*وداع المرافئ ..
وغـــداً سـأغـفِـرُ لـلـفـؤادِ الـسـيئَهْ
فـأهـيمُ فــي مـوجِ الـغرامِ لأبـدأَهْ
هــذا الـهـيامُ قــد اعـتـرى أيـامَـنا
والـخوف فـي القلبِ المتيمِ خبأَهْ
ولـقـد كـتبتُ بـحبِّها سِـفْرَ الـهوى
عـجزتْ مـعاجمُ عـصرِنا أنْ تقرأَهْ
حتى قواميسُ الهوى كم حاولَتْ
تـرتـيـلَـهُ، فــبـدَتْ تُـتَـأتِـئُ تــأتـأَةْ
رفـقـاً بـقـلبي يـا عـيونَ صـبابتي
هِـلِّي وجـودي بـالغرامِ أيـا امـرأَةْ
سـأفُـكُّ عــن هــذا الـفؤادِ قـيودَهُ
لـتُـذَوِّبَ الأحــزانَ زفــراتُ الـرئَةْ
قـولـي لـبـحرِ الـحـبِّ إنَّ مـراكبي
قـد غـادرتْ يـومَ الـتوادعِ مرفئَهْ
ذهبتْ تفتشُ عندَ غيرِكِ عن مدىً
أنـقـى، بــه مــن كـلِّ شـاكلةٍ فـئَةْ
فــيـهِ الـربـيـعُ تـفـتـحتْ أزهــارُهُ
بـعـدَ الـشـتاءِ لـكـلِّ روحٍ مُـشـتِئَةْ
وأنا هنا المقرورُ من عصفِ النوى
أفـلا أفـتشُ مـثلُهمْ عـن تـدفئَةْ!؟
فـالـحبُّ يـاذاتَ الـخوالِ مـقدسٌ
الـــذلُّ فــيـه مــحـرمٌ والـطَـأطـأَةْ
هـذا اعـتقادي فـيهِ لا تـتحججي
بــعـقـيـدةٍ جـهـمـيـةٍ أو مُــرجِـئَـةْ
رفـقاً بـقلبٍ تـاهَ فـي بـحرِ الـهوى
والـجرح فـرط عـنادَكم قـد أنكأهْ
-التحليل النقدي:-
-تقديم:-
من جماليات الشعر الوجداني -في ضوء طابعه الحميم المقترن به-أنه يكادُ يطلعك -كمُتلقٍ -على تفاصيل عذابات العاشقين؛ومواقفهم ؛وقلِّة حيلتهم ؛ويتأتى ذلك من خلال التمعن في ملامح اللغة المُستخدمة المفعمة بروح الفن وأصالته ؛وتأتي فصاحة (البثِّ الذاتي المُبين) التي أتيحت لهم فتميزوا بها؛بمثابة الإشعاعات الكاشفة الدَّالة؛التي يستهدي بها الباحث في استكناه قيم النص وتأثره بها؛ إلى جانب رصد ما توارى منها عن الأنظار؛أوما تخيَّلها بعين قلبه أنها كذلك..
وإنَّ من الشعر العذب الحالم ؛ مايتسرب إلى النفس الإنسانية ؛دون عناء ؛مثلما ينَقَعُ الماءُ العطشَ!
ذلك كلام مجمل ؛تأخذ منه قصيدة شاعرنا عادل عباس نصيبها الأوفى..
-جوُّ القصيدة:-
في هذه المعزوفة يلاحظ أنَّ لَبِناتِ مطلعها قامت ؛على أسس دقيقة؛ارتآها الشاعر ؛فانطلق منها :-
أولها:-فضيلة (غفران السيئة)؛وهنا صدرتْ من الشاعر ذاته؛لفؤاده هو؛ وفي هذا البوح الملتهب والعطف بالواو في(وغدا) ما يوحي بمواقف درامية حدثت بين طرفي التجربة الغرامية؛ آثر الشاعر السكوت عنها ؛ ويكمن في المطلع والسياق التالي له؛ أسى مرير؛وامتعاض شديد ؛عاناهما الشاعر؛واكتوى بنيرانهما؛غيرَ مرَّة.
كما يُستشف من ذلك المنطلق أننا أمام مايُسمى “بتأنيب الضمير” الناتج عن الندم الحادِّ الذي ألقى بظلاله على الشاعر في مواجهاتٍ سلفت..
ويجيء كذلك التلميح (للغد الآتي)
في استهلال الشاعر المطلع بقوله:-(وغداً)؛في موكب الحديث عن موج الغرام ؛والتطلع الهيامي لاستئناف مرحلة تشييد غرام جديد؛على أنقاض صرح غرامي قصفته الريح العقيم ؛ونالت منه معاولُ الهدم التي انصبَّتْ عليه مانالت من خراب ودمار..
