كيليطو في والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي؛ «في الحب، ومثل ذلك في الأدب، يجب ألّا تعرفَ الكثيرَ؛ ذلك أنّ كل حُب وكل كتاب هو تجميعٌ لِقطعٍ انتُقيَت اعتباطياً»، وكان قد كتب قبل ذلك في أنبئوني بالرؤيا؛ «حتى في قضايا الحب؛ التزكيّة ضرورية!» وهذا الأخير هو قولٌ مثيرٌ جارِحٌ أيضاً؛ فلا قِبل للنفوس الحالمة بفظاظة التزكيّة التي تُصادِم الرومانسيةَ وتكايد تيّاراتِها التحتيّة الماورائية الحلوة، إلا أن هذه التزكية تُستساغ وتُعاش بواقعيتها في سياق الحوادث المرويّة بالكتاب، ومن أصل الحادثة التي خَلَّقت هذا المقتطف يمكن إلحاق اشتراطات لإجازته على وجه العموم؛ إذْ يتوجّب، مثلاً، أن تكون مثل هذه التزكيّة مُخبّأةً في سياقٍ موازٍ، مُستشَفَّةً وكأنها رميةٌ عفوية شاردة في ذاتها، ويكون الشعورُ بصدقها أكيدا.
تحظى أعمالُ نجيب محفوظ بانتقاءاتٍ عديدة تُؤخذ كمقتطفات أو خُلاصات، يعملُ بعضُها عملَ وسائل التنمية البشرية، من بينها هذا المقتطف الشاعري، الذائع، الذي اختتم به الكاتب رواية الحرافيش؛ «فقال له قلبُه: لا تجزع فقد ينفتح البابُ ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة».
أحسبُ عبارةَ “براءة الأطفال”، بهذا المقتطف المواسي، شائعةً إلى حدٍ يسمح، لدواعٍ إبداعية، باستحسان الحرص على اجتناب استعمالها، بل قد يلزم أيضاً الاحتراسُ، هوناً ما، إزاء التعميم المطلق لمفهوم “براءة الأطفال” والتسليم به جزافا.
ولعل أكثرية الذين قرأوا هذه العبارة الختامية للحرافيش قد فهموها على الوجه الذي كان قد انتواه لها مؤلِّفُها، ويبدو لي أن المعنى الذي قصده هو أن الباب الموصَد قد ينفتح، على غير انتظار، تحيةً وتقديراً وإحساناً ومكافأةً لطائفةٍ من البشر، حدَّدها هو بقوله: “الذين يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”.
ولعلنا جميعاً قادرون على فهم معنى براءة الأطفال، لكن ما معنى طموح الملائكة!
لو أنّ الملائكة قد استحقوا ملائكيتَهم ومقامَهم السامي الفريد لأسبابٍ فإنّ أولها هو خلوُّهم من الطموح؛فليس هنالك، في رأيي، ما يمكن أن يُسمى بـ”طموح الملائكة” إلا إذا كان طموحهم المقصود هو تفانيهم الكامل في تأدية وظائفهم الملائكية من استقامةٍ وتلبيةٍ وما إلى ذلك.
لكن قد يكون المعنى الذي أراد الكاتب التعبيرَ عنه هو، ببساطة: “الطموح الفردي -لأشخاص هذه الطائفة- إلى إدراك وبلوغ المستوى الأعلى من النقاء والطُّهر والسَّويَّة بحسب المعيار المتجذِّر في الوجدان العام لمفهوم الملائكية”، لكن ما أوسع الفارق بين معنى طموح شخصٍ يرغب في الوصول إلى الملائكية ومعنى طموح الملائكة!!
ويبدو لي أن نجيب محفوظ كان قد أراد، على الأغلب، لمسةً شعرية لخاتمة الحرافيش. وفي أعراف هذه الشعرية؛ حين تتوسَّط “واو العطف” عبارتيْن متماثلتيْن في التركيب تتهيّأ لهذه الواو حقوقٌ وسُلطةٌ مُستمدَّة من العبارة التي تأتي قبلها تُبْسطها على العبارة التي تأتي بعدها، بُغية إرساء توازنٍ وانسجامٍ هما المؤهِّليْن إلى تحقيق مثل هذه اللمسة الشعرية، ومثال ذلك “واو العطف” الكائنة بين عبارتيْ “براءة الأطفال” و”طموح الملائكة”، المتماثلتين في كونهما كليهما “مضاف ومضاف إليه”، وهذا يعني أن أُسسَ تأويل عبارة “براءة الأطفال” تحكم، بالضرورة، تأويلَ عبارة “طموح الملائكة”.
وفي هذا المقتطف يتحقّق التوازنُ الموسيقي اللغوي بين “براءة الأطفال” و”طموح الملائكة”، بينما لا يقابله ولا يسانده توازنٌ في ناتج المعنى على يمين وعلى يسار واو العطف.
التوازن المقصود بين المعطوف والمعطوف عليه يستلزم أن تكون التخريجات اللغوية والتأويلات الممكنة متماثلة على الناحيتين، فإذا قِيل إن الشخص الذي سوف يُفتح له الباب يتسم بـ”براءة الأطفال” أي بالبراءة التي يتميّز بها شخوص الأطفال، فينبغي تطبيق القياس نفسه بخصوص “طموح الملائكة”، فيُقالُ إن الباب سوف يُفتح للشخص الذي يتسم بالطموح الذي يتميّز به شخوص الملائكة، وهذا معنى منعدم؛ حيث لا طموح للملائكة، وما من فرصةٍ، في ظنّي، لتأويلٍ آخر لعبارة “طموح الملائكة” ذلك أنّ ما يحكم الأمرَ هنا هو التأويل الأول والوحيد والمباشر لعبارة “براءة الأطفال”.
قد يشي شيوعُ هذا المقتطف، شيوعاً مقترناً بفهمِه على وجهه المراد له، بوجود مؤلفاتٍ يسندها حظُّ طيب، وما من فضلٍ عليها لأحد، إذْ يتوفّق قراؤها في الوصول إلى لُب المقصود منها دونما استرابة مهما ابتعد الكاتبُ عن التعبير الدقيق المراد لفكرته، ولَربما يحدث العكسُ أيضاً لمؤلفاتٍ أخرى، ولا حيلة لأحدٍ في ذلك. وعلى أية حال تستحقُ العباراتُ التي تصير مقتطفاتٍ أن تتملّك كلٌّ منها فرادتَها التامة التي تصونها من الاجتراء عليها وتهشّ عنها التزيُّد وتستبعدها من التنميط. فإذا افتُقِدت منها الفرادةُ، بحتميتها وحرفيَّتِها ودِقتها، أمكنَ المماحَكة عليها واقتراح البدائل لها، ولا يعود ثمة ما يحميها من إسداء تبديلاتٍ وتعديلات، ولربما استُمِيل القارئُ أكثر لو أن خاتمةَ هذا المقتطف كانت قد جاءته على تحريفٍ مثل: «بصبر المكروبين؛وتواضُع الأنبياء» أو «بأُثرة الأمهات ؛ودماثة القانعين»،،، إلخ.
على أية حال فالمسألة في مقتطف نجيب محفوظ تتعلّق ببابٍ ينفتح فجأة من تلقائه، كُرمى للمصطفين المقترنين بأسمى الشمائل، وهو في هذا يختلف عن أبوابٍ مُغلقة ينبشها ويطرق عليها عبد الفتّاح كيليطو، وهي أبواب عُرِفت بوجوب الامتناع عن فتْحِها، غير أن مفاتيحها -على الرغم من بقائها مطوَّلاً بأيادي الآخرين العاديين- تقع في أيدي الفضوليين، غير المتحوِّطين ولا المكترثين بالتحذير، ممن لديهم اجتراء ويحفِّزهم شغفٌ ويستجيبون لإغواء المجهول ويتمادون حتى ليختلط عليهم الشوفُ والعماء؛ مثل حسن البصري في ألف ليلة وليلة.
