"سيكون السجن هو مصير كل شخص لا يقوم بتوجيه أي سؤال و لا تنسوا أن المكان يتسع للكثير منكم!"
هكذا هدد سجين سابق ممازحاً مجموعة من السائحين الذين يقومون بزيارة جزيرة روبن وسجنها الشهير- الذي قضى به المناضل نيلسون مانديلا الذي أصبح أول رئيس منتخب لجمهورية جنوب أفريقيا عام 1990، ثمانية عشر عاماً، و ذلك أثناء شرحه لهم عن تاريخ هذا السجن و عن تجربته الشخصية في هذا المكان فتنوعت أسئلة السائحين من بلاد مختلفة و إن كان جلهم أوربيين وأمريكين، و جاء السؤال الذهبي الذي أختزل في كلمات عديدة معاناة قرون مديد:
" بعد كل هذه السنوات الطوال من التمييز العنصري و الظلم و العذاب كيف أمكنكم كأمة التعايش مع جلاديكم بكل سلام ووئام؟"
تحاول هذه الورقة من خلال القراءة النقدية لرواية "العار" للكاتب المعاصر الجنوب أفريقي جون ماكسويل كوتزييه" J. M." Coetzee (1940) استجلاء الحقيقة، وهل يمكن بالفعل نسيان الماضي الملطخ بعار الوحشية و التسامح والتعايش السلمي بين الضحية و الجلاد؟
و الروائي كوتزييه أستاذ جامعي و ناقد أدبي و مترجم ،نال جائزة نوبل للآداب عام 2003 كما حصل على العديد من الجوائز مثل جائزة البوكر لمرتين، في المرة الأولى عن روايته "حياة و أزمنة مايكل ك" (1983) و في الثانية عن رواية "العار" (1999).
ويعتبر كوتزييه إلى جانب André Brink و نادين جور دايمر Nadine Gordimer من أبرز أدباء جنوب أفريقيا و هو يعيش في استراليا منذ عام 2002.
في روايته “العار" يعرض الكاتب بدقة لمواضيع شائكة تحاول سبر أغوار الواقع الحقيقي في المجتمع الديمقراطي في جنوب أفريقيا و محاولة الإجابة عن سؤال هام و هو هل يمكن بالفعل بعد أربعة قرون من الاستعمار و الظلم و العنصرية نسيان الماضي و طي صفحاته والتخلص من كل الذكريات الأليمة و إلقائها في أعماق المحيطين الأطلسي و الهندي ؟
هل يمكن للبلاد ان تصبح عالما مثالياً؟ و هل يمكن لسكان هذه البلاد الجميلة الذين عانوا طويلاً من ظلم الرجل الأبيض أن يجنحوا للسلم و العفو عن المستعمرين لينعم جميع المواطنين على اختلاف ألوانهم من السود و البيض و الملونين و اختلاف أصولهم العرقية أفريقيين و آسيويين و أوربيين و تباين دياناتهم، بالحرية و السلام و الأمن و الاستقرار؟
قد تكون إحدى الإجابات المحتملة أن النفس الإنسانية بعد أن تصل إلى درجة التشبع من المعاناة والألم و تأتيها الفرصة جنباً إلى جنب مع القدرة و الإمكانية لتنتقم و تسقى من ظلمها من ذات الكأس تأنف من هذه الرذيلة و تميل إلى فضيلة العفو، فحلاوة السلام قد تغطي على مرارة الحرب و بهجة الوفاق الوطني قد تلهي الذاكرة عن كوابيس العداء و الفرقة.
يشعر القارئ من خلال السرد في رواية "العار" الصراع والمنافسة بين الأمل و الشك في نوعية العلاقات و أساليب التواصل بين أفراد المجتمع بعد انتهاء سنوات الفصل العنصري هل سيكون تواصلاً طبيعياً أم صاخباً مضرجاً بدماء الماضي كهدير المحيطين؟
وسنجد أن الإجابة جاءت في مجمل الرواية سوداوية رغم واقعيتها..
بطل الرواية البروفيسور ديفيد لوري – 53 عاما- أستاذ جامعي في مدينة كيب تاون ومؤلف لبعض الكتب النقدية، مر بتجربتي زواج فاشلتين، يعيش وحيداً في منزل يملكه بالقرب من الجامعة و له ابنة وحيدة في العشرينات تعيش في مزرعة في منطقة ريفية بعيدة عنه.
