همهمات في قصيدة
ما لم تقله زرقاء اليمامة
للشاعر السوداني/ محمد عبدالباري
النص:
شيءٌ
يُطلُّ الآن من هذي الذرى
أحتاجُ دمعَ الأنبياءِ
لكي أرى
النَّص للعرَّاف.. والتأويل لي
يتشاكسانِ، هناك "قال" و"فسرا"
ما قلتُ للنجم المعلَّقِ: دلَّني
ما نمت كي أصطاد رؤيا في الكرى
شجر من الحدسِ القديم
هززتُه
حتَّى قبضتُ الماء حين تبخرا
لا سِرّ
فانوس النبوءة قال لي
"ماذا سيجري"
حين طالع "ما جرى"
في الموسم الآتي.. سيأكل آدمُ
تفاحتينِ
وذنبه لن يغفرا
الأرض سوف تشيخُ
قبل أوانها
الموتُ سوف يكون فينا أنهرا
وسيعبر الطوفان من
أوطاننا
من يقنعُ الطوفانَ ألا يعبرا؟!
ستقول ألسنة الذُّبابِ
قصيدةً
وسيرتقي ذئبُ الجبالِ المنبرا
فوضى...
وتنبئ كل من مرت بهم:
سيعود سيف القُرمطيُّ ليثأرا
وسيسقط المعنى
على أنقاضِنا
حتى الأمام سيستديرُ إلى الورا
في الموسم الآتي
ستشتبكُ الرؤى
ستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
وسيُنكرُ الأعمى عصاه
ويرتدي
نظارتين من السرابِ ليبصرا
سيرى القبيلة وهي تصلب
عبدَها
فـ "الأزدُ" لا زالت تخافُ "الشَّنفرا"
سيرى المؤذن والإمام
كلاهما
سيقولُ "إنَّا لاحقان بقيصرا"
في الموسم الآتي
مزادٌ مُعلنٌ
حتى دم الموتى يُباعُ ويُشترى
ناديت: يا يعقوبُ
تلك نبوءتي
الغيمة الحبلى هنا لن تُمطرا
قال: اتَّخدْ هذا الظلام
خريطةً
"عند الصباح سيحمدُ القومُ السُّرى"
لا تبتئس
فالبئر يومٌ واحدٌ
وغدا تؤمِّرك الرياحُ على القُرى
اخلع سوادَك
في المدينةِ نسوةٌ
قطَّعنَ أيديهنَّ.. عنك تصبُّرا
قمْ صلِّ نافلة الوصول
تحيَّةً
للخارجين الآن من صمتِ الثَّرى
واكشف لإخوتك الطريقَ
ليدخلوا
من ألف بابٍ إن أرادوا خيبرا
ستجيئ سبعٌ مرَّة
فلتخزنوا
من حكمة الوجع المصابر سكَّرا
سبع عجاف
فاضبطوا أنفاسكم
من بعدها التاريخ يرجعُ أخضرا
هي تلك قافلة البشيرِ
تلوحُ لي
مدُّوا خيام القلبِ
واشتعلوا قِرى
أشتمُّ رائحةَ القميصِ
وطالما
هطلَ القميصُ على العيون وبشَّرا.
هذه القصيدة هي أخت قصيدة الشَّاعر المصري أمل دنقل: البكاء بين يدي زرقاء اليمامية، التي يقول فيها:
"أيتها العرَّافة المقدَّسهْ..
جئت إليك، مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحفُ في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدَّسهْ
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسال يا زرقاء..
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهل ما يزال ممسكا بالراية المنكَّسهْ
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه في لحظة الملامسَهْ!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!"
في هذا النص يتناول الشَّاعر أمل دنقل قصة عنترة العبسي، وما لحق به من ظلم رغم فروسيته، وكيف أنه يدعى إلى النزال، ويعزل عن ساحات الأنس والمجالسة:
"أدعَ إلى الموت.. ولم أدعَ إلى المجالسَهْ"
كما يضمن فيها قول الزباء بنت عمرو بن الظَّرب عن شيم الغدر، والخيانة:
ما للجمالِ مشيُها وئيداأجندلاً يحملن أم حديدا
إضافة إلى تناوله زرقاء اليمامة، وقصة تكذيب قومها لها.