والبابُ إنْ ينفتح فليس يُعرَف أهو خيرٌ أم شرٌ ذاك الذي يتأتّى منه، ذلك أنّ الخير والشر متضافران متداخلان متفاعلان، وليسا على طرفيْن، فما يجيء من الباب، الذي انفتح بعد طول إغلاقٍ، هو عقابٌ مثلما هو مكافأة. ثم إنه مكافأة مثلما هو عقاب. ولَئن استظهرَ نجيب محفوظ في رواية الحرافيش خبايا حرافيشَ ودراويش وتكايا وأناشيد وفتوات وعركاتٍ حسمتها النبابيتُ في الحواري والساحات، فقد دأبَ كيليطو على استكناه أسرار حرافيشِه وفتواتِه ودراويشِه من كُتّابٍ وصعاليك ودارسين وشعراء، عبر الزمان، في روايتيْ أنبئوني بالرؤيا ؛ثم في والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي، وكان عنده خبر عركاتِهم التي لا زالت أصداءٌ منها قيْدَ السجالات؛ وقد لا يكون ثمة انقطاعٌ بين قصص شهريار؛ وابن خَلِّكان والجاحظ ؛وابن رُشد؛ والتوحيدي والمعرّي؛ وقصص عاشور الناجي؛ وفرج الجبالي؛ وجُعلص؛ وحسونة؛ والحاجري ؛والقُللي؛وليس من غضاضةٍ في أن يتناظرَ عراكُ حارات الحسينية والعطوف وبولاق مع سوابقِه في ألف ليلة وليلة والإمتاع والمؤانسة ومثالب الوزيريْن وكليلة ودمنة ومقامات الحريري وكُتبٍ غيرها منحولة وكُتبٍ ملعونة ومشؤومة.
ومن كيليطو أُرفِقُ مقتطفاً صِيغ مرتيْن هو؛ «لا يجوز الحديثُ عن كتابٍ إلَّا لِمَن يستطيع كتابتَه»، وقد كتبَ كيليطو هذه العبارة، باللغة العربية مباشرةً، في روايته والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي، وسبقَ له أنْ كتبَ مثيلتَها، بالفرنسية، في روايته أنبئوني بالرؤيا، وتُرجِمت العبارة إلى العربية على هذا النحو: «ليس جديراً بتأويل عملٍ أدبيّ؛ إلا القادرُ على كتابته».
في روايته أنبئوني بالرؤيا، استخلص كيليطو فكرةً جوهرية من حكاية عطّاف، الواردة في بعض طبعات ألف ليلة وليلة، ويُحكى فيها أن الخليفة هارون الرشيد قام من نومه في إحدى الليالي منقبضاً ،فأمر باستدعاء جعفر، الوزير، الذي جاءه مسرعاً واقترحَ عليه، لمداواة الحال، مطالعةَ كتابٍ، فجيء له بكُتبٍ، تناول منها واحداً عتيقاً، وفتحه عشوائياً على صفحةٍ وراح يقرأ بعينيه، وسرعان ما انتابه الضحكُ حتى انفلت الكتابُ من يده، ثم عاد فأمسكه وقرأَ في صفحةٍ أخرى فاغتمَّ وجهُه وغلبه البكاء. !
كان جعفر يشهد، مُتعجِّباً، تحوُّلَ الخليفة من الضحك إلى البكاء، حتى إنه، لإشباع فضوله، اجترأ على الاستفسار من أميره؛ إلام كان الضحك؟ ومِم كان البكاء؟ لم يستسغ هارونُ خلوَ الاستفهام من الوجاهة ومن المبرِّر، فصدمَ وزيرَه بغضبٍ مفاجئٍ محتدم، وأجابه مُهدِّداً وآمراً إياه أن يجلب له مَنْ لديه القُدرة على استشفاف سبب ضحكه وسبب بكائه، ويستطيع، من تلقائه، أن يعرف الكتابَ من أوله إلى آخره، وإلا ضربَ عُنقَه!
هل كانت حكاية عطّاف، في ألف ليلة وليلة، هي منشأ هذه الفكرة التي بالمقتطف؟
يومئ كيليطو، في أنبئوني بالرؤيا، إلى مصدرٍ أقدم هو سِفْر دانيال بكتاب التوراة، ويُحكى فيه أن الملك البابليّ “نبوخذنصّر”، الذي عاش قبل ميلاد المسيح بستة قرون، حَلمَ أحلاماً أزعجته وطيّرت عنه نومَه، فأمرَ باستدعاء المجوس والسحرة والعرّافين والكلدانيين، فجيء له بهم، فقال لهم: «قَدْ حَلَمْتُ حُلْمًا وَانْزَعَجَتْ رُوحِي لِمَعْرِفَةِ الْحُلْمِ»، فأجابوه: «أَخْبِرْ عَبِيدَكَ بِالْحُلْمِ فَنُبَيِّنَ تَعْبِيرَهُ»، فأجابهم: «قَدْ خَرَجَ مِنِّي الْقَوْلُ: إِنْ لَمْ تُنْبِئُونِي بِالْحُلْمِ وَبِتَعْبِيرِهِ، تُصَيَّرُونَ إِرْبًا إِرْبًا وَتُجْعَلُ بُيُوتُكُمْ مَزْبَلَةً. وَإِنْ بَيَّنْتُمُ الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ، تَنَالُونَ مِنْ قِبَلِي هَدَايَا وَحَلاَوِينَ وَإِكْرَامًا عَظِيمًا. فَبَيِّنُوا لِي الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ»، وبعد جدالٍ أجابوه: «الأَمْرُ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْمَلِكُ عَسِرٌ، وَلَيْسَ آخَرُ يُبَيِّنُهُ قُدَّامَ الْمَلِكِ غَيْرَ الآلِهَةِ الَّذِينَ لَيْسَتْ سُكْنَاهُمْ مَعَ الْبَشَرِ»، فلم يتقبّل منهم قوْلهَم؛ «لأَجْلِ ذلِكَ غَضِبَ الْمَلِكُ وَاغْتَاظَ جِدًّا».
وبحسب رواية الحكواتي الشامي، المسمّى “نهَى” في رواية أنبئوني بالرؤيا، الخبير بحكايات ألف ليلة وليلة، فإن الملك شهريار، بعد أن أتمّت شهرزادُ الألفَ ليلة وليلة في حكْي الحكايات له، استدعى كُتَّابَ مملكته وطلبَ منهم كتابةَ كل تلك الحكايات، بحذافيرها، التي حكتها شهرزاد له وحده، في تمام غيابهم! وكاد شهريار أن ينكِّل بهم، على صِراط نبوخذنصّر وهارون الرشيد، لولا أن شهرزاد تدخّلت وأحضرت الألفَ كتاب التي هي المصادر الأصلية لحكاياتها الليلية، ويومئ كيليطو؛ «الكتابُ المطلوبُ كتابتَه كان مكتوباً سلفاً». إنّ نبوخذنصَّر، ومن بعده هارون الرشيد، ومعهما شهريار، استحقوا أن يغتاظوا، ويغضبوا، بيقينٍ وبداهةٍ، على العرّافين الذين طلبوا التبيينَ وتسوَّلوا إمدادَهم بمعرفةٍ كان من المتوجِّب عليهم، بمقتضى قُدراتهم في المعرفة، أن يلتقطوها بأنفسهم ويحوزوها.
