تأملات في نص (تسعون عاما)للشاعر عبد الله الأمير
بادئ ذي بدء ،واستحضارا للعقود الزمنية الماضية وامتزاجها بالحاضر الثر، المشرق الذي تحف بنا رؤاه وأطيافه ،وألوانه الحريرية الحالمة ،دشن شاعرنا عنوان نصه باختياره لفظة (تسعون عاما ) هكذا مجردة من أي سياق،فاللفظة وهي من “ألفاظ العقود” في اللغة ذات تكثيف ،يجعلها -وفقا لمراد الشاعر -مستغنية عن أي وسائط أخرى من شأنها أن تقترن بها ،وهي ذات عمر زمني مديد ،ولها إشعاعاتها في نسيج ذاكرة الأجيال ،والشاعر باعتماده ذلك العنوان يؤكد بعين اليقين -شاحذا البصائر والأنظار- إلى الوقوف على معالم النهضة القوية والطفرات التنموية التي شهدتها البلاد ،وارتقت بها إلى مصاف الأمم..
إن (التسعون عاما) هنا،هي كيان متجسد محسوس ،ناطق ،ماثل للعيان ،ومفاخر هذا الرقم التاريخي الملموس، هي التي ستتولى “دفة الحديث”والتكلم بلسان الحال،وهي التي “ستميط اللثام” عن محاسنها الوضاءة عبر ماضيها الزاهر ،وحاضرها المزدهر ،وبالتالي ستتولى هي بصوتها الجهير المعبر إبراز الإنجازات الخلاقة للعيان، بعيدا عن المواربة، أو الخيالات الفارغة،أوالأوهام السقيمة ..
ثم ينطلق الشاعر إثر ذلك في نصه الوطني مناديا، في مقام الإشادة والافتخار والاعتذار،متسائلا ،في مقام التعجب والدهشة والإقرار بمكانة هذا الصرح العظيم …وآية ذلك :
يا كاتِبَ المَجدِ طَرِّزْ مَوطِني دُرَرا
فالحَرفُ عَنْ مَدحِهِ وافاكَ مُعتَذِرا
أَيُّ اللغاتِ تُضاهي حُسنَ مَمْلَكـةٍ
أَرَى ثَراهـا سَماءً فَوقَ كُـلِّ ثَـرَى
وَأَيُّ مَجـدٍ لأَرضٍ جِـئتُ أَسْأَلُكُـمْ
يُعانِقِ الشَّمسَ والجَوزاءَ والقَمَرا
حتى إذا وقف على شاطىء “التسعين” -الذي سيلوح بعد هنيهة- محاورا لها ،ومصيخا إلى مكنوناتها،ومستغرقا في استكناه مضامينها ،وهي ترفده بالشواهد المتتابعة ،وتمطره بالبراهين الساطعة ،-هنالك غمرته الدهشة ،وهالته التسارعات ،واستولى عليه الذهول، وطارت بلبه ألوف المشاهد الناطقة ،ببدائع مكارم هذه البلاد ، ومكاسبها فيما هيأه الله لها من مقومات راسخة، وقدرات حكيمة ومفاخر كريمة ،وثروات مدرارة…
ولنا أن ننظر إلى هذا التجلي ،وهو يعزف لحنه على وتر ال(تسعون) :
تَسعونَ عاماً تَجَلَّتْ في مُخَيِّلَتي
تَحكي شُموخاً غَدا يَرتادُ كُلَّ ذُرا
فَسَابَقَ الرَّيحَ سَعياً نَحـوَ غايَـتِـهِ
يُطَوَّعُ الصَّخْرَ والصَّحراءَ والخَطَرا
عَبدَ العَزيزِ الذي أَرسَى قَواعِدَهـا
بِسَيفِ عَزمٍ لِرَأسِ الجَهْلِ قَد بَتَرا
مِنْ بَـعـدِهِ أُسُـدٌ سـاروا بِـلا كَللٍ
طَوَّوا الزَّمانَ بِجُهدٍ قَـطَّ ما فَتَرا
،فهنا رأى بعينيه عناق الوطن العزيزللكواكب السيارة في السماء واتحاده معها ،وهنا رأى استعادة الحق سيادته ،وهنا رأى الباطل منزويا ،وقد ارتدى أقنعته الزائفة،منكسا ،موليا الأدبار..
وأمام مواكب العظائم المتتالية ،والبطولات النادرة، ارتقى الشاعر شرفات المنطلق العظيم لهالات النور ،ومنها ابتدأ متابعة رحلة العناصر العظمى الأولى ، التي أرست دعائم هذه النهضة العجيبة الآخاذة،مستعينا بتاريخ المؤسس العظيم، وانطلاقة شمسه المكانية من (نجد) التاريخ والسيادة..على هذا النحو التصويري:
شُموسُهُ مِنْ راوبي نَجْد مَطلِعُها
فَأَشْرَقَ الحَقُّ في الأَرجاءِ وانتَشَرا
تَوَشَّـحَ الحَـزمَ عَدلاً في مَسيرَتِـهِ
لَمْ يَخْشَ لَوماً فَعادَ الحَقُّ مُنَتَصِرا
وظلت الشموس في رمزيتها الدالة على أبطال هذا الفتح التاريخي العظيم وهم يحفون بالقائد الملهم ، باذلين الأرواح رخيصة لإرساء قواعد العدل والخير والتآخي والتضامن ،والتواصي بالحق والصبر ،في المنشط والمكره ،دون تراخ أو نكوص علحى الأعقاب راسمين بذلك صورا لألاءة من الانتصارات المجيدة والخطط “النهضوية” السباقة،حتى إذا استقر هذا الوطن الشامخ على بحار الذهب والثراء ،وانتقلت الراية الخفاقة بأضوائها الساطعة إلى الغطارفة من أبناء المؤسس، تنوعت الثمار، واتسعت الموارد،وتفجرت ينابيع الخيرات ،وازدهرت الحياة في ميادين الحياة كافة..