كُتبت قصيدة أمل دنقل في أعقاب هزيمة السابع والستين، وهي تحكي انكسار الشعوب على أيدي حكامها، وما النص الذي بين أيدينا ببعيد عنها.
تمهيد:
من أجمل المتع عندي التَّناص؛ فهو إحالة ذكية، ثقةً من الأديب، والشَّاعر خاصة في المتلقي، لخلقِ مقارنةٍ بين ما أتى الشاعر، وما كان سائدا سلفا. كما إن في التَّناصمتعة التلقي التي سبقت العطاء، فالأديب، واثق من خطوه نحو رحاب اللغة آخذٌ من ذات الماعون الذي نهل منه من سبقه، معتدا بما عنده، وما أوحي إليه من الجمالالمستحدث.
ومعلوم من الأدب بالضرورة أن بعض الأدباء عدُّوا سرقات المتنبي، تناصا، وثقافة كبيرة، وإدراكا للكثير من العلوم الإنسانية، وحفظ للكثير من الأشعار العربية، بل ومعالجة لتلكم الأشعار لتخرج بعد رحيقِ زهرٍ عسلا. أقول هذا تمهيدا للكثير من التَّناصات التي سنجنيها معا في هذا النص الكبير.
عودا إلى النص:
كنت قد أكملت نقدي للقصيدة هذه دون الاطلاع عليها في أصلها، أعني ديوان مرثية النار الأولى، والحق أني فوجئت بها في الديوان مكتوبة على طريقة التفعيلة، وهي طريقة كان يحبذها أستاذنا، الشَّاعر الكبير، محمد مفتاح الفيتوري (عليه شآبيب الرحمة)، وقد لاحظت أن الكثير من شعرائنا الشباب قد سلكوا ذات المسلك. فهل كانت تلك محاولة منهم بسرقة القارئ الذي ملَّ القصيدة طويلة التفعيلات في وضعها العمودي العتيق؟، ربما!
في عملي هذا عدلت طريقة كتابتها وفق الأصل بالديوان، لكني سأحتفظ في الشرح بالطريقة العمودية التي وجدتها عليها في الشبكة العنكبوتية. والقصيدة بالتأكيد من بحر الكامل في صورته التامة.
النبوءة:
شيءٌ يُطلُّ الآن من هذي الذرىأحتاجُ دمعَ الأنبياءِ لكي أرى
النَّص للعرَّاف والتأويل لييتشاكسانِ، هناك قال وفسرا
ما قلتُ للنجم المعلَّقِ دلَّنيما نمت كي أصطاد رؤيا في الكرى
شجر من الحدسِ القديم هززتهحتَّى قبضتُ الماء حين تبخرا
لا سِرّ فانوس النبوءة قال ليماذا سيجري حين طالع ما جرى
مطْلَعُ القصيدة كبير، والإشارة فيه إلى التراث الإسلامي عظيمة، ومحتوى الإنذار الذي بالنص أمرٌ مهولٌ لا يُصدَّق، مما احتاج فيه الشَّاعر أن يذهب مذهب التَّناص، مستدعيًا صورة مشابهة فجاء بصورة أشبه بفعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، حين أنزل عليه قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الأقربين"
إذ جاء في تفسير الطبري:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عمرو بن مرَّة الجَمَليُّ، قال: لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين" قال أتى جبلا (يقصد رسول الله) فجعل يهتف: "يا صباحاهُ"، فأتاه من خف من الناس، وأرسل إليه المتثاقلون من الناس رسلا، فجعلوا يجيئون يتبون الصوت؛ فلما انتهوا إليه قال: "إن منكم من جاء لينظرَ ومنكم من أرسل لينظر من الهاتف" فلما اجتمعوا وكثروا قال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً مصبِّحتكممن هذا الجبلِ، أكنتم مصدِّقِيَّ؟" قالوا: نعم، ما جربنا عليك كَذباً، فقرأ عليهم هذه الآيات، التي أنزلن، وأنذرهم كما أُمر، فجعل ينادي: "يا قريش، يا بني هاشم" حتى قال: "يا بني عبدالمطلب، إني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد".