ولأن نبوخذنصّر كان مقتنعاً بعدالة مطلبه، فقد بدأ رجالُه في تقتيل المغضوب عليهم، إلى أن جاءه واحدٌ منهم هو دانيال فأخبره بكل تفاصيل الحلم، ومن ثَم بتأويله!
إنّ ما أتاه دانيالُ لَمُبهر، وعلى الرغم من إعلانه بأنّ معونةً إلهية قد آزرته في مسعاه فلقد برهنَ على أن نبوخذنصّر لم يكن مُشتطّا؛بل كان المطلبُ العسير امتحاناً نزيهاً عُقِد للعرّافين فيتسنّى للجدير منهم أن يُبرِز صَكَ جدارته.
وكان نبوخذنصّر وهارون الرشيد يتحرّيان مَنْ ذا الذي بمقدوره أن يعطيهما التأويلَ الصادق الصائب، لأنهما كانا يبتغيان ضمان قوْل الحقيقة ووصولَ الرسالة الصحيحة الآتية إليهما من غَيْبٍ، يريدان اجتناب الخديعة، يخشيان التضليلَ ويتحسّبان من الكذب والغش والتدليس وأساليب المواءمة والتزييف والتنميق وتلفيق التفاسير وتدبيج التأويلات المتلاعَب بها من قِبل أولئك العرّافين الأسلاف الذين أُنيط بهم ولادة القارئِ الناقِد الشاعر الرائي البصير العارِف الملعون الموصوف من لدن آرتور رامبو.
وما الكتابُ، واقعياً، إلا ما قرأه فيه قارئُه؛ يخُطُّ الكاتبُ فإذا المكاتيبُ بلا وجودٍ إلى أن يقرأها قارئٌ، وإذا هي بلا وجودٍ على النحو الذي أراده لها كاتبُها إلا أنْ يقرأها قارئٌ حقيقيٌّ، من طِينة دانيال هذا الذي أبانَ أنّ مَطلبَ نبوخذنصّر وهارون الرشيد لم يكن متعسِّفاً، وأن يقينَ غضبِهما كان مُبرَّراً، وبداهةَ سخطِهما كانت سديدة. لقد تبوأَ دانيالُ مهمتَه قارئاً وكان ذا عبءٍ جسيم. وإذا كانت مثل تلك الأعباء هي من أنصبة القارئ؛ فما بالنا إذاً بعِبء الكاتب، وما العبءُ في غاية الأمر إلا صنوٌ للطموح في أفضل معانيه. !
ولئنْ سعى دانيالُ، بطموح الملائكيين، وراء معرفته واستشفّها، فلا عزاء ولا مناص لـمَن لا يرومُ معرفةً ولا يطلبها ولا يريدها، لكنما تدخله هي من حيث لا يدري، وتسكُنه إلى الأبد بسطوتِها الغامضة، فحين اقتيدت آنتيجوني، في مسرحية سوفوكليس، إلى القبر الصخري لِتُدفَن فيه وهي حيّة تنفيذاً لعقوبتها، قالت إنها لا بد أن تموت شابةً، وإنها قد عرفت بذلك في كل عمرها، وإنها لم يكن لها أن تمنع نفسَها عن هذه المعرفة. ومسألة آنتيجوني هي مسألة معرفة، لا هاجس ولا إحساس. وكذلك كان رامبو قد كتبَ في رسالة إلى أهله، حين كان في عدن؛ «عرفتُ منذ زمنٍ بعيد أني لن أعيش حياةً أشقى من حياتي هذه».!
ولَكأن كتاب كليلة ودِمنة كان على تجاوبٍ مع مسألة ضرورة الاستيثاق من نزاهة التأويل، ففي باب (إيلاذ وبلاذ وإيراخت) يأتي هذا الكتابُ بمثالٍ صريح عن التلاعب في التأويل حين يحكي حكاية الملك “بلاذ” الذي نام ذات ليلة «فرأى في منامه ثمانيةَ أحلامٍ أفزعته، فاستيقظَ مرعوباً، فدعا البراهمة، وهُم النسّاك، ليعبِّروا رؤياه، فلما حضروا بين يديه قصَّ عليهم ما رأى، فقالوا بأجمعهم لقد رأى الملكُ عجباً فإنْ أمهلَنا سبعةَ أيام جئنا بتأويله. قال الملكُ قد أمهلتُكم!فخرجوا من عنده ثم اجتمعوا في منزل أحدهم وائتمروا بينهم». لم يتحرّز الملكُ فأنبأَ العرّافين البراهمة برؤياه وأطلعهم على سريرته، وبدافع الرغبة في الثأر والانتقام اتفقَ أولئك البراهمةُ على اصطناع تأويلٍ موافقٍ لهواهم ومصالحهم وتقديمه إلى الملك من أجل حَضِّه على أن يقتل زوجتَه المحبوبة الملكة “إيراخت” وابنَه الأثير لديه “جوير” ووزيرَه الوفي الحكيم “إيلاذ” وسائر أحبائه وخُلصائه، قاصدين إهلاكَ الملك ومُلكه ومملكته بمقتضى تأويلهم الزائف الذي أوعزوا به، لولا أن الملكَ تدراكَ الأمرَ فاستجاب إلى التأنّي ولم يمتثل إلى وسْوسة أولئك المؤوِّلين مُرتاباً في مزاعمهم، ثم أسندَ التأويلَ إلى الحكيم “كباريون” فوافاه بما هو حق وصِدق.
كان كيليطو قد ابتدأ خطّاً، في روايتيْه، بإعلانه؛ «ليس جديراً بتأويل الرؤى إلا القادر على الإنباء بها»، ثم «ليس جديراً بتأويل عملٍ أدبيّ إلا القادر على كتابته»، ثم «لا يجوز الحديثُ عن كتابٍ إلَّا لِمَن يستطيع كتابتَه». أفلا يُوجد فارقٌ، إذاً، بين “مَن يجوز له الحديث عن كتاب” و”مَن له جدارة القيام بتأويل كتاب”، بصرف النظر عن أنهما كليهما غير مرخّص لهما بالتصدّي للكتاب -محل الحديث أو التأويل- إلا إذا أثبتَا قدرةً على إنشائه من العدم، شأنهما في ذلك شأن مؤلِّف الكتاب؟ وهل من المستقَر عليه أن يُحسَب الحديث، عن كتابٍ، في مستوى أقل من مستوى تأويله؟ الإجابة التي قصدها كيليطو غير مفضوضة، غير أن المتحدِّثَ عن كتابٍ، المستحِق لحيازة هذه الصفة، لا يرضى -قطعيّاً- بأي حديثٍ، لنفسه ولسامعيه، إلا بعد أن يكون قد تمَّم تأويلاتِه وتنقيباتِه وتقليباتِه في الكتاب المعنيِّ وأعاد إنشاءَه، والمذهل هو أنه لا يحتاجُ إلى النظر في الكتاب من الأصل؛ فالمقولة مُثبَتة: «يكفي تصوُّر كتابٍ لكي يُوجَد»، بحسب ما جاء في أنبئوني بالرؤيا.