لقد بدا الشاعر يتميَّز غيظاً؛مع شعوره باستيلاء الإثم عليه ؛وكأنما هو الآن تحت وابل من اللوم والتقريع الذاتي إزاء اجتراح سيئة انساق إليها ؛فعادت عليه نقمةً ووبالاً..
ويخلص من المطلع إلى تشخيص سلسلة من الملابسات التي استخلصها من وراء قراره الآنف ذكره؛يمكن سردها في السطور التالية:-
-هيامٌ ألَّف بينهما في بادئ الأمر ؛سرعان ما حاد بهما عن الطريق المرصوف بأزاهير الحياة؛وأشذائها الفوَّاحة ؛فبات أشبه بالمتاهات المُدلهمة..
هيام كسى أيامهما ؛وساهم في تغليف مساحات البهاء الفاتن بالسكوت المطلق..
وعلى الصعيد الموازي هناك خفايا من ألوان الصبابات والوله ؛خبأها الشاعر في قلبه حيناً من الدهر؛وربما كان ضنيناً بها أن تتعرض للامتهان أوماشابه ذلك ؛مالبثَ بعد ذلك أن كتبها بوجيبِ قلبه المُغرم تخليداً لها ؛وإعلاءً من شأنها ؛وهاهي تستحيل لكل ذي بصر سِفْراً من أسفار الغرام العميق؛سفْراً من الحب المتين ؛تكوَّن من أجلها وحدها ؛سفْراً مثالياً؛لم يكن من قبل مسطوراً في قواميس اللغة؛وكان مفروضاً على محبوبته اللاهية
أن تفقه بنوده؛وأن تتباهى بما أودعه الشاعر بين دِفَّتيه من ولعٍ استثنائي ؛خصَّها به؛وأمطرها بدِيَم سحائب وداده ؛فيما مضى من محطَّات العمر..
وماذا وقد أُسقط في يد الشاعر؟!
أيسدل الستار على (سِفْر الهوى) ؛وينأى بنفسه عن محيط تلك الأغاليط؛وعن هذا الجو القاتم المُبهم وقد ضاق بها ذرعاً؟!
ذلك لم يدر في خلده؛إذ لم يمت الرجاء في أعماقه؛ وآية ذلك :-
رفقاً بقلبي ياعيون صبابتي
هِلِّي وجودي بالغرام أيا امرأة!
تستمر هذه اللوحة ومابعدها في الأطر التالية:-
في البيت السالف يناشد شاعرنا محبوبته الرفق والسعي إلى هناءة البال والتحلِّي بالوداعة ؛في خضمِّ هذه المناشدة الاستعطافية أبصرها لاتعبأ بما يقول؛فيصكُّ سمعها كاشفاً عن نية تكمن في النفس ؛تؤرقه ليل نهار؛نية أثقلته حتى بلغت به مبلغ الضجر؛ وستدفعه وشيكاً إلى كسر القيود الوهمية؛وتجاوز العراقيل المصطنعة التي ما مازالت تتشبث بها؛ وتلوِّح له بها..
في هذه الأثناء يحملها أمانة إيصال رسالة ودية ؛لبحر الحب الذي يقف على مرافئه الآن..
فماذا إذن عن رسالته التي يراهن بها؛ ويريد لها الخلود؟!
قولي لبحر الحب إن مراكبي
قد غادرت يوم التوادع مرفئه!
ويمكن وصف هذه الرسالة بالحاسمة؛يوجهها الشاعر إلى (بحر الحب) وتنطوي هذه الرسالة على جمال روحي خالب؛فهو هنا كمن أحسَّ بالإخفاق من ناحية إقناعها ؛ولم يبق من رابط بينهما سوى أن تنهض بالأمانة التي أسندها إليها..
ويرسل شاعرنا معاذيره باتجاه( بحر الحب )؛وهو في قرارة نفسه يريد له الإنصاف مما شهده من أفعال لايد له فيها؛ يريد أن يبرر لهذا البحر الزاخر سر اضطراره لاتخاذ قرار (الوداع الأليم)؛وفي ذلك اعتراف لهذا البحر أنه آوى غرامياته ؛واحتمل أشجانه؛ وأصغى لآلامه؛وصان تجاربه من أن تمتد إليها أمواجه فتغرقها..
لقد بدا (بحر الحب) وفقاً لرؤية الشاعر بريئاً من أي جناية بدرتْ منه ؛نزيهاً من أي خذلان تعرَّض له الشاعر.