نعم، يستدعي الشَّاعر تلكم المشاعر، وذلك الموقف إيذانا بعظمة ما يريد أن يقوله في هذه القصيدة، لكنه يقولها صراحة، أن ثمة ما يطل من وراء هذه الذرى، ثم يعجز أن يتبين ماهية هذا الشيء، فيقول بحاجته إلى دمع الأنبياء لتتبين له الرؤية، وفي قوله، دمع الأنبياء، إشارة إلى رأفتهم، ورقة قلوبهم على أقوامهم، ولعلَّه يعني أنه يحتاج إلى صفاء أكثر، وقرب من الله أكثر لتتبين له الرؤية.
ثم يمضي قدما:
النَّص للعرَّاف والتأويل لييتشاكسانِ، هناك قال وفسرا
النَّص للعرَّاف والتأويل لي
ههنا يستدل بصورة أخرى لما هو حادث مستقبلا، فيقول إن النص الذي هو بصدد الحديث عنه إنما هو للمنجِّم، وإنه إنِّما أوَّلَ قولَ المنجِّم، إلا أن الشَّاعر يخرج من النص، ويكون طرفًا ثالثًا بعد أن كان يقول:
شيءٌ يُطلُّ الآنَ من هذي الذُّرىأحتاجُ دمعَ الأنبياءِ لكي أرى
يأتي في البيت الذي يليه مباشرة ليقول:
النَّص للعرَّاف والتأويل لييتشاكسانِ، هناك قال وفسرا
وإنما أستشفُّ خروجه من قوله، "والتأويل لي" ثم يأتي بشخصيتين، تقول إحداهما أمرا، وتفسره الأخرى. ولعل الألف في "فسرا" هي للإشباع، وليست ألف اثنين، إذ ليس ثمة ما يدل على وجود ثلاث شخصيات في البيت.
ثم إن الشَّاعر يذهب في البيت الثالث:
ما قلتُ للنجم المعلَّقِ دلَّنيما نمت كي أصطاد رؤيا في الكرى
يذهب إلى تناص آخر، وهو ما جاء عن نبي الله إبراهيم حين نظر إلى السماء فقال بسقمه، وذلك في قول الله تعالى: "فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم". وهو اتكاء جميل على القرآن، إلا أن الشَّاعر يتناول الأمر بصورة مختلفة، ومبتدعة، وهذا هو شأن الشِّعراء الكبار، يقول أنه لم يقل للنجم المعلق في السماء هناك، أن يدله على ما هو حادث، ثم يردف أنه ما نام كي يصطاد رؤيا في النوم، وفي ذلك تناص مع موقف في القرآن وإشارة إلى رؤى الأنبياء عموما، التي تعد أمرا من الله ووحيا، فالشاعر ههنا في رؤياه في حالة من حالات التنبؤ، والصفاء الروحي، لكنه وفي صورة جميلة وواثقة، ينفي أنه كان نائما، ما يعني أنه بصدد تأكيد رؤياهوأنها واقع يسبق إليه أهله تنبؤًا، والصورة في قوله "أصطاد رؤيا في الكرى"، فيها تصوير جميل سالب للألباب، وفيه تناص مع قول ابن نباتة المصري:
ومولع بفخاخٍ يشدُّها وشباكقالت العين: ماذا يصيد؟ قلتُ كراكِ
ثم إنه يقول:
شجر من الحدسِ القديم هززتهحتَّى قبضتُ الماء حين تبخرا
إن ما هو بصدد الوصول إليه، من شأن، ونبوءة إنما هو هزٌّ لشجر الإدراك في الزمان الغابر، ليسَّاقَط بيديه الماء الذي تبخر حين هزَّ شجر الإدراك وحانت لحظة التنبؤ. فالشَّاعر يهز شجر الإدراك، والتنبؤ، فتتبخر أوراق الشجر بدلا من أن تتساقط، في صورة مخالفة للواقع، ثم إنه ولأنه فوق شجر الإدراك يقبض ما تبخر أنباءً من الأحداث المتوقعةِ ماءً، ليوافينا به. إنها قدرة تخيلية كبيرة، وإدهاش يجعل المتلقي في حيرة من هذا الأداء الكبير، وحق الاحتفال بهذا النص الكبير الكبير.
لا سِرّ فانوس النبوءة قال ليماذا سيجري حين طالع ما جرى
ويمضي الشَّاعر في إنكاره، فهو فيما سبق لم يسأل النَّجم المعلَّق عن أخبارٍ ونبوءات، ولم ينم ليرى رؤيا يمكن تأويلها، ها هو ههنا أيضا ينكر أن يكون فانوس النبوءة قد قال له ماذا سيجري حين طالع ذلك الفانوس المستقبل بعين النبوءة.