المتكتِّمون الغاضبون، من أمثال هارون الرشيد ونبوخذنصّر وشهريار، الذين أصرّوا على عدم إباحة النَّص، أبانوا عن أنّهم موكولون للذوْد عن المكاتيب بكل صنوفها، وصيانتها من عبث الحائمين ممن لم تُختبَر أمانتُهم في حذْق المكتوب ولم تُوُثَق بعدُ بجدارتهم في إدراكه، وكان دانيال هو أصلُ القارئ المشتهَى لكل كاتب، والمستعمِلُ الأمثل للكتاب، والدليلُ على أن القارئ ذا الجدارة ليس غير موجود، وعلى الرغم من نُدرة هذا القارئ فقد أُرسِيَ مبدأٌ مَحسومٌ للتعامل معه به، لا تَلطُّف فيه ولا تملُّق، بل صرامة تُحاذي العدائية. وبعدُ؛ فإن الذي يحتويه كلُّ كتابٍ هو، بعد كل تريُّثٍ، ضحكٌ وبكاء، على شاكلة المكتوب العتيق الذي تَداوى به هارون الرشيد ليلةَ أرقِه، وأمّا القارئ، سليل دانيال، فعساه يفتح بابَ الضفّة الأخرى، ويتقبّل بوداعةٍ أن يُسأل سؤالُها: اقرأ لي ما لم يُكتب؛ فما أنتَ بقارئٍ يا ذا الطموح الملائكي!
-النصّ :
( على هامش أنثى )
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
وتقرَؤُني
لغزا
يُثيرُ
طموحَها
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
******
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
__________________
-وقفة مع العنوان:-
لحرف الجر على عند علماء النحو معاني عديدة ؛أبرزها الاستعلاء: ويكون الاستعلاء حقيقياً نحو قوله تعالى : (وعليها وعلى الفُلكِ تُحملونَ)
أو معنوياً نحو قوله تعالى : ( الرجال قوَّامون على النساء )
وقد يكون الاستعلاء على ما يقرب من المجرور (أي ليس المجرور ذاته) ويقصد به المجازي، نحوقوله تعالى: (أو أجد على النار هدى).
ويلاحظ أن شاعرنا في عنوانه المختار هذا ؛عمد إلى الاستعلاء المعنوي ..
ولكن الذي يتبادر إلى الأذهان لماذا الحفاوة بلفظة (هامش) على وجه التحديد؟! أهي مجاراة -أسرَّها الشاعر -لكتاب (على هامش السيرة) الذائع لعميد الأدب العربي ؟! أيكون في الهوامش مالايكون في المُتون؟! ولماذا أضافها إلى كلمة (أنثى)؟!
هذه التساؤلات وما إليها واردة في ذهن المتلقي لامحالة؛وهو على أعتاب نصٍّ مكثف مغاير للأنماط الشعرية المألوفة؛ نصٍّ لغوي برز إلى حيِّز الوجود متشحاً رؤية الشاعر الأُحادية؛وتصوراته الكونية؛
والمراد بالْهَامِش في المعجم : ذلك الجزء الخالي من الكتابة حول النص في الكتاب المطبوع أو المخطوط
واللفظة عبارة عن اسم فاعل من همَشَ؛وإذا قالوا على هامش الأمر؛ أرادوا معنى خارجًا عنه أو بمعزل منه،
ومن ذلك قولهم فلانٌ يعيش على الهامش: أي أنه منفرد غير مندمج في المجتمع؛ومن ذلك قولهم :”عَلَى هَامِشِ الْأَخْبَارِ” ؛ بمعنى التَعْلِيق عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا.
فإذا تجاوزنا الحرف (على)؛ إلى التركيب الإضافي التالي له ؛وهو (هامش أنثى)؛وجدنا أنفسنا أمام لفظتين مفردتين جاءتا بصيغة التنكير ؛ومنهما انبثقت فائدتا “التعريف والتخصيص”؛ على حدِّ تصورات النحاة؛ وفي ضوئهما أشرقت شمس القصيدة ؛ وائتلقت أبعادها وعناصرها على ماسنرى في السطور التالية..
______________
-أجواء النص:-
ولما كانت لفظة (هامش) تعني حاشية الكتاب؛كما أسلفنا ؛فإنها في استخدام شاعرنا خرجت عن سياقها المتعارف عليه ؛وحملت إلينا إيحاءً فنيا مختلفاً مفاده أنَّ شاعرنا هنا ؛استعار لأنثاه صورة كتاب أثير لديه؛ ؛وعلى هامشها أي “في المساحة الممكنة للتحدث إليها”؛ قرر ترجمة مطالبه المحتدمة في أعماقه؛ كاشفاً لها عن الآلية التي تجذبه إليها؛وعن العديدمن ملامح الحسن المعنوي والحسي؛مما يقع تحت إرادة الأنثى وحدها..
وفي ثنايا هذا الكشف الجمالي تجلَّتْ رؤيته الكونية الإنسانية لطبيعة العلاقة الجوهرية التي تربطه بهذا العالم السحري ؛وذلك في ضوء المعطيات والإشارات التي ألمح إليها؛على ماسنرى في أبعاد النص وأسراره ..
استهلَّ شاعرنا نصَّه بقوله:
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وفي هذا الاستهلال القائم على لغة الخطاب؛ تبرز للمتلقي جوانب معينة؛ لعلَّ أبرزها أن الفعل المضارع المقرون بكاف الخطاب؛أكد لنا حيوية المشهد؛وحرارة اللقاء؛وكأنه بهذا البوح العقلاني ؛ بصدد إجابتها عن سؤالها المطروح عليه ضمنياً :كيف تريدني أن أكون؛ لأنال إعجابك؛ وأحتلَّ عرش فؤادك ؟!
ولم تكن إرادة الشاعرشهوانية حسية دونجوانية؛بل أسمى من ذلك وأبعد مرمى ؛فهو يريدها في مقام غير مبتذل بأي حال من الأحوال؛وذلك بأنْ تجعله لروحها أثاثاً حريرياً ناعماً؛ تحطُّ عليه ساكنة وادعة متى شاءت ؛وتستدفىء به من زمهرير الشتاء؛ وتحتمي به من قيظ النهارات وهجيرها؛ومن أعاصير الحياة؛ وتياراتها المختلفة.
ويمضي شاعرنا في شرح تفاصيل مشتهياته أو تطلعاته؛ عاطفاً مطلباً آخر على ماسبق ؛ وفيه تتجلى صورة عميقة الدلالة؛بقوله:-
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
العطل يستحيلُ بذوراً ؛
ويلاحظ هنا أن َّالتركيب قام على ركيزتي التعبير بالفعل المضارع المستقبلي ؛بمثابة (الفعل والنتيجة) إن جاز التعبير :(وتبذُرُني
عطرا)؛والآخر(يُزكِّي
سفوحَها)؛
والمعنى الأوَّلي : يريد لها أن تجعل منه بذوراً ؛لاتكون نفحاتها إلا عطرية؛ لاتجيد غرسها في تربته الوجدانية إلاهي وحدها ؛ وسيتمخض عن ذلك الإجراء “تزكية السفوح “المتعلقة بها وحدها.
وللفظة سفوح عدَّة دلالات في اللغة ؛ من بينها “الصخور اللينة”؛والمناطق السفلى من الجبال؛التي تغلظ؛ فيسفَح فيه الماءُ؛جارياً هنا وهناك..
وغايةُ ما استطعتُ استشفافه -بملاحظة العلاقة بين التزكية والسفوح ؛وتوظيف الشاعر لهما؛ ومن خلال الاستئناس ببعض ما للتزكية من دلالات في اللغة؛
تبعاً لقولهم: زكِيَ الشَّيءُ :(إذانما وزاد)؛أوقولهم : زَكِيَتِ الأَرْضُ إذا خَصُبَتْ؛أو قولهم:”زَكِيَ الشَّبابُ” ؛إذا عاشَ في نَعيمٍ مقيم-
هو أنَّ وكْد الشاعر في بناء هذه العلاقة؛ يدور في فلك تنمية أسباب السعادة؛والرخاء؛ والصفاء؛ والبهجة في أعماقها ؛بحيثُ إنَّ سفوحها “مايصدر عنها من هفواتٍ ومآخذ”؛لاتكون عقبة كأداء في مسيرة الحياة المشتركة؛ولايكون التوقف عندها ؛مجالاً لتفاقم الخلافات الحادَّة؛ أو مدعاة للسجالات الهشَّة العقيمة..