وفي هذا التعبير العميق مايشي برؤية الشاعر للحب الصادق ورسالته المُنوطة به؛فإذا حدثت إساءة من المحبين فإنما هي نتيجة مفاهيمهم المغلوطة عن الحبِّ الإنساني ذلك الهرم النوراني الشامخ ..
ويمضي شاعرنا في عَرْض آخر؛بعد أن تبينتْ له غطرسة محبوبته بجلاء ؛عرضٍ يتعلق باستئناف (مراكبه) رحلة أخرى؛بحثاً عن أفق أوسع وأرحب وأكثر ألفةً ونقاء؛من هذا الجو الخانق الذي أحاط به من كلِّ جانب؛وألجأ مجدافه إلى هذا المسير الانفرادي ..
هذه الرحلة الجديدة المحفوفة بالحب؛ والمنتصرة لجمالياته؛تعانقتْ مع بوصلة الشاعر الذهنية والنفسية؛وتراءى له فصل الربيع الباسم؛بأزهاره المتفتحة؛وعنادله المغردة؛ وفراشاته الفاتنة؛وألوان الحياة المتجددة ؛فأيقن أنَّ هذه المناعم الموشاة بآيات النعيم ستعيدُ ترميم روحه المنكسرة؛ بعد عناء الشتاء المستبدّ؛وزمهريره القاتل؛وهيمنته المبسوطة عليه و على الكون من حوله..
ويمضي شاعرنا في تصحيح نظرة محبوبته-وقد بات على حافة الهلاك كالمرتعدِ برْداً من أعاصير البعد؛الشبيهة بزمهرير الشتاء العاتي -تجاه (الحبّ الحقيقي) ؛فهو باختصار(من القيم المقدسة في حياتنا)؛ومامن شيء يعيبه كقيمة جوهرية لاغنى لنا عنها ؛وأولى بنا- إذا انصهرنا في بوتقته- أن ننأى به عن مواطن الزلل ؛والحيل؛ واللغط؛ والسقطات؛ والطرق المُلتوية؛وماإلى ذلك من ممارساتٍ قبيحةٍ؛لايمكن لها أن تنضوي تحت لوائه العالي المُشرق..
ويستدعي الشاعر عقيدتي(الجهمية والمرجئة)؛في مقام السخرية اللاذعة بمبادئهم الوضيعة؛مُهيباً بمحبوبته ألاَّ تنجرف إلى ذلك المستنقع الآسن؛بدعوى الحبِّ؛ويمكن لنا أن نستشف (فنَّ التورية) من هذا الاستعمال؛إذا ربطنا اللفظتين بمصدرَي :-التجهم والإرجاء في اللغة؛حيث إنَّ المعاني المتمخضة عنهما تكتنفها الضبابية في التعامل؛وترسم لنا شخصيةً منقبضة؛لايؤمن مَكْرُها على طول الخط..
وهذا التوظيف اللطيف يذكرني بأبيات وصفية ظريفة؛قالها أبو نواس في إحدى تجاربه؛على هذا النحو:-
ومظهرةٍ لخلْق الله حبَّاً
وتلقى يالتَّحيَّة والسّلام
أتيتُ فؤادَها أشكو إليه
فلم أخلصْ إليه من الزِّحام
فيا منْ ليس يكفيها خليلٌ
ولا ألفا خليلٍ كلَّ عام!
أراك بقيّةً من قومِ موسى
فهم لا يصبرونَ على طعام.!
الخاتمة:-
على الرغم من تلك المواجع والغصص الموارة التي أومأ إليها الشاعر ؛نراه يعود فيبسط (يدَ الرفق)في ختام معزوفته ؛من أجل إعادة المياه لحياةدافئة ناعمة؛شرب من سلسبيل نهرها مراراً وتكراراً ؛وهصر من ثمار جنَّاتها أمداً غير قصير؛بما يؤكد حرصه على بقاء البنيان الغرامي متماسكاً من جهة ؛وبرهنةً على أمله المنفسح في انقشاع تلك الغيوم الداكنة؛وزوالها عن صفحات سماواتهما الرحبة؛عما قريب وذلك لاريب مشروطٌ باستيعاب محبوبته فحوى رسالته المتزنة؛والإيمان بمقتضياتها المرنة ما أمكن ذلك..
كانت تلك السطور المتواضعة حصيلة رحلتي مع شاعرنا القدير في نصه الوجداني الرشيق الماتع ؛راجياً بذلك إضاءة بعض جوانبه الفنية؛وإبراز بعض جمالياته المتوارية ؛وهي لاشك أغزر وأكثر من ذلك؛وتقبلوا تحياتي