ثمَّ إن الشَّاعر في هذا البيت يستعير فانوس علاء الدين، لكن كعادة الشِّعراء الكبار الذين لا يأتون بالنص المستفاد منه فجَّا، يجعل الفانوس لنبي، لا لعلاء الدِّين، ولا تخفى علينا إمكانية ذهابه إلى قوله: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا* وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا".
أحداث النبوءة وبدء الخلق من جديد في صورة مغايرة للوقائع السابقة:
في الموسم الآتي سيأكل آدمتفاحتين وذنبه لن يغفرا
الأرض سوف تشيخ قبل أوانهاوالموت سوف يكون فينا أنهرا
وسيعبر الطوفان من أوطاننامن يقنع الطوفان ألا يعبرا
ستقول ألسنة الذُّباب قصيدةًوسيرتقي ذئب الجبال المنبرا
فوضى وتنبئ كل من مرت بهمسيعود سيف القرمطي ليثأرا
وسيسقط المعنى على أنقاضِناحتى الأمامَ سيستدير إلى الورا
في الموسم الآتي ستشتبك الرؤىستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
وسيُنكرُ الأعمى عصاه ويرتدينظارتين من السرابِ ليبصرا
سيرى القبيلة وهي تصلب عبدهافالأزد لا زالت تخاف الشَّنفرا
سيرى المؤذن والإمام كلاهماسيقول إنَّا لاحقان بقيصرا
في الموسم الآتي مزاد مُعلنٌحتى دم الموتى يُباع ويُشترى
اتسمت القصيدة بالتجديد في الأحداث الغابرة، فهي لا تتكئ على التراث اتكاءً ساذجًا، بل تغير في الأحداث، وتجدد بصورة مغايرة ولافتة للنظر إبهارا، هذه قصيدة تأتي بخلق جديد، لا تمضي قدما في وصف الأحداث المعروفة لدينا ولدى جميع الأمم من خلق الكون وآدم، وأحداث الطوفان.
تتالى صورة النبوءات في الأبيات التاليات على النحو الآتي:
النبوءة الأولى:
في الموسم الآتي سيأكل آدمتفاحتين وذنبه لن يغفرا
آدم (الإنسان الحديث) لن يأكل تفاحة واحدة، وإنما سيبالغ قليلا، فيأكل تفاحتين، إمعانا في طلب الخلود، ثم إن آدم ههنا لا يعترف بذنبه لربه، ولا يحصل على الغفران. وفي ذلك ما فيه من إيحاء من كثير إفساد الإنسان في الأرض، وعتوه واستكباره، وكفره بالله.
نعم، يفتتح الشَّاعر أحداث النبوءة بإعادة خلق آدم (عليه السلام) بسيناريو جديد، فآدم سيأكل تفاحتين، بدلا من تفاحة واحدة، وفق ما تعارف عليه الناس، هذا مع الاختلاف في أصل الشجرة التي أكل منها آدم، ضاربا آدمٌ صفحا بأمر الله ألا يقرب الشجرة هو وزوجته، مصدقا إبليس الذي غره، وما زال الخلود تَطَلُّع البشر إلى يومنا هذا، ثم إن آدم لن يغفر لذنبه، في هذا السيناريو الجديد، وقد غُفر له سابقا بقوله تعالى: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم"
النبوءة الثانية:
ينبه الشَّاعر المتلقي إلى ضرورة ما سيقوله فيأتي بالأرض مبتدأ، وحقها التأخير في مثل قولنا، ستشيخ الأرض، ثم إنه يضيف مؤكدا "قبل أوانها" ثم يأتي بالموت بصورة مفاجأة أيضا، إمعانا في لفت الانتباه لهذه النبوءة المهمة، ويصفه بأنه سيكون أنهرا، ويأتي بصفة الموت بأن ستسيل دماء كثيرة، وستجري الدماء كالأنهار في صورة مخيفة جدًا.