على أنَّ ذلك العطر المبذور من جهتها هي بعناية واهتمام ؛من شأنه أن يبعث السعادة الغامرة لها في المقام الأول ؛ وسوف يساهم في تنمية أمانيها المنشودة؛ وتطلعاتها المستقبلية الكبرى؛ كرافدٍ هام لها في مسالك الحياة ومنعطفاتها الشائكة..
ومن التزكية المشار إليها ؛ستأتلق الخصوبةُ في أرقى معانيها؛ويخضرُّ كل شيءٍ تقع عليها العين ؛ومن ثمَّ يتسنى لها أن تقوم بمايلي:
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
ويتضح هنا أنَّ في قطفها لبعض ورودها وتقديمها له ؛ناتجاً معنوياً آخر؛إذ إنَّ ذلك القطْف لايعدُّ آلياًجامداً؛خالياً من المشاعر ؛بل يعني للشاعر نفسه أنْ يتنسَّم آيات الجمال المنبعث منها في كل آن؛ فهو إذن ممتزج بها؛وبورودها..
ويتابع شاعرنا رسم لوحة مشهد حيوي آخر؛متساوقٍ مع هواجسه ؛ومرئياته القريبة البعيدة؛مشهد يحضر فيه الفعل القرائي بقوله:-
وتقرَؤُني
لغزاً
يُثيرُ
طموحَها
قراءةٌ من جانبها/لغز كامن في المقروءات /إثارة مستنبطة/طموح
يمثل الشاعر هنا كسطور من كتاب ما؛ لهذه الأنثى الاستثنائية؛سطورٍ تبدو كلغزٍ مبهم عسير ؛ويريد لها أن تفكَّ طلاسم لغزه المتواري خلف تلك السطور؛لمافي ذلك من إثارة لطموحاتها ؛وتعزيز لهواجسها النفسية الطامحة؛ وثقتها بنفسها؛ أمام الغوامض من الأشياء والصعوبات التي ستواجهها.
ويمضي شاعرنا خاتماً مشاهد (الإرادة) التي انطلق منهافي النص ؛ومجسداً صورة اللغز المشار إليه آنفاً ؛بقوله:-
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
وهنا يُلاحظ ملمح الإغراء المستمد من اللغز الذي شرَعت في قراءته آنفا وفقاً لتصور الشاعر ؛ إذ هو لغزٌ يتمظهر لها في تسنُّمه (قوس السؤال)؛ولديه مهمة استحثاثية تنأى به عن العبث والشكلانية ؛مهمة يمكن وصفها بدعوة إلى إعمال العقل؛ وإخضاع الأحداث للتفكير الهادىء المتزن ؛ومن شأن تحريض اللغز مناطق الوعي ؛ومراكز القوى الكامنة ؛أن يكون بمثابة الكاشف الأوحد أسرارالشاعر العميقة لها؛على نحو إنساني رقيق ؛بحيث تصبح هذه الأسرار بمنزلة أسرارها التي تضنُّ بها عن البوح للآخرين ممن لاتأمن مكائدهم ؛ولاتطمئن إلى مقاصدهم؛لامن قريب؛ولا من بعيد..
******
ويستأنف شاعرنا مقطعه الجديد المتصل بالفكرة الجوهرية الأولى ؛وذلك بتكرار المطلع نفسه:(أريدُك أنثى)على سبيل التأكيد ؛بيد أنه يمخر عباب اللغة غائصاً؛ومستقصياً؛وداعماً شرطه الأساسي ؛بوشائج أخرى من المعاني المستقبلية الموَّارة ؛فهو يقول:-
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وهنا نلاحظ كما أسلفت رؤى جديدة في مواصفات الأنثى التي يريدها؛ممثلةً في تشييد البنايات السامقة؛كمافي (تشيد صروحها ) ؛وذلك لايكون إلاَّ إذا أخلصت نيتها؛وأعملت تفكيرها ؛وأتقنت فنون العمران بمعناه الواسع المتعدد ؛عن علم ودراية ونباهة وحسن تدبير.
وهي في ضوء الانفتاح المترسخ في قرارة نفسها ؛لايحسن بها أن تضرب صفحاً عن ينابيع النهضة التي تحيط بها من كلِّ الجهات ؛ومسؤوليتها منوطةٌ بها تجاه ذاتها ؛وتجاه من يستنيرون رسالتها ؛وهي وشقيقها الرجل على حدٍ سواء في هذه المهمة النبيلة.
ومن المطالب المفترضة في أنثى شاعرنا ؛خاصية (الترويض) ؛فهو محتاج إليها أنْ تحتمل نزواته وصبواته أيَّا كانت؛وكما تقوم بتهذيب طباعها الجامحة مستنيرةً بمصباح حكمتها؛عليها إذن أن تفعل ذلك معه سواء بسواء؛ وذلك من أجل استمرار الحياة ..
ويختم شاعرنا نصه المكثف؛ بالعزف على وتر حميمي مرنان؛يتسم بالخصوصية المؤلفة بينهما ؛وذلك بقوله:-
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
فهو يريد لها أن تتجاوز آلامها؛وأسقامها وأتراحها جميعاً ؛وذلك بأن تغسلها كما ؛يُغسل الجسدُ الآدمي بالنهر الجاري؛ أوبالماء الصافي؛ أو كما تُغسل الثياب من الأدران:فتعود بيضاءَ ناصعةً؛كأنْ لم يمسسها غبار؛وذلك يتأتَّى لها بواسطة استلهام ضوئه القلبي الدائم الإشراق؛ومن هذا التمازج بين روحيهما على مسرح الحياة أتيحت لها منافذالإفصاح إليه بمكنوناتها الخفيَّة؛وأوجاعها المؤرقة؛وسينبثق من هذا التآزرالمطلق ما أطلق الشاعر عليه هجراناً إليه ؛استناداً إلى قوله: (وتهجرها
نحوي ).
وهو يضمن لها -في بثَّها هذا المعبِّر عنه بلفظة(جروحها) ؛وقد اتجهت إليه اتجاهاً كلياً في مقام الشكوى والمطارحات الودِّية؛ الخلاص التام ؛والتحرر من تلك القيود الوهمية ؛وأنها بالتأكيد ؛(ستنسى نزوحها)؛وذلك في المستقبل القريب لا البعيد..
ولعلَّ المراد بالنُزُوح هنا الاغتراب النفسي؛أو الشعور بالمعاداة المستفزَّة التي تشهدها هذه الأنثى؛أوتلك ؛فهي إذا همَّت بممارسة طقوسها المحببة إليها في وضح النهار ؛اصطدمت بالعديد من العراقيل المصطنعة؛ولامعدى من أن ينطوي النزوح أيضاً على سلسلةٍ من العواطف المتسلطة عليها نتيجة مايمرُّ بها من مواقف مثقلة بالانكسارات؛والإحساس بالاضطهاد؛والدونية ؛ والتهميش؛ وما إلى ذلك..
______________
-نهاية المطاف
هذه وقفة يسيرة حاولت فيها إماطة اللثام عن نص شاعرنا المختلف جبران الزمن الجميل” المطبوخ على نارٍ هادئة”-وفقاً للغة اليوم- ؛ومحاولة تقريبه إلى الذائقة المعاصرة ؛وهو نصٌّ عميق قام على الأسلوب الخبرى ؛ وتبلورت فيه سمات الفن الخالص ؛ وكان بودي أنْ أتعرض لبعض الظواهر الفنية التي حفل بها النص؛ لولاخشية الإطالة والإملال؛ولستُ أدري مع ذلك كله أأصبت الهدف؛أم جانبت الصواب؛ وعزائي أنها محاولة اجتهادية استكشافية في أول الأمر وآخره..