ومن أجل بلوغ المطامح والآمال وترسيخ المبادىء السمحة خاضت البلاد مضمار السباق -باقتدار -مع الريح ،فكان لها قصب السبق ،وتم لاسمها ومكانتها العالية أن تبلغ مراتب العز ومراقي الكمال ..
ولأن العناية بالتعليم أساس أي نهضة وبوابة مستقبلها الباهر،وبه تسقط الجهالات وتضمحل الخرافات، وقد جعله الأشاوس من قادات الدولة في المقدمة ،التفت الشاعر ،-ناعتا البنايات العامرة التي شيدت على أحدث طراز ،شاملة بذلك حتى الصحارى والأمكنة النائية.. فقال بلسان التعبير (بإذ) :
إِذْ شَيَّدوا الدُّورَ لِلتَّعليمِ في وَطَنٍ
فَأَصبَحَ الكُلُّ فيـها لِلعُلَـى سُفَـرا
سَواعِدٌ لِارتيادِ الفَخْـرِ ما فَـتِـئَتْ
حَتَّى استَجابَ سَحابُ المَجدِ وانهَمَرا
فَأَثمَـرَتْ كُلَّ قَـفْـرٍ خَـيـرَ فـاكِـهَـةٍ
فَلتَهْنأَوا اليومَ عَيشاً واقْطِفوا الثَّمَرا
ولكي يدحض الشاعر الاتهامات والشكوك ،ويلغي الفوارق والمسافات المصطنعة،ومن ثم يوقظ القيم الجوهرية الأصيلة في نفوس المنتمين لهذه الأرض الطيبة المباركة ،من أجيال معاصرة وأجيال آتية ،ختم نصه بهذه النبرة العالية ،مستحثا الهمم والعزائم على استمرار العطاء و الحفاوة بهذه الأمجاد الرفيعة العزيزة المنال على غيرها من البلدان كما يليق بها …فقال مستخدما صيغ الأمر واللام ..على هذا النحو :
وَلْتَفْخَـروا أَنَّنا مِنْ رَحـمِ طاهِـرَةٍ
قَد أَنْجَبَتنا لِنَسمو فَوقَ مَنْ كَفَرا
أنَا السُّعوديُّ فاقْـرَأْ قِصَّـةً نَقَشَتْ
حُـروفَـها بِنَجـومٍ تَخْطِفُ البَصَرا
وَطُفْ بِعَينَيكَ هَذا الكونَ تُخْبِرُنا
هَلْ مِثلَ داري شُموخاً في الوُجودِ تَرَى؟
عاشَتْ بِلادي مَدَى الأَزمانِ عِزَّتُها
تُغِيضُ عَينَ حُسـودٍ كُلَّـمـا نَـظَـرا
*ظواهر النص ،وسماته الفنية :
*امتازت عاطفة الشاعر بالقوة وطابع الفخر..
*جل الكلمات التي تلت نداء الشاعر الممتد الصاعد في الفضاء الرحب مشحونة بالأمل والاعتزاز،مع ما امتازت به من إيحاءات ، لتقول بلسان المجد والسيادة، للعالم أجمع ،بلغاته التي يعيها :”لبيك ياوطن الأمجاد والبطولات ،لبيك ياوطن السلام والأمن..
لبيك ياوطن الفوارس و القادة الميامين الذين اتخذوا كتاب الله دستورا،لبناء الأسس الجوهريةالتي نادى بها دين الإسلام، وبتعاليمه النورانية استرشدوا، لفض النزاعات، وكبح جماح الطغيان والعداوات، ودحض المزاعم والمفتريات ،في إطار النهج الإيماني القويم المستمد من الشريعة الغراء ،وبه استطاعوا أن يجففوا منابع الإرهاب “، وأن يخطفوا الأبصار ،وأن تستمر رحلة النهضة والازدهار “بلاكلل”أو ملل.
*صور الشاعر تصويرا دقيقا رحلة (التسعين عاما )الممثلة في العديد من المنجزات الجبارة،منذ التأسيس ،والأطوار الزمنية الحافلة التي أعقبت ذلك..
*تراوحت القصيدة بين الإنشاء والإخبار
*بحر القصيدة البسيط ،وقافيتها الراء ذات الرنين العذب ،وجاءت الألف المطلقة وموسيقاها كأصداء متجاوبة مع هذا الفيض النفسي الداخلي..
*الصوروالأخيلة تمثلت في تراكيب عديدة جاءت سلسة من مثل :”توشح الحزم” ،”سحاب المجد”،”وسابق الريح” ،”وطف بعينيك”،”نقش النجوم.”.
*الخاتمة
الشاعر الماهر الملهم ،صاحب الإحساس الرائق والنغم الأصيل ،عبد الله الأمير ..
دندنتي هذه لنصك الجزل الرصين
جاءت في الهزيع الأخير من الليل ،أشبه ماتكون بالمسامرة في “ليلة جنوبية قمراء”حاولت رصد بعض جماليات هذا النص الوطني بامتياز، والتقاط بعض ثماره الشهية الناضرة .. دمت ياصديقي للشعر وللوطن وللحياة.