الأرض سوف تشيخ قبل أوانهاوالموت سوف يكون فينا أنهرا
ولما كان ارتباط آدم بالأرض سلفا حيث يقول الله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" يلج الشاعر في الأرض بعد ذكر آدم، ويهبها من الصفات عكس ما كانت عليه أرض آدم من البكارة، ذلك أنها تشيخ قبل أوانها، ولعل في هذا إشارة إلى إفساد الأرض وتأثيرالإنسان على البيئة ببعث كل أسباب الفساد فيها، وفي الفضاء، تأثيرا منعكسا عليها، ثم إن الموت سيجري على تلكم الأرض أنهرا. وههنا عموم في بلاء سيُبتَلى به أهل الأرض جميعا، ومن غرائب نبوءة هذا النص أنه لم يقل إن الدم سوف يكون فينا أنهرا، وإنما قال: "والموت سوف يكون فينا أنهرا" وقد كان بالفعل الموت عظيما إبان ظهور وباء كورونا (COFID-19)، وقال في نبوءة أكبر:
وسيعبر الطوفان من أوطاننامن يقنع الطوفان ألا يعبرا
وههنا يأتي بذكر طوفان في تأكيد لإعادة صورة طوفان نبي الله نوح (عليه السلام)، في إشارة سابقة لأوانها من التصريح الذي سيأتي لاحقا، لحياة ثانية بعد فناء الحياة، وإعمار الأرض بالناجين ممن ركبوا سفينة النجاة من المؤمنين. وهو وههنا يَذْكُر أمته بخصوصية، فيقول: إن الطوفان سيمر من أوطاننا، ذلك أن لا مفر من عبوره من أوطاننا، فهل كان ذلك عبور كورونا عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا؟!
ثم يمضي قدما في النص:
ستقول ألسنة الذُّباب قصيدةًوسيرتقي ذئب الجبال المنبرا
فوضى وتنبئ كل من مرت بهمسيعود سيف القرمطي ليثأرا
وسيسقط المعنى على أنقاضِناحتى الأمامَ سيستدير إلى الورا
في الموسم الآتي ستشتبك الرؤىستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
وسيُنكرُ الأعمى عصاه ويرتدينظارتين من السرابِ ليبصرا
سيرى القبيلة وهي تصلب عبدهافالأزد لا زالت تخاف الشَّنفرا
سيرى المؤذن والإمام كلاهماسيقول إنَّا لاحقان بقيصرا
في الموسم الآتي مزاد مُعلنٌحتى دم الموتى يُباع ويُشترى
ثم تتوالى الأفعال المضارعة في تتالٍ للأحداث المستنبأة: "ستقول، وسيرتقي، سيعود، سيسقط، سيستدير، ستشتبك، ستزيد، سينكر، سيرى، سيقول، يباع، يشترى.
نجد في هذا الجزء من النص أن الأفعال تتالى مما يعني تتابع الأحداث، وإسراعها في الذهاب إلى النهاية المحتومة.
ستقول ألسنة الذُّباب قصيدةًوسيرتقي ذئب الجبال المنبرا
لفهم هذا البيت فإننا نحتاج إلى معرفة معنى الذباب، وبما أن الذباب مفرد، وجمعها أذِبة على القلة وذِبَّان على الكثرة، وبما أن الشاعر أتى بألسنة، فقد خرج من المعنى الذُّباب، والنحلة، لكونهما مفرد وألسنة جمع، إلا إذا تصورنا تلون لسان الذباب، نفاقًا، وهذا ما أستبعده، إذن، لم يبقَ من معنىً مؤولٍ إلا حد السيف، وهو طرفه الذي بين شفرتيه، وعليه فإن المعنى الذي قد يُتبادر إلى الذهن من تصور تعاطي مدعي الشاعرية الشِّعر أراه معنىً غير وارد، وإنما المعنى المقصود هو أن الموت سيكتب قصيدةً استشراءً، وهو ما يتسق مع المعنى العام للقصيدة، وفيه نظر برأيي إلى قول أبي تمام في مدح المعتصم بالله أبا إسحق محمد بن هارون الرشيد:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
وإن ذهب عجز القصيدة بمن لم يستطعْ تحري التأويل إلى المنبر، ما قد يعتقد أن معنى البيت يعني الشِّعر والنثر.
وفي العجز يقول الشاعر: وسيرتقي ذئب الجبال المنبرا، وفي تخصيص الذئب بأن يكون ذئب الجبال دون السهول ما فيه من معانٍ يمكن استنباطها، من مثل أن يكون ذئب الجبال أكثر دهاء، وحيلة وبطشا ربما. وأن هذا النوع من الناس سيعتلي المنصة وسيكون له وسائله في الإعلام المرئي، لأن المنبر مكان يُرى فيه الخطيب ويُسمع صوته بعد اجتماع الناس له.