أشكر شاعرنا المرموق؛ والقرَّاء الكرام ؛مع الاعتذار عمَّا سيصادفه البعض من زلاَّت والتواءات ونتوءات زاغ عنها البصر؛لم أفطن إليها ؛وذلك جهدُ المقل؛والحمد لله من قبل ومن بعد..
دراسة نقدية في تجربة الشاعرة المغربية :سميرة فرجي
بقلم:نسرية اكروساي-المغرب
____________________
يصعب الحديث عن الشعر دون الحديث عن الترجمة، ترجمة لواعج النفس وما يعج بها من ألم وأنين وفرح وسعادة، كما لا يمكن الحديث عن الترجمة في غياب الاختلاف لأنه منبع الترجمة ومرتع لعبها، إذ نترجم لنبدد الاختلاف إلى درجة انجلائه.
ولعل هذا ما حاول إيصالنا إليه الشاعر والدكتور أحمد هاشم الريسوني في مجرى حديثه عن “الائتلاف والاختلاف في الشعر العربي المعاصر بالمغرب”:
«إن الشعر في جوهره، هو ذلك الجدل القائم بين الشفاهية والكتابية، إنها حدود مبنية أساساً على الاختلاف، وعلى الصورة الأصلية ونسختها النقيضة. ويبدو أن خطواتنا الآن، منسجمة في الكشف عن ضدها الذي يمحوها، وهي بذلك تضمن التآلف المختلف، الذي يحقق مشروعية ارتباط المنهج بالموضوع»
وإذ يطالعنا كتاب الدكتور والشاعر حسن الشريف الطريبق في مدخل كتابه “القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بين الغنائية والدرامية” بالحديث عن معالم هذه القصيدة «الشعر القائم على الموروث في مكوناته وخصائصه وأسس تركيبه. والشعر الحريص على التحليق في الآفاق البعيدة والباحث عن الجديد، بصورة أو بأخرى».
نستشف بأن الشعر المعاصر يستمد كيانه من كوكبة الثنائيات والمتناقضات والائتلافات الحاملة للاختلافات، وكأن كلا منهما لا يستطيع المضي قدما إلا بوجود الآخر، فتمسي الحداثة امتداد الأصالة شرط التطور، تماما كما نحت تعريف مفهوم الحداثة الشاعر المسرحي الدكتور حسن الطريبق حين قال عنها أصالة متطورة.
وإذا مررنا بالتجربة النسائية المعاصرة تحديدا نجدها لا تخرج عن هذا المقام. فنقف وقفة إجلال وتعظيم لمن لقبت بخنساء المغرب وأسهمت في نظم شعر الكرامات والافتتان بالذات الإلاهية الشاعرة أمينة المريني صاحبة التجربة الناضجة المختمرة في الشعر العمودي الذي تجاوزت فيه قصائدها التسعين بيتا.
قصيدة “قد كنت”:
ولا العيـون التي في وثبها رشأ
وفين وعدا ووعد العينِ ذباح!
ولا الشموس على الغمازتين دجى
تسيل من صحوها في الرقص أقداح!
عصرتُ هذا البهاء الشهد من زبدٍ
كيف البهاء من الصلصال ينداح !
ولكن نجد نداء التجديد بنبرة أعلى صوتا في شعر سميرة فرجي وهي شاعرة من مواليد مدينة وجدة، حاصلة على الإجازة من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الأول بوجدة بالمملكة المغربية، حاصلة على شهادة الأهلية في المحاماة، وهي محامية مقبولة لدى محكمة النقض، وعضو بالنقابة الحرة للموسيقيين المغاربة.
شاركت في عدة ندوات فكرية ومهرجانات أدبية مغربية وعربية، ونشرت دواوينها داخل المغرب وخارجه.
“صرخة حارك” “رسائل النار والماء” “مواويل الشجن” “رسالة للأمم المتحدة”. ودواوين أخرى قيد الطبع.
تم تناول دواوينها بالأبحاث والدراسات من طرف عدد من نقدة العيار الثقيل بالمغرب وخارجه كعباس الجراري.
ترجم شعرها إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والأمازيغية والألمانية والتركية والأندونيسية.
توجت الشاعرة يوم 17 أبريل 2017 بسيدة العام في حفل كبير نظمه مجلس مدينة فاس وجمعية بوابة فاس بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.
كما توجت بتاريخ 2 مارس 2019 بلقب سيدة الشعر العربي من طرف المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغربية والشرق الأوسطية والخليجية والنادي الجراري.
حملت إذن هذه المقالة على عاتقها مهمة تحديد تجليات الأصالة والتجديد في شعر سميرة فرجي، وأول هذه التجليات: العتبات.
باعتبار العنوان العتبة الأولى لولوج النص الأدبي، فقد حمل على عاتقه مهام ووظائف عدة أهمها وظيفة المطابقة L’identificationالتي تصل أهميتها إلى درجة يمكن الاستغناء بها عن باقي الوظائف، وهي مكانة سامية يبوئها جيرار جينيت بقوله: “هي أهم وظائف العنوان التي تستطيع تجاوز باقي الوظائف”.
لجأت الشاعرة إلى المطابقة في عناوين مسرحياتها مطابقة تنفي كل سريالية، أو تأويل، أو حفر، في طبقات العنوان، وتحميله ما لا يطيق لفهم تلميحه وتلويحه. بل كان التطابق مع واقع حال الشاعرة، وما تعج به روحها من لواعج، وأنين.
تمزج سميرة فرجي بين الجرأة والرقة وبين القوة والحنين وبين البطولة والضحية، إذ تراها تارة بثوب اللبؤة في العرين تجلد بالسوط كل من سولت له نفسه محاولة النيل من كبريائها وكرامتها، ثم تنزع ثوب الجبروت لنراها ترق إلى حبيبها حتى تكاد تظهر كظهر فراشة تستجيب لمداعبة الرياح أينما هبت.
ما زلت أرفض أشواقي وأقبلها
كأنني قشة في كف إعصار!
إنه الصراع الأبدي الذي تعيشه الأنثى بداخلها بين ما يمليه القلب والروح، وبينما يفرضه العقل والمنطق.
وإذ تحضر وظيفة المطابقة، فإننا ننفي وجود نمط الجمل المضادة L’antiphrase وهو حمل العنوان أطروحة مضادة للعمل الأدبي، أي ما يغيب في عناوين قصائد الشاعرة، وتحضر بالمقابل الوظيفة الوصفية للعناوين كما أسماها جيرار جينيت: “وهي وصف النص انطلاقا من إحدى خاصياته إما موضوعاتية أو إخبارية، سأسمي إذن هذه الوظيفة المشتركة وظيفة العنوان الوصفية“.
تظهر الوظيفة الوصفية في عناوين القصائد وهي حال عاشقة تعاني أشكالا من الشجن “وجع الحنين” “على وتر الجنون” “موال الشجن”.