يندفع ديفيد في علاقة غير متكافئة مع طالبة فائقة الجمال تسحره بأنوثتها وجاذبيتها فيتورط في فضيحة أخلاقية تجبره على الاستقالة من عمله الأكاديمي و تشهر به الصحافة المحلية فيضطر إلى ترك المدينة و اللجوء إلى ابنته في مزرعتها على الساحل الشرقي ثم يتعرض هو و ابنته لهجوم من ثلاثة شبان سود يقومون بمحاولة إحراق الأب و سرقة سيارته و الاعتداء على إبنته و سرقة بندقيتها و قتل الكثير من الكلاب التي تقوم على رعايتها.
هذا الحادث المريع كان بمثابة الشرارة التي ألقت الضوء وبتركيز شديد على ثلاثة عوالم منفصلة نظرياً ومتداخلة واقعياً في البنية السردية للرواية:
العلاقة بين السود والبيض ونوعية التواصل بينهم.
العلاقة بين الأب وإبنته.
ونظرة بطل الرواية لذاته.
يلمس قارئ الرواية وبوضوح أن الكاتب عرض المحور الأول على أنه عالم الكراهية و الحقد و الانتقام البغيض، فمن وجهة نظر الراوي فإن ما أقترفه الشبان الثلاث ليس مجرد حادث عادي يمكن أن يقع مثله كل يوم في كل أنحاء العالم، إنما هو إثبات عملي على أن هناك من يريد محاكمة البيض على الماضي فيجعل البطل يؤكد لابنته "أن صوت التاريخ هو الذي كان يحدثك و ليس الصوت الحقيقي للشبان فكأني بهم ينتقمون لأسلافهم و إذا كان هذا التعليل مفيداً أركني إليه و استأنسي به".
و مما يثير الدهشة أن البطل لا يدين الماضي و لا بكلمة واحدة، بل نجده لا يفتأ بدون استحياء يتحسر بطريقة غير مباشرة على تلك الأيام الخوالي التي كان فيها الرجل الأبيض القادم من الثلج و الضباب هو السيد الذي يحكم بقبضة من حديد على الرقاب و الأرزاق، و لكن مع اقتراب نهاية الرواية نجد أن أحد الأمثلة التي تظهر لنا فوائد التجربة النفسية الصعبة التي مر بها البطل و ابنته أنه يشهد على خطأ الرجل الأبيض محاولة زرع الثقافة الأوربية في التربة الأفريقية.
و يلجأ الراوي إلى أسلوب المقارنة غير المباشرة ليثبت للقارئ مدى تحضر الأوربيين و تسامحهم مع من يخطئون في حقهم، فنجد أن البروفيسور ديفيد يقوم بزيارة والد الطالبة التي تحطم بسببها تاريخه الأكاديمي فيحسن الأب مقابلته بل و يدعوه إلى العشاء في المنزل حيث يقدم له كلمة إعتذار طال انتظار الجميع لها.
أما المحور الثاني وهو علاقة الابنة لوسي و تواصلها مع أبيها فقد جاء موازياً للمحور الأول ولكن نجد أن الكاتب تناوله بعمق أكبر و بتحليل أشمل للشخصيتين المعنيتين، مما ساعد على جلاء جوانب خفية فيهما و بالذات في شخصية البطل، فهي ابنته الوحيدة التي كانت ثمرة زواجه الأول من ايفلينا التي عادت بعد الطلاق إلى هولندا و أخذت ابنتها معها و لكن الابنة طلبت العودة إلى جنوب أفريقيا بعد أن تزوجت أمها مرة ثانية.
و كفتاة ناضجة اختارت لوسي لنفسها خطاً فلسفياً مغايراً تماماً لأبيها فليس فقط أنها اختارت العيش في مزرعة في منطقة ريفية، بل إنها تحظى بإستقلال إقتصادي حيث تنفق على نفسها من زراعة و بيع الخضروات و الأزهار يساعدها في مقابل أجر جارها الأسود بطرس، و إذا كانت المحنة التي تعرض لها ديفيد في المدينة تجعله يطلب الأمن النفسي و الدفء العائلي لدى ابنته الحبيبة فان الحادث المشئوم الذي يتعرض له الأثنان في الريف يهز بعنف و كعاصفة هوجاء العلاقة بين الاثنين لدرجة أن الأب يقول بكل أسى لصديقة ابنته السوداء بيف شو:" أشعر و كأن حجاب يفصل بين جيلي و جيل ابنتي، و الأدهى من ذلك أنني حتى لا أعلم متى ارتفع هذا السد بيننا".