ثم يبدأ البيت التالي بقوله "فوضى" مدويةً هكذا دون ضمير سابق لها، كأن يقول "هي فوضى"، بكل ما يمكن أن تحمله هذه الكلمة مفردة من معاني الدمار والتشتت، ثم إنه يردف بقوله "وتنبئ كل من مرت بهم" أي تلكم الفوضى والدمار الشامل، ثم يتكئ على التراث والتاريخ، ويأتي بالقرامطة الذي قتَّلوا الحُجَّاج في بيت الله في الشهر الحرام في أيام الحجة زيادة في استقباح الدمار.
فوضى وتنبئ كل من مرت بهمسيعود سيف القرمطي ليثأرا
ثم إن المعاني ستسقط على أنقاض الناس جراء تلكم الفوضى والدمار، وسيتغير الزمان، فيعود من كان في الإمامة إلى الوراء، ما يعني تغير مواضع الناس ومناصبهم، ومكانتهم الاجتماعية، حيث تتبدل الأخلاق، فيرى القبيح حسنا، والحسن قبيحا، ويؤمر على الناس رذالهم وهي نبوءة تحققت، إذ تغيرت الأمور بالكوكبِ، وآلت الأمور إلى من هو غير أهل لها، وقد صدقت هذه النبوءة، فارتقى إلى سدة الحكم في أميركا، والعديد من الدول من ليسوا أهلا للحكم بحسب رأي الحكماء والمراقبين.
ودليلنا على ذلك عجز البيت السابق، ومعاني البيت اللاحق:
وسيسقط المعنى على أنقاضِناحتى الأمامَ سيستدير إلى الورا
في الموسم الآتي ستشتبك الرؤىستزيد أشجار الضَّبابِ تجذُّرا
حيث إن الحياة في هذا الموسم تشتبك فيها الرؤى، وتزداد الضبابية في الرؤى، بل وتتجذر في الأرض هذه الرؤى الضبابية، ويتأكد ثباتها، وكلها وقائع أثبتها الزمان.
ثم يأتي الشاعر بأدلة على صدق مقاله فيقول:
وسيُنكرُ الأعمى عصاه ويرتدينظارتين من السرابِ ليبصرا
في إشارة إلى أن الناس لن تأخذ بأسباب الحياة، والسلامة، إذ إن عصى الأعمى دليله ومرشده من أن يتردَّى في حفرة او يصطدم بجدار، ثم إنه لم يتخل عن عصاه ليحصل على ما هو خير منه، إذ أنه استبدلها بنظارتين من العدم، توهمًا منه أنه سيبصر شيئا، "كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاهُ وما هو ببالغه".
في البيت خطأ لغوي، إذ إن الارتداء يكون لما يلبس، والنظارة لا تلبس وإنما توضع، فوق العينين، معلقة بساقيها أعلى الأذنين، والحذاء كذلك لا يلبس، وإنما ينتعل.
في البيتين التاليين يوضح الشاعر رؤية الأعمى الذي تخلى عن وسيلته السليمة، واتخذ وسيلة أخرى لا جدوى منها، فما الذي يراه؟
سيرى القبيلة وهي تصلب عبدهافالأزد لا زالت تخاف الشَّنفرا
سيرى المؤذن والإمام كلاهماسيقول إنَّا لاحقان بقيصرا
يقول إن الأعمى سيرى القبيلة وهي تصلب عبدها، إذ إن الأزد ما زالت تخاف الشنفرى، وفي البيت خطأ علمي، إذ إن الشنفرى ليس عبدًا، يحدث عنه المفضل الضبي فيقول: "الشنفرى شاعر جاهلي من بني الحارث بن ربيعة بن الإواس بن الأزد بن الغوث"
ولعل الشاعر قد اختلط عليه الأمر بيد أنه من الخلعاء، العدائين. وليس ثمة مجال لمن يحاول الذهاب إلى غير ما رأينا، وذلك أن تشبيه التمثيل في البيت لا يدع مجالا لأي تأويل آخر غير أن الشنفرى برأي الشاعر عبد للأزد، والحقيقة غير ذلك، إذ إنه منها، وقتل بالفعل، ولكن من بني سلامان.