لعل صرخة المخاض، الذي تعيشه الشاعرة سميرة فرجي، المعلنة عن الانشطار بين قوتين من قوى الطبيعة، هي ما نكتشفه عند قراءتنا عنوان ديوانها “رسائل الماء والنار” فقد خصصت الشاعرة أساليب الأمر لقصائد الشطر الأول من الديوان “رسائل النار” “افهميني، قولوا لها، ارحل!، تحرر!“، كأنها تأمر النار، التي بداخلها نتيجة الضنى وفرط الوجد، بالانجلاء والتبدد، حتى تستطيع “رسائل الماء” التي تحتل عنوان الشطر الثاني من الديوان النزول بردا وسلاما على قلب الشاعرة، فتكون بلسما لجراحها، لذلك طبع رسائل الشطر الثاني أسلوب النداء كي تكون منقذتها من الحرّ الذي تعيشه، “يا أعذب الناس“.
عند النظر في ديوان “مواويل الشجن” لاحظنا أن عناوين القصائد يكمل بعضها بعضا، فمثلا عندما عنونت أول قصيدة لها في الديوان ب “موال الشجن”، جعلته بصيغة المفرد، لتستهل بذلك الديوان وتنهي بـ “موال الروح”، وما موال الروح سوى شجن.
ورغم الارتياع، الذي يعتري فؤاد الشاعرة والذي تفصح عنه عناوين الديوان “ما السر؟!” “أخاف!”، “طيف”، وهو خوف المحب على محبوبه، الذي ما ينفك يتخلص منه العاشق حتى يتسربل داخل روحه كما يتسربل الدم بعد قطع الرقاب، إلا أن ذلك الخوف وتلك الرهبة ما إن ينالا من ذات الشاعرة حتى تفاجئ متلقيها بما يعزز قوتها وكرامتها، فتنهال على محبوبها بأفعال الأمر “قل أي شيء” “ارجع“، لأنها تعبر عن رفضها الخنوع والانحناء، وإن قطعت أوصالها اشتياقاً، فتعلن قائلةً “ارجع” ،فأنا “لن أعود” ،و”لن أخطو الخطوة الأولى” فتترجم بذلك “مكابدة امرأة“، وإن كانت “في حضرة الوله” و”وجع الحنين” و”على وتر الشجون” تغني وتشهد بأنها لحبيبها ولا لغير سواه، إلا أنها تنهي القصة برمتها متخذةً قرارها بالرحيل واللاعودة إذ تقول “تفارقني وأرضى بالفراق”.!
إن بوح فرجي يضمن كل ما يجعل للقصيدة العربية التقليدية وهجها ونضارتها، كما أكد على ذلك عميد الأدب بالمغرب الدكتور عباس الجراري، فتجد في شعرها رسائل تربوية وأخلاقية، بل حكما ومواعظ:
فما كل ما يسبي تخاله لؤلؤاً
وما كل نجم في سمائك يسطع
ولا صدأ من غاب عنك بريقه
ولا ذهب من في عيونك يلمع!
كما نجد بلاغة الألفاظ وجزالتها واغترافها من الشعر الجاهلي مما يؤكد إيمان الشاعرة بالقدماء دون صم الآذان عن التجديد والحداثة، ما يؤكد ذلك أصوات الشاعرة الغنائية التي زاوجت بين “إثارة الأهواء (الباطوس) والإقناع العقلي (اللوجوس) وإثارة الإعجاب (الإيتوس)“،لإقناع القارئ العربي وإمتاعه في الآن نفسه، وتجاوز وظيفة تأثره إلى تغيير موقفه (وهو ما يؤكده ديوان “رسالة إلى الأمم المتحدة) – وهذا ما تصبو إليه الوظيفة الحجاجية – إزاء القضية أو الدعوى، وهذا ما يفسر هيمنة بلاغة “التفخيم” و”التعظيم” و”الهيبة” داخل المتن الشعري في بنية التشبيه مثلا.
أنا جبل بأوجاعي وصعب
بأن تجثو الجبال لتبلغيني
أنا كالنار أبعث من رمادي
وحمق إن سعيت لتخمديني
وسجني كالعرين به الضحايا
وفرسان الهوى من كل لون
إن لحت وقتا في سماه فإنني ————
شمس الضحى فيها، طلعت لتأفلي![11]
إن تشبيه الشاعرة نفسها بالنار تارة وتارة أخرى بالجبل ليحكي قصة قلب كالأسد وهو ما يؤكد وصف سجنها بالعرين، كذلك عندما شبهت نفسها بالشمس فهي تحرق كل شيء لكي لا يبقى أثر إلا نورها الساطع.!
نزعت الشاعرةُ إذن في هذا التشبيه إلى إثارة استحسان المتلقي لها كبطلة محتفى بها، لذلك جاءت التشبيهات البلاغية خاضعة لأسلوب التزيين نظرا لقيمة المشبه ونفاسته، كما تسمو هذه التشبيهات إلى تحريك عاطفة المتلقي فتحضر وظيفة التأثير والتأثر.
ومن الأمثلة الكاشفة عن تعامل الشاعرة فرجي مع الوجه الأسلوبي المتحقق في السياق، الطباق: “فذكر أحد المتضادين أو المتقابلين ينبه الذهن لإدراك المتضاد أو المتقابل الآخر حتى إذا ذكر أدرك العقل صورته على غاية الوضوح فكذلك الانفعال المصاحب لذكر أحدهما يهيء النفس لمزيد التأثر من الانفعال المصاحب لذكر الآخر“[12].
فبلاغة المقابلة بين الحياة والفناء تتمثل في التأثيرين العقلي والعاطفي، فهي حجة عقلية لأنها تستدل على المعنى وتحمل على توضيحه وإدراجه بناء على وضعه في حالة تضاد، وهي حجة عاطفية لأن هذا التضاد أو التقابل بين الضدين يصبح إحدى الوسائل التي تحرك أهواء الحب والميل إلى الطرف الأول والكراهة والنفور من الثاني. وهذا ما يؤكده البيت الأخير الذي ذكرناه، إذ نجد أن الشاعرة تروم بهذا الطباق (طلعت لتأفلي) ضرورة التحبيب والترغيب في سحر الشاعرة لقوة جبروتها وحسن جمالها، والنفور والابتعاد عن غريمتها.
كما تظهر المقابلة في قول الشاعرة:
لكنه الحب أشقاني ودللـه ليمزج الشهد بالأشواك، أواه![13]
ففي شقاء الشاعرة دلال محبّها، وفي الشوك الذي تجرعت مرارته شهد غارق هو فيه. فتحط الشاعرة من شأن عشيقها الخائن لترسمه لنا كإنسان عديم المروءة والشهامة والإخلاص، في الوقت الذي تفانت فيه هي في وفائها.
فهيا اعترفْ للعاشقين وقل لهم أنا في الهوى لما فديتك بعتني![14]
فضلا عن بلاغة المقابلة فإن “التقديم” مؤشر أيضا لإثارة الانفعالات وإحدى الوسائل اللغوية والخطابية التي تصنع بلاغة الانفعالات في الكلام، وقد استخدمت الشاعرة هذا اللون البلاغي بشكل ملفت في جميع دواوينها، ولا ننكر مدى الإثارة التي تجعلها تتأثر وتؤثر في المتلقي، الذي نجحت في استمالته في وقت عمت فيه قوالب شعرية تنأى عن العمود، وقضايا اجتماعية عامة لا تسبر أغوار الذات، فبوح الشاعرة يخترق الأفئدة دون استئذان ويدغدغ المشاعر ويجتاح الوجدان.
وسمعتُ يا بحر الأسى أشجاني تشكو جراحاً حرها أضناني[15]
تعمدت الشاعرة تقديم “حرها” لما للفظ من أثر كبير في نفس المتلقي، إذ تهيج مشاعره لاستمالته، فتحقق بهذا التقديم والتأخير وظيفة استحضار الموضوع في ذهن المتلقي للتصديق به، وهو ما لا يتحقق مع التقديم الذي تنحصر وظيفته في الإخبار الذي يفتقر إلى التحقيق والتصديق.