وهكذا نجد أن لوسي ترفض بعناد أن يملي عليها والدها أي قرار بترك المزرعة و العيش في كيب تاون، كما ترفض عرضه السخي بأن يتكفل بكل المصاريف اللازمة للسفر و الاستقرار في هولندا، فعيناه و قلبه و رأسه الذي صب عليه الثلاثة السود الكحول و أضرموا فيه النار لا يقبلوا حقيقة موقف الابنة فهي ترى أن ما تعرضت له يمكن تبريره و بكل بساطة على أنه ضريبة إقامتها و تمتعها بالعيش في هذه البلاد.
وعندما تنجلي الحقيقة في نهاية المطاف أن كل ما حدث إنما كان بتدبير من بطرس من أجل أن يضع لوسي أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن تغادر خوفاً على حياتها، و تترك له الجمل بما حمل ففي هذه الحالة يغنم الأرض الواسعة الخصبة و المنزل الحديث الأوربي الطراز، أو أن تلجأ إلى طلب الحماية، ليس من أبيها الذي لم يتمكن من دفع الضر عنها، بل من بطرس و ليس هذا فقط بل انه يعرض على أبيها أنها لو أرادت أن تستر على نفسها لظهور بوادر الحمل عليها فسيتكرم عليها و يجعلها الزوجة الثالثة له.
ويؤجج هذا العرض الجريء ذروة الصراع النفسي بين الأب الذي يمثل جيل الاستعمار بكل جبروته و ابنته التي ترمز إلى الحاضر المعاصر و الدولة الجديدة التي يود مواطنوها تناسي الماضي تماما رغبة في العيش بسلام مهما كلف الأمر فتوافق الابنة على الزواج مقابل البقاء في مزرعتها و التمتع برعاية وحماية الرجل الأسود الذي سيحقق الكثير من المكاسب الاقتصادية و المعنوية.
وحين نتأمل المحور الثالث و ذلك بالنظر في آثار الحادث على علاقة بطل الرواية ديفيد بذاته و نظرته إلى نفسه نجد أن الكاتب يرسم له دوراً يبدو لأول وهلة و كأنه متتم للفضيحة الأخلاقية التي قضت على حياته المهنية، و لكن بشيء من التمعن يمكن للقارئ أن يدرك أن حادثة المزرعة نجحت في إحداث نوع من التغير الايجابي في تفكير البروفيسور و ذلك بدرجة أكبر من حادثة الجامعة فالراوي و منذ الصفحة الأولى للعمل يقدم لنا ديفيد كرجل لا يستطع فكاكاً من الانجذاب الدائم نحو النساء، و لكن دائماً و أبداً لا مكان لامرأة سوداء بين صويحباته، هذا إلى جانب اعتداده الكبير بذاته و شموخه بعمله كأستاذ في الجامعة و بمستوى ثقافته الأوربية و تماهيه مع شعراء الرومانسية مثل وليام ودوورث.
فهو بعد الحادث الأول يحافظ على كبريائه ويرفض الاعتذار الرسمي و يفضل الاستقالة ليحفظ ماء وجهه، و لكن بعد أن اعلنت ابنته استقلالها التام عنه، نجده يرضخ للواقع و يتعايش مع مجتمع الأكثرية السوداء، بل و يحاول أن يكون فرداً فاعلاً و ذلك بالعمل التطوعي في العيادة البيطرية مهملاً قراءاته و مؤلفاته فنجد أن أفعاله تدل على نمو و تطور العرض البنائي لشخصيته و كأن الراوي يريد له – رغماً عنه- أن يلعب هذا الدور الذي يكاد أن يقترب من المثالية لولا علاقته غير الشرعية مع صديقة ابنته بيف شو و لا ينسى القارئ أنها امرأة سوداء و لا تحظى بأي مسحة من جمال أو رشاقة و لعل الكاتب أراد أن يذكرنا بطريقة رمزية أن علاقة البطل مع السود تظل علاقة مشوهة غير طبيعية رغم وجودها و استمراريتها.