ثم إن الأعمى سيرى بنظارتيه تينكم، الإمام والمؤذن وهما يعلنان لحوقهما بقيصر، في تناص مع قصيدة امرئ القيس:
سَما لَكَ شَوقٌ بَعدَما كانَ أَقصَرا وَحَلَّت سُلَيمى بَطنَ قَوِّ فَعَرعَرا
حيث يقول:
بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَهُ وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانِ بِقَيصَرا
فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينُكَ إِنَّما نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتَ فَنُعذَرا
وفي شخصيتي الإمام والمؤذن إشارة إلى رؤوس الناس عندنا في زماننا، واتجاههما كل إلى من يُثَبِّت له ملكه، إذ ليست الإشارة إلى البيت "لاحقان بقيصرا" استعباطا، وإنما هي موضوعة لمعنى يستشف من موضع امرئ القيس، ورؤسائنا في زماننا هذا واتجاههم غربا توددا، حينا، وشرقا تارة أخرى.
وليس أدل من ذلك إلا البيت التالي:
في الموسم الآتي مزاد مُعلنٌحتى دم الموتى يُباع ويُشترى
الخلاصة، وتحقق النبوءة في تناص مع قصة يوسف:
ناديت يا يعقوبُ تلك نبوءتيالغيمة الحبلى هنا لن تُمطرا
قال اتخذْ هذا الظلام خريطةًعند الصباح سيحمدُ القوم السُّرى
لا تبتئس فالبئر يومٌ واحدٌوغدا تؤمِّرك الرياحُ على القرى
اخلع سوادك في المدينة نسوةٌقطَّعنَ أيديهنَّ عنك تصبُّرا
قمْ صلِّ نافلة الوصول تحيَّةًللخارجين الآن من صمتِ الثَّرى
واكشف لإخوتك الطريق ليدخلوامن ألف باب إن أرادوا خيبرا
ستجيئ سبعُ مرَّة فلتخزنوامن حكمة الوجع المصابر سكرا
سبع عجاف فاضبطوا أنفاسكممن بعدها التاريخ يرجع أخضرا
هي تلك قافلة البشير تلوح ليمدُّوا خيام القلب واشتعلوا قِرى
أشتمُّ رائحة القميص وطالماهطل القميص على العيون وبشَّرا
الأبيات أعلاه هي خلاصة النبوءة، وفيها يثبت الشاعر صدق نبوءته المتفردة عن كل نبوءة، تلك النبوءة التي ينكر استمدادها من أية إشارات وإرهاصات، إلا ما كان من رؤيته الخاصة.
الشاعر ينهي النص بإخبار أبيه بصدق رؤياه، في تداخل مع قصة يوسف عليه السلام، ثم إن يعقوب يلهمه أن يتخذ الظلام خريطة له وأن القوم سيحمدون صباحا سراهم في هذا الظلام، ولم ألتقط ههنا أية إشارة تربط نجاة القوم بواقعنا. ثم إنه يعود بصورة "فلاش باك" إلى بدايات قصة يوسف، وإلقائه في البر، ولعله يعني الشعوب المتعبة، والمظلومة، فيبشرهم أن البئر إنما المكوث فيه يوم واحد، وأنه سيكون وزيرا، "وغدا تؤمرك الرياح على القرى". ولا أدري لم اختار الرياح لتؤمره على القرى، فربما عنى تصريف الزمان، فرمز إليه بالريح تمشي على الأرض فتغير ملامحها.
وتتوالى الأبيات في تناص مع قصة يوسف، والنسوة اللاتي راودنه، وتتوالى أفعال الأمر، اخلع، قم، واكشف. وفي هذه الأبيات دعوة عربية إسلامية، للنهوض بعد تعثر. وأن الشعوب إن استفادت من تجاربها فستخرج بحكمة تجعلها تلعق السكر بعد مضغ المرار، وفي استمرار للتناص مع سورة يوسف، يقول إن التاريخ سيرجع بعد السبع العجاف أخضرا مبشرا، ويختم بقوله:
هي تلك قافلة البشير تلوح ليمدُّوا خيام القلب واشتعلوا قِرى
أشتمُّ رائحة القميص وطالماهطل القميص على العيون وبشَّرا
فهو يتلبس الآن شخصية يعقوب الذي جاءته القافلة بقميص يوسف، وها هو ألقي عليه، وعاد مبصرا.