مَخْرج
في الطابق العلوي ببيت جدتي غرفة، مُنعت من دخولها، وحتى لا تراني جدتي، تسللت ليلا للغرفة، في داخل الحجرة وجدت دولابا بداخله مرايا كبيرة تميل للصفرة، يكسوها التراب والتجاعيد، سطحها المصقول جثة باردة، وحين نظرت للمرايا بدت الجدران خلفي مغطاة بالصور.
صور تهمي نحوي، صور قديمة لنسوة، متشققة، بالأبيض والاسود، وأخرى زاغت ألوانها، صور باهتة لوجوه شابات ترنو نظراتهن للبعيد، صور لفتيات في عمر الورد تعلو وجوههن قترة.
شيء ما شدني للمرآة، روح ما كانت تناديني تصلني بحرف المرآة، نظرت إليها مشدوها، وجدتني أمد يدي للزجاج، وما أن لمسته أناملي حتى غاصت كل يدي.
في لمحة خاطفة رأيت وجه أمي، كانت تبدو في ريعان شبابها.
يا الله! كم كانت جميلة، تمسك بمرود كحل حجري تغمض عليه أهدابها، تغرسه في عينها بوجع مرير، تتمتم: سأحضر زفافك، لن يقع يمينك، سأبدو أجمل من زوجتك الثانية، ضرتي القادمة ، ويسيل المطر الاسود على وجنتيها، تهذي: سأرقص وأنا ذبيحتك المسفوح دمها. أبعدت يدي عن المرايا، راودني شعور عارم بمرارة في حلقي ، ولكنني سرعان ما كررت فعلتي، وما أن لمست أناملي سطح المرآة حتى رأيتها عمتي العانس، بشعرها البني الفاتح ببشرتها النضرة تضع أحمر شفاه يستعر رغبة على شفتيها المكتنزة، تبتسم باستهزاء: له الزوجات ثلاث وأربع وعشرة ولي هذا الركن المقيت في البيت، حرمك الله الجنة، كما حرمتني من الزواج حتى ترثني وتستأثر بميراث ابينا، قبحك الله حيا وميتا يا........ تسمي والدي، انتفض أسقط على الارض، يا الله! يا الله! أي حقد هذا الذي يمتد لما بعد الموت. أي لعنات تنهال على والدي في قبره.
خرجت من الغرفة فزعة، وفي طريقي للخروج رأيت جدتي تنظر إلي بحنو وعطف، رداء أبيض يغطيها من رأسها حتى قدميها، فتحت فمها فبدت أسنانها البيضاء مصفوفة، حركت رأسها بإيماءة وكأنها تقول لي: لقد رأيتهن.
مر شريط تلك الصور أمامي بعدما كبرت، كبرت كثيرا....
عدت لبيت جدتي لم تكن في مكانها المعتاد. هل كانت هناك قط؟!
تسللت للغرفة، للدولاب، للمرايا، حينها رأيتني، ولم أعرف نفسي، تغيرتُ تماما.
كيف وصلت هذه الكدمات لوجهي؟! كيف بهتت ابتسامتي؟!
كيف ترك آثار مزاجه المتقلب على معصمي، على رقبتي بل وعلى روحي؟
هل بكيت ...لا لم أفعل، لن تفي الدموع هذه المرة.
عاودت النظر إلى المرآة، لمستها فوجدتني أغوص فيها بكلي، لأخرج من الجهة الاخرى للمرايا.
وهناك رأيتهن كلهن .... كلهن.