وهدف فرجي هو جعل المتلقي العربي يصدق دعواها ويرأف بحالها لأنها مظلومة، فتحقق بذلك الوظيفة الحجاجية.
لقد جاءني في الليل طيف ملثم
وبين يديه قلبه يتكلم[16]
أنا العاشق الولهان جئتك شاكيا وفي أضلعي نار الهوى تتضرم[17]
فقلت له: ويحي لماذا فضحتني وجئت كما المجنون حولي تحوم[18]
أما خفت من عين الرقيب وإخوتي؟ فلو خبروا بالأمر، ظهرك يقصم![19]
ولتحقيق التأثير الجمالي المنشود نرى الشاعرة تنوع في الأسلوب والمعاني والأبنية اللغوية وغيرها: “فالتنويع والتفنن خطة بلاغية تناسب المبدأ الذي بنى عليه المؤلف مفهومه للبلاغة وهو الاقتصاد على القوة المتأثرة للمتلقي، وعدم تحميلها فوق طاقتها، فهذه القوة في حاجة إلى ما يجدد نشاطها ويدفع عنها الملل الذي يسرع إليها“[20].
ولا تستغني شاعرة الوجدان عن عماد الشعر العربي وهو الوصف.
أنى لهم أن يسعفوا قلبي الذي خبر العنا أو يخمدوا تحناني[22]
ماض على حجر الزمان نقشه وجراحه أقوى من النسيان[23]
————-
طال الجفا وكلانا اليوم خافقه يستل قسوته من صلب أحجار!
أما علمت بأن الشوق يجذبني
إلى ديارك سرا مثل تيار!
لكنه الكبر مثل السوط يجلدني جلداً ويسبق خطوي رغم إصراري[24]
وتستعمل الشاعرة أسلوب المدح متغزلة بمحبوبها، فالانتقال من صورة إلى صورة في سائر ما يأخذ به من ضروب الهيئات الكلامية، لا يطيل في شيء مما يأخذ به من الوصف ولا يكثر من موالاة معنى بعينه من معاني المدح.
فأنت هلال بهي السنا
وإني خلقت لكي أكْلمَك
أنوّر ظلك مثل ضحى
وأنت تنوّر كل الفلك[25]
إن متن الشاعرة ليستجيب لما عرفته آخر التطورات في علم البلاغة فيما يسمى بالبلاغة الموسعة التي أحرقت الحدود الفاصلة بين بلاغة الإمتاع وبلاغة الإقناع كما لم ترسم حدوداً واضحة المعالم بين النثر والشعر.
والمتأمل في أول ديوان صدر لها، وآخر قصائدها التي مازال يجري تجميعها في ديوان واحد، ليحسن تقييم التطور السريع الذي طال متن الشاعرة، فهي لا تخدر جمهورها أو تمنحه الحبوب المهدئة في شعرها، وإنما هي حمالة رسائل توعوية تحمي بها بلدها وشعبها.
وتصرخ في وجه الظلم أيضا في شعرها الغنائي الذي ربما يظهر للعيان غارقا في الذاتية والوجدان، إلا أننا نرى في الشاعرة صوت المرأة العربية التي تصارع من أجل البقاء وفرض ذاتها بكل أنوثة ورقة، والصمود في وجه الرجل وبطشه وظلمه إذا ما حاول المساس بالذات الأنثوية، وما يدفعه إلى ذلك سوى خوفه من قوتها فيربكه ذلك ويزعزع ثقته بنفسه فلا يتردد في رفع السلاح في وجهها.
هنا نسجل تقاطع الذاتية مع الموضوعية، فأي ذاتية تظل للشاعرة وهي تتحدث باسم آلاف النساء اللواتي يعانين الخطب نفسه.؟!
وإن كانت الشاعرة تميط اللثام عن نفسها الجياشة وتطلعنا على ما يخالج صدرها من لواعج وأنين فإنها تسربل بذلك الحنين وتلك اللواعج قضايا فكرية مهمة، وهذا ما يسمى بالموقف الأدبي وهي الدرجة التي يصل بها الشاعر إلى مرتبة المؤثر الحقيقي في المجتمع.
ولعل تأثر الشاعرة بتراثها ليظهر ليس فقط في البناء العمودي وإنما كذلك في ذكر بعض الأعلام التاريخية التي رسختْ أسماؤها في عالم العشق والهيام.
وحين ترى دمعي السخين تخالني عبيلة تبكي أو بثينة تخشع
كما يظهر ارتباطها بالتراث كذلك من خلال اقتباسها من أشعار امرئ القيس.
فقلت له ويحي لماذا فضحتني وجئت كما المجنون حولي تحوم؟!
أما خفت من عين الرقيب وإخوتي؟
فلو خبروا بالأمر، ظهرك يقصم!
فقال: أنا لا أعرف الخوف في الهوى ومهما تفشى سرنا لست أحجم
فإن حطموا قلبي فأنت مكانه وإن أحرقوا جلدي فوصلك بلسم
ولو أذهبوا عقلي بحبك أهتدي وإن أرهقوا روحي فصوتي أرحم!
وهذا اقتباس من قصيدة امرئ القيس حيث قال:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي!
قريض فرجي كالبنيان المرصوص، منمق، منحوت نحت التماثيل، يضرب أعشار الخيال، يخرق أفق انتظار المتلقي، يغازل الظواهر الطبيعية، يشنف الآذان المرهفة التي تستلذ جمال البوح، قريض ينم عن سليقة في غاية التميز، يقر بولائه لوطنه وعروبته ولغته.
لقد جددت الشاعرة فرجي بيعتها للقصيدة العربية القديمة الأصيلة المتينة المحافظة على جزالة اللفظ وفصاحته.
لم تكتف فرجي بسجيتها بل أضافت إليها تفتقا ومساحات جديدة ليتسع أفق إبداعها: “إن كل إبداع هو في آن، ينبوع وإعادة نظر: إعادة نظر في الماضي وينبوع تقييم جديد“.
إن تكبيلها بالولاء العقائدي للشعر القديم ليظهر في معظم قصائدها، إلا أن هذا لم يأسر الشاعرة أو يحصرها في الزاوية، بل استنبتت من تراثها أجمل المعاني والقيم واستطاعت تحيينها في واقع ربما قد صار في حاجة ماسة إلى ملامسة هذا التراث والعودة إليه، فلا نرى في محافظتها على القصيدة العربية القديمة إلا زيادة في الإبداع وتصريحاً مباشراً يعلن عن الظواهر السياسية والاجتماعية المدانة، كما لا نلمس التصنع الذي طالما اتهم الشعر العمودي به، فلا نجد الشاعرة ترسف في أغلال الشكلية والصنعة، بل فجرت طاقة جديدة متحررة مضيئة تضمن لها البقاء.
استطاعت فرجي طرح رؤاها بقوام القصيدة الرشيق، وشكلها الإيقاعي المنغوم، أن تهب الحركة النفسية من إيقاع الكلمات ومقاطعها فتمسي القصيدة سمفونية تصل بين النفس والكلمة.
إن ملامح القدرة الشعرية عند الشاعرة كافية لمنحها التفرد والتميز المنشودين في وقت ربما أصبحت فيه القصيدة العربية تحلق في عالم المنثور والتفعيلي، ففرضت نفسها قلبا وقالبا معلنةً فتح باب الإبداع على مصراعيه محافظةً على رنين القدماء وأشكالهم، واعية بمواقف الحياة التي تهم جماهير الشعب وعيا عميقا، فقد ظلت مشاكل أمتها السياسية والاجتماعية لصيقة بأعصابها ودمها إلى آخر بيت نظمته.